في محراب عبد العزيز حسين الصاوي – نحو مجتمع ديمقراطي
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
24 أكتوبر 2024
محمد الشابك
mohamedelshabik@gmail.com
تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل مفكر الاستنارة وصاحب ثنائية التعليم والمجتمع المدني من أجل ديمقراطية مستدامة – محمد بشير أحمد ، المعروف باسم عبد العزيز حسين الصاوي. كان رجلاً عالي الهمة ، غزير الإنتاج ، غني الفكرة ، جريئاً في الرأي بلا حدة، واسع التجربة بلا غرور، ومهموماً بقضايا الوطن وناشداً للاستنارة والديمقراطية.
في ديسمبر عام 2014، كانت المرة الأولى التي التقيه فيها بعد عدة أشهر من المراسلات الإلكترونية / وكان ذلك في منزله في حي الختمية في بحري والذي أخبرني أنه يفر اليه في شهري ديسمبر ويناير كل عام هرباً من صقيع لندن. كنت قبلها لسنين طويلة أقرأ مقالاته الفكرية بإعجاب، وقد أصبحت جزءاً من روتيني البحثي. في تلك الفترة، كنت منهمكاً في إعداد بحث حول دور المجتمع المدني في التحول الديمقراطي في ظل الحكم الديكتاتوري بالسودان، والذي أسميته لاحقاً The Quest for Democracy; the Role of Social Activism in Democratization in Sudan's Authoritarian Context، وكنت قد تواصلت معه بعد اقتنائي اثنين من كتبه الجديدة حينها "الديمقراطية المستحيلة" و "ديمقراطية بلا استنارة" من دار عزة في الخرطوم.
حين تلقيت هذين الكتابين، شعرت كالباحث الذي وجد أخيراً الضوء الذي ينير له طريق بحث. تحدثت معه أثناء اللقاء بإسهاب عن فكره حول دور التعليم والمجتمع المدني في تحقيق التحول الديمقراطي. أهداني العديد من الأوراق الفكرية، وأرشدني إلى مجموعة من المراجع التي ساعدتني في إثراء بحثي، وأضافني في مجموعته البريدية المتميزة "نحو مجتمع مثقفين"، حيث كانت تلك المجموعة منصة غنية بالنقاشات ومقالاته الفكرية العميقة.
كان الصاوي مشغولاً بفكرة الاستنارة، وكان يؤمن بأن رفع الوعي من خلال التعليم وتفعيل دور المجتمع المدني هو السبيل الوحيد لتحقيق ديمقراطية مستدامة في السودان. كان يرى أن استدامة النظام الديمقراطي تعتمد بشكل أساسي على وعي الفرد بقيمة الديمقراطية من خلال التحرر العقلي والانفتاح الفكري. ولهذا فإن إصلاح النظام التعليمي هو المفتاح الرئيسي لاستدامة الديمقراطية في السودان، لاسيما عندما يرتبط هذا الإصلاح بدور فعَّال للمجتمع المدني كبيئة ممارسة حقيقية للديمقراطية، مما يُعزز ثقافتها في المجتمع.
بالنسبة للصاوي، فإن المجتمع المدني يجب أن يكون بيئة ممارسة حقيقية للديمقراطية، إذ أن الحياة الحزبية في السودان كانت وما زالت متأثرة بفترات الحكم الديكتاتوري الطويلة، مما أدى إلى تآكل قدرتها على أن تكون قاطرة للتحول الديمقراطي. ولذلك، رأى أن دور المجتمع المدني يجب أن يكون محورياً في نشر ثقافة الديمقراطية، وتعزيز وعي الأفراد بحقوقهم وواجباتهم.
لقد أشار الصاوي مرارًا إلى أن السودان كان على وشك الدخول في عصر من التنوير والحداثة منذ عشرينيات القرن الماضي بفضل تأثير المستعمر وسياسات الانفتاح التي انتهجها. كتب كثيرًا عن معاوية محمد نور، أحد رواد الاستنارة السودانية، وأشاد بدوره الريادي في الانفتاح النقدي على التجربة الغربية. إلا أن الصاوي كان يرى أن هذا التنوير تباطأ بعد الاستقلال بفعل الانقلابات العسكرية والحكم الشمولي، وأنه توقف تمامًا بعد انقلاب عام 1989، عندما دخل السودان في حقبة مظلمة بفعل سيطرة جماعة الإخوان المسلمين ودخول السودان في أسوأ عهوده وأكثرها ظلامية منذ الاستقلال ، والتي تسببت في إغلاق الفضاء الثقافي والفكري لعقود.
كانت ثورة ديسمبر بمبادئها وشعاراتها بمثابة فرصة تاريخية لتجديد مشروع التنوير السوداني، حيث أتاحت التكنولوجيا والانفتاح على العالم الخارجي فرصًا جديدة للشباب السوداني، وبسبب طبيعة القوى التي شاركت فيها وألهبتها حين تميزت بالقيادات الشبابية وبمشاركة نوعية للنساء لم تتوفر في سابقتيها (ثورة أكتوبر 64 وأبريل 85) وبابتكارات في أشكال التعبير، مثل الجداريات التي زينت ساحة الاعتصام. في نظر الصاوي، كانت هذه الثورة فرصة لبناء وعي ديمقراطي جديد، شبيه بما مرت به أوروبا الغربية في عصر التنوير، الذي أسس دعائم الديمقراطية بتحرير الإنسان من سطوة الموروثات الثقافية والاجتماعية.
ففي عهد التنوير الأوروبي وطدت أوروبا الغربية دعائم النظام الديموقراطي عبر مخاض عصر التنوير بتحرير الانسان من وطأة الموروثات الثقافية والاجتماعية وسيطرة الكنيسة المطلقة على الحياة المدنية. وربما تكون أفكار الصاوي مستمدة من كثرة اطلاعه وثقافته الهائلة ولكن الأهم هو تطور تجربته الشخصية وتطورها بالممارسة والتجارب ، فالرجل الذي كان من مؤسسي حزب البعث العربي في السودان تدرج في تفكيره من ضيق الفكر العقائدي القومي إلى محاولة سودنة الحزب والانفتاح الليبرالي ، متحولاً ومنحازاً إلى تبني الفكر الديمقراطي.
وتُظهر النظريات الديمقراطية الحديثة توافقاً إلى ما كان يدعو له الصاوي ، وهو أن المجتمع المدني النابض بالحياة ضروري لاستدامة الديمقراطية. يشير الباحثون إلى أن الدول التي تتمتع بشبكة قوية من المجتمعات المدنية تكون أكثر قدرة على الحفاظ على نظمها الديمقراطية، حيث توفر هذه المجتمعات منصات للتعبير عن الرأي وتقديم البدائل وانتقاد سياسات الحكومة والمشاركة في المقاومة ضد الحكم الشمولي.
وفي مجال التعليم، فلا شك بأن نظام الإنقاذ كرّس جهوده لتغييب العقل السوداني، سواء عبر الخطاب الديني المتطرف أو من خلال تفريغ التعليم من مضمونه الحقيقي. فقد استبدلت فلسفة التفكير النقدي والإبداع بتعليم شكلي يُركز على تحصيل الدرجات، مما أدى إلى تخرج آلاف الطلاب إلى معسكرات الخدمة الإلزامية حيث تم استغلال العقيدة الإسلامية في تجريف العقول على مدار ثلاثة عقود. كان الصاوي يرى أن بناء الديمقراطية المستدامة لن يتحقق إلا بإصلاح شامل للنظام التعليمي، بحيث يعزز الانفتاح وملكة التفكير النقدي لدى الأجيال الصاعدة.
ومع بداية انهيار نظام الإنقاذ في 2019، حذر الصاوي من أن إسقاط النظام وحده ليس كافياً. شدد على ضرورة الاستفادة من دروس الماضي، وخاصة فشل ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 في تحقيق تحولات ديمقراطية مستدامة. ودعا إلى تهيئة المجتمع المدني ليكون شريكاً فعلياً في بناء الدولة الجديدة. كما حذر من ضياع الفرصة التاريخية التي قدمتها ثورة ديسمبر، وشدد على أن الحل يكمن في رفع الوعي والاستنارة لدى الشعب، بحيث يصبح المجتمع مهيأً بشكل كامل لدعم الديمقراطية.
التقيته للمرة الأخيرة في يناير 2020، خلال لقاء في لندن وكنت حينها متحدثا في لقاء تنويري استضافه تحالف القوى السياسية عن تطورات وخطط الحكومة الانتقالية ، وقد حدثني حينها بروح ملؤها الحكمة والخبرة. كان حديثه مشفقًا، إذ رأى حماس الثورة والتفاؤل في وجوه من حضروا الندوة ولكنه حذرني من التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي. حاول أن يكون متزناً وذكرني بموضوع بحثي وبأهمية تهيئة المجتمع المدني ليقوم بدوره في انفاذ التحول والسير في طريق الديمقراطية. ذكرني على المدى القصير العاجل إلى ضرورة تعديل قانون العمل التطوعي لعام 2006 بما يمّكن المجتمع المدني من حرية العمل ، وشدد على أهمية ان تكون الهيئات التعليمية جزء من التحول وأن أكون صوتاً مناصراً من داخل الحكومة في هذا الشأن.
الدعوة إلى إحياء فكر الصاوي
أدرك الصاوي أن أي استراتيجية سياسية مستقبلية ستكون محكومة بالفشل ما لم تُرسّخ في المجتمع من خلال نشر قيم الحداثة والاستنارة. كان يؤمن بأن تهيئة المجتمع ثقافياً وفكرياً هو مفتاح النجاح لأي مشروع ديمقراطي في السودان. ومع تدهور الوضع الراهن في السودان بسبب الحرب والصراعات الإثنية، أصبحت أفكار الصاوي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالمجتمع السوداني بحاجة ماسة إلى توحيد الصفوف والتفكير في طرق مبتكرة للخروج من الأزمة الراهنة، وعلى مجتمعات المثقفين السودانيين ومجموعات المجتمع المدني المختلفة والمؤمنة بالتحول الديمقراطي دور كبير في الدعوة إلى وقف الحرب ونشر قيم الاستنارة والديمقراطية.
أدعو زملاء وأصدقاء عبد العزيز حسين الصاوي إلى إحياء فكره من خلال تأسيس "مركز عبد العزيز حسين الصاوي للديمقراطية والاستنارة". قد تكون الخطوة الأولى هي إحياء مجموعته البريدية المتميزة وتنشيطها لإحياء ذكراه وتبادل الأفكار حول إرثه الفكري. ففي ظل الظروف الراهنة، يتعين على المفكرين والديمقراطيين التفكير بطرق مبتكرة لوقف الحرب والتخطيط لعهد جديد من الاستنارة والوعي في السودان.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی المجتمع المدنی فی السودان من خلال
إقرأ أيضاً:
ورشة عمل حول دور المجتمع المدني في تعزيز الأمن الانتخابي
نظمت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالشراكة مع وزارتي الداخلية والشباب والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، ومنظمات المجتمع المدني، ورشة عمل حول دور المجتمع المدني في تعزيز الأمن الانتخابي.
وبحسب ما أفادت البعثة الأممية عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، فإن المشاركة الفعالة لمنظمات المجتمع المدني من جميع أنحاء ليبيا، بما في ذلك الكشافة والنساء والشباب، تسهم في التأكيد على ضرورة ضمان نزاهة العملية الانتخابية، ورفع وعي الناخبين وتثقيفهم، وبناء القدرات لدى الأطراف الرئيسية المعنية، فضلا عن تعزيز المشاركة الواسعة في بيئة آمنة لانتخابات شفافة وذات مصداقية في ليبيا.
بدورها أوضحت مفوضية الانتخابات أن الورشة التي تستمر ليومين تستهدف ممثلين عن وزارة الشباب وعن الحركة الكشفية وعددا من منظمات المجتمع المدني والنشطاء المدنيين.
وتهدف الورشة إلى خلق رؤية واضحة للتنسيق في سبيل نشر الوعي بمفهوم الأمن الانتخابي والدور الذي يلعبه رجل الأمن أثناء تنفيذ العملية الانتخابية.
وستركز الورشة في يومها الثاني على محاكاة للإجراءت الأمنية أثناء تنفيذ العملية الانتخابية.