هل لك سر عند الله .. عبادة الخبيئة
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
ينتفع المسلم من العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى بحسب إخلاصه في تلك العبادات وابتغائه وجه الله، والإتيان بتلك العبادات كما أمره الله بها وكما ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بأداء الأركان والشروط التي لا تصح العبادة إلا بها، وبذلك يتفاوت الناس في الأجر والقرب من الله تعالى.
وهنالك عبادات ظاهرة وخفية، فالصلاة مثلا هي عبادة ظاهرة في ما يتعلق بالفرائض كإتيان الصلاة في المسجد في وقتها مع الجماعة، وهنالك منها ما يكون عبادة يستحب فيها الخفاء كقيام الليل مثلا، وهنالك الصدقات الظاهرة التي يقوم بها الإنسان ويعلنها ويشيعها في المجتمع لذلك لتشجيع الناس، ومنها ما يؤديها الإنسان في الخفاء حتى تكاد لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وهذا يتعلق بصدقة السر، وقد ذكر الله هذين النوعين من الصدقة فقال تعالى في سورة البقرة: «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
وهنالك بحر واسع من أعمال البر والعبادات التي يستطيع الإنسان أن يكون بها علاقة خاصة مع ربه بسببها، عبادات سرية يؤديها في الخفاء لا يعلمها إلا هو وربه فقط، وهذه العبادات من السنن والنوافل في أعمال البر إذا أكثر العبد منها تقربا إلى الله، كان وليا من أولياء الله، ويحبه الله حبا يحظى بالعناية والرعاية والتوفيق، وذلك مصداق للحديث القدسي الصحيح الذي رواه الرسول الكريم عن ربه عز وجل في قوله: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه».
فالإنسان لا يكتفي بما افترضه الله عليه، بل يتجاوز ذلك بالتقرب إلى الله بالسنن والنوافل بعد الإتيان بالفرائض على وجوهها، فهذا مما يستدعي محبة الله للعبد، ومن نال محبة الله نال سعادة الدارين، فدعوة الأولياء الذين أحبهم الله مستجابة، وبها يحميهم ويعيذهم إذا استعاذو به، وينصرهم إذا طلبوا نصرته.
ومن أراد أن يستجيب الله له وقت الشدائد والمحن، وفي المواقف التي تنقطع فيها الأسباب، ويصبح فيها الإنسان بلا حول ولا قوة، ويبقى الفرج من الله وحده، فمن أراد أن يستدر فرج الله في تلك المواقف فليخبئ من أعماله الصالحة وليكثر منها ويجعلها خالصة لله تعالى، ويجعلها ذخرا له بحكم علاقته الخاصة بخالقه.
والعبادة الخفية التي يقوم بها المسلم تجعل نيته خالصة لله، والنية هي أساس الأعمال، وهو بذلك يقطع على النفس وعلى الشيطان طريق الأدواء القلبية مثل الرياء، وطلب السمعة، والشهرة، ويجمع شتات قلبه في عمله الذي حصره لوجه الله، وبذلك تصفو نفسه وتزكو بما تقدمه بين يدي الله من أعمال البر والإحسان، ويعظم الإخلاص في قلبه.
وهذا ما انتهجه الصالحون من هذه الأمة فنجد من ذلك أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي كان إذا أقبل على الحجر الأسود أفسح الناس له لهيبته ومكانته وعلمه وهم لا يفعلون ذلك حتى مع الخليفة في القصة المشهورة التي فيها امتدح الشاعر الفرزدق زين العابدين، ولكن مما كان يؤخذ على زين العابدين أنه اتهم بالبخل، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة، ولا أحد يعلم بذلك.
ولو تتبعنا قصص الصالحين الذين كانت لهم علاقة خاصة بالله تعالى والذين بلغوا مبلغا عظيما في قربهم من الله تعالى حتى أنهم يقسمون بحبه لهم أثناء الدعاء فيستجيب لهم استجابة سريعة وآنية، فقد أورد الإمام أبو نعيم الأصبهاني الذي توفي عام 430 هـ في كتابه الشهير «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» قصة عجيبة رواها العابد الزاهد مالك بن دينار فقال: «احتبس عنا المطر بالبصرة، فخرجنا نستسقي مرارا فلم نرَ للإجابة أثرا. فخرجت أنا وعطاء السلمي، وثابت البناني، ويحيى البكاء، ومحمد بن واسع، وأبو محمد السختياني، وحبيب الفارسي، وحسان بن ثابت بن أبي سنان، وعتبة الغلام، وصالح المزني. حتى إذا صرنا إلى المصلى بالبصرة، خرج الصبيان من المكاتب، ثم استسقينا فلم نرَ للإجابة أثرا، حتى انتصف النهار وانصرف الناس، وبقيت أنا وثابت البناني بالمصلى.
فلما أظلم الليل، إذا أنا بعبد أسود مليح دقيق الساقين، عليه جبة صوف، قومت ما عليه بدرهمين، فجاء بماء فتوضأ، ثم جاء إلى المحراب، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: «إلهي وسيدي ومولاي، إلى كم تردّ عبادك فيما لا ينفعك؟ أَنَفَذَ ما عندك أم نقص ما في خزائنك؟!! أقسمت عليك بحبك لي، إلا ما أسقيتنا غيثك الساعة». قال: فما تم كلامه حتى تغيمت السماء وجاءت بمطر كأفواه القِرَب.
قال مالك: «فتعرضت له وقلت له: يا أسود، أما تستحي مما قلت؟». قال: «وما قلت؟!». قلتُ: «قولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟». قال: «تنح عني يا من اشتغل عنه بنفسه، أفتراه بدأني بذلك إلا لمحبته إياي؟!». ثم قال: «محبته لي على قدره، ومحبتي له على قدري». فقلت له: «يرحمك الله، ارفق قليلاً». فقال: «إني مملوك، وعلي فرض من طاعة مالكي الصغير». قال: فانصرف، وجعلنا نقفو أثره على البعد حتى دخل دار نخاس.
فلما أصبحنا، أتينا النخاس، فقلت: «يرحمك الله، أعندك غلام تبيعه منا للخدمة؟». قال: «نعم، عندي مائة غلام للبيع». فجعل يعرض علينا غلاما بعد غلام، حتى عرض علينا سبعين غلاما، فلم ألق حبيبي فيهم. فقال: «عُودا إليَّ في غير هذا الوقت». فلما أردنا الخروج من عنده، دخلنا حجرة خَرِبة خلف داره، وإذا بالأسود قائم يصلي. فقلت: «حبيبي ورب الكعبة!». فجئت إلى النخاس فقلت له: «يعني هذا الغلام؟». فقال: «يا أبا يحيى، هذا الغلام ليست له همة في الليل إلا البكاء، وفي النهار إلا الخلوة والوحدة». فقلت له: «لا بد من أخذه منك، ولك الثمن، وما عليك منه». فدعاه، فجاء وهو يتناعس. فقال: «خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه كلها». فاشتريته منه بعشرين دينارا. وقلت له: «ما اسمك؟». قال: «ميمون».
فأخذت بيده أريد المنزل، فالتفت إلي وقال: «يا مولاي الصغير، لماذا اشتريتني وأنا لا أصلح لخدمة المخلوقين؟». فقلت له: «والله يا سيدي، إنما اشتريتك لأخدمك بنفسي». قال: «ولم ذلك؟». فقلت: «ألست صاحبنا البارحة بالمصلى؟». قال: «بلى، وقد اطلعت على ذلك». قلت: «نعم، وأنا الذي عارضتك البارحة في الكلام بالمصلى». قال: فجعل يمشي حتى أتى إلى مسجد، فاستأذنني ودخل المسجد، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: «إلهي وسيدي ومولاي، سِرٌّ كان بيني وبينك أطلعت عليه غيرك، فكيف يطيب الآن عيشي؟! أقسمت عليك بك إلا ما قبضتني إليك الساعة». ثم سجد.
فانتظرته ساعة فلم يرفع رأسه، فجئت إليه وحركته، فإذا هو قد مات، رحمة الله تعالى عليه. قال: فمددت يديه ورجليه، فإذا هو ضاحك مستبشر، وقد غلب البياض على السواد، ووجهه كالقمر ليلة البدر. وإذا شاب قد دخل من الباب، وقال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعظم الله أجورنا وأجوركم في أخينا ميمون، هاكم الكفن». فناولني ثوبين ما رأيت مثلهما قط، فغسلناه وكفناه فيهما ودفناه».
ولو أتينا إلى عصرنا اليوم الذي أصبحت حياة الناس فيه معلنة بكل تفاصيلها، لما نراه من انتشار في وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الناس يعنيهم الظهور والشهرة والانتشار سواء لمقاصد مادية، أو لإشباع رغبات نفسية، فأصبحت الكثير من أعمال الخير والبر التي كان ينبغي لها أن تؤدى في السر حفظا لماء وجه المحتاج أو المستفيد أصبحت تذاع علنا، فينبغي للمسلم أن يبني علاقته الخاصة مع الله وذلك بأن تكون عبادة الخبيئة جزءا من حياته اليومية، كالأوراد والأذكار، والصدقة الخفية، وكفالة الأيتام، وقيام الليل، والإحسان إلى الناس، والحيوانات، والإكثار من الصدقات بأنواعها، فبذلك يمتحن المؤمن بها نفسه ويختبر بها علاقته مع الله ويزرع هذه القيمة في أبنائه بأن يبنوا علاقتهم الخاصة مع الله بهذه الأعمال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الله تعالى من أعمال
إقرأ أيضاً:
حكم تصرف ذوي الهمم في أموالهم وأمور الحياة مع من يرعاهم
قالت دار الإفتاء المصرية إنه يجوز شرعًا إعطاء الشخص من ذوي الهمم، وعنده إصابة تمنعه من القيام بخدمة نفسه إعطءاء بعض أملاكه أو جميعها لأحد أقاربه الذين يساعدوه على القيام ببعض الأعمال التي يحتاجها؛ لمكافأته على بره به وإحسانه إليه.
ويجوز للإنسان أن يتصرف في ماله في حال حياته وصحته، وكمال أهليته، واختياره بشتى أنواع التصرفات المشروعة كما يشاء، بشرط ألَّا يكون ذلك بنِيَّة حرمان الورثة من الميراث بعد وفاته؛ لئلا يدخل في الوعيد المذكور فيما رُوِيَ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِ وَارِثِهِ، قَطَعَ اللهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه ابن ماجه، والمقصود بذلك أن يَتَقَصَّد ويَتَعَمَّد هذا المنع.
كيفية وضوء ذوي الاحتياجات الخاصة
وقالت دار الإفتاء إن الشرع أعطى لأصحاب الهمم من ذوي الاحتياجات الخاصة عذرهم، ورفع الحرج عنهم، فإن استطاعوا الوضوء بأنفسهم لزمهم ذلك، وإلا جاز لهم أن يستعينوا بغيرهم ولو بأجرة قدروا عليها، وذلك إذا كان محل فرض الوضوء موجودًا، فإن وجد بعضه دون البعض الآخر غسل الموجود وسقط غسل غير الموجود، وإن عجزوا عن الوضوء تيمموا بأنفسهم أو بغيرهم ولو بأجرة قدروا عليها، فإن عجزوا عن التيمم أيضًا صلوا على حسب حالهم ولا إعادة عليهم.
التيسير ورفع الحرج عن المكلفين في الشريعة الإسلامية
وأوضحت الإفتاء أن الشريعة الإسلامية يسرت ورفع الحرج عن المكلفين من المبادئ الراسخة في الشَّريعة والأحكام الشرعيَّة التي يُطالَب بها المكلفون، فقد رَفَع الشرع الشريف الحرج في العبادات والواجبات عن المكلفين، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج: 78.
وتابعت الإفتاء، قائلة: وممَّن خصَّهم الشرع الشريف بالتيسير ورفع الحرج: ذوو الهمم من أصحاب الاحتياجات الخاصَّة، وهؤلاء مخاطَبون بالتكاليف الشَّرعيَّة ومُطالَبون بها متى قامت بهم شروط التكليف من إسلامٍ وعقلٍ وغير ذلك من الشروط، وقيامهم بها وأداؤهم لها يكون على حسب حالهم وقدرتهم واستطاعتهم؛ رعايةً لعذرهم، ورغبةً في التخفيف ورفع الحرج عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ولقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولعموم قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ الفتح: 17.
وأضافت: نَفَت الآيات الكريمات الأُوَل الحَرج مطلقًا، ونَفَت الآية الأخيرة الحَرَج عن أصحاب الأعذار الذين تخلَّفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ رعايةً لعذرهم. كما جاء في السنَّة ما يدل على رَفْع الحرج عن أصحاب الأعذار في جانب التكاليف الشَّرعيَّة، فقد أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، فقال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» فهذا الحديث يدلُّ على رفع الحرج عن أصحاب الأعذار، والتخفيف عنهم في التكاليف الشرعيَّة والواجبات المرعيَّة.
وعن كيفية الوضوء قالت الإفتاء: الأصل المقرر شرعًا أَنَّ الطهارة مِن الحدث الأصغر بالوضوء والأكبر بالغسل شرطٌ من شروط صحة الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، وإعمالًا لذلك الأصل وتطبيقًا له فأداء ذي الهمة للوضوء يختلف بحسب وجود محل فرض الوضوء وقُدْرته على القيام به.
وأضافت: فإن وُجِد محلُّ فَرْض الوضوء وكان المكلف قادرًا على القيام به بنفسه قام به، وإن لم يَقْدِر بنفسه وأعانه من لا مِنَّةَ له عليه ممن تلزمه طاعته كولده، أو غيره ممن لو استعان به أعانه على وضوئه جاز له ذلك وصح وضوءه؛ إذ من المقرر شرعًا جواز الاستعانة بالغير في الوضوء عند العجز.
فإن لم يجد مَن يعينه تطوعًا ممن لا مِنَّةَ له عليه لزمه استئجار من يساعده متى كان قادرًا على دَفْع الأجرة، بامتلاك فاضل عن حاجته، قال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 33، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(والعاجز) عن الوضوء لقطع يده أو نحوه (يستأجر) وجوبًا (موضئًا) أي: من يوضئه (بأجرة مثل) فاضلة عن قضاء دينه، وكفايته، وكفاية مؤنة يومه وليلته] اهـ.كدت الإفتاء أن الهبة حال الحياة أمر جائز شرعًا ولا حرج فيه.