قالَ الإمامُ علي بن أبي طالب كَرَّم اللهُ وجهَه :
وكُلَّ مَودَّة في اللهِ تَصفُو
ولا يَصفُو مع الفِسقِ الإخاءُ
وكُلُّ جِراحَةٍ فَلَها دواءُ
وسُوءُ الخُلقِ ليس له دواءُ
وليس بِدائمٍ أبداً نعيمٌ
كذاك البؤسُ ليس له بقاءُ
إذا نَكِرتُ عهداً من حميمٍ
ففي نفسي التَّكرُّم والحياءُ

فأنتَ - يا أخا العَرب - ليس لك وجودٌ مع مِثلِ هؤلاءِ القَوم ، ومِن مَصلحَتِك أنّهم يعملون على إبعادك .

ومِن مَصلَحتِهم ألاّ يكونُ بينَهم أحدٌ مِثلك حتى ينجحَ ويُفَشِّل عليهم مشروعَهم المَعِيشي الذي يَبذُلونَ النَّفسَ مِن أجله رخيصةً يَسومُها الخَسفُ والذُّل والصَّغَار . قالَ الإمامُ الشَّافِعي :
إنْ غِبتُ فَشَرُّ الناسِ يَشتِمُني
وإنْ مَرِضتُ فَخَيرُ الناسِ لمْ يَعُدِ
وإنْ رَأوْني بِخَيرٍ ساءَهُم فَرَحي
وإنْ رَأوْني بِشَرٍّ سَرَّهُم نَكَدِي

وطالما أنّ إبعادَ النَّفسِ أصبحَ قناعةً راسِخةً ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ كريماً عزيزاً ، ولذلك طاشَ نَبْلي قبل انطلاقِ سهامِهم ، " وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ اللهَ رَمَى " تقدَّمتُ باسْتِقالتي قبل نهايةِ العامِ الدراسي الثاني بشهرٍ وتمَّ قَبولُها مِن قِبَلِ الإدارة . وعندما عَلمَ بأمرِها رئيسُ القسم إياه طأطأ رأسَه واسْوَدَّ وجهُه فهو كَظِيم ، فقد كانَ يُخطِّط أنْ يَتمَّ إنهاء عقدي بواسطة الإدارة حتى يَصْدُق ما يّرَوِّجُوه عن السُّودانيين .
بهذه المناسبة تمَّ فصلُ إحدى عَشَر مُعلِّماً ومُعلِّمة مِن مجموعةِ الثمانية عشر التي جاءتْ من السودان وجرى إنهاءُ عُقودِهم بِنهايةِ الأشهرِ الثلاثةِ الأولى التجريبية probation period بِدَعاوَى واهيةٍ أولُّها أنَّ الأولادَ لا يفهمونَ اللهجةَ السُّودانية وثانيها أنَّ بعضَ المُدرسين يخرُجونَ مِن الفصل لأبسطِ الأسبابِ ويَترُكون الطُّلاب في هَرجٍ ومَرج ، وثالثُها وأعتقدُ أنَّه السَّببُ الرّئيس الذي جعلَ المصريين يتَوجَّسُون خِيفةً هو أنَّ الدُّكتور الكَنْدَري الرئيسَ التّنفيذي لمجموعة مدارس النجاة الخيرية آنذاك أعلنَ مرةً ضِمنَ كلمتِه في طابور الصباح أنَّه يَرحِّب بالأساتذة السودانيين بعد غيبةٍ طويلةٍ عن الكُويت وأنَّه قام باستِقدامِهم في تجربةٍ يتمَنّى أن تكونَ ناجحةً لثِقتِه في الكفاءاتِ السودانية. ومنذ ذلك الوقت ظلَّ الجماعةُ يتَربَّصُون بنا الدَّوائر ( الفار نَقَز في عِبَّهُم ) . " .......ويَمْكُرونَ ويَمكُرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكِرين " . ( الأنفال ٣٠ )

مُذَكِّرَات مُغتَرِب في دُوَلِ الخَلِيجِ العَرَبي (٤٠)

إنتهتْ عَلاقتي بمدارسِ النَّجاة الخيرية بِقَبولِ استقالتي واستلامِ مُستَحقاتي المالية والحصولِ على موافقةٍ من إدارة الجمعية بنقلِ كفالتي إلى أية جهةٍ أرغبُ فيها . غادرتُ مدينة حَوَلّي درءاً لبعضِ الخِلافات التي ظهرتْ في " ميز " المُعلمين ، واستقرَّ بي المَقام في مدينة "المَهْبُولة"
وهي مدينةٌ عُمَّاليةٌ حديثةٌ تَكتَظُّ بالأجانبِ الذين يعملون في الشركاتِ والمستشفياتِ والأسواقِ التِّجارية على تَنوُّعِ تَخصُّصاتها .
لم أجدْ صعوبةً في الحُصولِ على سكنٍ فما أكثرَ العمائر في هذه البلدة . استأجرتُ ما يُعرَفُ في الكويت بالأستوديو وهو عبارة عن غُرفة مُلحقٌ بها حمام وصالة صغيرة تقع في الطابق الأرضي من عمارةٍ ذاتِ عِدة طوابق . معظمُ العمارات الحديثة في الكويت لا تقلُّ عن العشرة طوابق . الماءُ والكهرُباء مَجانِية ولا فواتيرَ عليها . للكويتيين أحياؤهم المفصولةِ عن " الوافدين" كما يُسَمُّونَهم ، ومساكِنهُم - أي الكويتيين - عبارةٌ عن فلل فخمة . العماراتُ المعروضة على الوافدين للايجار يقومُ على كلِّ واحدةٍ منها حارسٌ مسئولٌ عنها وعن جمعِ الايجارات من الأفراد . حُرَّاسُ العمارات كلهم مصريون ومعظمهم من الصَّعايدة . فاتني أنْ أذكُر في حلقةٍ سابقةٍ أنَّ المصريين يُسيطِرون على كل مفاصلِ الدَّولة في الكويت آنذاك حتى الدَّوائر القضائية والمُستشارين القانونيين . فَتَحتْ لهم حكومةُ الكويت الأبوابَ على مصارِيعها بعد تحريرِ الكويت من الغزو العِراقي باعتبارِ أنَّ جيشَ حُسني مبارك قد شاركَ في التَّحرير ، وتمَّ طردُ السودانيين والفلسطينيين إثرَ وقُوفِهم مع صدَّام حُسين ودَمغِهم بما يُسَمّى ب " دُولُ الضِّد " وهذه الدول هي : فلسطين ،اليمن ،الأردن ، ليبيا، الجزائر والسودان . وطبعاً على رأي المَثل " تَمَسكَن فَتمَكَّن " . صارَ الأمرُ والنهيُ بأيدي المصريين ردحاً من الزَّمانِ حتى صَعُب الأمرُ على الكويتيين في السِّنين العشرِ الأخيرةِ فَقَلبُوا لهم ظَهرَ المِجَّن بعدما طعِمُوا منهم المُرَّ والحَنظَل .
تنقضي الأعوامُ وهي سريعةٌ فلا نكادُ نستبينُ آخرَها مِن أوَّلها . كانتْ الإجازةُ الصيفيةُ بالنسبة لي سفراً ومطراً وصلةَ أرحامٍ و " هجعة زول بعد ترحال " في سودان العِزة والجمال آنذاك وقبلَ أن يُطرَحَ نطعُه في سوقِ النِّخاسة " . لكنّها - أي الإجازة - تحولتْ هذه المرة إلى وَحدَة وسَمُوم صيفٍ كما ألسِنة حرائقِ حطبِ القطن عندنا في الجَزِيرة . نعم هكذا الصيفُ في الكويت وخاصةً في يونيو ، فإذا خرجتَ من دارك بعد المغرِب أو العِشاء فلنْ تلفحَ وجهَك غيرُ هذي الهَبُوبِ التي تُشبِه أنفاسَ الحرائِق . مكثتُ فيها - أي الإجازة - مُرغماً أبحثُ عن عمل . وجدتُ وظيفةً لا بأسَ بها فقَبِلتُها على مَضَض . مُسمَّى الوظيفة مُساعِد مُدرِّس assistant teacher في مدرسةٍ عالميةٍ ، فقررتُ أنْ أقضي بها عاماً ثم أُغادِر . وهذا ما كان . قضيتُ العامَ الثالث في الكويت ولم يَرُقْ لي فيها شئٌ : لا الحريةُ المطلقةُ التي تمشي مُتبرِّجةً في الطُرقاتِ والأسواقِ ولا التَّحكُّم في مؤسساتها بواسطة المصريين ولا شبابُها الضائعُ الذي يظُنُّ أنَّ كلَّ شئٍ " ب كيفي " ! ولا صيفُها القاتلُ ولا حتى شيوخِها الذين يظُنُّون أن المساجِدَ ينبغي أنْ تُدارَ على مِزاجِهم دون مراعاةٍ للمُصلِّين ولا ...ولا ... وهلم لاءات.!!!!!
ما إن انتهي العامُ الدِّراسي بِخَيرِه وشَرِّه حتى طلبتُ من أحدِ الأصدقاءِ في السعودية أنْ يشتري لي عقدَ عمل أو visa كما يُسمُّونها ، على أنْ أسدِّدَ قيمتَها فيما بعد . تمَّ شراءُ الفيزا وإرسالُها إلى السفارة السعودية بالخرطوم . جزى الله عني ذلك الصَّديقَ خيرَ الجَزاء .

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الکویت

إقرأ أيضاً:

حاكم الشارقة يهنئ أمير الكويت بالذكرى الأولى لتوليه مقاليد الحكم

بعث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، برقية تهنئة إلى الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت الشقيقة، بمناسبة الذكرى الأولى لتوليه مقاليد الحكم.

مقالات مشابهة