الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: من الإرث العام
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
تُعرفُ السُّنةُ النبوية بأنها كلُّ ما قالَه سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أو فعلَه، أو أقرهُ (أى ما فُعِل أمامَه فلم يَعترضْ عليه)، أو ما جاءَ فى وَصفِه صلى الله عليه وسلم، الخَلقىِّ والخُلقىِّ.
والسُّنة النبوية باعتبارها تتبعاً دقيقاً لأقوالِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأفعالِه وإقرارهِ ووَصفِهِ الخَلقىّ والخُلقى فإنها تُعدُّ تأريخاً دقيقاً لم تشهد البشرية له مثيلاً إلى يومِ الناس هذا -كما يقول بعض دارسيها والباحثين فى تدوينها- وهل نقف فى سائر كتب التاريخ على شخص نُقلت أقواله وأفعاله وإقراراته ووصفه بمثل هذه الدقة والشمول اللذين نُقلت بهما السنة المطهرة؟!
وليس الشمول والدقة فقط هما مزية هذا التأريخ، وإنما له مزايا أخرى لم تجتمع لتأريخ آخر، فمن مزاياه أنَّ عدد الناقلين له أكثر من الناقلين لغيره، فقد حملته الأمة جيلاً فجيلاً، ليس باعتباره وحيّاً مقدساً فقط، بل باعتباره الوحى العالَمىّ الخاتم، ومعنى عالميته أنَّه لجميع الناس «وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً»، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، فلا بد إذن من أن يصل إليهم.
ومعنى خاتميته أنه لن يُبعث رسول آخر لمهمة البلاغ، فلا بد إذن من أن تحمل أمته مهمة التبليغ بعده، وقد أمرَ الله تعالى الأُمة بذلك فقال سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وكلمة (منكم) فى هذه الآية تحتمل وجهيْنِ، فقد تفيد معنى البعضية، فتكون الآية الكريمة أوجبت على الأمة أن تنهض منها طائفة مؤهلة تحمل الوحى وتدعو إليه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وقد يكون المقصود بكلمة (منكم) عموم الأمة، كما نقولُ مثلاً: أيها الآباء ليُكن منكم قدوةٌ لأبنائكم، فالمعنى هنا أن يكون كل واحد منكم قدوة لأبنائه، وقد وُصف عمومُ الأمة بهذا فى القرآن الكريم «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».
وإذا نظرنا فى الواقع سنجد أن الأمة قد حققت كلا المعنيين، فقد نهض من الأُمة فى كل جيل علماء لحمل السُّنَّة وتبليغها منذ الجيل الأول، كما أن عموم الأمة نقَلوا عموم السنة، فنقلوا العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج... وبعض الأحكام الشائعة للمعاملات ومكارم الأخلاق جيلاً فجيلاً، نقلاً متواتراً لا يسعُ أحداً أن يُشكّك فيه أو يُنكره.
وطبيعة السنة أكسبتها وثاقة، حيث حرصت الأمة منذ الجيل الأول على نقلها نقلاً دقيقاً، فكان الصحابة يتعاهدون مجالس سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وينقل بعضهم السنة عن بعض بدقة. وصار لها وثاقة من جهة أخرى -كما يقول بعض الباحثين- ألا وهى أن الصحابة الكرام حرصوا على أن تكون حياة كل منهم تطبيقاً عمليّاً لما عرفه من السنة المطهرة.
ولهذا التأريخ الخاص مزية ليست لغيره قطعاً، وهى التأريخ الدقيق لمؤرخيه على كثرتهم، تأريخاً يرصد شيوخ كل مؤرخ وتلاميذه، ومدى سلامة كل منهم مما يطعن فى صحة نقله، ودرجة إتقانه لما ينقله، وعدم مخالفته فى ما نقل لمن هو أدق منه، وعدم مخالفة المنقول للحقائق الثابتة.
وإذا كانت السنة النبوية بالنسبة لنا -نحن المسلمين- مصدراً من مصادر التشريع، فإنها بالنسبة لغيرنا جزء مهمٌّ من الموروث العامّ تُعدُّ المناداة بإهداره أو التكذيب به اعتداءً أثيماً لا يجرؤ على ارتكابه ذو نفس حُرّة تقدّر للعلم قدره، وتعرف للتراث قيمته.
هذا إن كان موروثاً عاديّاً، فكيف الحال وهو موروث أثَّر فى حضارات العالم، ومنها أوروبا التى عاش جنوبها الغربى تحت ظلال رايته ثمانية قرون كانت أزهى عصور الغرب، وأشدها أثراً فى تقدّمه؟!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: القرآن الكريم السنة النبوية الحقوق الواجبات
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: من شلتوت إلى الطيب .. الأزهر ومنهج الإيمان بالتعددية المذهبية
لم يكن الإيمان بالتعددية المذهبية في ضمير الأزهر اجتهادًا عابرًا أو موقفًا ظرفيًا، بل كان امتدادًا لروح الشريعة التي وسعت اختلاف العقول كما وسعت اختلاف الأمصار.
فمنذ نشأة الأزهر، تَكوَّن وعيٌ علميّ يرى في المذاهب مدارسَ للفهم لا معاقلَ للانغلاق، وفي الاختلاف وسيلةً لبلوغ الحقيقة لا لحجبها. بهذا الإدراك، تَرسّخ في الوجدان الأزهري أنَّ وحدة الأمة لا تُبنى على رأيٍ واحد، وإنما على احترام مسالك الاجتهاد وتقدير مقاصد النص. فالتعدد عند الأزهر ليس نقيضًا للوحدة، بل شرطها الأخلاقي والعقلي، لأنه يحميها من التحجّر ويمنحها مرونة الحياة.
في عصور الأئمة الكبار، كان الأزهر فضاءً يلتقي فيه الفقيه المالكي مع الشافعي والحنفي والحنبلي في احترامٍ متبادل، يدرك كلٌّ منهم أن قوله ليس نصًّا مقدسًا، وأن اختلاف النظر لا يفسد وحدة القلب. من هذه البيئة تخرّج علماء جعلوا المذهب خادمًا للدين لا سيدًا عليه، فرأوا أنّ الحقّ في الاجتهاد لا يقلُّ شأنًا عن الحق في الاعتقاد، وأنّ تنوع الفتوى إنما هو انعكاس لتنوع الواقع الإنساني الذي يخاطبه الوحي. ومن ثمّ، كان الأزهر يدعو إلى أن يُفهم الدين في ضوء علله ومقاصده، لا في أسر حرفيته الضيقة.
حين صدرت فتوى الشيخ محمود شلتوت في منتصف القرن العشرين بإجازة التعبّد بالمذهب الجعفري، لم تكن مجرد موقفٍ فقهيّ، بل لحظةً فارقة في تجديد وعي الأمة بذاتها. لقد أعادت تلك الفتوى تأكيد المبدأ الأصيل الذي انطلق منه الأزهر منذ قرون: أنّ الإسلام لا يُلزم باتباع مذهبٍ بعينه، وأنّ المذاهب كلها اجتهادات بشرية متجهة نحو مقصد واحد. بهذا المعنى، كانت فتوى شلتوت رسالة إلى الأمة أن التنوع الفقهي ليس تهديدًا للعقيدة، بل حمايةٌ لها من الجمود، وأنّ طريق الوحدة لا يمر عبر الإنكار المتبادل، بل عبر الاعتراف المتبادل.
لم يكن شلتوت متمردًا على التراث، بل مؤمنًا بعمقه الحيّ. لقد رأى أن المذاهب ليست جدرانًا تفصل المؤمنين، وإنما جسورٌ توصل بينهم في طلب الصواب. هذا الفهم العميق للتقريب بين المذاهب أعاد للأزهر مكانته كمرجعيةٍ جامعةٍ تسعى إلى تليين حدة الانقسام دون التفريط في الثوابت. فالتقريب، في تصوره، ليس تسويةً شكلية، بل تأسيسٌ لوعيٍ جديدٍ يفرّق بين الاختلاف المشروع والانقسام المذموم، بين أن نختلف لله، أو أن نختلف على الله.
ثم جاء الإمام أحمد الطيب ليواصل هذا المسار في زمنٍ اشتدّ فيه ضجيج المذهبية. لم يكتف بالدعوة إلى الحوار، بل صاغ خطابًا عقلانيًا يرى في التعدد المذهبي ضرورة لحماية الوحدة الإسلامية من التآكل الداخلي. فالوحدة عنده ليست توحيدًا قسريًا في الرأي، وإنما اتفاقٌ على المشترك الإيماني الذي يجمع القلوب رغم اختلاف العقول. من خلال مبادرته في المنامة، أعاد التأكيد على أنّ المذاهب الكبرى، سنيةً كانت أو شيعية، هي فروع لشجرة واحدة تمتد جذورها في الإيمان بالله ورسوله، وتختلف أغصانها في الظلال لا في الأصل.
هكذا تتكامل حلقةُ الأزهر من شلتوت إلى أحمد الطيب، في وعيٍ علميّ يرى في الاختلاف الفقهي طاقةً للنهضة لا معولًا للهدم. فالأزهر في جوهره لا يؤمن بالمذهب الواحد، بل بالعقل الجامع، ولا يطلب من الأمة أن تُطابق رأيًا بعينه، بل أن تشترك في البحث عن الصواب. التعددية المذهبية عنده ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، وإنما ممارسةٌ فكرية وأخلاقية تُجسّد أمانة العلم في زمن الانقسام.
وفي النهاية، يمكن القول إنّ مسيرة الأزهر من شلتوت إلى أحمد الطيب هي برهان على أن الإسلام دين يحتمل تعدد القراءات دون أن يفقد وحدته، وأنّ الاجتهاد لا يُقاس بعدد الأتباع بل بصدق القصد وسلامة الدليل. التعدد المذهبي في هذا الأفق ليس اختلاف أهواء، بل اختلاف أفهامٍ مؤمنة، تتنافس في طلب الحقيقة لتلتقي جميعًا عند أصلها الإلهي الواحد. بهذا الفهم الرفيع ظلّ الأزهر مدرسة العقل والاعتدال، يحرس وحدة الأمة بفقه التنوّع، ويثبت أن الاختلاف في الفروع سبيلٌ إلى الوحدة في الجذور، وأنّ الرحمة الإلهية تتجلى حين يتسع الدين لكل من قصد وجه الله، أيًّا كان مذهبه.