مأساة التركمانيات والشبكياتٌ “المفقودات” في طي النسيان.. ناجياتٌ منهن: “المجتمع يتعامل معنا كمذنبات”- عاجل
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
بغداد اليوم - متابعة
تقدر مصادر تركمانية، عدد مفقودي التركمان الشيعة بنحو 1450 شخصاً، ثلثهم من النساء والفتيات الصغار، وجرى لسنوات التكتم عن "مأساة التركمانيات" في ظل غياب الأرقام الرسمية ومع رفض عوائل الضحايا الابلاغ عن فقدانهن وحتى الحديث عنهن.
هدى (أسم مستعار- 20 سنة) فتاة تركمانية شيعية، من مدينة تلعفر(غربي محافظة نينوى في العراق)، لم تكن قد أكملت عامها الثاني عشر، عندما هاجم تنظيم داعش في 16حزيران/يونيو 2014 مدينتها، ووقعت معارك استمرت أياما هرب خلالها غالبية السكان الشيعة بما فيهم عائلتها صوب مدينة سنجار المجاورة والخاصعة لسيطرة القوات الكردية.
مكثوا هناك مع مجموعة من العائلات التركمانية الأخرى في مدرسة ابتدائية خصصت لاستقبال النازحين الهاربين من سطوة التنظيم واعداماته الفورية، وبعد نحو ستة أسابيع، حدث ما لم يكن متوقعا حين هوجمت سنجار في 3 آب/أغسطس 2014 وسيطر التنظيم عليها خلال ساعات، ليقتل مئات من الرجال ويخطف آلاف النساء والأطفال وبينهم هدى.
تنقبض ملامح وجهها وهي تتذكر: “هربنا سريعا في مجموعات متفرقة .. أردنا الوصول إلى جبل سنجار مثل آلاف الايزيديين والشيعة الذين ملأت بهم الطرق الممتدة الى الجبل.. أنا أمسك بيد أبي، وأمي تحمل شقيقي الذي كان عمره سنتان فقط”.
تجهش بالبكاء وهي تشبك أصابع يديها ببعضها: “قطعوا الطرق وأحاطونا بأسلحتهم ثم أمسكوا بنا، كانت وجوههم الملتحية مرعبة، فرقوا بين الرجال والنساء والأطفال".
تصمت للحظات قبل أن تضيف بصوت متقطع: “كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها والدي، أما شقيقي، فقد قابلته بعدها بثلاث سنوات!”.
تقدر مصادر تركمانية، عدد مفقودي التركمان الشيعة بنحو 1450 شخصاً، ثلثهم من النساء والفتيات الصغار، وجرى لسنوات التكتم عن “مأساة التركمانيات” في ظل غياب الأرقام الرسمية ومع رفض عوائل الضحايا الابلاغ عن فقدانهن وحتى الحديث عنهن.
أخذ عناصر داعش، هدى وأطفال آخرين من التركمان الشيعة إلى مدينة تلعفر “سألوني عن أسمي الثلاثي، وعدد المرات التي زرت فيها كربلاء، وأسماء أقاربي في الجيش والشرطة، وفي اليوم التالي أخذوني مع 23 طفلة تركمانية إلى ملجأ للأيتام في منطقة أسمها الزهور بمدينة الموصل”.
بقيت هدى في الملجأ لسنتين ونصف السنة، تحت رعاية نساء تصف بعضهن بالمُجبرات على التعاون مع التنيظم، وأخريات بأنهن “داعشيات”. تغمض عينيها وتقول بألم: “عندما بلغت الرابعة عشر، أخذوني إلى تلعفر….” تتوقف عن الكلام وتستسلم لنوبة بكاء داهمتها لدقائق.
تمسح دموعها بظاهر يديها وتتابع: “زوجوني برجل تركماني من السنة، كان واحداً منهم، أصبحت زوجته الثانية، وضرتي كانت تركمانية سنية، أخوها الداعشي قتل بأيدي عناصر الحشد الشعبي، لذلك كانت تكرهني جداً وتعاملني بطريقة سيئة”.
والمعاملة السيئة التي ذكرتها هدى، كانت متمثلة بضربها بنحو يومي، إلى أن تفر الدماء أحياناً من فمها وأنفها “كانت تقول لي بأن الشيعة قتلوا أخاها وأنها ستأخذ بثأرها مني لأني شيعية مثلهم”. استمرت حياة هدى الزوجية الدامية قرابة تسعة أشهر، إذ تم تحرير مدينة تلعفر في آب/أغسطس2017 وتم إنقاذها بواسطة قريبٍ لها من الشرطة الإتحادية، كما تم العثور كذلك على شقيقها، في حين مازال مصير والديها مجهولاً لغاية الآن.
محاذير اجتماعية
قصة هدى، وكثيرات غيرها من التركمانيات الشيعة، والشبكيات الشيعة الناجيات من داعش، مسكوت عنها في المجتمعين التركماني والشبكي المحافظين، والقبليين بطبيعتيهما، لذا فأن الحديث عن وجود سبايا وناجيات، غير مسموح به في الوسطين وفقاً لمطلعين. وهذا سبب رئيسي لوجود غموض بشأن أعدادهم.
الناشط المدني جعفر التلعفري، حاول منذ 2017 الخروج عن هذا القيد الصارم، وتبنى حراكاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بحقوق الناجيات التركمانيات، غير أنه جوبه بالرفض من قبل وجهاء قبليين واجتماعيين في تلعفر، وفقاً لما ذكر.
ويقول عن ذلك: “لم يتقبل المجتمع الحديث عن الناجيات، وقادة المجتمع التركماني انتقدوني وأوصلوا لي رسائل عدة بأنهم لا يريدون الحديث عن هذا الملف. خصوصاً وأن أغلب الناجيات اغتصبن وفقدن ذويهن بسبب داعش، ويعشن لدى أقاربهن من الدرجة الأولى والثانية دون أوراق ثبوتية”.
غير أن ذلك لم يثنه، إذ قام مع مجموعة من الناشطين الآخرين في 2017، بتأسيس فريق (تلعفريون) التطوعي لرصد وتوثيق الحالات المتعلقة بالمختطفين بواسطة داعش والناجين بنحو عام، بضمنهم النساء.
ومن خلال جمع المعلومات من الأهالي، توصل الفريق إلى إحصائية تبلغ 482 من المفقودين الرجال والنساء والأطفال، الناجون منهم، 23 طفلاً و24 امرأة. غير أن الإحصائية هذه غير نهائية لرفض الكثير من العائلات التجاوب وتقديم المعلومات المطلوبة بشأن مفقوديهم ولاسيما النساء.
وهذا يفسر الغموض المتعلق بأعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعة كما أسلفنا، فضلاً عن تباين الأرقام التي تقدمها جهات غير رسمية بين الحين والآخر، فالأهالي يرفضون التعاون خوفاً من وصمة العار، وهو ذات الخوف الذي دفع نساءً تركمانيات خطفهن عناصر داعش في 2014، الى الاستسلام لحياتهن في المخيمات وسواها، وعدم العودة إلى ذويهن بعد انتهاء حقبة سيطرة داعش على نينوى.
مدير مؤسسة انقاذ التركمان علي البياتي، أكد بأن نساءً تركمانيات شيعيات مازلن في مخيم الهول بسوريا، حسب روايات ايزيديات محررات أجرى مقابلات معهن، دون معرفة أعدادهن. ويقدر أعداد المختطفين التركمان بنحو عام من الجنسين بـ 1450 شخصاً، 450 من بينهم نساء وفتيات صغار، وأن أعداد الناجيات هو فقط 50 واحدة.
ويصف البياتي، استجابة الحكومات المتعاقبة بعد 2014 في التعامل مع ملف الناجيات والمختطفات التركمانيات بالضعيف، ويعزو ذلك الى غياب القيادات التركمانية السياسية المطالبة بحقوقهن، ويقول: “المصالح السياسية هي المحرك الرئيسي لكل شيء في العراق، أما قضايا الأقليات وحقوق الانسان فهي ليست في الحسبان”.
وتُرجع الباحثة الاجتماعية أنهار يوسف، تجنب المجتمعين التركماني والشبكي، الحديث عن ملف الناجيات الى قلة أعدادهن مقارنة بالايزيديات اللواتي يزيدن عن ألفين، وتوضح ذلك قائلةً “بالرغم من أن المعاناة واحدة، بل أن داعش كان أقسى على النساء الشيعيات بشهادة الكثير من الناجين، الا أن قلة اعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعيات منع تدويل قضيتهن، هذا فضلاً عن عدم بروز واحدة منهن للحديث عن مأساتهن كما فعلن ايزيديات كثر وأبرزهن ناديا مراد التي حصلت على جائزة نوبل للسلام”.
وتشير إلى أن الاغتصاب هو المحظور الأعظم في مجتمعاتهن، لذا يفضل الناجيات السكوت وعدم المطالبة بأي تعويضات أو حتى إبراز قصصهن، “بالرغم من التبعات النفسية والصدمات الناتجة عن العنف الجنسي والتعذيب والسبي الذي تعرضن له، إلا أنهن يتكتمن عن ذلك كله، لأنهن قد يتحولن من ضحايا إلى مجرمات وتتم تصفيتهن غسلاً للعار”.
وتستدرك الباحثة أنهار: “نجاتهن لا يعني أبداً أنهن أصبحن بخير!”.
أنطبق ما قالته الباحثة وبنحو كبير على الناجية التركمانية هدى، فأن نجاتها من حياة السبي، لم تكن نهاية للمأساة التي عاشتها، إذ توجب عليها بعد عودتها إلى تلعفر، مواجهة مجتمع يتعامل معها بانتقاص، وينظر إليها بريبة لكونها كانت زوجة داعشي.
“كنت أسمعهم بأذني يقولونها لي، زوجة الداعشي، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن الطفلة التي خطفت، وزوجت رغماً عنها، بل تعاملوا معي كمذنبة، ولكن عن أي ذنب؟، فأنا الضحية هنا، وهم لا يفهمون هذا أو لا يريدون أن يفهموا…”.
قالت هدى ذلك بشيء من الغضب، إذ كانت تعد الأيام وهي في قبضة التنظيم، من أجل العودة إلى أهلها والاحتماء بهم، لكن ما حدث بعد عودتها صدمها كلياً “البعض قال لي لماذا لم ترفضي الزواج بالداعشي…… وكأن الأمر بيدي، إنهم أغبياء، لم يعيشوا ما عشته، ولم يروا ما رأيته بعيني”.
في عام 2021، تزوجت هدى، من صديقٍ لأحد أقربائها، ومع أن ذلك قد يدخل ضمن رغبة المجتمع في إخفاء أي شيء يشير إلى وجود سبايا وناجيات من نساء منتميات له، إلا أنها تعد الأمر بمثابة طوق نجاة، وتنظر إلى زوجها كبطل:
“المجتمع تعامل معي على أنني عار عليه ولم يتقبلني، لكن زوجي أسكت كل الأفواه التي كانت تجلدني بلومها وتكفل بتربية شقيقي، حل محل أمي وأبي بالرغم من أنه ينتمي الى ذات المجتمع الذي نبذني”.
زوجها شجعها على المطالبة بتعويض عما حدث لها أمام القضاء العراقي، بموجب القانون رقم 8 لسنة 2021، تقول بشان ذلك:”لا توجد نتيجة لغاية الآن، لكن في الأقل أشعر بأنني أفعل شيئاً لرد شيء من الاعتبار لنفسي”.
القانون رقم 8، أو كما يعرف بقانون الناجيات الايزيديات، شمل كذلك التركمانيات والمسيحيات والشبكيات، والهدف من إصداره حسب أعضاء في مجلس النواب، هو لتعويض الناجيات المشمولات به “مادياً ومعنويا وتأمين حياة كريمة لهن إضافة الى التأهيل والرعاية واعداد الوسائل الكفيلة لدمجهن في المجتمع ومنع تكرار ما حصل من انتهاكات بحقهن”..
القانون يتضمن تعويضات لكل ناجية ايزيدية تم اختطافها من قبل تنظيم داعش وتحررت بعد ذلك، والنساء والفتيات من المكون (التركماني، المسيحي، الشبكي) اللواتي تعرضن الى نفس الجرائم المذكورة في البند (أولاً) من المادة (١) من القانون، والناجين من الاطفال الايزيديين الذين كانوا دون سن الثامنة عشر عاماً عند اختطافهم، والناجين الأيزيديين والتركمان والمسيحيين والشبك من عمليات القتل والتصفية الجماعية التي قام بها تنظيم داعش في مناطقهم.
وعرف القانون الناجية على أنها “كل امرأة أو فتاة اختطفت من قبل تنظيم داعش وتعرضت الى جرائم العنف الجنسي، أو استعبادها جنسيا وبيعها في اسواق النخاسة، فصلها عن ذويها، اجبارها على تغيير ديانتها، الزواج القسري، الحمل والاجهاض القسري او إلحاق الاذى بها جسدياً ونفسياً من قبل تنظيم داعش من تاريخ 3\8\2014 وتحررن بعد ذلك”.
الناجيات الشبكيات” المجتمع يمنع انصافنا “
ولا يختلف الوضع كثيراً في مجتمع الشبك، وهي أقلية ينتشر أفرادها في سهل نينوى وأجزاء من شرقي مدينة الموصل، فالأهالي يمتنعون كذلك عن تقديم المعلومات بشأن المفقودات، إذ رصدت منظمة العدالة لحقوق الاقليات 232 مفقوداً شبكياً، بينهم خمسُ مفقودات فقط، وأربعة مقتولات.
حسين زينل، مدير منظمة العدالة لحقوق الأقليات التي نفذت مشروعاً يستهدف الناجيات الشبكيات، يبرر ذلك بتحفظ العائلات على الإفصاح عن وجود مفقودات من أفرادها متوقعاً فارقاً كبيراً بين العدد المرصود والعدد الحقيقي للمقتولات والمفقودات الشبكيات.
مسؤول مكتب تحرير المختطفين الإيزيديين حسين قائدي، أكد أن المكتب لم يتلقَ حتى الآن أي معلومات حول المختطفات التركمانيات والشبكيات لذا لم يتمكن من الوصول الى أي واحدة منهن. فيما نجح مكتبه في الوصول إلى مئات السبايا الإيزيديات وتحريرهن.
لم تمنع الوصمة الاجتماعية الكشف عن العدد الحقيقي للناجيات والمخطوفات والمقتولات الشبكيات الشيعيات، “بل ومنعت 14 ناجية شبكية شيعية مرصودة من قبل منظمة العدالة لحقوق الأقليات من ترويج ملف تعويضهن لدى القضاء” هذا ما أفاد به ناشطون يعملون على ملف الناجيات الشبك الشيعيات.
نادية(30سنة)، وهذا أسم مستعار اختارته لنفسها بسبب حساسية قصتها بالنسبة لمجتمعها، فهي شبكية، شيعية، وزوجة لرجل شبكي من الطائفة السنية، لكن ذلك لم يشفع لها مطلقا. فوفقاً لروايتها، أنها كانت تسكن بحيٍ شعبي في شرقي مدينة الموصل، وبخلاف أقربائها الذين فروا من المدينة في 10حزيران/يونيو2014 عندما اجتاح عناصر داعش الموصل، بقيت هي في منزلها مطمئنة إلى أن التنظيم لن يمسها بسوء كونها متزوجة من سني.
بعد أسابيع من سيطرة التنظيم على الموصل، أقتحم مسلحون منزلها، عصبوا عينيها، وقيدوا يديها من الخلف، وأخذوها إلى معتقل ووضعوها في زنزانة لوحدها. تخرج الكلمات من بين أسنانها: “لا أعلم من وشى بي لديهم، وأخبرهم بأنني جاسوسة” تقول بحنق.
وتضيف: “الداعشي المكلف بتعذيبي، كان يضربني كل يوم ويطلب مني معلومات عن الجيش والشرطة، أقسمت له مراراً وتكراراً أن لا علاقة لي بالقوات الأمنية لكن ذلك لم يُنجيني فهو كان يصر على أن جميع الشيعة على اتصال بعناصر الجيش أو الشرطة وهذا ما كان يكرره لي دائماً”.
لم تتعرف نادية على عدد كبير من الناجيات لكنها تحدثت عن أساليب التعامل مع الشبكيات الشيعيات من قبل داعش، “كنتُ اسمع أحاديث افراد التنظيم والمختطفات، بعضهن تم حرقهن وبعضهن كنَّ جواري لدى عوائل ينتمي افرادها الى داعش والقسم الاخر وضعن في غرف انفرادية تستخدم للتعذيب والاغتصاب” تصمت قليلاً وتكمل بصوت مختنق “أنا كنتُ ضمن القسم الأخير” وتجهش بالبكاء.
تعرضت نادية للتعذيب المستمر والاغتصاب المتكرر في غرفة التعذيب الانفرادية لما يقارب من ثمانية أشهر، قبل أن يتمكن زوجها من تأمين المال بعد الاتفاق مع أحد افراد التنظيم لتهريبها والخروج معها الى خارج نينوى “اقترض زوجي 50 ألف دولار من أقرباءه ومعارفه ودفعها للداعشي الذي اتفق معه، وهربنا معاً الى الجنوب للحاق بعائلتي، أبي وأمي وأشقائي”.
لم تدل نادية بتفاصيل أخرى خشية أن تنكشف شخصيتها وتتعرض للخطر، لأن أهلها قد يقتلونها غسلا للعار وفقاً لتخوفها. لكن ما سكتت عنه نادية تحدث به حسين زينل، إذ يقول “رصدنا 58 ناجية شبكية جميعهن من الشيعة ضمن مشروع يهدف الى حصول الناجيات على استحقاقهن المنصوص عليه في قانون الناجيات الايزيديات رقم 8 لسنة 2021 وإعادة التأهيل النفسي، فأغلبهن يعانين من تأثيرات الصدمة لما واجهنه بسبب داعش”.
ويضيف “ترفض الناجيات الشبكيات الإفصاح عما حدث لهن بسبب الخشية من نظرة المجتمع كما يرفضن الكشف عن هوياتهن لذات السبب، جميع من رصدناهن فضلن ترويج معاملات تعويضهن من خلال المنظمة تجنباً لمواجهة مواقف تشعرهن بالذنب من كونهن ناجيات”.
حاولت نادية أن تجرب حظها في تقديم طلب تعويض إثر صدور قانون الناجيات في 2021، لكنها اصطدمت حسبما تقول بنظرة المجتمع الشبكي الشيعي للناجيات، فعلى الرغم من وجود شاهد أدلى بشهادته أمام القضاء بانها تعرضت بالفعل للتعذيب بأيدي عناصر داعش، إلا أنها لم تسلم من نظرات “اللوم والتجريم”.
وتقول بأسف: “في مراكز الشرطة والمحاكم، ما أن يعلم الموظفون أنني ناجية حتى تبدأ نظراتهم الغريبة ثم يبدؤون بالتهامس فيما بينهم”.
وتقول بأنها توقفت عن متابعة معاملتها في نهاية الأمر بسبب تلميحات بعض الموظفين ومحاذير اجتماعية: “بعض ما كانوا يتلفظون به يوحي بأنه يعبروني امرأة سيئة السمعة، لا أريد تعويضاً يشعرني بنبذ الآخرين لي، كما المجتمع الشبكي يرفض دخول النساء الى مراكز الشرطة والقاضي يشترط اجراء التحقيق في مركز الشرطة. بعض الناجيات اللواتي أعرفهن رفضن حتى الكشف عن حقيقة كونهن ناجيات حتى بعد اصدار قانون التعويضات خوفاً من ألسنة الناس”.
عقبات أمام تنفيذ قانون
حدد قانون تعويض الناجيات الايزيديات المستفيدين منه، وهم المتعرضون للانتهاكات من تأريخ 3\8\2014 وهو ما قد “يسبب ضياعاً لحقوق العديد من الناجيات التركمانيات والشبكيات والمسيحيات” وفقاً للناشط جعفر التلعفري، ويوضح:” داعش سيطر على تلعفر حيث التركمانيات الشيعيات وسهل نينوى حيث الشبكيات الشيعيات، في حزيران وتموز 2014، أي قبل هجومه وسيطرته على سنجار حيث الإيزيديات في 3 آب من نفس تلك السنة”.
ويؤشر أمراً آخر: “قانون الناجيات لم يتطرق لتعويض الأطفال الناجين من المكونات غير الايزيدية”.
يشاطره في الرأي الخبير القانوني علي التميمي، الذي يشدد على ضرورة تعديل القانون من قبل مجلس النواب العراقي ويضيف “اعتمد القانون وسائل الإثبات الرسمية وغير الرسمية لإثبات واقعة الاختطاف، وهنا يحتاج إلى الدقة في التطبيق، كما لم يتناول الجانب الجزائي والجرائم الدولية التي تعرضن لها الناجيات، وكان ينبغي أن يتضمن القانون شيئاً من ذلك ولاسيما أن الكثير من عناصر التنظيم هم في الأصل مواطنون من دول أخرى”.
غير أن الثغرات في هذا القانون ليست المشكلة الوحيدة وفقاً لمراقبين، يرون أن المشكلة الأكبر تكمن في التلكؤ بتنفيذه على الرغم من مرور سنتين على تشريعه ونشره في جريدة الوقائع الرسمية، أي دخوله حيز التنفيذ.
فالإجراءات لتنفيذه بالنسبة لغير الإيزيديات توصف بالتعقيد، إذ تطالب الناجية التركمانية أو الشبكية، بتقديم شهود إثبات وتأييد من مختار المنطقة فضلاً عن إجراء تحقيقات مطولة مع الناجية وبعد كل ذلك يتعين عليها رفع دعوى أمام محكمة الجنايات.
وإزاء ذلك، أصدرت منظمات دولية ومحلية بياناً مشتركاً في نيسان/أبريل 2023 بشأن تنفيذ قانون الناجيات الايزيديات، من بينها صندوق الناجين العالمي، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للحقوقيين والمجلس الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب (IRCT)وهيومن رايتس ووتش، دعت فيه إلى اتباع البرامج الإدارية في التعامل مع الناجيات خلال تنفيذ قانونهن.
وأشار البيان إلى ان البرامج الإدارية توفر طرق حصول على تعويض بنحو أسهل من السبل القضائية، وأن بإمكانها “الاستجابة لأعداد كبيرة من الناجيات، وتقليل التكاليف والإجراءات الرسمية، وتبسيط معايير الأدلة المطلوبة، وإزالة عبء الإثبات وتقليل تعرض الناجيات للوصم”.
وتطرق البيان إلى أن من شأن فرض رفع دعاوى جنائية على الناجيات قد لا يتماشى مع قدرة الضحايا على ، وقد يتسبب في “وصمة العار والتعرض مجددًا لصدمة، ويؤخر أو حتى يعيق الوصول إلى تعويض كافٍ وسريع وفعال. لهذه الأسباب، لا نشجع مطلقًا على مطالبة الناجيات بتقديم شكاوى جنائية كوسيلة لإثبات الأهلية للتعويض.”
وتماشياً مع ما جاء في البيان، يرى المحامي محمد جمعة، أنه بالإمكان الاستغناء عن تقديم شكوى جنائية التي تحتاج الى جهد وتكاليف مالية قد لا تتمكن الناجية من تحملها، ويعتقد أنه من الأفضل إبدالها بإجراءات تحقيقية أخرى ولا سيما أن قانون الاثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979 يحتوي على العديد من طرق اثبات وقوع الضرر ” التي لم يتطرق قانون الناجيات رقم 8 إلى أي منها” يقول المحامي بأسف.
(مسرة، أسم مستعار 34 سنة)، ناجية من مدينة تلعفر، عادت سنة 2017 إلى المدينة بعد نحو سنة قضتها في سوريا زوجة لعنصر من داعش قتل في إحدى المعارك هناك، لكنها لم تستطيع المكوث طويلاً في المدينة بسبب عيون الأهالي التي كانت تنظر إليها بريبة، حسبما تقول.
ولهذا لجأت هي وأمها إلى بلدة في شرق مدينة الموصل ليعيشها عند خالة لها، لكن ذلك ليس ختاماً للمأساة التي عاشتها، إذ أن لديها طفلاً رضيعاً اودعته لدى عائلة في سوريا، ولم تأخذه إلى العراق لدى عودتها خشية على سلامته من أقربائها.
وما حدث انها حاولت مراراً التواصل مع تلك العائلة، لكنها لم تتمكن من ذلك، فقد انتقلوا من من البلدة التي كانوا فيها، ورقم الهاتف الذي اعطوه إليها لم يعد مستخدماً، تقول بحرقة: “بعهم أخبرني انهم ربما يكونون في مخيم الهول أو في منطقة يسيطر عليها الأكراد، وآخرون قالوا بأنهم قتلوا خلال الحرب”.
تمتلئ عيناها بالدموع وهي تضع يدها ناحية قلبها: “لم يكن علي العودة بدونه أبدا، توجب علي البقاءُ مثلما فعلت تركمانيات غيري، بسبب أطفالهن، انهن أفضل مني!”.
المصدر.. الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية "نيريج"
المصدر: وكالة بغداد اليوم
كلمات دلالية: تنظیم داعش عناصر داعش الحدیث عن إلى أن ما حدث غیر أن من قبل
إقرأ أيضاً:
مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!
من وحي الكلمات الثلاث (وحدة، حرية، اشتراكية) ومقولة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» صعد الخطاب البعثي تدريجيًا أواخر أربعينيات القرن الماضي، بعد عام تقريبًا من الاستقلال الرسمي لسوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946. كانت النواة الفكرية الأولى لحزب البعث قد بدأت مع طالبين سوريين التقيا في جامعة السوربون الفرنسية، وهما ميشيل عفلق، المسيحي الأرثوذكسي، ورفيقه صلاح الدين البيطار، المسلم السني، قبل أن ينضم لهما شاب آخر من أصول علوية هو زكي الأرسوزي، العائد هو الآخر من دراسة الفلسفة في الجامعة الفرنسية نفسها. وبعد فترة قصيرة، عام 1954، سيندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الاندماج الذي أفضى إلى الصيغة اللغوية النهائية التي سيواصل بها البعث تبشيره الأيديولوجي باسم «حزب البعث العربي الاشتراكي».
بلوّر منظرو الحزب لغةً جديدةً كانت مزيجًا من القومية والاشتراكية والوحدة العربية ومعاداة الاستعمار، رغم أن الكثير من ذلك «التنظير» سيبدو بعد الفحص المتأني أقرب إلى لغة الأدب والشعارات التعبوية من الكلام في الفلسفة والسياسة والتاريخ. تلفتني مثلًا سطور بعينها من كتابه «في سبيل البعث» والذي عبَّر فيه ميشيل عفلق عن خلاصة أفكاره على مدى أربعة عقود حول ماهية القومية والاشتراكية العربية المنشودة إلى جانب آرائه في قضايا أخرى كالموقف من التراث والدين ومعنى الأمة. وضع عفلق أول نصوص مؤلَّفه خلال سنوات الغليان الحزبي منتصف الثلاثينيات واستمر بتأليف فصوله إلى نهاية حياته، حتى طُبع الكتاب في خمسة أجزاء بعد وفاته عام 1989، ليكون أهم وثيقة مرجعية لتتبع أصول حزب البعث وأدبياته. هذه السطور التي أتناولها -على سبيل المثال لا أكثر- تمهد للتصور البعثي عن مفهوم القومية، وفيها يحاول الأستاذ الإجابة عن تساؤل طلابه المستمر حول تعريف القومية التي ينادي بها، فيقول: «هي حب قبل كل شيء. هي العاطفة نفسها التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تُفعم القلب فرحًا وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو أن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ أن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه إلى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة». (الجزء الخامس، ص 133: القومية حب قبل كل شيء).
الإنشائية الفاقعة في هذا النموذج، والرومانسية المفرطة في وصف القومية بأنها «حب قبل كل شيء»، كلها قرائن لا تفتأ تذكرنا بأن «فيلسوف» البعث كان قد بدأ علاقته مع الكتابة بمحاولات شعرية متعثرة تتوسل كتابة قصائد رومنطيقية، كما يشير إلى ذلك حازم صاغية في كتابه «البعث السوري.. تاريخ موجز» مستشهدًا بمقولة تنسب لزكي الأرسوزي عن رفيقه، عفلق، الذي لم تكن العلاقة معه وديةً في معظم الأحيان: «خسره الأدب فيما ابتُليت به السياسة».
كلمة «البعث» نفسها تنم عن فكر مسكون بالنظريات القيامية الحالمة، ولكن في سياق تبشيري على منوال كلمات مثل «الإحياء» و«النهضة» التي استنفدت معانيها النخب السياسية في مرحلة ما قبل الاستقلال خلال القرن التاسع عشر. ثمة هوس واضح بالكلمات الكبيرة عند البعثيين عمومًا، وتعميم هذه الملاحظة على سائر البعثيين لا يشوبه ظلم في نظري، بل يبدو منصفًا إلى حد بعيد. غير أن الممارسة السياسية، عبر السلطة ومن أجلها وخلالها، سرعان ما حولت هذه اللغة الجديدة إلى ألفاظ جوفاء. الكلمات الكبيرة تفسّخت على ألسنة خطباء البعث حتى صارت شعارات للتعبئة ومطايا للضبّاط الواثبين إلى السلطة في بغداد والشام.
في فبراير من عام 1958 نجح بعض الضباط البعثيين المتحمسين في الدفع بمشروع الوحدة مع مصر الناصرية. وكانت «الوحدة» هي الكلمة السحرية التي اعتبرها البعثيون مقدمةً لتوابعها: الحرية ثم الاشتراكية وصولًا إلى الحُلم .. وهو «البعث» وفقًا لعفلق ورفاقه. لكن الخلاف كان حول صيغة الوحدة مع مصر؛ أرادها بعض العقلانيين أو المترددين اتحادًا، بينما أصر الآخرون على وحدة فورية اندماجية رغم اقتراح المصريين تأجيلها لخمس سنوات. يُذكر أن المقدم البعثي أمين الحافظ وقف يومها أمام جمال عبدالناصر وخاطبه قائلًا: «بيننا وبينكم حائط يجب أن نهدمه الساعة. لماذا الاتحاد؟! لتكن وحدة». وكما هو معلوم، لم يدم حلم الوحدة البعثي الناصري طويلًا، إذ سرعان ما أطيح به في دمشق بانقلاب عسكري في 28 سبتمبر 1961. ولم يبق للمصريين منه سوى اسم «الجمهورية العربية المتحدة» الذي نُعي به جمال عبدالناصر يوم رحيله، قبل أن يعلن السادات لاحقًا عن تغيير الاسم عام 1971.
مأساة الكلمات الكبيرة، وربما نفاقها، تتجلى أكثر في العلاقة التي توترت حد العداء بين نسختي البعث، العراقية والسورية. نفس الأيديولوجيا، والمعجم اللغوي نفسه تقريبًا، والشعارات والأناشيد الحزبية هي ذاتها التي هتف بها التلاميذ الصغار في المدارس السورية والعراقية على مدى عقود، لكن الصراع بين النظام الأسدي في سوريا والنظام الصدَّامي في العراق بدد أي معنى لكلمة الوحدة، وكانت الفضيحة الكبرى في سجل هذه الأيديولوجيا؛ فقد بلغ الصراع أوجه مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، حينما حالف حافظ الأسد الخميني، عدو صدَّام اللدود، وانقشع الضباب عن زيف الكلام.
للشعارات التي تُقال على المنابر استحقاقاتها الصارمة التي لا بدَّ أن تحين يومًا ما، وللقول كلفته على القائل، والتاريخ هو المختبر الحقيقي لجدارة النظريات والنصوص المزخرفة. عبرتنا من الأنظمة العربية الشمولية التي شهدنا انهيارها المتتابع في تاريخنا السياسي المعاصر، والتي تكشَّفت عن نماذج ممسوخة للفاشيات الأوروبية في القرن العشرين، شكلًا ومضمونًا، أنها اتسمت كلها، دون استثناء، بالمبالغة في الخطاب والفوقية والتشدق بأعدل القضايا، دون أن تتعلم من مصائر بعضها البعض؛ فلم تتورع عن إغواء المبالغات اللغوية ومغبتها، ولم تتقن التواضع في التعامل مع اللغة. فأولئك الرجال الطامحون الذين خرجوا من ثكنات الضباط إلى منابر السياسة، والذين ظلوا يتعثرون في النحو والصرف على الملأ من غير أن يجرؤ أحد على تصحيح لغتهم، لم يتقنوا إلا النفخ في تلك الكلمات الكبيرة حتى استنزفوا معانيها.. ننسى أحيانًا أن «فلسطين» كانت من بين تلك الكلمات التي استهلكوها! لقد قتلهم فقرهم للبلاغة التي تنتج عن مقاربة «معقولة» بين الواقع والخيال، فاستعاضوا عن البلاغة بالمبالغة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني