في كتابه "ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟" الصادر عن منشورات "بروفايل بوكس" في لندن قبل فترة قصيرة يحاول الكاتب الفلسطيني رجا شحادة أن يشرح للقارئ غير العربي الأسباب الحقيقية للحرب التي تدور رحاها الآن في غزة، وفي فلسطين عموما.

ورغم صغر حجم الكتاب (113 صفحة من القطع الصغير) فإنه ينجح في سبر أغوار النزاع الذي لا يبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وهجوم حماس على المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية الواقعة جنوب غزة، بل أبعد من ذلك، أي منذ صدور وعد بلفور عام 1917 الذي وعد بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل يمكن للعرب والمسلمين تشكيل قوة سياسية مؤثرة في أميركا؟list 2 of 2المسألة اليهودية وحلول بديلة عن مأزق الحل الصهيونيend of list

ويمزج بعض الذكريات الشخصية للكاتب -الذي لجأت عائلته من مدينة يافا عام 1948 إلى مدينة رام الله- بالتحليل السياسي وسرد الوقائع وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ إنشاء دولة إسرائيل حتى لحظة انتهائه من تأليف كتابه في فبراير/شباط الماضي.

الكاتب الفلسطيني رجا شحادة (شترستوك)

وهو يستدل من هذه السردية التي يعيد تشكيلها للقضية الفلسطينية على أن الإسرائيليين لم يغادروا في أي مرحلة من مراحل الصراع سرديتهم القائمة على الدعاية التي روجوا لها، خصوصا في العالم الغربي، وترتكز على القول بوجود "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

ولهذا، فإن السؤال الذي يسأله الكاتب في العنوان "ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟" يعثر على جوابه في الصفحات الأخيرة من الكتاب.

إن ما يخيفها وعلى نحو صارخ شديد الوضوح هو:

"وجود الفلسطينيين أنفسهم"

(ص 105)

الخوف والنزاع

يوضح رجا شحادة مقاربته الشخصية والتاريخية من خلال ضرب الأمثلة واستعادة أقوال المسؤولين الإسرائيليين السابقين والحاليين، مركزا على هوس هؤلاء بالأمن والخوف التاريخي وعدم القدرة على العيش دون حروب.

فهم يعتقدون أن ما يشكل اللحمة والرابطة الأساسية التي تجمع هذا الخليط الآتي من جغرافيات كثيرة وثقافات مختلفة ولغات متباعدة ورؤى ومعتقدات دينية وأيديولوجية متخاصمة هو الخوف من المحيط، من الفلسطينيين، ومن العرب في الدول المجاورة.

ولهذا، فإن العقيدة التاريخية المركزية للوجود الصهيوني على أرض فلسطين تتمثل في إقامة "إسبارطة" معاصرة تذهب إلى الحرب كل عدة سنوات، لكي تسد الطريق على ظهور الخلافات بين مكونات المجتمع الإسرائيلي وتعمق الشقاق بين هذا الخليط الاجتماعي والسياسي والثقافي والأيديولوجي والديني.

ويقتبس شحادة لتوضيح وجهة نظره وزحزحة السردية الرائجة في الغرب عن "إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيط شاسع من الدكتاتوريات" كلام أوري أفنيري الصحفي الإسرائيلي وعضو الكنيست السابق (1923-2018) الذي كتب أن:

"كثيرا من الإسرائيليين بدؤوا يتحدثون عن وجود "مجتمعين يهوديين" في إسرائيل، وبعضهم بدأ يقول إن هناك "شعبين يهوديين" ضمن الشعب اليهودي، فما الذي يربط هؤلاء ويشدهم إلى بعضهم بعضا؟

النزاع، بالطبع، الاحتلال، حالة الحرب الدائمة

(ص 51)

ويستكمل أفنيري فكرته عن الانقسام الحاد في المجتمع الإسرائيلي بين شرقيين وغربيين، متدينين وعلمانيين، أغنياء وفقراء، متسائلا إن كان النزاع قد فُرض على إسرائيل بالفعل، ليجيب -دون التباس- بأن العكس هو الصحيح.

"لقد حافظت إسرائيل على استمرار النزاع، لأنه يشكل جوهر وجودها"

(ص 52)

الصراع كمصدر للتماسك

واستنادا إلى هذا التحليل -الذي يقدمه أفنيري- يمكن فهم السعي المحموم للكيان الصهيوني من أجل صهر الهويات المتعارضة في هوية عبرية واحدة عبر اللغة العبرية بوصفها الشيء الوحيد الذي يمثل بوتقة صهر هذه الهويات واللحمة الوحيدة التي يمكن أن تجعل هذا المجتمع "الخليط" "مجتمعا واحدا".

لكن فشل عمليات الصهر والدمج جعل "الصراع" هو الطريقة الوحيدة التي تؤدي إلى تماسك المجتمع ومنعه من التشقق.

ولعل هذا الخوف "الوجودي" من انهيار الكيان "العبري" هو الذي جعل مؤسسي الدولة بدءا من ديفيد بن غوريون (1886-1973) يسعون إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية ومحو الأسماء الفلسطينية والاستعاضة عنها بأسماء عبرية، وكذلك السعي إلى ترويج سردية كاذبة حول فلسطين: السكان، والتاريخ، والجغرافيا، والذاكرة.

وكما يقول رجا شحادة:

"فمنذ عام 1948 كانت هناك محاولة لإعادة كتابة تاريخ جديد تماما لفلسطين، ولذلك عُدَّ عام 1948 نقطة الصفر التي يبدأ منها هذا التاريخ، حيث يتجمع اليهود في وطنهم التاريخي: إسرائيل"

(ص 7)

ومن هنا، يتضح أن المشروع الصهيوني لم يكن يوفر -لا في سرديته التاريخية أو في تصوره للمستقبل- أي مكان للفلسطينيين.

لقد أزاحهم جانبا بعمليات القتل والطرد عام 1948، وكذلك عام 1967 ومحو الهوية وإخراجهم من الجغرافيا كما من التاريخ، تمهيدا للتعامل مع ما يسميه وزير المالية الإسرائيلي الحالي بتسلئيل سموتريتش "الحل النهائي".

ومن الواضح أن تصور سموتريتش خارج -دون أي لبس- من تصور أستاذه الروحي زئيف جابوتنسكي (1880-1940) الذي تحدث عما سماه "الجدار الحديدي" الذي ينبغي بناؤه للتحكم بالفلسطينيين، فما لا تحصل عليه بالقوة يمكن الحصول عليه بقوة أكبر.

وهذا ما تفعله إسرائيل منذ إنشائها، ويبدو هذا المشروع مأخوذا الآن إلى نهاياته القصوى في ما يقوم به الكيان الصهيوني من إبادة جماعية في غزة للشجر والحجر والبشر وللذاكرة والتاريخ والجغرافيا كما الطوبوغرافيا من خلال تسطيح الأرض وجعل الشروط المحيطة غير قابلة للحياة.

معضلة الوجود الفلسطيني

معضلة إسرائيل إذن كما يقول رجا شحادة هي "وجود" الفلسطينيين وعدم تبخرهم من الجغرافيا والتاريخ، فماذا نفعل بهم؟ ما الذي يجعل هذا الكيان الذي رسم لنفسه نقطة بداية تبدأ من طرد الفلسطينيين عام 1948 (رغم بقاء ما يزيد على 100 ألف منهم خلف ما يسمى الخط الأخضر في سنة النكبة) يشعر بالأمان وعدم الانهيار بسبب عدم تجانس مكوناته الاجتماعية والدينية والأيديولوجية، وحتى اللغوية؟ لقد راهنت إسرائيل على نضوج الظروف.

وكانت هناك دائما خطة موضوعة في الأدراج تخرج للعلن عندما تظن النخبة الحاكمة في إسرائيل أنها قابلة للتطبيق، وكما ينقل المؤلف من أحد تصريحات بنيامين نتنياهو فإن القوة هي ما يعوّل عليه هذا الكيان، وهي "الشيء المهم في السياسة الخارجية"، ويضيف:

كلمة "الاحتلال" لا معنى لها، فثمَّة دول قوية احتلت وغيَّرت التركيبة السكانية ولا أحد اهتم بهذا"

(ص 13)

إستراتيجية إسرائيل لكسر الإرادة الفلسطينية

كانت مشكلة إسرائيل وما زالت هي "الوجود الفلسطيني"، ولم تستطع النخب السياسية التي حكمتها منذ عام 1948 تجاهل هذا الوجود، لقد ندم بن غوريون على أنه لم يطرد كل الفلسطينيين في تلك السنة من الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر.

لكن احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 أعاد طرح المعضلة الفلسطينية على النخب الحاكمة في الدولة العبرية، وقد اعتقد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه دايان (1915-1981) أن إسرائيل "أصبحت إمبراطورية"، ولذلك رأى أنها يجب أن تبقى هناك. (ص 46)

كما زار أرييل شارون (1928-2014) عام 1981 عندما كان وزيرا للدفاع في حكومة مناحيم بيغن (1913-1992) دولة جنوب إفريقيا العنصرية، ليتعلم منها تطبيق الفصل العنصري على الفلسطينيين وإنشاء "بانتوستانات" (معازل عرقية) للسكان الذين لا حقوق سياسية لهم. (ص: 26)

لكن الفلسطينيين قاوموا كل المشاريع التي حاولت محوهم وإخراجهم من التاريخ، اندلعت الانتفاضتان الأولى والثانية، وبدأت حماس تمطر إسرائيل بالصواريخ من قطاع غزة، فبدأت إسرائيل في محاولة تجربة ما سمته "كيَّ الوعي الفلسطيني"، بحيث تخمد جذوة المقاومة وتجبر الفلسطينيين على الخضوع والاستسلام.

ويشير رجا شحادة إلى هذه الإستراتيجية الإسرائيلية لكسر الإرادة الفلسطينية بالعودة إلى تصريحات موشيه يعالون عام 2002، وقد كان حينها رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي.

يتحدث يعالون عن "كيِّ الوعي" ورسم "خارطة ألم" من قبل الجيش الإسرائيلي في "وعي الفلسطينيين" بهدف ترهيبهم وجعلهم يرضون بما تقبله إسرائيل لهم.

ويذكر المؤلف أن هذا الأمر ليس جديدا، فقد سبق أرييل شارون خلفه في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي بمحاولة رسم "جغرافيا" جديدة لفلسطين في وعي الفلسطينيين.

لكن الكاتب يستنتج أن كل هذه المحاولات لكسر إرادة الشعب الفلسطيني لم تنجح. (ص 61)

ويمكن القول هنا إن هذا هو بالفعل ما تفعله حكومة نتنياهو والجيش الإسرائيلي الآن في الحرب الشرسة الدائرة على غزة، وكذلك في الضفة الغربية، فهي الإستراتيجية نفسها وإن تبدلت الحكومات وتغيرت النخبة الحاكمة، بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية والحزبية للمسؤولين الإسرائيليين، فالوجود الفلسطيني -حسب شحادة- هو ما يؤرق الدولة الصهيونية ويجعلها تجرب كل أنواع الخطط من أجل التخلص من الفلسطينيين.

الوجود الفلسطيني ومآلات الإبادة الجماعية

فهل كان ما حدث في عملية "طوفان الأقصى" سببا في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الوجود الفلسطيني؟ هل كان في الإمكان تجنب هذا المصير الذي آل إليه الوضع في قطاع غزة ومنع حدوث كل هذا القتل والتدمير والخراب وجعل الحياة شبه مستحيلة في قطاع غزة المحاصر منذ نحو 20 عاما؟

لا يسأل المؤلف هذا السؤال، ولكنه يجيب عليه ضمنا من خلال استعراض تصريحات نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين، ورفض النخب الإسرائيلية قبول إقامة دولة فلسطينية.

لا يختلف في هذا الرفض معظم المسؤولين الإسرائيليين بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الحزبية أو الأيديولوجية، سواء كانوا ينتمون إلى اليسار الصهيوني أو اليمين العلماني أو اليمين الديني أو اليمين الديني العلماني أو الديني المتطرف، فكل هذه النخب لا تعترف بشيء اسمه الشعب الفلسطيني وتنكر الوجود الفلسطيني ذاته.

يقتبس رجا شحادة من مقالة كتبها المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس -وهو من دشن ما يسمى في إسرائيل تيار المؤرخين الجدد، ثم ارتد على أطروحاته السابقة- في صحيفة هآرتس في نهاية يوليو/تموز 2014، أي قبل انتهاء الحرب الشرسة على قطاع غزة عام 2014، وقد استمرت 50 يوما.

يقول موريس إن ما على إسرائيل فعله يتطلب الجرأة "والإصرار على إنهاء المهمة، ولن تكون هذه المهمة سهلة وسريعة، ونحن نتحدث هنا عن إعادة احتلال قطاع غزة كله وتدمير حماس كمنظمة عسكرية، وربما كتنظيم سياسي، سوف يتطلب هذا شهورا من العمليات العسكرية، بحيث يتم تنظيف القطاع من أعضاء حماس والجهاد الإسلامي والتخلص من سلاحهم حيا حيا، سوف ندفع بالطبع ثمنا باهظا من أرواح الجنود الإسرائيليين، وكذلك من أرواح المدنيين الفلسطينيين، لكن هذا هو الثمن المطلوب دفعه من أجل أن نعيش كشعب على أرضنا ووسط جيران من هذا النوع. (ص 71)

فماذا تفعل إسرائيل الآن وبعد 10 سنوات من الحرب التي شنتها على غزة عام 2014 ومن زمن كتابة هذه الخطة "العسكرية" والإستراتيجية التي وضعها بيني موريس في مقالة؟

إنها تنفذ الخطة بحذافيرها، لكن لا بهدف التخلص من كل مقاومة فلسطينية، بل من أجل التخلص من الفلسطينيين ومن شبحهم الذي يطاردها كدولة محتلة استيطانية كولونيالية إحلالية لا تشعر بالأمان ولن تشعر به يوما.

"فالوجود الفلسطيني ذاته" -أي كونهم يعيشون هنا والآن في هذه البقعة من الأرض- كما يقول رجا شحادة هو الذي يقض مضاجع سكان هذه "الدولة" ويمنعهم من النوم "قريري الأعين" تلك هي الرسالة التي يحاول الكاتب والمحامي الفلسطيني رجا شحادة إيصالها إلى قرائه في الغرب.

———————————————————————————

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر الوجود الفلسطینی إسرائیل من قطاع غزة ما الذی عام 1948 من أجل

إقرأ أيضاً:

عادل حمودة يكتب: سفير ترامب الجديد فى إسرائيل.. لا شىء اسمه فلسطين

خريطة نتنياهو تضم الضفة وغزة والجولانسفر إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات أصبح نصا سياسياشطب القضية الفلسطينية سيفجِّر فوضى شاملة فى المنطقة لن تنجو منها إسرائيل

وضعت الحرب الفلسطينيين فى حالة استثنائية. 

منحتهم شهورا من «القشعريرة» الوطنية لا تحدث فى حياة الشعوب المحتلة إلا نادرا.

فجرت مياه «التحرر» الجوانية فى أعماقهم وأضاءت قناديل العدالة فى نفوس كارهى الظلم فى الدنيا كلها.

دفع الفلسطينيون ثمنا غاليا يصعب تقديره ليعثر العالم على وعيه الضائع وضميره الغائب وذاكرته المنسية ويعترف بقضيتهم المزمنة ثم يعيد إليهم ما اغتصب منهم.

انتظر الفلسطينيون نهاية الحرب لتتسلم الدبلوماسية ملف القضية لتكافئهم بحلها على قدر ما حاربوا وعلى قدر ما ضحوا وعلى قدر ما استشهدوا أليست الحرب سياسة بأسلوب أشد.

وجاء من أقصى الغرب «رئيس» يسعى إلى إيقاف الحرب كما وعد العرب والمسلمين أربع مرات حين التقى بهم فى حملته الانتخابية.

وقبل أن يعود إلى البيت الأبيض فى يناير القادم ليصبح سيده سلم القضية للدبلوماسية مبكرا.

لكن الدبلوماسية خطفت القضية من أيدى أصحابها وأنصارها وصادرت بياناتها وأحلامها ومستقبلها وثيابها وطعامها وأرضها وتاريخها بل اسمها قبل أن تجلس على مائدة المفاوضات إذا حدثت مفاوضات.

اختار «دونالد ترامب» الذى نلقى بكل الرهان عليه «مايك هكابى» سفيرا للولايات المتحدة فى إسرائيل لنجد أنفسنا فى صدمة وربما صاعقة.

كان مجرد إعلان الاسم وقبل أن يوافق الكونجرس عليه وقبل أن يتسلم عمله كفيلا بسقوط الستار على الفلسطينيين قبل أن يصلوا إلى خشبة المسرح بل ربما وضعوا فى الثلاجة حتى يصبحوا أسماكا متجمدة.

الرجل يعشق إسرائيل ويذوب فى هواها ويلثم التراب الذى تمشى عليه ولا يتخيل الحياة بدونها.

«ترامب» نفسه اختاره للمنصب لأنه حسب ما أعلن أنه «يحب إسرائيل وعلى نحو مماثل يحبه شعب إسرائيل «فلم يحرم العاشقين من رقصة «تانجو» طال انتظارها على الأرض المحتلة؟ لم لا يمنحهم فرصة المناجاة فى ليلة قمرية على شاطئ «تل أبيب»؟

والمثير للدهشة أن «هاكابي» ليس يهوديا ولكنه يموت فى هوى إسرائيل أكثر من كل السفراء اليهود الذين بعثت بهم الولايات المتحدة إليها منذ عين «جورج بوش» عام ٢٠٠٨ «جيمس كانينجهام».

فى ٥٢ سنة زار «هاكابى» إسرائيل ١٠٠ مرة فى رحلات جماعية مدفوعة حاملا «الإنجيل» فى يد «والتوراة» فى اليد الأخرى.

وهو لا يرى إسرائيل بعيون سياسية وإنما يراها بعيون دينية.

يراها «مشيئة الرب» التى جمعت شعبه «المختار».

يراها أمة «داوود» الذى حارب «جوليات» وأنقذ اليهود من غزوات الكنعانيين.

ولد «هاكابى» فى مدينة «هوب» (ولاية تكساس) يوم ٢٤ أغسطس عام ١٩٥٥(٦٩ سنة) وبسبب بيئته المتواضعة المحافظة اتجه إلى الكنيسة لتعلمه وتأويه وتطعمه وتدربه على التبشير بمعتقداتها.

وفى سن الخامسة عشرة ألقى أول موعظة على منبرها.

درس «الإلهيات» فى جامعة «أواشيتا بابتيست» المعمدانية التى شكلت أفكاره وتوجهاته التى نشرها بسهولة بعد أن أصبح قسا فى ولاية «أركنساس» التى توجد فيها الجامعة بالتحديد فى مدينة «أركدلفيا».

قدم برنامجا تليفزيونيا حمل اسمه «هاكابي» ساهم فى انتشاره حتى أصبحا نجما يمشى وراءه المتشددون.

على الشاشة رفض الإجهاض حتى ولو كان سبب الحمل الاغتصاب أو زنى المحارم.

رفض أيضا الجنسية المثلية وطالب بتعديل دستورى يحظر زواجهما من بعضهما البعض.

ودعا إلى عزل مرضى الإيدز بعد سنوات من تأكيد الطب أن المرض لا يمكن أن ينتشر من خلال المعايشة الاجتماعية.

وعارض الرعاية الصحية الشاملة التى يستفيد منها الفقراء.

واعتبر أبحاث الخلايا الجذعية الجينية التى عالجت أمراضا مستعصية نوعا من الكفر وتدخلا فى مشيئة الرب.

ووصف نظرية «داروين» فى النشوء والارتقاء بأنها رجس من عمل الشيطان.

وفيما بعد رأس قناتين تليفزيونيتين تروجان لما يسمى «المسيحية الصهيونية» التى تؤمن بأن قيام إسرائيل عام ١٩٤٨ كان ضرورة سماوية سامية لأنها تكمل نبوءة الكتاب المقدس بقدوم المجيء الثانى للمسيح إلى الأرض ملكا منتصرا بعد حرب سيخوضها ضد الشر فى العالم.

وتعتقد «الصهيونية المسيحية» أنه من واجب أتباعها الدفاع عن الشعب اليهودى بشكل عام والدولة العبرية بشكل خاص ويعارضون انتقادها ويعتبرون جزءا من اللوبى الذى يؤيد إسرائيل.

ويتبع المؤمنون بها «هاكابي» فى كتابة قصائد تعبر عن لوعة الحب الذى يحرق قلوبهم على إسرائيل.

لا نجرؤ بالطبع أن نلوم عاشقًا على ما يحب ولا على ما يكره فالعواطف قناعات داخلية يصعب تجنبها أو السيطرة عليها أو التحكم فيها.

هو حر فى حبه وهو حر فى كرهه وليس من طبيعتنا العربية أن نفرض على أحد حبا لا يريده ومشاعر لا يحس بها.

لكن عواطف الحب عنده ليست عواصف صوفية أو رومانسية وإنما هى عواطف سياسية وعملية وواقعية تقوم على السيطرة المطلقة سواء فى جلسات الحب الإسرائيلية أو جلسات المفاوضات العربية.

على أن العاشق الخرافى الذى بدا مستعدًا أن ينتحر حبا فى إسرائيل استفاد منها كثيرا.

بأصوات اليهود الذين انتخبوه أصبح حاكما لولاية «أركنساس» فى الفترة ما بين عامى ١٩٩٦ و٢٠٠٧ وجمع للمرة الأولى بين السياسة والموعظة وفيما بعد ستتولى ابنته «ساندرز» المنصب نفسه وتصبح ابنته الأخرى «سارة» متحدثا رسميا باسم البيت الأبيض خلال رئاسة «ترامب» الأولى.

المثير للدهشة أن «ترامب» لم يعجبه فى البداية ووصفه بأنه «ديكتاتور» لا يقل تسلطا عن «هتلر» بل رشح نفسه ضده فى الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهورى لاختيار مرشح الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦ لكنه فشل كما سبق أن فشل فى عام ٢٠٠٨.

على أنه وقع فى هوى «ترامب» بعد أن قرر فى ٦ ديسمبر ٢٠١٧ نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وفى ١٤ مايو ٢٠١٨ بدأت السفارة الأمريكية عملها من القدس فى ذكرى إعلان «مناحم بيجن» المدينة المقدسة عاصمة موحدة وأبدية للدولة الصهيونية.

لم يكف «هاكابي» عن دعم «ترامب» وحشد أتباعه فى الكنائس ومتابعيه فى التليفزيون لانتخاب «ترامب» بل رافقه فى زيارته الدعائية للسبع ولايات المتأرجحة التى تحسم عادة الانتخابات.

ورد «ترامب» الجميل باختياره سفيرا للولايات المتحدة فى إسرائيل والمؤكد أن اختيار «ترامب» اختيارا تماما فهو يعرف مسبقا أن «هاكابى» سيخدم إسرائيل برموش عينيه أكثر من اليهود المتشددين الذين سبقوه فى تولى المنصب.

كل تصريحات «هاكابى» تثبت ذلك.

حسب شبكة «سى. إن. إن.» الإخبارية الأمريكية فإنه يرفض استخدام مصطلح «المستوطنات».

ويقول: «إن إسرائيل لديها سند ملكية ليهودا والسامرة» وهما الاسم التوراتى الرسمى الذى يطلق على الضفة الغربية.

فى عام ٢٠١٥ قال:

«إن مطالبة إسرائيل بضم الضفة الغربية أقوى من مطالبة الولايات المتحدة بمانهاتن» أشهر منطقة فى مدينة نيويورك.

وفى عام ٢٠١٧ زار مستوطنة «معاليه أدوميم» ليعلن:

«لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية. إنها يهودا والسامرة. ولا يوجد شىء اسمه مستوطنة. إنها مجتمعات وأحياء ومدن. ولا يوجد شىء اسمه احتلال (إسرائيلى) فاليهود هم أصحاب الأرض منذ ثلاثة آلاف سنة».

لم يكتف بذلك وإنما أعلن فى بداية شهر نوفمبر ٢٠٢٤ معارضته القوية لـ «إٌقامة دولة فلسطينية» مضيفا: «لا يوجد شىء اسمه فلسطين».

وعندما نفذت عملية «طوفان الأقصى» حتى سارع بالسفر إلى إسرائيل ليزور تجمع «كفار غزة» الذى هاجمه مقاتلو حماس قائلا:

«إن هذه الزيارة ضربة قوية عززت تصميمه على التعبير عن تضامنه مع الشعب الإسرائيلى».

بل أكثر من ذلك انتقد «جو بايدن» بسبب ضغطه على إسرائيل قائلا:

«إذا كنت شخصا مؤيدا لإسرائيل فكيف يمكن أن تكون مؤيدا لبايدن الذى أوضحت إدارته أنها ستقدم تنازلات لحماس».

هكذا تحدث سفير «ترامب» فى إسرائيل.

قطعا سيوافق الكونجرس عليه لوجود أغلبية للجمهوريين.

لكن المهم أن الرجل واضح وصريح ومباشر فى تصريحاته وتوجهاته وأهدافه ونحن نشكره على ذلك حتى لا نضيع وقتنا فى تمنيات طيبة بالتغييرات.

يجب أن تصل رسالة جديدة إلى «ترامب».

صدقنا أنك ستوقف الحرب وتأتى بالسلام ولكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب القضية الفلسطينية.

لو نفذت سياسة سفيرك «هاكابي» بشطب فلسطين من على الخريطة فإن الفوضى ستضرب المنطقة ولن تكون إسرائيل بعيدة عنها.

إن الاستقرار الذى تتحدث عنه لن يأتى بالسيطرة الإسرائيلية وإلا ستتكرر عملية طوفان الأقصى وسبعة أكتوبر سيواصل العد حتى ثلاثين أكتوبر.

لكن فى الوقت نفسه لم لا تخرج من المنطقة مبادرة جماعية (عربية وتركية وإيرانية) لمواجهة مخططات ومؤامرات باتت معلنة.

ألم يخرج «نتنياهو» على الجمعية العامة للأمم المتحدة بخريطة جديدة ليس فيها فلسطين؟

ألم يعد الحديث من جديد إلى امتداد دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات؟

إن الحكومة الإسرائيلية القائمة حكومة دينية يمينية متطرفة تؤمن بتحويل النصوص التوراتية إلى نصوص سياسية.

وفى التوراة (سفر التكوين) عباراة تشير إلى أرض إسرائيل الكبرى:

«فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقا قائلا: لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير فى الفرات».

حسب هذا التصور فإن حدود إسرائيل تشمل كل أراضى فلسطين التاريخية بما فيها الضفة الغربية وغزة إلى جانب مرتفعات الجولان.

وهناك من يرى أن النص يسمح بالتمدد إلى أراضى دول أخرى.

ومن ثم فالوقوف فى وجه التهام فلسطين هو خطوة ضرورية لحماية دول أخرى حسب المثل الشائع:

«أكل الثور الأبيض يوم أكل الثور الأسود».

مقالات مشابهة

  • شاهد بالفيديو.. قصة الأغنية السودانية التي حققت أكثر من 2 مليون زيارة على يوتيوب والجمهور يسأل أين هذه المبدعة؟
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • تحقيق لأسوشيتد برس: حملة قمع إسرائيلية ضد الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل الذين يعبرون عن رفضهم للحرب في غزة
  • من هو محمد حيدر الذي تدعي إسرائيل استهدافه بغارة بيروت؟
  • فرض “حل” على الفلسطينيين لن ينهي صراع الشرق الأوسط مع إسرائيل
  • عادل حمودة يكتب: سفير ترامب الجديد فى إسرائيل.. لا شىء اسمه فلسطين
  • بعد مجزرة بيروت.. من هو الشبح الذي تزعم إسرائيل اغتياله؟
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • نيويورك تايمز: ما الذي يمنع اندلاع حرب واسعة بين إسرائيل وإيران؟
  • إسرائيل توقف أوامر اعتقال المستوطنين بتهمة الاعتداء على الفلسطينيين