إن استشراء موجة التصهين التي اجتاحت بعض المجتمعات العربية لم يكن وليد الصدفة، ولم يكن عملا عفويا، بل كان تدبيرا مخططا استُعملت فيه أدوات الحرب الناعمة، والنظريات النفسية والإعلامية لغرس هذا الجرثوم الخبيث في جسد الأمة، بعد إثخانه بالأمراض الفكرية والأخلاقية والأزمات المتتابعة، لخفض مستوى المناعة الفكرية فيه، وقد تولى كِبَرَ هذه المهمة، زُمرٌ من الكتاب والمثقفين والإعلاميين والفنانين الوظيفيين والمستأجرين، الذين باعوا ضمائرهم وارتدوا على أعقابهم.


كما عَمَدت الأنظمة المتصهينة لإحكام خطتها في إحلال سردية التطبيع، إلى تكريس نظامٍ متكاملٍ للتفاهة-بحسب تعبير آلان دونو-لإشغال شباب الأمة بالسفاسف وتبليد هممهم واهتماماتهم، وصرفها نحو تمجيد التُّرهات على حساب القضايا المحورية، وفي المقابل قامت بقمع قادة الرأي والفكر من العلماء والمصلحين والكتاب والمفكرين ذوي التأثير الواسع على الشباب، بهدف إنبات جيل منفصل عن قضايا أمته، لا تعظم في عينه سوى أخبار الرياضيين والفنانين والتافهين، فهي تسلب جل وقته، فلا يجد سبيلا للعمل الجاد المؤثر لنصرة المستضعفين ولو بأضعف الإيمان.
إن هذه التراجيديا العربية الساخرة، العابثة برسوم الجغرافيا وحقائق التاريخ، الراقصة على جثث الثكلى ومآسي الأسرى، لهي نتاج طبيعي لموجة “التصهين” التي اجتاحت العالم العربي والإسلامي، وسميت بهتانا بـ”التطبيع”، وإن هذه الموجة الثانية لهي أشد فتكا بالنسيج العربي والإسلامي وبما بقي من ذرَّات الشهامة والشرف، لأن الكيان الصهيوني أدرك أن (تطبيع الأنظمة) الذي تم مع مصر والأردن، لم يحقق له حاضنة اجتماعية آمنة، ولم يفلح في إدماج هذا الجسد الغريب في كيان الأمة، فسعى إلى نوع جديد من التطبيع يقوم على (تطويع الأنظمة والشعوب معا)، مستخدما أدوات ناعمة لأجل إحلال السردية الصهيونية عبر قنوات سياسية وإعلامية وتعليمية وثقافية ورياضية ودينية وفنية وأكاديمية.
وتعود بدايات سردية التطبيع كما يعلم الجميع مع ما سمي بمعاهدات السلام مع مصر والأردن، ثم تكرست بعد رضوخ السلطة الفلسطينية لمؤامرة أوسلو، ورغم أن الكيان الصهيوني كان الرابح الأكبر من موجة التطبيع الأولى، لكنه لم يتقبل حالة الاستعداء الشعبي له في محيطه الجيوسياسي، فانتقل إلى الموجة الثانية من التطبيع في 2020(نسخة أبراهام)التي لم تقف عند مجرد الاعتراف، بل تجاوزته إلى التعاون الاستخباراتي والسياسي والعسكري والسيبراني والتكنولوجي، إضافة إلى التعاون الاقتصادي والثقافي والرياضي، ولهذا فإن هذه النسخة من التطبيع تعتبر أكثر كيدا واختراقا للعمق العربي الإسلامي.
لقد بدأت إرهاصات الموجة الثانية من التطبيع تطفح للعيان منذ العقد الأخير، وتمثلت في مجموعة من الاختراقات التي كانت تمهد لإخراج سيناريو التطبيع إلى العلن، ومن ذلك:
1 – اللقاءات السرية الدورية التي جمعت بين مسؤولين صهاينة وبعض الوزراء والسفراء العرب في العواصم الأوروبية.
2 – طباعة خارطة (إسرائيل) بدل فلسطين على الكتب المدرسية، ثم الادعاء بوقوع خطأ(غير مقصود).
3 – حذف الآيات والأحاديث والنصوص التي تكشف صفات اليهود وجرائمهم من المناهج الدراسية.
4 – النشاطات المشبوهة لبعض الجمعيات ذات الصلة بالدوائر الصهيونية كجمعية الروتاري، التي لها نشاطات في العديد من الدول العربية.
5 – الزيارات المكثفة للفنانين والكتاب والمغنين العرب للكيان الصهيوني تحت غطاء السلام والتعاون الثقافي.
6 – التطبيع الرياضي من خلال قبول منازلة الرياضيين الصهاينة.
7 – بث الأفلام والوثائقيات التي تحاول رسم صورة وردية عن تاريخ اليهود وتقديمهم كحمائم سلام.
8- التغاضي عمدا عن دخول العديد من الصهاينة إلى الأراضي العربية غير المطبعة و(الراغبة فيه) والسماح لهم بالنشاط والمشاركة في الفعاليات الشعبية والفكرية.
9 – الترخيص للطائرات الصهيونية بالمرور عبر المجال الجوي.
10 – الإيعاز للعديد من الإعلاميين والكتاب والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة النقاشات الجدلية حول اليهود واتفاقات السلام والطعن في المقاومة، وظهور العديد منهم مع الصهاينة على الأنترنت أو في الواقع.
11 – استضافة المسؤولين والمفكرين الصهاينة على القنوات العربية وفتح المجال لهم لمخاطبة الجمهور العربي.
هذه الخطوات وغيرها لم تكن بريئة طيلة الفترة السابقة، حيث كانت تمهد لخطب جلل، وتسعى بخطوات مرحلية لإعادة تشكيل “وعي” الإنسان العربي المسلم، وتهيئته لاستساغة مثل هذه السجالات والسماح بتعاطيها ولو من باب “الأخطاء” أو “الاختلاف”، ويدرك المهتمون بحقل الإعلام وصناعة الرأي العام أن هذه الأساليب ما هي إلا مداخل لإعادة هندسة وتشكيل الوعي تمهيدا لإحلال وضع جديد، ومن أبرز أدوات تحقيق ذلك: الفن والدراما والإعلام والتعليم والعلاقات الدبلوماسية غير المعلنة. فالكثير ممن يروجون لسردية التطبيع يعتمدون المنهج الباطني اتقاءً لغَضْبَةِ الجماهير، ولأجل التسلل لِوَاذًا إلى مفاصل القرار السياسي والثقافي والتربوي، وغالبا ما تبنى خطواتهم وفق منهجية محكمة بدهاء.
وبهذا ارتسمت معالم مرحلة جديدة بدأت تراسيمها تُخطُّ منذ سقوط العراق، ثم الانقسام الفلسطيني، ثم تدمير سوريا فاليمن وليبيا، ثم نكسة مصر، ومحاولات خنق التجربة التونسية وتوريطها في متاهة الاضطراب والانقسام، وإغراق لبنان والأردن في التيه والعجز السياسي والاقتصادي، أما المغرب فمنذ زمن الحسن الثاني قد اختار لعبة اللوبيهات والعلاقات السرية، وصولا إلى التطبيع المفضوح والانخراط بلا هوادة في(نادي الصهاينة العرب).
وإزاء كل هذه الانتكاسات يبقى الخطر المستقبلي الذي يتهدد الأمة في أمنها القومي، والذي يجب أن تصوب تجاهه الأنظار، وتشتبك في محاربته الأفكار، هو تمدد خطر(الصهيونية العربية) هذا الوباء الذي إذا لم يجابه باستراتيجية مضادة وبتخطيط محكم من الدول المناهضة، سيفتك حتما بالمنظومة العربية والإسلامية بما في ذلك الدول التي بقيت عصية أمام الرياح العاتية لموجة التصهين.

* كاتب وأكاديمي جزائري

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

تونس.. اعتقال فرنسي بتهمة تهديد الأمن القومي

اعتقلت السلطات التونسية احتجزت طالب الدكتوراه الفرنسي فيكتور ديبون، بتهمة تعريض الأمن القومي للخطر.

وبحسب ما نقلت قناة “الحرة” الأمريكية عن مصدر، فإن ديبون كان يجري بحثا ميدانيا في محافظة جندوبة غرب البلاد، بشأن أوضاع أصحاب الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل منذ ثورة يناير 2011.

وأضاف المصدر أن بعض المستجوبين تقدموا بشهادات إلى الأمن تفيد بأن أسئلة الطالب الفرنسي تضمنت استفسارات حول الجيش التونسي والمؤسسة العسكرية وموقف الناس منها.

وبناء على ذلك، تم فتح تحقيق من قبل الاستخبارات العسكرية والقضاء العسكري حول طبيعة عمل الطالب المذكور.

وربط عدد من الحقوقيين التونسيين ربطوا الاعتقال بأطروحة دكتوراه ديبون، التي بدأها في عام 2022، على اعتبار أنها تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمسارات الحياتية للذين شاركوا في الحركات الاجتماعية لثورة 2011 التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي.

من جانبه قال فنسنت جيسير مدير أحد مختبرات البحوث في فرنسا، إن السلطات التونسية احتجزت قبل 12 يوما طالب الدكتوراة الفرنسي فيكتور ديبون الذي يعمل في المختبر، بتهمة تعريض الأمن القومي للخطر، مشيرا إلى أن السلطات الفرنسية تحاول التفاوض بشأن إطلاق سراحه.

بدوره أفاد إدوارد ماتالون الذي يعمل أمين مكتبة ويقيم في باريس، وهو أحد أصدقاء ديبون، بأن طالب الدراسات العليا الفرنسي ألقي القبض عليه قبل منتصف الليل يوم 19 أكتوبر الجاري بمنزله في إحدى ضواحي تونس مع 3 من الأصدقاء كانوا يزورونه من فرنسا.

وأضاف ماتالون أنه شخصيا أطلق سراحه في اليوم ذاته بعد استجوابه.

وتتناول أطروحة دكتوراة ديبون، التي بدأها في عام 2022، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمسارات الحياتية للذين شاركوا في الحركات الاجتماعية التونسية لثورة 2011 التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي.

مقالات مشابهة

  • تونس.. اعتقال فرنسي بتهمة تهديد الأمن القومي
  • دفاع الأمة الأخير ضد الصهيونية
  • جامعة الدول العربية ومصر تدينان “الانتهاكات الجسيمة” التي قامت بها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة السودانية
  • صندوق النقد العربي يعقد اجتماعا لتعزيز الشمول المالي في الدول العربية
  • الصندوق العربي للمعونة الفنية للدول الإفريقية يفتتح عشرة (10) دورات تدريبية بجمهورية مصر العربية
  • العربية للتنمية الإدارية تنظم الملتقي العربي للتنمية السياحية في مقاصد التراث الإسلامي في نوفمبر بالمغرب
  • الإمارات تدعو إلى وقف الأنشطة التي تهدد الأمن الإقليمي
  • شاهد | صراخ المغتصبين الصهاينة يرتفع بعد انعدام الأمن بعجز حكومتهم عن توفيره
  • استمرار التطبيع العربي وقت الإبادة.. يخدمها
  • «القومي للترجمة» ينظم حفل توقيع للطبعة العربية من «الزواج والحداثة»