بغداد اليوم -  متابعة 

 تقدر مصادر تركمانية، عدد مفقودي التركمان الشيعة بنحو 1450 شخصاً، ثلثهم من النساء والفتيات الصغار، وجرى لسنوات التكتم عن "مأساة التركمانيات" في ظل غياب الأرقام الرسمية ومع رفض عوائل الضحايا الابلاغ عن فقدانهن وحتى الحديث عنهن.

هدى (أسم مستعار- 20 سنة) فتاة تركمانية شيعية، من مدينة تلعفر(غربي محافظة نينوى في العراق)، لم تكن قد أكملت عامها الثاني عشر، عندما هاجم تنظيم داعش في 16حزيران/يونيو 2014 مدينتها، ووقعت معارك استمرت أياما هرب خلالها غالبية السكان الشيعة بما فيهم عائلتها صوب مدينة سنجار المجاورة والخاصعة لسيطرة القوات الكردية.

 

مكثوا هناك مع مجموعة من العائلات التركمانية الأخرى في مدرسة ابتدائية خصصت لاستقبال النازحين الهاربين من سطوة التنظيم واعداماته الفورية، وبعد نحو ستة أسابيع، حدث ما لم يكن متوقعا حين هوجمت سنجار في 3 آب/أغسطس 2014 وسيطر التنظيم عليها خلال ساعات، ليقتل مئات من الرجال ويخطف آلاف النساء والأطفال وبينهم هدى.

 

تنقبض ملامح وجهها وهي تتذكر: “هربنا سريعا في مجموعات متفرقة .. أردنا الوصول إلى جبل سنجار مثل آلاف الايزيديين والشيعة الذين ملأت بهم الطرق الممتدة الى الجبل.. أنا أمسك بيد أبي، وأمي تحمل شقيقي الذي كان عمره سنتان فقط”.

 

تجهش بالبكاء وهي تشبك أصابع يديها ببعضها: “قطعوا الطرق وأحاطونا بأسلحتهم ثم أمسكوا بنا، كانت وجوههم الملتحية مرعبة، فرقوا بين الرجال والنساء والأطفال".

 

تصمت للحظات قبل أن تضيف بصوت متقطع: “كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها والدي، أما شقيقي، فقد قابلته بعدها بثلاث سنوات!”.

 

تقدر مصادر تركمانية، عدد مفقودي التركمان الشيعة بنحو 1450 شخصاً، ثلثهم من النساء والفتيات الصغار، وجرى لسنوات التكتم عن “مأساة التركمانيات” في ظل غياب الأرقام الرسمية ومع رفض عوائل الضحايا الابلاغ عن فقدانهن وحتى الحديث عنهن.

أخذ عناصر داعش، هدى وأطفال آخرين من التركمان الشيعة إلى مدينة تلعفر “سألوني عن أسمي الثلاثي، وعدد المرات التي زرت فيها كربلاء، وأسماء أقاربي في الجيش والشرطة، وفي اليوم التالي أخذوني مع 23 طفلة تركمانية إلى ملجأ للأيتام في منطقة أسمها الزهور بمدينة الموصل”.

 

بقيت هدى في الملجأ لسنتين ونصف السنة، تحت رعاية نساء تصف بعضهن بالمُجبرات على التعاون مع التنيظم، وأخريات بأنهن “داعشيات”. تغمض عينيها وتقول بألم: “عندما بلغت الرابعة عشر، أخذوني إلى تلعفر….” تتوقف عن الكلام وتستسلم لنوبة بكاء داهمتها لدقائق.

 

تمسح دموعها بظاهر يديها وتتابع: “زوجوني برجل تركماني من السنة، كان واحداً منهم، أصبحت زوجته الثانية، وضرتي كانت تركمانية سنية، أخوها الداعشي قتل بأيدي عناصر الحشد الشعبي، لذلك كانت تكرهني جداً وتعاملني بطريقة سيئة”.

 

والمعاملة السيئة التي ذكرتها هدى، كانت متمثلة بضربها بنحو يومي، إلى أن تفر الدماء أحياناً من فمها وأنفها “كانت تقول لي بأن الشيعة قتلوا أخاها وأنها ستأخذ بثأرها مني لأني شيعية مثلهم”. استمرت حياة هدى الزوجية الدامية قرابة تسعة أشهر، إذ تم تحرير مدينة تلعفر في آب/أغسطس2017 وتم إنقاذها بواسطة قريبٍ لها من الشرطة الإتحادية، كما تم العثور كذلك على شقيقها، في حين مازال مصير والديها مجهولاً لغاية الآن.

محاذير اجتماعية

 

قصة هدى، وكثيرات غيرها من التركمانيات الشيعة، والشبكيات الشيعة الناجيات من داعش، مسكوت عنها في المجتمعين التركماني والشبكي المحافظين، والقبليين بطبيعتيهما، لذا فأن الحديث عن وجود سبايا وناجيات، غير مسموح به في الوسطين وفقاً لمطلعين. وهذا سبب رئيسي لوجود غموض بشأن أعدادهم.

 

الناشط المدني جعفر التلعفري، حاول منذ 2017 الخروج عن هذا القيد الصارم، وتبنى حراكاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بحقوق الناجيات التركمانيات، غير أنه جوبه بالرفض من قبل وجهاء قبليين واجتماعيين في تلعفر، وفقاً لما ذكر.

 

ويقول عن ذلك: “لم يتقبل المجتمع الحديث عن الناجيات، وقادة المجتمع التركماني انتقدوني وأوصلوا لي رسائل عدة بأنهم لا يريدون الحديث عن هذا الملف. خصوصاً وأن أغلب الناجيات اغتصبن وفقدن ذويهن بسبب داعش، ويعشن لدى أقاربهن من الدرجة الأولى والثانية دون أوراق ثبوتية”.

 

غير أن ذلك لم يثنه، إذ قام مع مجموعة من الناشطين الآخرين في 2017، بتأسيس فريق (تلعفريون) التطوعي لرصد وتوثيق الحالات المتعلقة بالمختطفين بواسطة داعش والناجين بنحو عام، بضمنهم النساء.

 

ومن خلال جمع المعلومات من الأهالي، توصل الفريق إلى إحصائية تبلغ 482 من المفقودين الرجال والنساء والأطفال، الناجون منهم، 23 طفلاً و24 امرأة. غير أن الإحصائية هذه غير نهائية لرفض الكثير من العائلات التجاوب وتقديم المعلومات المطلوبة بشأن مفقوديهم ولاسيما النساء.

 

وهذا يفسر الغموض المتعلق بأعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعة كما أسلفنا، فضلاً عن تباين الأرقام التي تقدمها جهات غير رسمية بين الحين والآخر، فالأهالي يرفضون التعاون خوفاً من وصمة العار، وهو ذات الخوف الذي دفع نساءً تركمانيات خطفهن عناصر داعش في 2014، الى الاستسلام لحياتهن في المخيمات وسواها، وعدم العودة إلى ذويهن بعد انتهاء حقبة سيطرة داعش على نينوى.

 

مدير مؤسسة انقاذ التركمان علي البياتي، أكد بأن نساءً تركمانيات شيعيات مازلن في مخيم الهول بسوريا، حسب روايات ايزيديات محررات أجرى مقابلات معهن، دون معرفة أعدادهن. ويقدر أعداد المختطفين التركمان بنحو عام من الجنسين بـ 1450 شخصاً، 450 من بينهم نساء وفتيات صغار، وأن أعداد الناجيات هو فقط 50 واحدة.

ويصف البياتي، استجابة الحكومات المتعاقبة بعد 2014 في التعامل مع ملف الناجيات والمختطفات التركمانيات بالضعيف، ويعزو ذلك الى غياب القيادات التركمانية السياسية المطالبة بحقوقهن، ويقول: “المصالح السياسية هي المحرك الرئيسي لكل شيء في العراق، أما قضايا الأقليات وحقوق الانسان فهي ليست في الحسبان”.

 

وتُرجع الباحثة الاجتماعية أنهار يوسف، تجنب المجتمعين التركماني والشبكي، الحديث عن ملف الناجيات الى قلة أعدادهن مقارنة بالايزيديات اللواتي يزيدن عن ألفين، وتوضح ذلك قائلةً “بالرغم من أن المعاناة واحدة، بل أن داعش كان أقسى على النساء الشيعيات بشهادة الكثير من الناجين، الا أن قلة اعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعيات منع تدويل قضيتهن، هذا فضلاً عن عدم بروز واحدة منهن للحديث عن مأساتهن كما فعلن ايزيديات كثر وأبرزهن ناديا مراد التي حصلت على جائزة نوبل للسلام”.

 

وتشير إلى أن الاغتصاب هو المحظور الأعظم في مجتمعاتهن، لذا يفضل الناجيات السكوت وعدم المطالبة بأي تعويضات أو حتى إبراز قصصهن، “بالرغم من التبعات النفسية والصدمات الناتجة عن العنف الجنسي والتعذيب والسبي الذي تعرضن له، إلا أنهن يتكتمن عن ذلك كله، لأنهن قد يتحولن من ضحايا إلى مجرمات وتتم تصفيتهن غسلاً للعار”.

 

وتستدرك الباحثة أنهار: “نجاتهن لا يعني أبداً أنهن أصبحن بخير!”.

 

أنطبق ما قالته الباحثة وبنحو كبير على الناجية التركمانية هدى، فأن نجاتها من حياة السبي، لم تكن نهاية للمأساة التي عاشتها، إذ توجب عليها بعد عودتها إلى تلعفر، مواجهة مجتمع يتعامل معها بانتقاص، وينظر إليها بريبة لكونها كانت زوجة داعشي.

 

“كنت أسمعهم بأذني يقولونها لي، زوجة الداعشي، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن الطفلة التي خطفت، وزوجت رغماً عنها، بل تعاملوا معي كمذنبة، ولكن عن أي ذنب؟، فأنا الضحية هنا، وهم لا يفهمون هذا أو لا يريدون أن يفهموا…”.

 

قالت هدى ذلك بشيء من الغضب، إذ كانت تعد الأيام وهي في قبضة التنظيم، من أجل العودة إلى أهلها والاحتماء بهم، لكن ما حدث بعد عودتها صدمها كلياً “البعض قال لي لماذا لم ترفضي الزواج بالداعشي…… وكأن الأمر بيدي، إنهم أغبياء، لم يعيشوا ما عشته، ولم يروا ما رأيته بعيني”.

 

في عام 2021، تزوجت هدى، من صديقٍ لأحد أقربائها، ومع أن ذلك قد يدخل ضمن رغبة المجتمع في إخفاء أي شيء يشير إلى وجود سبايا وناجيات من نساء منتميات له، إلا أنها تعد الأمر بمثابة طوق نجاة، وتنظر إلى زوجها كبطل:

 

“المجتمع تعامل معي على أنني عار عليه ولم يتقبلني، لكن زوجي أسكت كل الأفواه التي كانت تجلدني بلومها وتكفل بتربية شقيقي، حل محل أمي وأبي بالرغم من أنه ينتمي الى ذات المجتمع الذي نبذني”.

 

زوجها شجعها على المطالبة بتعويض عما حدث لها أمام القضاء العراقي، بموجب القانون رقم 8 لسنة 2021، تقول بشان ذلك:”لا توجد نتيجة لغاية الآن، لكن في الأقل أشعر بأنني أفعل شيئاً لرد شيء من الاعتبار لنفسي”.

 

القانون رقم 8، أو كما يعرف بقانون الناجيات الايزيديات، شمل كذلك التركمانيات والمسيحيات والشبكيات، والهدف من إصداره حسب أعضاء في مجلس النواب، هو لتعويض الناجيات المشمولات به “مادياً ومعنويا وتأمين حياة كريمة لهن إضافة الى التأهيل والرعاية واعداد الوسائل الكفيلة لدمجهن في المجتمع ومنع تكرار ما حصل من انتهاكات بحقهن”..

القانون يتضمن تعويضات لكل ناجية ايزيدية تم اختطافها من قبل تنظيم داعش وتحررت بعد ذلك، والنساء والفتيات من المكون (التركماني، المسيحي، الشبكي) اللواتي تعرضن الى نفس الجرائم المذكورة في البند (أولاً) من المادة (١) من القانون، والناجين من الاطفال الايزيديين الذين كانوا دون سن الثامنة عشر عاماً عند اختطافهم، والناجين الأيزيديين والتركمان والمسيحيين والشبك من عمليات القتل والتصفية الجماعية التي قام بها تنظيم داعش في مناطقهم.

وعرف القانون الناجية على أنها “كل امرأة أو فتاة اختطفت من قبل تنظيم داعش وتعرضت الى جرائم العنف الجنسي، أو استعبادها جنسيا وبيعها في اسواق النخاسة، فصلها عن ذويها، اجبارها على تغيير ديانتها، الزواج القسري، الحمل والاجهاض القسري او إلحاق الاذى بها جسدياً ونفسياً من قبل تنظيم داعش من تاريخ 3\8\2014 وتحررن بعد ذلك”.

الناجيات الشبكيات” المجتمع يمنع انصافنا “

 

ولا يختلف الوضع كثيراً في مجتمع الشبك، وهي أقلية ينتشر أفرادها في سهل نينوى وأجزاء من شرقي مدينة الموصل، فالأهالي يمتنعون كذلك عن تقديم المعلومات بشأن المفقودات، إذ رصدت منظمة العدالة لحقوق الاقليات 232 مفقوداً شبكياً، بينهم خمسُ مفقودات فقط، وأربعة مقتولات.

 

حسين زينل، مدير منظمة العدالة لحقوق الأقليات التي نفذت مشروعاً يستهدف الناجيات الشبكيات، يبرر ذلك بتحفظ العائلات على الإفصاح عن وجود مفقودات من أفرادها متوقعاً فارقاً كبيراً بين العدد المرصود والعدد الحقيقي للمقتولات والمفقودات الشبكيات.

 

مسؤول مكتب تحرير المختطفين الإيزيديين حسين قائدي، أكد أن المكتب لم يتلقَ حتى الآن أي معلومات حول المختطفات التركمانيات والشبكيات لذا لم يتمكن من الوصول الى أي واحدة منهن. فيما نجح مكتبه في الوصول إلى مئات السبايا الإيزيديات وتحريرهن.

 

لم تمنع الوصمة الاجتماعية الكشف عن العدد الحقيقي للناجيات والمخطوفات والمقتولات الشبكيات الشيعيات،  “بل ومنعت 14 ناجية شبكية شيعية مرصودة من قبل منظمة العدالة لحقوق الأقليات من ترويج ملف تعويضهن لدى القضاء” هذا ما أفاد به ناشطون يعملون على ملف الناجيات الشبك الشيعيات.

 

نادية(30سنة)، وهذا أسم مستعار اختارته لنفسها بسبب حساسية قصتها بالنسبة لمجتمعها، فهي شبكية، شيعية، وزوجة لرجل شبكي من الطائفة السنية، لكن ذلك لم يشفع لها مطلقا. فوفقاً لروايتها، أنها كانت تسكن بحيٍ شعبي في شرقي مدينة الموصل، وبخلاف أقربائها الذين فروا من المدينة في 10حزيران/يونيو2014 عندما اجتاح عناصر داعش الموصل، بقيت هي في منزلها مطمئنة إلى أن التنظيم لن يمسها بسوء كونها متزوجة من سني.

 

بعد أسابيع من سيطرة التنظيم على الموصل، أقتحم مسلحون منزلها، عصبوا عينيها، وقيدوا يديها من الخلف، وأخذوها إلى معتقل ووضعوها في زنزانة لوحدها. تخرج الكلمات من بين أسنانها: “لا أعلم من وشى بي لديهم، وأخبرهم بأنني جاسوسة” تقول بحنق.

 

وتضيف: “الداعشي المكلف بتعذيبي، كان يضربني كل يوم ويطلب مني معلومات عن الجيش والشرطة، أقسمت له مراراً وتكراراً أن لا علاقة لي بالقوات الأمنية لكن ذلك لم يُنجيني فهو كان يصر على أن جميع الشيعة على اتصال بعناصر الجيش أو الشرطة وهذا ما كان يكرره لي دائماً”.

 

لم تتعرف نادية على عدد كبير من الناجيات لكنها تحدثت عن أساليب التعامل مع الشبكيات الشيعيات من قبل داعش، “كنتُ اسمع أحاديث افراد التنظيم والمختطفات، بعضهن تم حرقهن وبعضهن كنَّ جواري لدى عوائل ينتمي افرادها الى داعش والقسم الاخر وضعن في غرف انفرادية تستخدم للتعذيب والاغتصاب” تصمت قليلاً وتكمل بصوت مختنق “أنا كنتُ ضمن القسم الأخير” وتجهش بالبكاء.

 

تعرضت نادية للتعذيب المستمر والاغتصاب المتكرر في غرفة التعذيب الانفرادية لما يقارب من ثمانية أشهر، قبل أن يتمكن زوجها من تأمين المال بعد الاتفاق مع أحد افراد التنظيم لتهريبها والخروج معها الى خارج نينوى “اقترض زوجي 50 ألف دولار من أقرباءه ومعارفه ودفعها للداعشي الذي اتفق معه، وهربنا معاً الى الجنوب للحاق بعائلتي، أبي وأمي وأشقائي”.

 

لم تدل نادية بتفاصيل أخرى خشية أن تنكشف شخصيتها وتتعرض للخطر، لأن أهلها قد يقتلونها غسلا للعار وفقاً لتخوفها.  لكن ما سكتت عنه نادية تحدث به حسين زينل، إذ يقول “رصدنا 58 ناجية شبكية جميعهن من الشيعة ضمن مشروع يهدف الى حصول الناجيات على استحقاقهن المنصوص عليه في قانون الناجيات الايزيديات رقم 8 لسنة 2021 وإعادة التأهيل النفسي، فأغلبهن يعانين من تأثيرات الصدمة لما واجهنه بسبب داعش”.

 

ويضيف “ترفض الناجيات الشبكيات الإفصاح عما حدث لهن بسبب الخشية من نظرة المجتمع كما يرفضن الكشف عن هوياتهن لذات السبب، جميع من رصدناهن فضلن ترويج معاملات تعويضهن من خلال المنظمة تجنباً لمواجهة مواقف تشعرهن بالذنب من كونهن ناجيات”.

 

حاولت نادية أن تجرب حظها في تقديم طلب تعويض إثر صدور قانون الناجيات في 2021، لكنها اصطدمت حسبما تقول بنظرة المجتمع الشبكي الشيعي للناجيات، فعلى الرغم من وجود شاهد أدلى بشهادته أمام القضاء بانها تعرضت بالفعل للتعذيب بأيدي عناصر داعش، إلا أنها لم تسلم من نظرات “اللوم والتجريم”.

 

وتقول بأسف: “في مراكز الشرطة والمحاكم، ما أن يعلم الموظفون أنني ناجية حتى تبدأ نظراتهم الغريبة ثم يبدؤون بالتهامس فيما بينهم”.

 

وتقول بأنها توقفت عن متابعة معاملتها في نهاية الأمر بسبب تلميحات بعض الموظفين ومحاذير اجتماعية: “بعض ما كانوا يتلفظون به يوحي بأنه يعبروني امرأة سيئة السمعة، لا أريد تعويضاً يشعرني بنبذ الآخرين لي، كما المجتمع الشبكي يرفض دخول النساء الى مراكز الشرطة والقاضي يشترط اجراء التحقيق في مركز الشرطة. بعض الناجيات اللواتي أعرفهن رفضن حتى الكشف عن حقيقة كونهن ناجيات حتى بعد اصدار قانون التعويضات خوفاً من ألسنة الناس”.

عقبات أمام تنفيذ قانون

حدد قانون تعويض الناجيات الايزيديات المستفيدين منه، وهم المتعرضون للانتهاكات من تأريخ 3\8\2014 وهو ما قد “يسبب ضياعاً لحقوق العديد من الناجيات التركمانيات والشبكيات والمسيحيات” وفقاً للناشط جعفر التلعفري، ويوضح:” داعش سيطر على تلعفر حيث التركمانيات الشيعيات وسهل نينوى حيث الشبكيات الشيعيات، في حزيران وتموز 2014، أي قبل هجومه وسيطرته على سنجار حيث الإيزيديات في 3 آب من نفس تلك السنة”.

ويؤشر أمراً آخر: “قانون الناجيات لم يتطرق لتعويض الأطفال الناجين من المكونات غير الايزيدية”.

يشاطره في الرأي الخبير القانوني علي التميمي، الذي يشدد على ضرورة تعديل القانون من قبل مجلس النواب العراقي ويضيف “اعتمد القانون وسائل الإثبات الرسمية وغير الرسمية لإثبات واقعة الاختطاف، وهنا يحتاج إلى الدقة في التطبيق، كما لم يتناول الجانب الجزائي والجرائم الدولية التي تعرضن لها الناجيات، وكان ينبغي أن يتضمن القانون شيئاً من ذلك ولاسيما أن الكثير من عناصر التنظيم هم في الأصل مواطنون من دول أخرى”.

غير أن الثغرات في هذا القانون ليست المشكلة الوحيدة وفقاً لمراقبين، يرون أن المشكلة الأكبر تكمن في التلكؤ بتنفيذه على الرغم من مرور سنتين على تشريعه ونشره في جريدة الوقائع الرسمية، أي دخوله حيز التنفيذ.

فالإجراءات لتنفيذه بالنسبة لغير الإيزيديات توصف بالتعقيد، إذ تطالب الناجية التركمانية أو الشبكية، بتقديم شهود إثبات وتأييد من مختار المنطقة فضلاً عن إجراء تحقيقات مطولة مع الناجية وبعد كل ذلك يتعين عليها رفع دعوى أمام محكمة الجنايات.

وإزاء ذلك، أصدرت منظمات دولية ومحلية بياناً مشتركاً في نيسان/أبريل 2023 بشأن تنفيذ قانون الناجيات الايزيديات، من بينها صندوق الناجين العالمي، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للحقوقيين والمجلس الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب  (IRCT)وهيومن رايتس ووتش، دعت فيه إلى اتباع البرامج الإدارية في التعامل مع الناجيات خلال تنفيذ قانونهن.

وأشار البيان إلى ان البرامج الإدارية توفر طرق حصول على تعويض بنحو أسهل من السبل القضائية، وأن بإمكانها “الاستجابة لأعداد كبيرة من الناجيات، وتقليل التكاليف والإجراءات الرسمية، وتبسيط معايير الأدلة المطلوبة، وإزالة عبء الإثبات وتقليل تعرض الناجيات للوصم”. 

وتطرق البيان إلى أن من شأن فرض رفع دعاوى جنائية على الناجيات قد لا يتماشى مع قدرة الضحايا على ، وقد يتسبب في “وصمة العار والتعرض مجددًا لصدمة، ويؤخر أو حتى يعيق الوصول إلى تعويض كافٍ وسريع وفعال. لهذه الأسباب، لا نشجع مطلقًا على مطالبة الناجيات بتقديم شكاوى جنائية كوسيلة لإثبات الأهلية للتعويض.”

وتماشياً مع ما جاء في البيان، يرى المحامي محمد جمعة، أنه بالإمكان الاستغناء عن تقديم شكوى جنائية التي تحتاج الى جهد وتكاليف مالية قد لا تتمكن الناجية من تحملها، ويعتقد أنه من الأفضل إبدالها بإجراءات تحقيقية أخرى ولا سيما أن قانون الاثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979 يحتوي على العديد من طرق اثبات وقوع الضرر ” التي لم يتطرق قانون الناجيات رقم 8 إلى أي منها” يقول المحامي بأسف.

(مسرة، أسم مستعار 34 سنة)، ناجية من مدينة تلعفر، عادت سنة 2017 إلى المدينة بعد نحو سنة قضتها في سوريا زوجة لعنصر من داعش قتل في إحدى المعارك هناك، لكنها لم تستطيع المكوث طويلاً في المدينة بسبب عيون الأهالي التي كانت تنظر إليها بريبة، حسبما تقول.

ولهذا لجأت هي وأمها إلى بلدة في شرق مدينة الموصل ليعيشها عند خالة لها، لكن ذلك ليس ختاماً للمأساة التي عاشتها، إذ أن لديها طفلاً رضيعاً اودعته لدى عائلة في سوريا، ولم تأخذه إلى العراق لدى عودتها خشية على سلامته من أقربائها.

وما حدث انها حاولت مراراً التواصل مع تلك العائلة، لكنها لم تتمكن من ذلك، فقد انتقلوا من من البلدة التي كانوا فيها، ورقم الهاتف الذي اعطوه إليها لم يعد مستخدماً، تقول بحرقة: “بعهم أخبرني انهم ربما يكونون في مخيم الهول أو في منطقة يسيطر عليها الأكراد، وآخرون قالوا بأنهم قتلوا خلال الحرب”.

تمتلئ عيناها بالدموع وهي تضع يدها ناحية قلبها: “لم يكن علي العودة بدونه أبدا، توجب علي البقاءُ مثلما فعلت تركمانيات غيري، بسبب أطفالهن، انهن أفضل مني!”.

المصدر.. الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية "نيريج"


المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: تنظیم داعش عناصر داعش الحدیث عن إلى أن ما حدث غیر أن من قبل

إقرأ أيضاً:

الإرهاب باسم الشريعة: قراءة في الاستراتيجيات الخطابية لتنظيم داعش

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

 تعكس افتتاحية العدد 489 من صحيفة "النبأ" الصادرة عن تنظيم داعش  مساء الخميس 3 أبريل 2025، نمطًا متكرّرًا من الخطاب الأيديولوجي للتنظيم، الذي يرتكز على التكفير، والتحريض، وادعاء احتكار الحقيقة الدينية. يقدّم التنظيم نفسه في هذه الافتتاحية بوصفه الجهة الوحيدة التي تطبّق الإسلام "بصورته الصحيحة"، بينما يصنّف كل من يخالفه في دائرة الكفر أو النفاق، مما يعكس منهجًا إقصائيًا يسعى إلى نفي أي اجتهاد ديني أو رؤية مختلفة للشريعة الإسلامية.

ينطلق الخطاب الداعشي من افتراض محوري بأن نموذج الحكم الذي يتبناه هو التطبيق الحصري والصحيح للشريعة الإسلامية، متجاهلًا كل الفروقات التاريخية والاجتماعية بين العصر النبوي والواقع المعاصر. هذا التوظيف الأيديولوجي للنصوص الدينية لا يخلو من الانتقائية، حيث يتم استدعاء بعض الآيات والأحاديث بما يخدم أهداف التنظيم السياسية والعسكرية، بينما يتم تجاهل السياقات الفقهية والتاريخية الأوسع التي قدمها علماء الإسلام على مر العصور.

كما تتبنى الافتتاحية أسلوبًا هجوميًا تجاه كل من يعارض رؤية التنظيم، مستخدمةً مفردات مثل "التدليس" و"التلاعب بالمصطلحات"، وواصفةً المخالفين بأنهم "دعاة على أبواب جهنم". هذه اللغة التحريضية لا تكتفي بإقصاء الخصوم فكريًا، بل تعمل على تأليب الأتباع ضدهم، مما يساهم في تأجيج العنف وترسيخ منطق الصراع الدائم بين التنظيم وباقي مكونات المجتمعات الإسلامية.

ضمن هذا السياق، تأتي هذه الافتتاحية ليس فقط كبيان أيديولوجي، وإنما كأداة تعبئة تهدف إلى استقطاب مزيد من الأتباع، وإعادة إنتاج خطاب العداء تجاه العالم الخارجي، سواء كان ذلك الحكومات، أو الجماعات الإسلامية الأخرى، أو حتى المفكرين والفقهاء الذين لا يتبنون نفس التفسير المتشدد للنصوص. لذا، فإن تفكيك هذا الخطاب وتحليله أمر ضروري لفهم الآليات التي يستخدمها التنظيم في تبرير ممارساته العنيفة واستقطاب المزيد من الأفراد إلى صفوفه.

أولًا: بنية الخطاب وآلياته الحجاجية

يعتمد خطاب الافتتاحية على عدة أساليب حجاجية مركزية، أبرزها:

ثنائية الإيمان والكفر:

يضع النص قارئه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما قبول نموذج الحكم الذي فرضه تنظيم داعش بوصفه "تطبيقًا كاملًا" للشريعة، أو السقوط في دائرة الكفر. لا يترك التنظيم أي مجال للاجتهاد أو النقاش الفقهي، بل يجعل من رؤيته الأحادية معيارًا للحكم على إيمان الأفراد والجماعات. ففي الافتتاحية، يتم تصوير أي معارضة لحكم داعش على أنها رفض صريح للشريعة، حيث يرد فيها: "لم تزد الدولة الإسلامية على أن حولت ما كان حبيس الكتب والمصنفات... إلى واقع عملي يحكم الناس بشريعة خالقهم"، وهو طرح يلغي إمكانية أي اجتهاد فقهي آخر.

هذه الثنائية الإقصائية تلغي أي إمكانية لوجود اجتهاد فقهي أو مقاربة عقلانية لتطبيق الشريعة الإسلامية في واقع معاصر مختلف عن سياقات القرون الأولى. فمثلًا، حين يتحدث التنظيم عن تطبيق الحدود والأحكام الفقهية، يتجاهل الفروق الجوهرية بين مجتمع المدينة في القرن السابع الميلادي والمجتمعات الحديثة اليوم، التي تقوم على أنظمة قانونية معقدة تراعي التطورات الاجتماعية والاقتصادية.

كما أن التنظيم يستخدم هذه الثنائية لتبرير العنف ضد المخالفين، فهو لا يميز بين المسلمين الذين قد يكون لهم اجتهاد فقهي مختلف، وبين من يعارض الإسلام نفسه. في هذا السياق، يُصر النص على أن كل من لا يقبل نموذجهم هو "كافر ببعض الكتاب"، في تجاهل تام لحقيقة أن المسلمين على مر العصور قد اجتهدوا في تأويل الشريعة بما يتناسب مع أحوال مجتمعاتهم، دون أن يُخرجهم ذلك من دائرة الإسلام

شيطنة الآخر:

يعتمد خطاب الافتتاحية على آلية التشويه المعنوي للمخالفين، إذ يصور كل من يعارض تنظيم داعش على أنه مضلل أو متآمر أو عدو صريح للشريعة. يتجلى هذا بوضوح في استخدام تعبيرات مثل "التدليس" و"التلاعب بالمصطلحات"، حيث يتهم التنظيم خصومه بأنهم يحرفون النصوص الشرعية عن معانيها الحقيقية لخداع الناس، في حين أن التفسير الوحيد المقبول لديهم هو تفسيرهم الحرفي للنصوص.

ولا يقتصر التشويه على الأفراد، بل يتعداه إلى المؤسسات والجماعات الإسلامية المنافسة، التي يتم اتهامها ضمنيًا بأنها "تحارب الشريعة" أو "تروج لنسخة مشوهة من الإسلام". على سبيل المثال، يشير النص إلى أن "الدعاة على أبواب جهنم" يسعون لإبعاد الناس عن تطبيق الشريعة، في محاولة لإضفاء صبغة دينية على خصوماتهم السياسية مع الحركات الإسلامية الأخرى.

كما يوسّع التنظيم دائرة العداء لتشمل ليس فقط الحكومات، بل حتى الفصائل الإسلامية المنافسة التي لا تتبنى منهجه المتشدد. فالتنظيم يضع الجميع في سلة واحدة، سواء كانوا مفكرين إسلاميين، فقهاء، أو حتى قادة جماعات إسلامية أخرى، مدعيًا أنهم جميعًا يروجون "لإسلام مشوه" يخدم مصالح "الطواغيت"، كما ورد في قوله: "وقد استفاد الطواغيت على اختلاف أصنافهم، حكاما وقادة حركات وفصائل جاهلية، ودعموا هذه الأصناف المجادِلة بالباطل كلٌّ حسب حاجته".

هذا النمط من الشيطنة لا يهدف فقط إلى إقصاء المخالفين، بل يسعى أيضًا إلى تبرير العنف ضدهم، من خلال تصويرهم على أنهم خصوم للشريعة الإسلامية ذاتها. وهذا ينعكس في الطريقة التي يتحدث بها النص عن المعارضين، حيث لا يتم الاكتفاء بوصفهم بالمخالفين، بل يُتهمون صراحة بالكفر أو النفاق، مما يشرعن استهدافهم واعتبارهم أعداءً يجب القضاء عليهم.

الاحتجاج بالنصوص الدينية

يوظف التنظيم بعض الآيات القرآنية لتبرير منطقه الإقصائي، لكنه يفعل ذلك بطريقة انتقائية، متجاهلًا السياقات التاريخية والتفسيرية المتعددة التي قدمها علماء الإسلام على مر العصور. فمثلًا، يستشهد التنظيم بالآية: }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ{، ليصور مخالفيه على أنهم وقعوا في ذات الانحراف العقدي الذي اتُّهم به بنو إسرائيل.

لكن ما يتجاهله التنظيم هو أن هذه الآية نزلت في سياق معين، وكانت تتعلق بأحكام محددة تجاه بني إسرائيل، ولا يمكن إسقاطها بشكل مباشر على أي خلاف فقهي أو سياسي في العصر الحديث. هذا النهج في التأويل يُهمل التفسيرات التقليدية التي قدمها العلماء المسلمون، والتي تراعي الفروق بين الأحكام العقدية والأحكام الفقهية القابلة للاجتهاد.

كما أن التنظيم يغفل تمامًا المقاصد الكلية للشريعة، والتي تشمل تحقيق العدل والمصلحة ودرء المفاسد. فالفقه الإسلامي لم يكن يومًا جامدًا أو محصورًا في تأويل واحد، بل ظل عبر التاريخ فضاءً للاجتهاد والتطور، وهو ما يتناقض مع الطرح الداعشي الذي يفرض فهمًا واحدًا متصلبًا، لا يقبل أي نقاش أو مراجعة.

استخدام العاطفة والتخويف

يلجأ الخطاب إلى إثارة مشاعر الرعب والخوف لدى القارئ من مغبة مخالفة "دولة الإسلام"، وذلك عبر تصوير المعارضين على أنهم يواجهون "الخزي في الدنيا وأشد العذاب في الآخرة". يتم ذلك من خلال اقتباس آيات قرآنية تتحدث عن العقاب الإلهي، وإسقاطها مباشرة على الواقع السياسي المعاصر، مما يوحي بأن كل من يرفض نهج التنظيم محكوم عليه بالعذاب حتمًا.

فعلى سبيل المثال، يستخدم التنظيم الآية: }فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ{، ويقدمها كدليل على أن كل من يرفض سلطته الشرعية سيعاني في الدنيا قبل الآخرة. هذه الطريقة في استخدام النصوص تهدف إلى بث الذعر في نفوس المخالفين، ودفعهم إلى الامتثال خوفًا من العواقب.

كما أن الخطاب لا يكتفي بالتحذير الديني فحسب، بل يصوّر كل معارضة للتنظيم على أنها نوع من الخيانة التي تستوجب العقاب الشديد. فالمخالف ليس فقط عرضة للعذاب الإلهي، بل هو أيضًا متهم بالتآمر ضد الإسلام، مما يشرعن استهدافه بالقتل أو العقوبات القاسية.

هذا النمط من التخويف العاطفي ليس جديدًا في خطابات الجماعات المتطرفة، لكنه في حالة داعش يُستخدم بمهارة لتشكيل هوية جماعية قائمة على الطاعة المطلقة، حيث يُدفع الأتباع إلى الالتزام خوفًا من العقاب، وليس عن قناعة حقيقية. وهذا ما يعزز مناخ الإرهاب الفكري داخل التنظيم، ويمنع أي محاولات للنقد أو التفكير المستقل.

ثانيًا: تناقضات الخطاب وتوظيف التاريخ

يتناقض خطاب افتتاحية الصحيفة مع الواقع التاريخي والاجتهاد الفقهي الإسلامي، إذ يقدم تنظيم داعش نفسه على أنه الامتداد الشرعي للدولة الإسلامية الأولى، مدعيًا أنه يطبق الشريعة بنفس الصورة التي طُبقت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة. لكن هذا الادعاء يتجاهل الفروق الجوهرية بين طبيعة المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، الذي بُني على الدعوة والتدرج في تطبيق الأحكام، وبين ممارسات التنظيم التي تتسم بالإكراه والتكفير المطلق للمعارضين، دون مراعاة لاعتبارات الفقه الإسلامي التي وضعها العلماء على مدار القرون.

يدّعي التنظيم أن رفض مشروعه يعني رفض الإسلام نفسه، متجاهلًا أن التاريخ الإسلامي شهد تنوعًا في تطبيق الشريعة وفقًا للسياقات الزمنية والجغرافية المختلفة. فالنموذج الإسلامي لم يكن ثابتًا عبر العصور، بل تأثر بالاجتهادات الفقهية التي راعت مصالح الناس وظروفهم. وفي المقابل، يعتمد خطاب التنظيم على طرح جامد يختزل الإسلام في تصوره الخاص، ويقصي كل الاجتهادات الأخرى التي شكلت تطور الفقه الإسلامي.

ومن أبرز الأدلة على هذا التناقض، استدعاء التنظيم لأحداث تاريخية مثل غزوة بني قريظة، ليبرر أعمال العنف التي يمارسها ضد خصومه. ففي الافتتاحية، يطرح الكاتب سيناريو متخيل لنقل خبر هذه الغزوة عبر وسائل الإعلام المعاصرة، في محاولة لاستفزاز مشاعر القراء وإيصال رسالة مفادها أن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو ذاته ما يقوم به التنظيم اليوم. لكن هذا الطرح يتجاهل السياق التاريخي للغزوة، حيث كانت جزءًا من صراع عسكري أوسع، وليس قاعدة عامة تُسقط على كل زمان ومكان.

إن انتقائية التنظيم في توظيف التاريخ تعكس منهجًا خطيرًا، حيث يتم اقتطاع الأحداث من سياقاتها لتبرير سياسات الإقصاء والعنف. فمثلًا، في حين يستخدم التنظيم غزوة بني قريظة لتبرير القتل الجماعي، فإنه يتجاهل مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى التي اتسمت بالحلم والعفو، كما حدث في فتح مكة عندما عفا عن قريش رغم ما اقترفوه بحقه وبحق أصحابه. وهذا يوضح أن التنظيم يختار من التاريخ ما يخدم مصالحه الأيديولوجية، متجاهلًا القيم الأوسع التي قام عليها الإسلام.

كما أن إصرار التنظيم على إعادة إنتاج وقائع الماضي بشكل حرفي يُظهر عدم إدراكه لتعقيدات العصر الحديث. فالمجتمعات اليوم تخضع لنظم سياسية وقانونية مختلفة، والتعامل مع القضايا الشرعية يستلزم اجتهادًا يراعي هذه المتغيرات. ولكن التنظيم يتجاهل هذه الحقائق، ويطرح رؤيته بوصفها التطبيق الوحيد المقبول للشريعة، مما يجعله في تناقض مستمر مع التراث الإسلامي الغني بالتنوع والاجتهادات المختلفة.

ثالثًا: التأثيرات السياسية والاستراتيجية للخطاب

إن خطاب افتتاحية الصحيفة لا يعكس فقط رؤية دينية متشددة، بل يخدم أهدافًا سياسية واستراتيجية محددة، حيث يسعى التنظيم من خلاله إلى تحقيق مكاسب تتجاوز الجانب العقائدي، ليصل إلى تبرير ممارساته العنيفة، وزرع الانقسامات داخل المجتمعات الإسلامية، واستقطاب أتباع جدد.

تبرير العنف:

يعمل التنظيم على شرعنة ممارساته الوحشية من خلال تأطيرها دينيًا، بحيث تصبح أفعاله، مهما بلغت من قسوة، جزءًا من التزامه المزعوم بتطبيق الشريعة. ففي الافتتاحية، يتم استدعاء مشاهد من التاريخ الإسلامي، مثل غزوة بني قريظة، ليس لإعادة فهمها وفق سياقاتها، بل لتقديمها كدليل على أن العنف الذي يمارسه التنظيم اليوم هو امتداد للفتوحات الإسلامية. هذه المقاربة تهدف إلى تحييد أي نقد لأعماله، بحيث يبدو كل معترض وكأنه يعترض على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مما يمنح ممارساته غطاءً دينيًا يصعب على البسطاء دحضه.

إلى جانب ذلك، يتبنى التنظيم خطابًا يقسم العالم إلى معسكرين متصارعين: معسكر الإيمان الذي يمثله، ومعسكر الكفر الذي يضم كل من يعارضه. وهذا التصنيف المطلق لا يترك مجالًا لأي حلول وسط أو تفاهمات، بل يجعل العنف هو الخيار الوحيد المتاح. وحين يبرر التنظيم عمليات الإعدام الجماعية وقمع المخالفين بحجة "تنقية الصف الإسلامي"، فإنه بذلك يؤسس لنموذج سياسي قائم على الرعب، حيث تصبح القوة والبطش أدوات أساسية للحكم.

الأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب يسهم في تعطيل أي نقاش ديني جاد حول مشروعية أفعال التنظيم، إذ يتم استغلال النصوص الدينية بطريقة انتقائية لمنح صبغة شرعية لأعمال العنف، في حين يتم تجاهل القيم الإسلامية التي تدعو إلى الرحمة والعدل والتدرج في تطبيق الأحكام. وهكذا، يصبح الإرهاب مشروعًا ومقدسًا في أذهان أتباع التنظيم، مما يعزز دائرة العنف المستمرة.

خلق انقسامات داخل المجتمعات الإسلامية:

يستخدم التنظيم خطابًا تكفيريًا حادًا يجعل من كل من يخالفه في الرأي خصمًا دينيًا يجب إقصاؤه أو قتاله. فمن خلال وصف المخالفين بأنهم "يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض"، ومن خلال اتهامهم بأنهم "يتلاعبون بالمصطلحات" و"يتبعون الدعاة على أبواب جهنم"، يسعى التنظيم إلى نزع الشرعية عن أي تيار إسلامي لا يتبنى تفسيره الحرفي والمتشدد للنصوص.

هذه الاستراتيجية تؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل الأمة الإسلامية، إذ يتم تصنيف المسلمين إلى فئتين: مؤيدون لداعش، وهم "المسلمون الحقيقيون" وفقًا لمنطق التنظيم، ومعارضون له، وهم إما "مرتدون" أو "منافقون" يجب التعامل معهم بوسائل الردع والعنف. وبهذا، لا يصبح التنظيم فقط في صراع مع الأنظمة السياسية، بل يدخل في مواجهة شاملة مع كافة التيارات الإسلامية، بما في ذلك تلك التي تدعو إلى تطبيق الشريعة بوسائل سلمية أو إصلاحية.

كما أن هذا الخطاب يساعد التنظيم في عزل المجتمعات المسلمة عن محيطها العالمي، إذ يتم تقديم أي تفاعل مع الدول أو المؤسسات الدولية على أنه "مؤامرة ضد الشريعة". وهذا يعزز حالة العزلة والانغلاق الفكري، مما يسهل على التنظيم فرض سيطرته الأيديولوجية على أتباعه، ويمنع أي محاولات للمراجعة أو النقد الداخلي.

استقطاب الأتباع:

يلعب الخطاب الإعلامي للتنظيم دورًا حاسمًا في تجنيد الشباب، خصوصًا أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة الدينية العميقة. فمن خلال تصوير العالم على أنه في حالة "حرب" ضد الشريعة، يسعى التنظيم إلى خلق إحساس بالمظلومية بين الشباب المسلمين، مما يدفعهم إلى البحث عن "الخلاص" في مشروعه.

في الافتتاحية، يتم تصوير المعارضين على أنهم ليسوا فقط ضد التنظيم، بل ضد الإسلام نفسه، مما يجعل أي مسلم يشعر بالحيرة إزاء موقفه من التنظيم أقرب إلى الانضمام إليه بدافع الخوف من الوقوع في دائرة "الكفر". هذه الاستراتيجية النفسية تعتمد على التخويف والإقصاء، بحيث يصبح التنظيم الملاذ الوحيد لمن يريد أن يكون "مسلمًا حقيقيًا" وفقًا لروايته.

إلى جانب ذلك، يوظف التنظيم فكرة "التمكين"، حيث يقدم نفسه على أنه القوة الوحيدة القادرة على إعادة مجد الإسلام، مستغلًا مشاعر الإحباط لدى الشباب تجاه الأنظمة الحاكمة، التي يعتبرونها فاسدة أو عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية. وهكذا، يصبح الالتحاق بالتنظيم ليس مجرد خيار ديني، بل طريقًا لتحقيق الذات والانتصار على الظلم، وهو ما يفسر نجاح التنظيم في استقطاب مقاتلين من خلفيات جغرافية واجتماعية متنوعة.

وبهذا، يتضح أن خطاب التنظيم ليس مجرد طرح ديني متشدد، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى فرض العنف كأمر واقع، وإحداث انقسامات داخل الصف الإسلامي، واستقطاب أتباع جدد عبر خلق حالة من الاستقطاب الحاد بين "المؤمنين" و"الكافرين"، وهي ثنائية خطيرة تؤدي في النهاية إلى مزيد من الفوضى والدمار.

خاتمة

تعكس هذه الافتتاحية نموذجًا كلاسيكيًا لخطاب التنظيمات المتطرفة، حيث يتم توظيف النصوص الدينية بطريقة أيديولوجية لخدمة مشروع سياسي عنيف. من خلال استغلال آيات قرآنية وأحاديث نبوية خارج سياقاتها، يسعى التنظيم إلى خلق شرعية دينية زائفة لعملياته، ما يجعل تفكيك هذا الخطاب ضروريًا لوقف تمدد الفكر الإرهابي.

إن تأثير هذه الافتتاحية يتجاوز مجرد التنظير الفكري، ليصل إلى مستوى التعبئة والتحريض المباشر على العنف، مما يساهم في إنتاج أجيال جديدة من المتطرفين المستعدين لتنفيذ أجندة التنظيم دون تردد. فحين يتم تصوير كل من يخالف التنظيم على أنه كافر محارب، يصبح العنف ضدهم مبررًا بل وواجبًا دينيًا، وهو ما يغذي دوامة الإرهاب المستمرة.

لمواجهة هذه التحديات، لا بد من تعزيز الوعي الديني العميق، الذي يقوم على فهم شامل ومتزن للشريعة الإسلامية، بعيدًا عن التفسيرات الأيديولوجية الضيقة. يتطلب ذلك دورًا نشطًا من المؤسسات الدينية والعلماء المستقلين في تقديم قراءات عقلانية ومنفتحة للنصوص، تراعي تعقيدات الواقع وتطور المجتمعات.

وأخيرًا، فإن تفكيك هذا الخطاب لا يمكن أن يقتصر على الجوانب الدينية فقط، بل يجب أن يشمل تحليلًا سياسيًا واجتماعيًا يكشف عن الأهداف الحقيقية لهذه الجماعات، ويبين كيف يتم توظيف الدين كأداة للسيطرة وبسط النفوذ، وليس كوسيلة لتحقيق العدل والسلام. من خلال هذا النهج الشامل، يمكن الحد من تأثير هذه الأيديولوجيات المتطرفة، وقطع الطريق أمام استغلالها في صناعة الإرهاب والتطرف.

مقالات مشابهة

  • الإرهاب باسم الشريعة: قراءة في الاستراتيجيات الخطابية لتنظيم داعش
  • يجب استهداف الأماكن التي تنطلق منها المسيّرات المعادية في أي دولة كانت
  • تعرف على ابتهال أبو سعد المهندسة التي هاجمت مايكروسوفت
  • مأساة غزة.. امتحان أسقط عناوين الزيف والخداع
  • قسد تطلق حملة أمنية ضد خلايا داعش في مخيم روج شمال شرق سوريا
  • عودة من العيد تتحوّل إلى مأساة: حادث مروّع في إسطنبول
  • كيف يتعامل ترامب مع تصعيد إسرائيل في غزة؟ باحث يجيب
  • رئيس الوزراء العراقي: أصوات انفعالية كانت تريد جر البلاد للحرب
  • عاجل | السيد القائد: المنظمات الدولية تشهد على المجاعة في قطاع غزة ونفاد القمح والطحين من المخابز التي كانت توزع الخبر لأبناء الشعب الفلسطيني
  • مقبرة جماعية شاهدة على مأساة قرية ود النورة بالسودان