مرجع روحي: حديث المطران يمثلنا
تاريخ النشر: 25th, October 2024 GMT
نوّه مرجع روحي بارز بمضمون كلام أحد المطارنة خلال نقاشات القمة الروحية الأسبوع الماضي في بكركي.
وقال: "لقد تحدث بلساننا، لم يساير لم يساوم، تحدث بلغة المواطن اللبناني الموجوع، تحدث بالمنطق وبوطنية تدل على خوفه وقلقه على جميع أبناء بلده من أي طائفة أو مذهب إنتموا". أضاف أن المرجع ختم بالقول: موقعي اليوم لا يسمح لي أن أتعمق بالحديث مثله ولكنه تحدث بإسمنا جميعاً وهذا هو المطلوب اليوم .
المصدر: لبنان 24
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
نصوص في الذاكرة.. الرواية المقامة حديث عيسى بن هشام
في هذه الزاوية الثقافية "نصوص في الذاكرة"، تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة.
تختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2روى النضال الفلسطيني في "أزواد".. أحمد أبو سليم: أدب المقاومة إنساني والنظام السياسي يتطور بالثقافةlist 2 of 2زكريا تامر.. حدّاد سوري صهر الكلمات بنار الثورةend of listيعتبر "حديث عيسى بن هشام" -على غرار "الساق على الساق"- من أول محاولات كتابة جنس "الرواية" في الأدب العربي الحديث- من الأعمال التأسيسية للرواية العربية، وقدم نموذجا حداثيا في الطرح، يجمع بين اللغة الكلاسيكية والنقد الاجتماعي.
"الساق على الساق في ما هو الفارياق" هي رواية لأحمد فارس الشدياق، أحد مؤسسي الأدب العربي الحديث (الجزيرة)ويجمع "حديث عيسى بن هشام" بين فن وتقاليد المقامة القديم وملامح الرواية والسرد الحديثين، يقدمه المويلحي بأسلوب كلاسيكي مسجوع مستوحى من مقامات بديع الزمان الهمذاني.
يحكي الكتاب عن "الباشا"، وهو "ناظر الجهادية" أحمد باشا المنكلي الذي حارب مع إبراهيم باشا الكبير بن محمد علي باشا، وتنشق الأرض عن هذا "الدفين" ويعود إلى الحياة من عصر محمد علي باشا ليشاهد ما طرأ على مصر من تغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية، ويسافر "الباشا الدفين" برفقة الراوي "عيسى بن هشام"، وينتقلان من القاهرة إلى باريس ليتيح للقارئ مقارنة الماضي والحاضر، والشرق والغرب، مع نقد لاذع للفساد الأخلاقي والإداري وظواهر مثل الرشوة، المحسوبية، خداع المحامين، والانحلال الأخلاقي والبذخ. كما يبرز التغيرات التي طرأت على بعض الطبقات الاجتماعية للمجتمع المصري أواخر القرن الـ19 بسبب التأثير الغربي.
إعلانوفي عمله يعالج المويلحي التناقضات الأخلاقية والمظاهر السلبية في المجتمع المصري نتيجة التأثر بالحضارة الغربية، داعيا إلى مكارم الأخلاق والقيم الإنسانية، ويمزج بين السجع الأدبي في السرد والأسلوب القصصي التصويري الحي في تقديم الأحداث، مع الاعتماد على الحوار والنبرة الساخرة لتطوير الشخصيات والأحداث.
ويجمع "الحديث" بين شخصيات من الماضي والحاضر في حوارات نقدية أشبه بالمسرحية، ويتكون من فصول مترابطة موضوعيا مثل "العبرة"، "الشرطة"، و"المحامي الأهلي"، ما يقربه من الرواية ويبعده قليلا عن جنس المقامة الأدبية.
ويتميز الملوحي بجمال اللغة وغرابة المفردات -بالنسبة لقراء عصرنا- مع الاستشهاد بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية لفطاحل الأدب كالمتنبي والمعري.
المؤلف "محمد إبراهيم عبد الخالق المويلحي" (1858-1930) هو أديب وصحفي مصري بارز (مواقع التواصل)والمؤلف محمد إبراهيم عبد الخالق المويلحي (1858-1930) كان أديبا وصحفيا مصريا بارزا، ولد في القاهرة لعائلة ذات صلة وثيقة بالخديوي إسماعيل. والده، إبراهيم المويلحي، كان أديبا وصحفيا معروفا.
شارك محمد في الثورة العرابية عام 1882، حيث ألقي القبض عليه أثناء توزيعه منشورات، وحكم عليه بالإعدام، لكن الحكم خفف إلى النفي. خلال فترة نفيه، تنقل بين أوروبا والأستانة، حيث أسهم مع والده في تأسيس عدة صحف، منها "الاتحاد". عاد إلى مصر عام 1887 واستأنف نشاطه الصحفي، متقربا من شخصيات إصلاحية مثل محمد عبده وقاسم أمين وجمال الدين الأفغاني الذي قدم "حديث عيسى بن هشام" قائلا "حبيبي الفاضل تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسرتها، وخوضك في فنون الآداب يريح قلوبا علقت بك آمالها".
وتولى المويلحي رئاسة تحرير صحيفة "مصباح الشرق"، حيث نشر عمله الأشهر الذي اعتبر جسرا بين الأدب العربي القديم والأشكال الفنية الحديثة، مقدما نقدا اجتماعيا لاذعا لأوضاع مصر في تلك الفترة. وبعد وفاة والده عام 1906، اعتزل الساحة الفكرية تدريجيا حتى وفاته في حلوان عام 1930.
"حديث عيسى بن هشام"
الحمد لله الواحد العدل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي القرشي الأبطحي التهامي المكي المدني وآله الطيبين الطاهرين، وبعد فهذا الحديث -حديث عيسى بن هشام- وإن كان في نفسه موضوعا على نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال مسبوك في قالَب حقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارَهم، وأن نصف ما عليه الناس في مختلَف طبقاتهم من النقائص التي يتعين اجتنابها، والفضائل التي يجب التزامها.
إعلان العبرةحدثنا عيسى بن هشام، قال: رأيت في المنام كأني في صحراء "الإمام" (أغلب الظن أن المقصود بها مقابر الإمام الشافعي أو قرافة/صحراء المماليك بالقاهرة القديمة) أمشي بين القبور، في ليلة زهراء قمراء يستر بياضها نجوم الخضراء، وكنت أحدث نفسي بين تلك القبور، وفوق هاتيك الصخور، بغرور الإنسان وكبره، وشموخه بمجده وفخره، وإغراقه في دعواه، وإسرافه في هواه، واستعظامه لنفسه، ونسيانه لرمسه، فقد شمخ المغرور بأنفه حتى رام أن يثقب به الفلك، استكبارا لما جمع واستعلاء بما ملك، فأرغمه الموت فسد بذلك الأنف شقا في لحده، بعد أن وارى تحت صفائحه صحائف عزه ومجده، وما زلت أسير وأتفكر، وأجول وأتدبر، حتى تذكرت في خطاي فوق رمال الصحراء، قول الشاعر الحكيم أبي العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العهد
هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
فقرعت سن الندم، وخففت وطء القدم، وإن في دهماء أولئك الأموات، وغمار تلك الرمم والرفات، لمباسم طالما حول العاشق قبلته لقبلتها، وباع عذوبة الكوثر بعذوبتها، قد امتزجت بغبار الغبراء، واختلطت ثناياها بالحصى والحصباء.
عيسى بن هشام: رأيت في المنام كأني في صحراء "الإمام" أمشي بين القبور، في ليلة زهراء قمراء يستر بياضها نجوم الخضراء (فايرفلاي-الجزيرة)وأن ذلك الرفات والعظام، من بقايا الملوك العظام، الذين كانوا يستصغرون الأرض دارا، ويحاولون عند النجوم جوارا، وتلك الضلوع التي انحنت على البطش والحلم، والشفاه التي طالما لفظت أمر الحرب والسلم، وتلك الأنامل التي كانت تبري القلم للكتاب، وتبري بالسيوف الرقاب، وتلك الوجوه والرؤوس التي استعبدت الأبدان والنفوس، ووصفت تارة بالبدور وتارة بالشموس، قد تساوى الرئيس فيها بالمرؤوس، فلا تفريق اليوم ولا تمييز، بين الذليل منها والعزيز.
هو الموت مثر عنده مثل مقتر
وقاصد نهج مثل آخر ناكب
ودرع الفتى في حكمه درع غادة
وأبيات كسرى من بيوت العناكب
فرجل في غبراء والخطب فارس
وما زال في الأهلين أشرف راكب
وما النعش إلا كالسفينة راميا
بغرقاه في بحر الردى المتراكب
وبينما أنا في هذه المواعظ والعبر، وتلك الخواطر والفكر، أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلب الأزمان، مستغرقا في بدائع المقدور، مستهديا للبحث في أسرار البعث والنشور، إذا برجة عنيفة من خلفي، كادت تقضي بحتفي، فالتفت التفاتة الخائف المذعور، فرأيت قبرا انشق من تلك القبور، وقد خرج منه رجل طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاء المهابة والجلالة، ورواء الشرف والنبالة، فصعقت من هول الوهل والوجل، صعقة موسى يوم دك الجبل، ولما أفقت من غشيتي، وانتبهت من دهشتي، أخذت أسرع في مشيتي، فسمعته يناديني، وأبصرته يدانيني، فوقفت امتثالا لأمره، واتقاء لشره، ثم دار الحديث بيننا وجرى، على نحو ما تسمع وترى، بالتركية تارة والعربية أخرى:
إعلانالدفين: ما اسمك أيها الرجل، وما عملك، وما الذي جاء بك؟
فقلت في نفسي: حقا إن الرجل لقريب العهد بسؤال الملكين، فهو يسأل على أسلوبهما، فاللهم أنقذني من الضيق، وأوسع لي في الطريق لأخلص من مناقشة الحساب، وأكتفي شر هذا العذاب، ثم التفت إليه فأجبته:
عيسى بن هشام: اسمي عيسى بن هشام، وعملي صناعة الأقلام، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهي عندي أوعظ من خطب المنابر.
الدفين: وأين دواتك يا معلم عيسى ودفترك؟
عيسى بن هشام: أنا لست من كتاب الحساب والديوان، ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
الدفين: لا بأس بك، فاذهب أيها الكاتب المنشئ فاطلب لي ثيابي وليأتوني بفرسي "دحمان".
عيسى بن هشام: وأين يا سيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
الدفين (مشمئزا): قل لي بالله من أي الأقطار أنت، فإنه يظهر لي أنك لست من أهل مصر، إذ ليس في القطر كله من أحد يجهل بيت أحمد باشا المنكلي ناظر الجهادية المصرية.
عيسى بن هشام: اعلم أيها الباشا أنني رجل من صميم أهل مصر، ولم أجهل بيتك إلا لأن البيوت في مصر أصبحت لا تعرف بأسماء أصحابها، بل بأسماء شوارعها وأزقتها وأرقامها، فإذا تفضلت وأوضحت لي شارع بيتكم وزقاقه ورقمه انطلقت إليه وأتيتك بما تطلبه.
الباشا (مغضبا): ما أراك أيها الكاتب إلا أن بعقلك دخلا، فمتى كان للبيوت أرقام تعرف بها؟ وهل هي "إفادات أحكام" أو "عساكر نظام" (مصطلحات إدارية عثمانية)؟ والأولى أن تناولني رداءك أستتر به وتصاحبني حتى أصل إلى بيتي.
قال عيسى بن هشام: فنزلت له عن ردائي وقد كان المعهود أن سلب المارة لا يكون إلا من قطاع الطريق فإذا هو أيضا من سكان القبور، ثم ارتداه مستنكفا مترددا وهو يقول:
الباشا: للضرورة أحكام، وقد لبسنا أدنى من هذا الرداء في مصاحبتنا لأفندينا المرحوم إبراهيم باشا على طريقة التنكر و"التبديل" في الليالي التي كان يقضيها في البلد، ليستطلع بنفسه أحوال الرعية، ولكن كيف العمل وكيف يتسنى الدخول؟
إعلانعيسى بن هشام: ماذا تريد؟
الباشا: أنسيت أننا في الثلث الأخير من الليل، وليس من يعرفني بهذا الرداء على أبواب مصر، ولم يكن معي كلمة "سر الليل" فكيف تفتح لنا الأبواب؟
عيسى بن هشام: انشق من تلك القبور وخرج منها رجل طويل القامة عظيم الهامة عليه بهاء المهابة والجلالة (فايرفلاي-الجزيرة)عيسى بن هشام: كما أنك يا سيدي لم تعرف أرقام البيوت، ولم تسمع بها في حياتك فأنا لا أعرف "سر الليل" ولم أسمع به.
الباشا -مستهزئا ضاحكا-: ألم أقل لك: إنك غريب الديار، ألم تعلم أن "سر الليل" كلمة تصدر من القلعة في كل ليلة إلى "الضابطة" وإلى جميع "القره قولات" والأبواب فلا يجيزون لأحد مشي الليل إلا إذا كان حافظا لهذه الكلمة يلقيها في أذن البواب فيفتح له، وهي تعطى لمن يطلبها من الحكومة سرا لقضاء أشغاله بالليل، وتتغير في كل ليلة، فليلة تكون كلمة "عدس" وليلة تكون "خضار" وليلة تكون "حمام" وليلة تكون "فراخ" وهلم جرا.
عيسى بن هشام: يظهر لي من كلامك هذا أنك لست أنت من أبناء مصر، فما علمنا أن هذه الألفاظ تطلق فيها على غير الأطعمة، ولم نسمع أنها تدل على الإجازة للناس بالسير في ليلهم، على أن الفجر قد دنا، ولم يبق بنا من حاجة لهذه الكلمات ولا لغيرها.
الباشا: الأمر في ذلك موكول إليك.
قال عيسى بن هشام: فسرنا في طريقنا وأخذ الباشا يزيدني تعريفا بنفسه، ويقص علي من أنباء الحروب وأخبار الوقائع التي شاهدها بعينه وسمعها بأذنه، ويذكر لي ما شاء من مآثر "محمد علي" وشجاعة "إبراهيم".
وما زلنا على تلك الحال حتى وصلنا في ضوء النهار إلى ساحة القلعة، فوقف وقفة المستكين الخاشع يقرأ سورة الفاتحة لضريح محمد علي، ويخاطب القلعة بقوله في بلاغة تركيته:
إيه لك يا مصدر النعم ومصرع الجبابرة من عتاة المماليك، ويا بيت الملك وحصن المملكة ومنبع العز ومهبط القوة ومرتفع المجد وموئل المستغيث وحمى المحتمي وكنز الرغائب ومنتهى المطالب ومثوى البطل الشهم ومقبر الملك الهمام، أيها الحصن كم فككت بالكرم عانيا. وقيدت بالإحسان عافيا، وكم أرغمت أنوفا، وسللت سيوفا، وجمعت بين البأس والندى، وداورت بين الحياة والردى.
إعلانقال عيسى بن هشام: ثم التفت الباشا إلي وقال: أسرع بنا نحو البيت لألبس ثيابي وأتقلد حسامي وأركب جوادي، ثم أعود إلى القلعة فألثم أذيال ولي النعم الداوري الأعظم.
في الفصل الثاني "الشرطة أو البوليس" يزج بالباشا في الحبس مع بقية المتهمين مما يضعه في وجه واقع اجتماعي جديد قاس (فايرفلاي-الجزيرة) ملخص بقية الفصولفي الفصل الثاني "الشرطة أو البوليس"، ينقلنا عيسى بن هشام إلى مشهد يفيض بالتوتر والغرابة بين زمنين، حيث يجد نفسه برفقة الباشا في مواجهة موقف عبثي مع مكاري (عربجي العربة الكارو) عنيد. المكاري، الذي زعم أن الباشا قد أشار إليه ليستأجر حماره، يصر بشكل هستيري على الحصول على أجرته أو الذهاب إلى قسم الشرطة. ومع تصاعد الحدة في النقاش، يفقد الباشا أعصابه ويندفع في موجة غضب، معتديا على المكاري، ما يلبث الأمر أن يتحول إلى أزمة حقيقية تساق الشخصيات بسببها إلى قسم الشرطة.
وهناك، ينكشف الوجه القاتم لسلطة الشرطة. يبدأ المشهد بشرطي يبدو غارقا في فساد يومي معتاد، مشغولا بجمع الفاكهة من الباعة بحجة "حفظ النظام". في القسم، تتعقد الأمور أكثر مع مظاهر فوضى إدارية واضحة وسوء تنظيم، حيث يجد الباشا نفسه يعامل معاملة قاسية ومهينة، لا تتناسب مع مكانته كأمير سابق. النتيجة النهائية: يزج بالباشا في الحبس مع بقية المتهمين، مما يضعه وجها لوجه مع واقع اجتماعي جديد قاس.
الفصل يحمل نقدا لاذعا وعميقا للشرطة والنظام القانوني في ذلك الوقت. بأسلوب ساخر ومفعم بالرمزية، يبرز المويلحي كيف استغلت السلطة قوتها لتمتهن حقوق الأفراد، وتزرع غياب العدالة في تفاصيل الحياة اليومية. الأحداث ليست فقط مرآة لمجتمع متعثر، لكنها صرخة لإصلاح خلل متجذر، حيث يرصد فساد المسؤولين وانشغالهم بما يخدم مصالحهم الشخصية على حساب العدالة.
أما في الفصل الثالث "النيابة"، فتتصاعد الأحداث لتكشف عن المزيد من صدمات الباشا. بعد ليلة من القلق والاضطراب لعيسى، يقرر الأخير مرافقة الباشا في رحلته الجديدة إلى قلم السوابق والنيابة. يجد الباشا نفسه أمام واقع غريب، حيث تنتهك كرامته مرة أخرى عبر إجراءات صارمة لتفتيش جسده وتسجيل ملامحه. كل ذلك يجري في "قلم السوابق"، مما يعمق من شعوره بالعجز أمام التحولات الاجتماعية التي لم يدركها إلا بعد فوات الأوان.
إعلانوفي النيابة، وسط الحشود المتزاحمة، يحاول عيسى شرح مفهوم النيابة للباشا، موضحا أنها سلطة قضائية تمثل الأمة في السعي لتحقيق العدالة. لكن الباشا، الذي اعتاد زمنا كان فيه الفلاحون أدوات طيعة في يد الطبقات العليا، يصدم بمعرفة أن النائب المسؤول هو شاب من طبقة الفلاحين، ليصبح هذا الكشف بمثابة خيانة لتوقعاته ومكانته القديمة.
في الفصل الرابع "المحامي الأهلي" يحضر المحامي الذي يبدو متعجرفا ويرفض قبول قضية الباشا لكنه يتنازل مقابل "أتعاب" باهظة ويفاجأ الباشا ويظهر عليه الغضب (فايرفلاي-الجزيرة)الحوار في هذا الفصل يتخذ طابعا فلسفيا وساخرا، حيث يتناول الباشا وعيسى النظام الجديد، معبرا عن أسفه لفقدان القيم التي كانت تعطيه مكانة استثنائية. على الجانب الآخر، يظهر النائب منشغلا بأحاديث سطحية مع زملائه عن الأمور الشخصية مثل السفر والتسلية، مما يعكس خفة التعامل مع المسؤوليات الجدية. هذا التناقض بين معاناة الباشا وانشغال المسؤولين يعكس رؤية المويلحي لنظام غابت عنه العدالة الحقيقية، وساد فيه اللهو على حساب الواجب.
وفي الفصل الرابع "المحامي الأهلي"، نرى استمرارا للمآزق التي يقع فيها الباشا في عالم جديد يعج بالفوضى والاحتيال. تبدأ الأحداث عندما يجد عيسى بن هشام الباشا وقد أصبح هدفا لسماسرة المحامين. يظهر السمسار كشخص متحدث بارع، يغري الباشا بالحديث عن قوة المحامي وسلطته المطلقة، مدعيا أن المحامين يديرون القضاء بأيديهم، وأنه يستطيع أن يبرئ من يشاء ويعاقب من يشاء. يضيف السمسار، بحماسة مبالغ فيها، أن المحامي الذي يوصي به يتمتع بعلاقات وثيقة مع النظار والقضاة وأعضاء النيابة، مما يضمن كسب القضايا بسهولة.
تتطور الأحداث عندما يحضر المحامي الذي يبدو متعجرفا ومتظاهرا بكثرة انشغاله. يرفض في البداية قبول القضية، لكنه يتنازل تحت إلحاح السمسار، مقابل "أتعاب" باهظة تبلغ 20 جنيها. يفاجأ الباشا بهذا الطلب، ويعبر عن دهشته من فكرة أن المصافحة أو الحديث يمكن أن يتحول إلى اتفاق ملزم بدفع المال. يظهر عليه الغضب والإحباط من استغلال هذا العالم الجديد لبراءته وافتقاره إلى الفهم بقوانين هذا الزمن.
إعلانيدخل عيسى بن هشام لإنقاذ الموقف، فيطرد السمسار محذرا إياه، ويحاول تهدئة الباشا قبل أن يتفاقم الموقف. لكن المعاناة لا تتوقف هنا، فعندما يحين دوره لمقابلة النائب العمومي، يجد أن الأخير لا يزال منشغلا بأحاديثه السطحية مع زائريه، ويبدو أن اهتمامه بالقضايا أقل بكثير من اهتمامه بحياته الشخصية. وفي نهاية اللقاء، يرفض النظر في شكوى الباشا ضد الشرطة، حيث يصر النائب على قبول أقوال الشرطة وتحقيقاتها فقط، قبل أن يغادر مع زائريه.
وكسابقيه، يحمل هذا الفصل نقدا مجتمعيا هذه المرة يوجهه لفئة المحامين التي كان من المفترض أن تمثل العدالة، لكنها تتحول إلى أداة للاستغلال والاحتيال في كثير من الأحيان. يتساءل الباشا، بمرارة، عن مفهوم المحامي، ليشرح له عيسى دوره الحقيقي، ولكنه لا يغفل الإشارة إلى أن كثيرا من المحامين، كالموصوفين في الفصل، شوهوا هذه المهنة النبيلة إذ تتحول المحاماة من مهنة للدفاع عن الحق إلى وسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية في ظل نظام اجتماعي وقضائي فقد قيمته وهدفه الأساسي.
في الفصل التاسع "أبناء الكبراء" حين يغادر الباشا مع عيسى يبدو غارقا في خيبة أمل ومرارة عميقة تجاه ما آل إليه أحفاده من انحطاط أخلاقي (فايرفلاي-الجزيرة)وفي الفصل التاسع "أبناء الكبراء"، ينقلنا عيسى بن هشام إلى مواجهة جديدة ومثيرة بين الباشا وعالم مختلف تماما عن ذلك الذي كان يعرفه. يبدأ المشهد بدعوة الباشا عيسى للسير معه إلى منزل أحد أحفاده، بعدما تملكه الشوق لرؤية ذريته. ما إن وصلا إلى القصر الفخم الذي يسكنه الحفيد حتى أصيب الباشا بالدهشة من عظمة المكان وأناقة الخدم وحسن استقبالهم، وهو ما زاد من حيرته تجاه طبيعة العالم الذي دخله.
بمجرد دخولهما الغرفة التي تجمع أحفاد الكبراء وأبناء الأمراء، يكتشف الباشا مشهدا مغايرا تماما لما كان يتوقعه. الشبان يتوزعون بين لعب القمار والتحدث بلغات أجنبية، بينما تجلس امرأة متأنقة تتنقل بين الحضور، تشعل الجدالات وتطفئها حسب مصلحتها. في حين تبدو المظاهر سطحية ومخادعة، تنكشف أمام الباشا حقيقة مؤلمة، أولاده وأحفاده أصبحوا أناسا عبثيين، غارقين في مظاهر اللهو والتبذير، بعيدين عن القيم التي كان يؤمن بها.
يتفاقم المشهد عندما يواجه الباشا حفيده الذي يرفض تصديقه، وينكر حتى وجوده، معتبرا الحديث عن بعثه من الموت ضربا من الجنون. تسخر المجموعة من الباشا، وتتوالى الخلافات بين الحاضرين حول قضايا تافهة تتعلق بالغيرة على المرأة، أو التنافس على الخيول، أو خلافات مالية. يتطور الجدال في بعض الأحيان إلى تهديدات بالمبارزة، لكن الباشا يدرك أن هذه التهديدات فارغة، وأن الحفيد وأصدقاءه يفتقدون الشجاعة والكرامة التي كان يعتز بها جيله.
إعلانحين يغادر الباشا المكان مع عيسى، يبدو غارقا في خيبة أمل ومرارة عميقة تجاه ما آل إليه أحفاده من انحطاط أخلاقي. يفكر الباشا في أصدقائه القدامى الذين كانوا رجالا شجعانا وأوفياء، لكنه يعلم أن الزمن لم يبق منهم إلا القليل. يتوجه برفقة عيسى والبيطار إلى أحد الأصدقاء القدامى، عله يجد بينهم شيئا من العزاء أو الدعم.
ويستمر الكاتب في استعراض مظاهر الحياة المعاصرة مثل سخريته من انحلال أحفاء العظماء في فصل "قصر حفيد الباشا" ووصفه لأحوال المجتمع ونحبه في فصول "الطب والأطباء" و"الطاعون" و"الوباء"، بينما يطلعنا على جوانب مختلفة من حياة الأعيان والتجار وأرباب الوظائف، مستعرضا طقوسهم في "العرس"، ومواقفهم في "العمدة في المجمع" و"العمدة في الملهى". أما "المدنية الغربية" فتأتي كفصل يتأرجح بين الإعجاب والنقد، حيث تتجلى فلسفة المويلحي في الانتقاء بين محاسن الغرب ومساوئه، مختتما الرحلة في "من الغرب إلى الشرق"، حيث يعود الأبطال إلى أوطانهم وقد حملوا معهم دروسا وتجارب من عالم مغاير.