في عمق الأزمة: كيف تبتكر القيادة مسارات التغيير؟!!
تاريخ النشر: 25th, October 2024 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
كان الشيخ ومريدوه يتجولون في غابة هادئة، حيث الطبيعة تنبض بالحكمة، والصمت يتيح المجال للتأمل في المعاني العميقة. كانوا يستمعون بشغف لحكمة الشيخ، يتعلمون من دروسه التي تمسّ الروح وتكشف لهم أسرار الحياة. وفجأة، تمزق السكون بزئير أسد خرج من بين الأشجار، مزمجراً ومقترباً بسرعة.
في غمرة التحديات العملية التي تواجه الأمم والمجتمعات، لا يكفي الاعتماد على الإيمان وحده. فالواقع يتطلب من الإنسان استخدام عقله، وتطبيق المعرفة العلمية، والاستفادة من مهارات التخطيط والتنظيم. فالأزمات الاقتصادية والحروب لا تُحل بالدعاء وحده، بل تحتاج إلى استراتيجيات دقيقة، وإلى عقول تجيد قراءة المواقف واستباق الأحداث. والتاريخ مليء بالدروس، وغزوة أحد خير مثال على ذلك. حين ترك الرماة مواقعهم طمعاً في الغنيمة، استغل خالد بن الوليد هذا الخطأ ليغير مجرى المعركة، رغم أن النبي عليه السلام كان بين المسلمين آنذاك. هنا يظهر لنا القرآن الكريم حاملاً رسالة واضحة: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءًا يُجزَ به”. العبرة أن الأخطاء البشرية، وليست الإرادة الإلهية، هي التي تقود إلى الهزيمة، وأن الحلول تأتي من تصحيح المسار ومن التعلم من التجارب السابقة. إن الإيمان، رغم أهميته الكبرى في تهذيب النفوس وبناء المجتمعات، لا يمكن أن يكون بديلاً للعقل والمنطق. فالدين قد يوفر الأساس الأخلاقي الذي يُمكِّن المجتمعات من النهوض، لكنه لا يقدم حلولاً جاهزة للأزمات. الحلول الحقيقية تأتي من التخطيط المحكم، والابتكار المستمر، ومن القدرة على مواجهة التحديات بعقلية علمية ومنطقية. وفي النهاية، يظل التوازن بين العقل والروح هو الطريق الأمثل نحو مستقبل أفضل. فكما أن الإنسان مسكون بالدين، فهو أيضاً مخلوق عقلاني بطبيعته، يسعى إلى تحسين واقعه عبر الفهم والعمل الدؤوب.
في تلك المساحة الغامضة حيث يلتقي الإيمان بالعقل، يقف الإنسان على عتبة من النور والمعرفة. الدين، هو تلك البوصلة الروحية التي توجه نحو السمو والفضيلة والإخلاص. ويطلب من الإنسان أن يُستخدم العقل كأداة لفهم حكمة الخالق، وللتخطيط للحياة وفقاً لمنطق الكون وقوانينه. هنا يتجلى الحد الفاصل، بين ما يمليه الدين من قيم عليا، وما يُطلب من الإنسان فعله، عبر سبر أغوار الحياة إلى فهم أبعد، في توازن دقيق بين الروحانية والفكر. هذا الإطار، يعتبر العقل هو المرشد العملي، الذي يربط بين الأرض والسماء، وبين ما هو دنيوي وما هو أبدي. فالدين والعقل ليسا متعارضين، بل قوتان متكاملتان. العقل وسيلة لترجمة تعاليم الدين إلى خطوات عملية تُنظِّم حياة الفرد والمجتمع. ويساعد على فهم وتفسير النصوص الدينية وتطبيقها في سياقات الحياة اليومية، مع مراعاة الظروف والتحديات المختلفة. ويعمل على تجسيد تلك المبادئ في قرارات وسلوكيات عملية تحقق التوازن بين الروحانيات والحياة المادية. في هذا التوازن، يجد الإنسان راحة القلب واستنارة العقل، ويدرك أن الحياة ليست مجرد اختبار للإيمان، بل هي أيضاً دعوة لاستثمار العقل لتحقيق الخير والصلاح، كما أراد الخالق لها أن تكون.
الإيمان، بوصفه قوة محركة عميقة، يغذي القيم الأخلاقية والدوافع التي تدفع الإنسان نحو العمل والإبداع. ولكنه ليس المصدر الوحيد للحلول العملية في مواجهة التحديات الاقتصادية والعلمية. فالحلول تأتي من خلال توظيف القدرات البشرية في التحليل والابتكار، ومن استخدام الموارد المتاحة بذكاء وحكمة. هنا يتجلى التكامل بين الروح والعقل، حيث يدرك الإنسان إمكاناته ويوجهها لخدمة البشرية، فيحقق التوازن بين القيم الإيمانية والإنجاز العملي. ان الفرق الجوهري يكمن في نوع التدين الذي يختاره الإنسان. فإما أن يكون تديناً ضيق الفهم، يؤدي إلى الجمود والتخلف عندما يستخدم كذريعة للهروب من المسؤولية أو الابتعاد عن العلم. هذا النهج يركز على العزلة، ويرفض التفاعل مع المجتمع، ويعارض التفكير النقدي والعلوم الحديثة، معتبراً أن كل ما هو جديد أو مختلف عن النصوص التقليدية مرفوض. في هذا الإطار، تصبح الطقوس والمظاهر الشكلية للدين هي الهدف النهائي، متجاهلين روح الدين ومقاصده العميقة. والنتيجة تكون جموداً اجتماعياً واقتصادياً، حيث لا يشجع الأفراد على المشاركة في تطوير مجتمعاتهم أو تحسين ظروفهم المادية. في المقابل، هناك نوع من التدين أكثر انفتاحاً، يدعو إلى العمل الجاد، والتفكير النقدي، والابتكار المستمر. هذا الفهم المنفتح لا يعارض التقدم، بل يعززه ويغذيه بالقيم الأخلاقية التي تضمن أن يكون التقدم في خدمة الإنسانية جمعاء. هنا يصبح الإيمان محفزاً للإبداع، وليس قيداً عليه.
عندما نكتشف أن الواقع الذي نسير فيه والنهج الذي نعتمده قد أصبح غير فعال، تظهر الحاجة إلى التحلي بالشجاعة والمرونة لتغيير المسار. وليس في التمسك الأعمى بالمواقف والآراء القديمة، بل في القدرة على التكيف مع الحقائق الجديدة التي تفرض نفسها، وعلى استيعاب المعطيات التي تفتح آفاقاً نحو نتائج إيجابية. فالتمسك بأفكار جامدة قد يقود إلى تعثر لا مبرر له، في حين أن الانفتاح على الظروف المتغيرة، والاستماع إلى الآراء المختلفة، وتحليل الوضع بعقلانية، هو الطريق الأجدر للوصول إلى حلول أفضل. تغيير المسار، في اللحظة التي تستدعي ذلك، لا يعني أبداً التخلي عن المبادئ أو الضعف أمام التحديات. على العكس، إنه فعل من أفعال الحكمة، يهدف إلى تجنب الضرر على كل المستويات، ويسمح بالتقدم نحو الأهداف بنجاح أكبر. فالاعتراف بالأخطاء أو القصور ليس دليلاً على الفشل، بل هو بداية تصحيح المسار، وهو ما يستدعي تقييماً صادقاً وموضوعياً للأوضاع، بعيداً عن التحيزات الشخصية أو الأوهام المسبقة. إن المرونة في التفكير هي التي تُمكّن الإنسان من التكيف مع التغيرات، وتفتح الباب أمام البحث عن حلول أكثر فعالية. الانفتاح على الآراء والأفكار الجديدة، حتى لو جاءت من خارج إطار اعتقاداتنا الراسخة، يعزز من قدرتنا على إيجاد حلول من زوايا مختلفة، ويوسع دائرة رؤيتنا للواقع.
في كثير من الأحيان، تأتي الحلول من منظور غير تقليدي، ومن خلال التفاعل مع وجهات نظر متنوعة.
abudafair@hotmail,com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الإصلاح العلماني والعلمنة.. مشاتل التغيير (7)
ضمن فكرة الإصلاح الديني (الغربية) ومن جراء خبرة الكنيسة، وُلدت الفكرة العلمانية أو اللائكية، في سياق مركزية الغرب الذي أنشأ مفاتيح حضارته، وواحد من أهم تلك المفاتيح هي المسألة العلمانية، والتي أرادت الحضارة الغالبة أن تجعلها محكا فاصلا فربطت العلمانية بالحداثة، وكل معاني التقدم، بينما جعلت من الدين أمرا متروكا أو هامشيا فحددت مكانة الدين ضمن المسألة الحضارية الأوسع. وكعادة كل المفاتيح لهذه الحضارة الغالبة تنطلق في البداية للترويج للمصدر، ثم تنتقل إلى المذهبية (ism) ثم تتحول إلى العملية في سياق نشرها والترويج لها ضمن نمط الحياة فمن "Secularity" إلى "Secularism" إلى "Secularization". إنها خطة الغلبة ضمن مفاهيمها الحضارية لتشكيل نمط الحياة للحياة الإنسانية قاطبة، وفي سياق تعميم الحالة العولمية.
تطرح العلاقة بين "الإصلاح الديني والعلمانية" ثلاثة أسئلة ضمنية وأساسية، الأول "حول جوهر الإصلاح الديني: عن أي "إصلاح ديني" نتحدث؟ وقد عالجنا ذلك في مقالنا السابق والثاني حول مفهوم "العلمانية": ما العلماني؟ والثالث حول العلاقة بينهما: هل ثمة علاقة تلازم بين "الإصلاح الديني" و"العلمانية"؟ معالجة هذه الأسئلة الثلاثة هو المسلك الصواب في إرساء قواعد منهج النظر ومناهج التناول والبحث فحصا ودرسا ومناهج التعامل مع الواقع والميدان الفعلي. معالجة ذلك يمكن أن يتم من خلال ثلاثة محاور رئيسة، حيث تناول المحور الأول مفهوم العلمانية، في حين تناول المحور الثاني الإصلاح الديني، وخصصنا المحور الثالث لبحث العلاقة بينهما. وهي معالجة استلزمت على صعيد المنهج، إعادة التفكير نقديا في مفاهيم "الديني" و"العلماني"، واستصحاب المراجعات الجذرية التي تم إنجازها في حقل دراسات "ما بعد العلمانية" بهذا الخصوص.
مع إصرار على مفردة العلمانية ضمن التباس يتعلق بحركة الحروف بالفتح أو الكسر، أو التباس يتعلق بالخبرة التاريخية المتعلقة بـ"رجال الدين" وفكرة الوساطة الكهنوتية والتحكم الكنسي؛ بات ذلك يشكل معضلة معرفية، وكذلك معضلة تتعلق بالممارسة الحياتية وتؤشر إلى وضع الدين ومكانته في الحياة إغفالا بالجملة أو تهميشا في مجمل الحياة
وما نؤكد عليه هو ضرورة توخي الحذر في التعاطي مع مصطلحي "الإصلاح الديني" و"العلمانية". فهناك وجهات نظر مختلفة ومتنوعة عن "الإصلاح الديني" وعن "العلمانية" كذلك، ولذلك من الخطأ بمكان، أن يتم التعاطي مع أي منهما بوصفه يمثل مقولة واحدة كلية متجانسة مغلقة ومستقرة دلاليا، فإننا بذلك سنجازف ببساطة بملء مقولة "الإصلاح الديني" أو "العلمانية" بمجموعة من وجهات النظر المتنوعة والمتباينة عن بعضها البعض، وهو مسلك يفضي في النهاية إلى اللبس والخلط والغموض وسوء الفهم". يؤكد ذلك مقال "الإصلاح الديني والعلمانية"؛ للأستاذ حسن مجدي عز الدين.
العَلْمانية والعالَمانية أو اللائكية والدنيوية أو اللادينية على ما يطلق البعض؛ هي المبدأ القائم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة أو الشّخصيّات الدّينيّة. تعرف العلمانية كمبدأ ومنهج فكري يرى أن التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي وليس دينيا. ويروج للعلمانية بشكل شائع على أنها فصل الدين عن شؤون الحياة ومنها الدولة، ويمكن توسيعها إلى موقف مماثل فيما يتعلق بالحاجة إلى إزالة أو تقليل دور الدين في أي مجال عام.
تختلف مبادئ العلمانية باختلاف أنواعها، فقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدّولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق وتبنّي معتقدٍ أو دينٍ أو تقليدٍ معينٍ لأسباب ذاتيّة غير موضوعيّة. كما تكفل الحقّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدّولة، وحماية الدولة للأقليات الدينية ومساواتها بباقي المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو المذهب. وبمعنى عامّ، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى الرّأي القائِل بأنّ الأنشطةَ البشريّة والقراراتِ -وخصوصا السّياسيّة منها- يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المُؤسّسات الدّينيّة.
وقد تضمن كتاب "الأصول التاريخية للعلمانية" أن العَلْمانية في العربيّة منسوبة إلى "عَلْم" على غير قياس بمعنى عالم، كذلك عالمانية مشتقة من "عالم"، مع ذلك "علمانية" هو المصطلح الأكثر رواجا واستخداما في العالم العربي خصوصا من قبل العلمانيين أنفسهم.
العلمانية: تقرأ وتكتب بفتح العين (العَلمانية) وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا، وليس كما هو شائع بكسر العين من العلم، وهي الترجمة العربية لكلمة "Secularism" التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا.. وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة.
لم تنشأ العلمانية بهدف العلم، بل ردة فعل على الفكر المسيحي الذي عاشته أوروبا طوال العصور الوسطى منذ سقوط روما عام 476م وحتى بداية عصر النهضة، ونشأتها مرتبطة أساسا بالدين المسيحي والتاريخ الأوروبي الوسيط والحديث. إن العلمانية الأوروبية ظهرت نتيجة تفاعلات دينية وتاريخية عبر قرون طويلة حددت سماتها وما وصلت اليه، فهي بنت الظروف التي ظهرت فيها وتفاعلت معها وليست وصفة جاهزة، وما حاوله العلمانيون العرب ولا زالوا من نقل نتائج العلمانية الأوروبية وإسقاطها على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.
وغالبا ما عانت هذه المفاهيم من لبس شديد من جراء ليس فقط وضعها، بل عمليات نقلها في سياق ترجمتها. فهي لدى جمال الدين الأفغاني الدهرية، ثم ربطها من خلال بعض الترجمات بالعلم، أي تصريف الكلمة وارتباطها بالعلم وتنسيبها إلى ذلك، والبعض ينسبها إلى العالم وهو الأصح تنسيبا، حتى أن الدكتور زكي نجيب محمود قد كتب مقالا اتخذ له عنوانا "عين فتحة عا"، وبدا للبعض كذلك استقاء من قصة المفهوم التي تشير إلى الشخص الذي لا يرتدي الملابس الكهنوتية المرتبط بالحياة الدنيا الاعتيادية "الدنيوية" أو لا يرتبط بالدين جوهرا أو طقوسا، فاتخذ لذلك معنى "اللادينية" ضمن إشارات واضحة قد تؤدي ليس عملية رفضها لا تمريرها.
ومع إصرار على مفردة العلمانية ضمن التباس يتعلق بحركة الحروف بالفتح أو الكسر، أو التباس يتعلق بالخبرة التاريخية المتعلقة بـ"رجال الدين" وفكرة الوساطة الكهنوتية والتحكم الكنسي؛ بات ذلك يشكل معضلة معرفية، وكذلك معضلة تتعلق بالممارسة الحياتية وتؤشر إلى وضع الدين ومكانته في الحياة إغفالا بالجملة أو تهميشا في مجمل الحياة. وانتقل مفهوم العلمانية من بعد إلى السياسة ومفهوم الدولة والديموقراطية والمجتمع المدني والأقليات ليضمن عراكا وصراعا مستمرا، وجعل من الغرب قبلته في عالم المفاهيم تلك، وبات الصراع الفكري مدججا بالسلاح يخوض حروبا أهلية فكرية، واتسعت مساحات التربص ولم تعد هناك أي مساحات معتبرة للحوار وفق أصول علمية.
ثم كان التلبيس وحال الغموض في التداول والاستعمال، فكانت واحدة من أهم مساحات الاشتباك الفكري والمعرفي والحضاري في مسألة النهوض تعميما وتنميطا. فالعلمانية صارت في عرف المركزية الغربية محاكاة لموقفها من الدين ومكانته وتأثيراته وفعاليته بالإغفال كلية أو بالتهميش تعمدا، ضمن خطة معهودة في هذا المقام، تتحرك من مسألة المبنى أو اللفظ إلى مساحات المعنى والتأويل، والمغزى الذي تحمله الحضارات في مسيرتها وبنائها الحضاري، وكذلك ضمن التعامل المنظومي للعلمانية وارتباطها بمجموعة من المفاهيم المرتبطة بالمركزية الغربية.
تتضمن العلمنة العملية التاريخية التي يفقد فيها الدين الأهمية الاجتماعية والثقافية، حيث يصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدودا كنتيجة للعلمنة؛ في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، مع إضعاف القوة الاجتماعية للمنظمات الدينية. وتلقف العلمانيون العرب المفهوم ليرفعوا شعار "علمنة الإسلام"، في مواجهة أخرى تحرك كل نوازع الصراع والحروب الفكرية
فالمفاهيم والكلمات وفقا لما يذكرنا به مصطفى صادق الرافعي كالجيوش لا تأتي أبدا فرادى، بل تأتي بكامل تشكيلاتها ومنظوماتها. إلا أن هذا المفهوم مع حالة الفوضى في التعاطي معه والمستويات المتفاوتة فيه والاستخدام المقيت للعلمانية الفجة التي صارت عملا إلحاديا يفرض نفسه قسرا على كافة مساحات الحياة والمجتمع، على ما يشير إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في مفهومه الذي أطلقه بالعلمانية الشاملة؛ صار مفهوما ليس فقط سيئ السمعة بل حمل حمولة سلبية لا يمكن للعقل المسلم العام تقبله؛ وكان تلونه وتسربه وعمليات ترويجه وتزيينه ضمن عملية التفافية تحرض على نقض الأصول تحت غطاء معرفي زائف بممارسة المنهج النقدي؛ بينما برز المفهوم كأحد مفاهيم المركزية الغربية والتبعية الفجة للمنظومة الغربية. كل ذلك جعل رفضه أمرا سائغا بل مفروضا؛ وصار بالتالي أمرا مرفوضا.
مفهوم العلمانية نموذجا في هذه الحالة يؤشر بوضوح على تلك الحالة المعرفية والفكرية والثقافية وجملة الحالة الحضارية، ضمن أهدافها وتثبيت المركزية الغربية واحتكارها لمفاهيم ذات طبيعة فطرية وإنسانية مثل التعددية وغيرها من مفاهيم، فباتت الفكرة العلمانية ليست مجرد مفهوم، بل هي تعبر في حقيقة أمرها عن مشروع حضاري أو ركن منه وفيه، يتوسل آليات الترويج والتمرير، بل وأحيانا القسر في محاولة التأثير، تحت عنوان العلمنة التي عنت تحول مجتمع ذي هوية وثيقة الصلة بالقيم والمؤسسات الدينية نحو القيم غير الدينية والمؤسسات العلمانية، والاعتقاد بأنه مع تقدم المجتمعات، لا سيما من خلال التحديث أو الترشيد، يفقد الدين سلطته في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والحكم الرشيد.
تتضمن العلمنة العملية التاريخية التي يفقد فيها الدين الأهمية الاجتماعية والثقافية، حيث يصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدودا كنتيجة للعلمنة؛ في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، مع إضعاف القوة الاجتماعية للمنظمات الدينية. وتلقف العلمانيون العرب المفهوم ليرفعوا شعار "علمنة الإسلام"، في مواجهة أخرى تحرك كل نوازع الصراع والحروب الفكرية.
بين العلمانية والعلمنة وطبعة الإصلاح العلماني بدت كل تلك الحالة المرضية بأسبابها وأعراضها تعود بذات الأسئلة والمشاكل والقضايا والمفردات، خاصة عندما تلوح فرصة جديدة للتغيير فتسهم بحالة من الإشغال والاشتغال عن قضايا استراتيجية وقضايا حالة تفرض نفسها مثل قضايا المعاش "ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ" (قريش: 4)؛ فتسمم الأجواء وقد توأد الفرصة في مهدها وربما تفوت؛ في مسار إصلاح حقيقي لتغيير إيجابي.. وللحديث بقية.
x.com/Saif_abdelfatah