غاب لبنان عن جولة بلينكن وحضرت إيران
تاريخ النشر: 25th, October 2024 GMT
كتبت هيام قصيفي في" الاخبار": في جولته الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية، حصر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن كلامه بملف غزة والرهائن، فيما لم يكن لبنان بنداً أولياً، ولو حتى من باب وقف إطلاق النار.
وتؤشر جولة بلينكن والكلام عن احتمالات التوصل إلى صفقة، إلى رهان على ترتيب ولو جزئي بإطلاق الرهائن الأميركيين لدى حماس، كمفاجأة تشرين لتقوية حظوظ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
من يطّلع على مداولات دوائر الإدارة الحالية، يتحدث عن ترحيل حكمي لملف لبنان إلى أشهر مقبلة. والسبب لا يتعلق فحسب بالانتخابات الرئاسية وتداول السلطة، وتأليف الفريق الجديد، بل كذلك في التعامل مع لبنان من زاوية إيران وليس فقط من الزاوية اللبنانية الخالصة. فالتعامل مع حماس تدخل فيه أطراف أخرى، في مقدمها قطر كلاعب أساسي ومفاوض رئيسي مع قيادات الحركة، ومن ثم مصر. والنقاش الأميركي معهما، عبر بلينكن أو دبلوماسيين، يتخطى النفوذ الإيراني في ما يخص وقف النار والرهائن في ظل ما يمكن للدوحة والقاهرة أن تؤثرا فيها وفي قرارات بعض قياديّي حماس في الداخل والخارج.
أما وضع لبنان فيختلف جذرياً لجهة النفوذ الإيراني الوحيد والمباشر مع حزب الله. وبلينكن الآتي بهدف محدد، يعرف إيران جيداً، وهو الذي خبر الملف النووي معها وتفاصيله في مرحلة سبقت توقيعه عام 2015، في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما ومن ثم متابعة التفاوض لإحيائه كوزير للخارجية في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، ويدرك كذلك عمق الملاحظات الإسرائيلية على إدارة أوباما حول الاتفاق وتبعاته. وهو أيضاً يتحدث مع من رافق مرحلة أوباما، بحسب دوائر أميركية، عن أخطاء ارتكبتها إيران في مسار عدم الالتزام بالاتفاق في شقه السياسي، في ما يتعلق بتقليص نفوذها مع حلفائها في المنطقة، ومنهم حزب الله، بخلاف ما وُعدت به إدارة أوباما. حتى إن ثمة كلاماً يُنقل عن هذه الدوائر عن أن المنطقة تدفع ثمن توقيع الاتفاق بذاته وليس نقضه أو تخلي واشنطن عنه. وهنا يتضاعف فهم «الالتصاق» مجدداً مع إسرائيل بعد 7 تشرين الأول، والأهم بعد الثامن منه، أي في حرب الإسناد التي دخل فيها حزب الله، كما جولات بلينكن التي ينهيها بعدم طرح أي تصور لواقع لبنان. لا بل إن ما يقال إسرائيلياً للإدارة الأميركية الحالية هو استمرار سياسة الانتقاد للانفتاح الذي قادته أولاً إدارة أوباما ومن ثم غضّ النظر من إدارة بايدن تجاه إيران، الأمر الذي أدى إلى ما وصلت إليه المنطقة. والتماهي الذي أبداه بلينكن مع نتنياهو منذ 7 تشرين وحتى جولته الأخيرة أكّد الانطباع بأن التحضير لترتيب حول غزة، لا صلة له بلبنان مطلقاً. ملف لبنان له خصوصيته المتعلقة بدور إيران وما سيترتب على أي تصعيد إسرائيلي معها، وردّها المتوقّع. وما يقلق الفريق الأميركي المهتم بلبنان أن هناك تجاهلاً للتحذيرات التي لا بد من الأخذ بها للمرحلة المقبلة، ما دام لبنان الرسمي وحزب الله لم يأخذا بجدية كل ما كان يُنقل إليهما بواسطة القنوات الأميركية المعتمدة منذ 7 تشرين الأول عام 2023، ولم يناقشا بواقعية العروض المتعلقة بالترتيبات التي عرضتها واشنطن بما يتعدى تفعيل القرار 1701، إلى أن حصلت الاستهدافات والقصف المستمر على كل المستويات. أما اليوم، وفي مقابل شكوك بأن تقبل إسرائيل أصلاً بوقف مسار الحرب قبل تحقيق كامل أهدافها، فـ«النصائح» الأميركية تظل إلى اللحظات الأخيرة بقبول المعروض حالياً حتى لا يضطر لبنان إلى القبول بشروط أقسى لاحقاً. والفرص تضيق للقبول بما يمكن أن يوقف المد الإسرائيلي في الأشهر التي تنشغل فيها الإدارة الأميركية الجديدة بترتيب أوضاعها.
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
هندسة الانتصار الرمادي: صراع إيران والولايات المتحدة وإسرائيل
في الأدبيات التقليدية للعلاقات الدولية، ارتبط مفهوم النصر بالقدرة على تحقيق تغيير جوهري في ميزان القوى عبر الوسائل العسكرية أو الاقتصادية المباشرة، إلا أن التطورات الأخيرة التي شهدها الصراع الإيراني-الأمريكي-الإسرائيلي تفرض إعادة التفكير في هذا المفهوم.
لقد استطاعت إيران، بقيادة هيكل سياسي مركب، أن تحقق مكاسب استراتيجية صلبة دون أن تدخل حربا مباشرة أو أن تتعرض لانهيار داخلي. لم ينتج هذا الإنجاز من "مواجهة" كما تفترض الأدبيات الكلاسيكية، بل من عملية أعقد وهي هندسة مستمرة للبيئة الاستراتيجية بطريقة جعلت الحرب خيارا مكلفا أكثر من أي تسوية أخرى.
في هذا الإطار، يتحتم علينا أن نقرأ ما جرى كـ"انتصار رمادي"، ليس انتصارا عسكريا صريحا ولا هزيمة سياسية واضحة لخصوم إيران، بل حالة وسطى تميزت بقدرة طهران على إعادة تعريف حدود اللعبة دون الحاجة إلى كسر القواعد القائمة. ما نفعله هو معرفة محددات السياسة الخارجية الإيرانية في الأزمات وليس تمجيدها، وهذا ما يجعلنا قادرين على تفسير المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط من التهديدات الإسرائيلية باستهداف المنشآت النووية الإيرانية إلى طاولة المفاوضات التي يقودها ترامب مع الإيرانيين.
من الخطأ اختزال الأداء الإيراني في مواجهة إدارة ترامب بأنه مجرد "صبر استراتيجي"؛ ما فعلته إيران كان أكثر تعقيدا، لقد مارست إدارة الشك بين خصومها، أي جعلت النوايا الإيرانية ضبابية إلى درجة أضعفت الحسابات الغربية
من الخطأ اختزال الأداء الإيراني في مواجهة إدارة ترامب بأنه مجرد "صبر استراتيجي"؛ ما فعلته إيران كان أكثر تعقيدا، لقد مارست إدارة الشك بين خصومها، أي جعلت النوايا الإيرانية ضبابية إلى درجة أضعفت الحسابات الغربية.
لم تتصرف إيران كفاعل يسعى إلى الصدام، لكنها في ذات الوقت لم تقدم مؤشرات استسلام أو انكسار. كل عملية (مثل إسقاط الطائرة المسيرة أو الرد على اغتيال قاسم سليماني أو العمليات التي عرفت بالوعد الصادق ضد إسرائيل) كانت مصممة لإبقاء هامش الشك مفتوحا؛ هل سترد إيران برد شامل أم محسوب؟ هل ستغلق مضيق هرمز أم لا؟
هذا التردد المنهجي لم يكن علامة ارتباك، بل أداة استراتيجية أضعفت قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على اتخاذ قرارات حاسمة، حيث إن الخيارات باتت تقوم على تخمينات لا على معطيات صلبة. بالتالي، الانتصار الإيراني هنا لم يكن في امتلاك القوة، بل في إدارة إدراك الخصم لهذه القوة.
وبدلا من الرضوخ للعقوبات القصوى، اتبعت إيران سياسة تقوم على استثمار الزمن لإضعاف فاعلية العقوبات ذاتها. من خلال الصبر المدروس، سمحت إيران بأن تظهر التكاليف الثانوية للعقوبات (التضخم في الغرب من ارتفاع أسعار الطاقة، تآكل شرعية الحصار دوليا، نمو المقاومة الاقتصادية محليا).
مع مرور الوقت، لم تعد العقوبات أداة ضغط فاعلة، بل تحولت عبئا على من فرضها، مما أجبر بعض القوى الأوروبية على التراجع التدريجي أو البحث عن قنوات خلفية للحوار مع طهران. بكلمات أخرى، لم تسعَ إيران لإسقاط العقوبات فورا، بل لجعل استمرارها أكثر كلفة من رفعها، وهو منطق مختلف جذريا عن نماذج "المواجهة المباشرة" أو "التفاوض التقليدي".
وفي مقابل الرغبة الإسرائيلية في حسم عسكري سريع، والإصرار الأمريكي على فرض اتفاق استسلام اقتصادي، اتبعت إيران استراتيجية "التآكل البطيء"، فهي لم تهدف إلى كسر أعدائها بضربة مفاجئة بل إلى إنهاك إرادتهم على مدى زمني طويل عبر مجموعة مركبة من الضغوط النفسية، والدبلوماسية، والعسكرية المحدودة، والاقتصادية.
وهكذا، لم تحقق إيران نصرا عسكريا كلاسيكيا، لكنها فرضت تحولا استراتيجيا؛ خصومها وجدوا أنفسهم يتراجعون عن سقوفهم القصوى دون تحقيق أي مكسب جوهري.
بعيدا عن التصورات التقليدية للصراع، نجحت إيران خلال فترة المواجهة مع إدارة ترامب في إدارة بيئة معقدة من القوى المتنافسة، مستغلة ما يمكن تسميته بتشظي الأولويات الإقليمية. فقد كانت الأطراف المحيطة بالصراع تتباين في حساباتها بشكل حاد، إسرائيل تدفع باتجاه الحسم العسكري السريع مهما كان الثمن، مدفوعة بمخاوف وجودية، بينما بدا أن دول الخليج، رغم خصومتها التقليدية مع طهران، أكثر ميلا إلى تجنب سيناريوهات الحرب الشاملة التي قد تهدد استقرار أنظمتها الاقتصادية والسياسية. في الوقت ذاته، كانت أوروبا، من موقع مختلف، ترى أن الحفاظ على الاتفاق النووي، رغم تعثره، لا يزال الخيار الأقل كلفة لمنع الانزلاق إلى فوضى إقليمية أوسع.
هذا التباين في أولويات اللاعبين الأساسيين لم يمر دون أن تستثمره إيران ببراعة محسوبة، بل سعت ضمن استراتيجية مدروسة إلى إبراز التناقضات القائمة وتعميقها بطريقة تمنع بناء جبهة معادية موحدة. فبينما استمرت طهران في إرسال رسائل تطمينية لبعض دول الخليج عبر القنوات الخلفية، فإنها عمدت إلى توظيف التصعيد الإعلامي ضد إسرائيل بشكل مدروس، مما وضع الأخيرة في موقف المتشدد الوحيد أمام عواصم دولية باتت أكثر حذرا من مغامرات عسكرية مفتوحة. أما مع أوروبا، فقد حافظت إيران على الارتباط بالحد الأقل، مستخدمة الخطاب الدبلوماسي الرسمي كوسيلة للإبقاء على فكرة أن طهران ما تزال تؤمن بالحلول الدبلوماسية، ما وفر غطاء سياسيا ساعد في كبح جماح الضغوط التصعيدية الأمريكية.
رسمت إيران معادلة جديدة للصراع الإقليمي والدولي، معادلة تحتم على كل من يفكر بمستقبل الشرق الأوسط أن يتعامل مع طهران لا باعتبارها مجرد لاعب عنيد، بل بوصفها مركز ثقل استراتيجي مستقل بذاته
في موازاة ذلك، برز سلوك إيران في إعادة تعريف معادلة القوة بعيدا عن النماذج التقليدية للردع. فعوضا عن الاعتماد على الحشود العسكرية التقليدية أو عرض عضلات مكشوف، لجأت إيران إلى ممارسة نوع من استعراض القوة الرمزية، قوامه الكشف التدريجي عن عناصر قوة غير مرئية بالكامل. بناء المدن الصاروخية تحت الأرض، والحديث عن برامج أسلحة متقدمة مثل أنظمة البلازما، كانا موجهان ليس لإشعال الحرب، بل لصناعة بيئة إدراكية مشوشة تجعل من حسابات الخصوم مليئة بالثغرات والاحتمالات غير المؤكدة. هذا التكتيك المدروس زاد من صعوبة بناء نماذج حاسمة للرد العسكري ضد إيران، مما ساعد في ترسيخ حالة ردع غير متوازن ولكن فعّال.
ولعل الأهم من ذلك، أن إيران استطاعت أن تحول هذه البيئة التي تتصف بالضبابية إلى منصة تفاوضية متقدمة. لم تذهب طهران إلى أي مفاوضات بوصفها الطرف المهزوم الباحث عن مخرج، بل دخلت المفاوضات غير المباشرة، وكأنها شريك قادر على فرض شروطه أو على الأقل التمسك بثوابته الأساسية. فلم يكن شعار العودة إلى الاتفاق النووي مجرد محاولة للعودة إلى الوراء، بل كان وسيلة لدفع الخصم إلى الاعتراف بالوقائع الجديدة التي فرضها صمود إيران: أن العقوبات لم تسقط النظام، وأن التهديدات العسكرية لم تكسر إرادته، وأن الجبهة الداخلية رغم كل الضغوط ما تزال قادرة على التكيف مع تحدياتها في الاقتصاد والمجتمع.
بهذه الطريقة، استطاعت إيران أن تتحول من موقع الدفاع إلى موقع الفعل. فعلى عكس الرهانات الغربية التي اعتبرت أن الضغوط القصوى ستدفع النظام الإيراني إلى تقديم تنازلات حيوية، بدا أن من اضطر إلى مراجعة حساباته هي الأطراف الأخرى، بدءا من واشنطن وانتهاء ببعض العواصم الأوربية.
هنا بالضبط تتجلى عبقرية الانتصار الرمادي الذي حققته طهران. لم يكن هذا الانتصار واضح المعالم بالمعنى الكلاسيكي؛ لم يرفع أحد رايات النصر، ولم ينهزم طرف بشكل معلن، ولكن في أعماق بنية القوة والسياسة في المنطقة، فرضت إيران نفسها لاعبا لا يمكن تجاهله أو فرض الإملاءات عليه. تحولت الحرب من خيار قائم إلى خيار مستبعد، وتحول الضغط الأقصى إلى ورقة مفاوضات بأثمان متناقصة.
في النهاية، ما أنجزته إيران لا يمكن اختزاله في مفردات "الصبر الاستراتيجي" أو "الممانعة"، بل هو حالة متقدمة من إدارة ديناميات القوة في بيئة معادية متعددة الأقطاب، قائمة على استثمار الزمن، والتلاعب بالإدراك، وصناعة الشكوك، وتكريس مفهوم أن التغيير الإقليمي لا يمكن أن يتم دون أخذ مصالح طهران بعين الاعتبار.
بهذا الإنجاز، رسمت إيران معادلة جديدة للصراع الإقليمي والدولي، معادلة تحتم على كل من يفكر بمستقبل الشرق الأوسط أن يتعامل مع طهران لا باعتبارها مجرد لاعب عنيد، بل بوصفها مركز ثقل استراتيجي مستقل بذاته.
x.com/fatimaaljubour