24 أكتوبر 2024

محمد الشابك

mohamedelshabik@gmail.com

تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل مفكر الاستنارة وصاحب ثنائية التعليم والمجتمع المدني من أجل ديمقراطية مستدامة – محمد بشير أحمد ، المعروف باسم عبد العزيز حسين الصاوي. كان رجلاً عالي الهمة ، غزير الإنتاج ، غني الفكرة ، جريئاً في الرأي بلا حدة، واسع التجربة بلا غرور، ومهموماً بقضايا الوطن وناشداً للاستنارة والديمقراطية.

كانت ولا زالت كتاباته بالنسبة لي أشبه بواحة فكرية ألجأ إليها كلما أثقلني التفكير أو التبست علي الأمور، فكثيراً ما عدت لمراسلاتي معه أو لكتبه أو لمقالاته المنشورة في المجموعة البريدية "نحو مجتمع مثقفين" الملهمة التي تضمنت كثيراً من الحكمة والبصيرة.
في ديسمبر عام 2014، كانت المرة الأولى التي التقيه فيها بعد عدة أشهر من المراسلات الإلكترونية / وكان ذلك في منزله في حي الختمية في بحري والذي أخبرني أنه يفر اليه في شهري ديسمبر ويناير كل عام هرباً من صقيع لندن. كنت قبلها لسنين طويلة أقرأ مقالاته الفكرية بإعجاب، وقد أصبحت جزءاً من روتيني البحثي. في تلك الفترة، كنت منهمكاً في إعداد بحث حول دور المجتمع المدني في التحول الديمقراطي في ظل الحكم الديكتاتوري بالسودان، والذي أسميته لاحقاً The Quest for Democracy; the Role of Social Activism in Democratization in Sudan's Authoritarian Context، وكنت قد تواصلت معه بعد اقتنائي اثنين من كتبه الجديدة حينها "الديمقراطية المستحيلة" و "ديمقراطية بلا استنارة" من دار عزة في الخرطوم.
حين تلقيت هذين الكتابين، شعرت كالباحث الذي وجد أخيراً الضوء الذي ينير له طريق بحث. تحدثت معه أثناء اللقاء بإسهاب عن فكره حول دور التعليم والمجتمع المدني في تحقيق التحول الديمقراطي. أهداني العديد من الأوراق الفكرية، وأرشدني إلى مجموعة من المراجع التي ساعدتني في إثراء بحثي، وأضافني في مجموعته البريدية المتميزة "نحو مجتمع مثقفين"، حيث كانت تلك المجموعة منصة غنية بالنقاشات ومقالاته الفكرية العميقة.
كان الصاوي مشغولاً بفكرة الاستنارة، وكان يؤمن بأن رفع الوعي من خلال التعليم وتفعيل دور المجتمع المدني هو السبيل الوحيد لتحقيق ديمقراطية مستدامة في السودان. كان يرى أن استدامة النظام الديمقراطي تعتمد بشكل أساسي على وعي الفرد بقيمة الديمقراطية من خلال التحرر العقلي والانفتاح الفكري. ولهذا فإن إصلاح النظام التعليمي هو المفتاح الرئيسي لاستدامة الديمقراطية في السودان، لاسيما عندما يرتبط هذا الإصلاح بدور فعَّال للمجتمع المدني كبيئة ممارسة حقيقية للديمقراطية، مما يُعزز ثقافتها في المجتمع.
بالنسبة للصاوي، فإن المجتمع المدني يجب أن يكون بيئة ممارسة حقيقية للديمقراطية، إذ أن الحياة الحزبية في السودان كانت وما زالت متأثرة بفترات الحكم الديكتاتوري الطويلة، مما أدى إلى تآكل قدرتها على أن تكون قاطرة للتحول الديمقراطي. ولذلك، رأى أن دور المجتمع المدني يجب أن يكون محورياً في نشر ثقافة الديمقراطية، وتعزيز وعي الأفراد بحقوقهم وواجباتهم.
لقد أشار الصاوي مرارًا إلى أن السودان كان على وشك الدخول في عصر من التنوير والحداثة منذ عشرينيات القرن الماضي بفضل تأثير المستعمر وسياسات الانفتاح التي انتهجها. كتب كثيرًا عن معاوية محمد نور، أحد رواد الاستنارة السودانية، وأشاد بدوره الريادي في الانفتاح النقدي على التجربة الغربية. إلا أن الصاوي كان يرى أن هذا التنوير تباطأ بعد الاستقلال بفعل الانقلابات العسكرية والحكم الشمولي، وأنه توقف تمامًا بعد انقلاب عام 1989، عندما دخل السودان في حقبة مظلمة بفعل سيطرة جماعة الإخوان المسلمين ودخول السودان في أسوأ عهوده وأكثرها ظلامية منذ الاستقلال ، والتي تسببت في إغلاق الفضاء الثقافي والفكري لعقود.
كانت ثورة ديسمبر بمبادئها وشعاراتها بمثابة فرصة تاريخية لتجديد مشروع التنوير السوداني، حيث أتاحت التكنولوجيا والانفتاح على العالم الخارجي فرصًا جديدة للشباب السوداني، وبسبب طبيعة القوى التي شاركت فيها وألهبتها حين تميزت بالقيادات الشبابية وبمشاركة نوعية للنساء لم تتوفر في سابقتيها (ثورة أكتوبر 64 وأبريل 85) وبابتكارات في أشكال التعبير، مثل الجداريات التي زينت ساحة الاعتصام. في نظر الصاوي، كانت هذه الثورة فرصة لبناء وعي ديمقراطي جديد، شبيه بما مرت به أوروبا الغربية في عصر التنوير، الذي أسس دعائم الديمقراطية بتحرير الإنسان من سطوة الموروثات الثقافية والاجتماعية.
ففي عهد التنوير الأوروبي وطدت أوروبا الغربية دعائم النظام الديموقراطي عبر مخاض عصر التنوير بتحرير الانسان من وطأة الموروثات الثقافية والاجتماعية وسيطرة الكنيسة المطلقة على الحياة المدنية. وربما تكون أفكار الصاوي مستمدة من كثرة اطلاعه وثقافته الهائلة ولكن الأهم هو تطور تجربته الشخصية وتطورها بالممارسة والتجارب ، فالرجل الذي كان من مؤسسي حزب البعث العربي في السودان تدرج في تفكيره من ضيق الفكر العقائدي القومي إلى محاولة سودنة الحزب والانفتاح الليبرالي ، متحولاً ومنحازاً إلى تبني الفكر الديمقراطي.
وتُظهر النظريات الديمقراطية الحديثة توافقاً إلى ما كان يدعو له الصاوي ، وهو أن المجتمع المدني النابض بالحياة ضروري لاستدامة الديمقراطية. يشير الباحثون إلى أن الدول التي تتمتع بشبكة قوية من المجتمعات المدنية تكون أكثر قدرة على الحفاظ على نظمها الديمقراطية، حيث توفر هذه المجتمعات منصات للتعبير عن الرأي وتقديم البدائل وانتقاد سياسات الحكومة والمشاركة في المقاومة ضد الحكم الشمولي.
وفي مجال التعليم، فلا شك بأن نظام الإنقاذ كرّس جهوده لتغييب العقل السوداني، سواء عبر الخطاب الديني المتطرف أو من خلال تفريغ التعليم من مضمونه الحقيقي. فقد استبدلت فلسفة التفكير النقدي والإبداع بتعليم شكلي يُركز على تحصيل الدرجات، مما أدى إلى تخرج آلاف الطلاب إلى معسكرات الخدمة الإلزامية حيث تم استغلال العقيدة الإسلامية في تجريف العقول على مدار ثلاثة عقود. كان الصاوي يرى أن بناء الديمقراطية المستدامة لن يتحقق إلا بإصلاح شامل للنظام التعليمي، بحيث يعزز الانفتاح وملكة التفكير النقدي لدى الأجيال الصاعدة.
ومع بداية انهيار نظام الإنقاذ في 2019، حذر الصاوي من أن إسقاط النظام وحده ليس كافياً. شدد على ضرورة الاستفادة من دروس الماضي، وخاصة فشل ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 في تحقيق تحولات ديمقراطية مستدامة. ودعا إلى تهيئة المجتمع المدني ليكون شريكاً فعلياً في بناء الدولة الجديدة. كما حذر من ضياع الفرصة التاريخية التي قدمتها ثورة ديسمبر، وشدد على أن الحل يكمن في رفع الوعي والاستنارة لدى الشعب، بحيث يصبح المجتمع مهيأً بشكل كامل لدعم الديمقراطية.
التقيته للمرة الأخيرة في يناير 2020، خلال لقاء في لندن وكنت حينها متحدثا في لقاء تنويري استضافه تحالف القوى السياسية عن تطورات وخطط الحكومة الانتقالية ، وقد حدثني حينها بروح ملؤها الحكمة والخبرة. كان حديثه مشفقًا، إذ رأى حماس الثورة والتفاؤل في وجوه من حضروا الندوة ولكنه حذرني من التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي. حاول أن يكون متزناً وذكرني بموضوع بحثي وبأهمية تهيئة المجتمع المدني ليقوم بدوره في انفاذ التحول والسير في طريق الديمقراطية. ذكرني على المدى القصير العاجل إلى ضرورة تعديل قانون العمل التطوعي لعام 2006 بما يمّكن المجتمع المدني من حرية العمل ، وشدد على أهمية ان تكون الهيئات التعليمية جزء من التحول وأن أكون صوتاً مناصراً من داخل الحكومة في هذا الشأن.
الدعوة إلى إحياء فكر الصاوي
أدرك الصاوي أن أي استراتيجية سياسية مستقبلية ستكون محكومة بالفشل ما لم تُرسّخ في المجتمع من خلال نشر قيم الحداثة والاستنارة. كان يؤمن بأن تهيئة المجتمع ثقافياً وفكرياً هو مفتاح النجاح لأي مشروع ديمقراطي في السودان. ومع تدهور الوضع الراهن في السودان بسبب الحرب والصراعات الإثنية، أصبحت أفكار الصاوي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالمجتمع السوداني بحاجة ماسة إلى توحيد الصفوف والتفكير في طرق مبتكرة للخروج من الأزمة الراهنة، وعلى مجتمعات المثقفين السودانيين ومجموعات المجتمع المدني المختلفة والمؤمنة بالتحول الديمقراطي دور كبير في الدعوة إلى وقف الحرب ونشر قيم الاستنارة والديمقراطية.
أدعو زملاء وأصدقاء عبد العزيز حسين الصاوي إلى إحياء فكره من خلال تأسيس "مركز عبد العزيز حسين الصاوي للديمقراطية والاستنارة". قد تكون الخطوة الأولى هي إحياء مجموعته البريدية المتميزة وتنشيطها لإحياء ذكراه وتبادل الأفكار حول إرثه الفكري. ففي ظل الظروف الراهنة، يتعين على المفكرين والديمقراطيين التفكير بطرق مبتكرة لوقف الحرب والتخطيط لعهد جديد من الاستنارة والوعي في السودان.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی المجتمع المدنی فی السودان من خلال

إقرأ أيضاً:

قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي

يمانيون ـ كامل المعمري

بمراجعة الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية على الأقل خلال العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ الخمسينيات نجد أن مشروعًا واحدًا، بتفرده وبنائه العميق، قد خرج من الركام كحالة استثنائية، لا تشبه في تكوينها ولا في مسارها أي مشروع آخر، إنه المشروع الذي انطلق من أعماق جبال مرّان، في محافظة صعدة شمالي اليمن، لكن حاملًا رؤية قرآنية عادت من جديد، متجاوزةً للإطار التقليدي الذي حدّدته أيديولوجيات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

لقد كان العام 2003 نقطة تحول فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الهيمنة الأمريكية تخترق العالم العربي والإسلامي تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، خرج الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي برؤية قرآنية حادة الملامح وواضحة المقاصد، تقلب المعادلة.

رفع شعارًا أدهش الجميع بجرأته وبساطته في آن واحد: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لم يكن هذا الشعار مُجَـرّد صياغة خطابية، بل كان إعلانًا عن مسار سياسي وثقافي جديد، يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان اليمني وإحياء روحه النضالية المفقودة في ظل سنوات من التبعية والضياع السياسي.

 

مميزات المشروع القرآني:

ما يميِّزُ المشروعُ القرآني منذ انطلاقته، أنه لم يكن مُجَـرّد رد فعل محلي على أزمة سياسية أَو اجتماعية داخلية، بل كان جزءًا من رؤية أوسعَ تستهدف إعادة توجيه بُوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة: الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، كانت هذه الرؤية ضرورية في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتداخلت فيه التحالفات بين أنظمة عربية خاضعة تمامًا للإملاءات الأمريكية وأُخرى غارقة في مستنقع التطبيع مع “إسرائيل”.

جاء المشروع القرآني ليعيد صياغة وعي الفرد والجماعة، متجاوزًا حدود الجغرافيا اليمنية، ليطرح نفسه كبديلٍ حضاري شامل للأُمَّـة العربية والإسلامية، هذه الرؤية لم تكن معزولةً عن الواقع، بل كانت استجابة واعية للمخاطر التي بدأت تلوح في الأفق مع احتلال العراق وتفكيك بنية الدولة الفلسطينية ومحاولة الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة.

منذ البداية، أدرك أنصار هذا المشروعِ أن معركتهم ليست ظرفية، بل وجودية لذلك، كانت المواجهة مع النظام السابق تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى حرب قيم ومعانٍ، فبينما كان النظامُ اليمني السابق يسعى بكل أدواته إلى إخضاع المشروع، مدفوعًا بإملاءات أمريكية وسعوديّة، كان هذا المشروع يزداد صلابة، مستمدًا قوته من رؤية إيمانية جعلت من التضحية عنوانًا للصمود.

لقد أرادت أمريكا أن تقضيَ على هذا المشروع في بداياته الأولى وذلك عبر دعم النظام الذي شن حربًا ظالمة عام 2004 انتهت تلك الحملات العسكرية الكبيرة باستشهاد القائد المؤسّس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أراد أن يقدم للأُمَّـة تجربة يمنية في إطار المشروع القرآني، وباستشهاده ظلت فكرة المشروع حية في قلوب ثلة من المؤمنين الذين واصلوا تحمُّل المسؤولية تحت قيادة السيد العلم القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله”.

لقد خاض النظام السابقُ سِتَّ حروب متتالية ضد هذا المشروع حتى نهاية عام2009، حَيثُ استُخدمت كُـلُّ أدوات القمع والتدمير لإخماد هذه الحركة في مهدها، لكن وكما يحدث دائمًا مع الحركات ذات الطابع القرآني، كانت كُـلّ ضربة توجّـه إليها سببًا في اتساعها وانتشارها.

 

الثورة التحرّرية تزيدُ قوة وصلابة التحَرّك:

جاءت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014 كتتويج لمسار طويل من الصمود والمقاومة، ومثلت الثورة لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، حَيثُ بدأت مرحلة الخروج من التبعية الكاملة للوصاية السعوديّة والأمريكية، حينها أدركت القوى الكبرى أن المشروع القرآني لم يعد مُجَـرّد تهديد سياسي أَو عسكري، بل تحول إلى نموذج يلهم الشعوب الأُخرى في المنطقة.

شن التحالف بقيادة السعوديّة، والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمشاركة 17 دولة حربًا عدوانية على اليمن في مارس 2015، استهدفت كُـلّ مقومات الحياة تجاوزت الحرب 350 ألف غارة جوية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يشهد له اليمن مثيلًا في تاريخه الحديث وحصاراً خانقاً، لكن وعلى الرغم من وحشية العدوان، الذي استمر لقرابة عشر سنوات، خرج الشعب اليمني من هذه الحرب أكثر صلابة وإصراراً على التمسك بمشروعه.

كان سر هذا الصمود يكمن في قدرة المشروع القرآني على توظيف كُـلّ التحديات كأدَاة لبناء وعي جديد، يجعل من المعاناة وقودًا للصمود ومن التضحيات أَسَاسًا للنصر.

وما يجعل هذا المشروع حالة استثنائية هو شموليته، فهو ليس مشروعاً سياسيًّا محدودًا بظرف أَو مرحلة، بل هو رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الواعي بمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته.

كما أن الثقافة القرآنية التي يقوم عليها المشروع ليست مُجَـرّد شعارات أَو نصوص نظرية، بل هي أدَاة لإعادة تشكيل القيم والسلوكيات، بما يتناسب مع التحديات الراهنة.

إن هذه الرؤية هي التي مكنت الشعب اليمني من تحويل الحرب إلى فرصة للنهوض، فبينما كان العالم يتوقع انهيار اليمن تحت وطأة الحصار والعدوان، ظهر الجيش اليمني كقوة تمتلك رؤية واستراتيجية، قادرةً على تغيير المعادلات، وكانت الرؤية القرآنية بمثابة خارطة طريق لإعادة توجيه بوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة، بعيدًا عن التبعية والانهزامية التي سيطرت على الكثير من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية.

 

التجربة اليمنية في إطار المشروع القرآني:

وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حَيثُ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على أوجها، وحيثُ الأنظمة العربية تتهاوى واحدة تلو الأُخرى في مستنقعات التطبيع أَو التبعية، كان المشروع القرآني كحالة استثنائية غير مؤطرة، هذا المشروع الذي تعرض حاملوه لأبشع أنواع الحروب في العصر الحديث حاضراً وبقوة في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا؛ ليخوض مواجهة مباشرة مع أعداء الأُمَّــة بدءًا من فرض الحظر البحري على الكيان الإسرائيلي؛ الأمر الذي أَدَّى إلى دخول اليمن في معركة بحرية استمرت قرابة العام في مواجهة البحرية الأمريكية والبريطانية التي حاولت حماية سفن العدوّ الإسرائيلي، حَيثُ تم شن عدوان جوي على اليمن إلَّا أن الجيش اليمني سجل موقفًا قويًّا وشجاعاً ليتفاجأ الأمريكي كيف يمكن لقوة صاعدة أن تعطل قدرات الأسطول البحري الأمريكي وتنتصر في معركة على قدرات دول كبرى عسكريًّا.

إلى جانب ذلك استطاعت اليمن إطلاق الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات على المدن الفلسطينية المحتلّة وهو ما أذهل الأعداء والعالم، ويكاد المرء لا يصدق أن شعباً يرزح تحت وطأة الحصار والحرب منذ ما يزيد عن عقد، يستطيع أن يقوم بكل ذلك بل والسؤال الأهم كيف يمكن لشعب فقير ومحاصر أن يصنع صواريخ فرط صوتية وبالستية تضرب أهدافاً متحَرّكة ومسيّرات متطورة، متناسين أن المشروع القرآني لا يقف عند حدود بل يتجاوز ذلك إلى التصنيع العسكري وبناء القدرات العسكرية وفي كُـلّ المجالات، وأنه مشروع إرادَة وإيمَـان.

لقد سجل الشعب اليمني حالة فريدة واستثنائية على مستوى العالم والمنطقة رغم إمْكَانياته البسيطة في إسناده لغزة بالموقف العسكري الذي كان غير مسبوق، سواءً في المعركة البحرية ضد العدوان الثلاثي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، والهجمات البرية بالصواريخ والمسيّرات التي لم تتوقف طوال عام ونيف باتّجاه المدن الفلسطينية المحتلّة.

على الجانب الآخر نفير عسكري غير مسبوق، مسيرات راجله عسكرية، ودورات تأهيل وتدريب لمقاتلين جدد تجاوز عددهم قرابة 600 ألف مقاتل، ومئات المناورات العسكرية، وفي المسار الشعبي حشود مليونية أسبوعيه في كُـلّ المحافظات المحكومة من المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء، ناهيك عن الوقفات والنكف القبلي الذي كان بشكل يومي، والتبرعات لغزة والفعاليات والندوات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي الجبهة الإعلامية حراك غير مسبوق، رافق انتصارات كبيرة في البحر والبر والجو، إضافة إنجازات تمثلت في إزاحة الستار عن أسلحة نوعية صاروخية ومسيّرات وغير ذلك.

هكذا هو المشروع القرآني يفرض على كُـلّ منتمٍ إليه التحَرّك الجاد والعمل والثقة بالله وعدم الاستكانة، وبهذا الوعي والنفير استطاع اليمن أن يبرز كقوة إقليمية مؤثرة وفاعلة لا يمكن تجاوزها، تفرض معادلات كبرى أمام أقوى جيوش العالم.

نجح اليمن انطلاقًا من المشروع القرآني في إيصال رسالة قوية مفادها أن الشعوب العربية قادرة على المواجهة رغم كُـلّ التحديات، وأن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية للأُمَّـة العربية والإسلامية، بل وأعاد تعريف دور الشعوب في الصراعات الكبرى.

وبكل هذه المعطيات، فَــإنَّ ما حدث في البحر الأحمر يعكس بوضوح كيف تحول المشروع القرآني إلى لاعب رئيسي في معادلات القوة الإقليمية، من هنا، من هذا الشريط المائي الاستراتيجي، تتحدى اليمن الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر، وتعيد صياغة مفاهيم السيادة التي حاولت القوى الكبرى طمسها، إنهم يدركون في تل أبيب وواشنطن، أنهم لا يواجهون جيشًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يواجهون حركة متكاملة، عمقها وعي شعبي يستمد جذوره من مشروع رسخ في أذهان الناس، وأن كرامتهم ليست قابلة للمساومة.

لقد فشلت محاولات احتواء هذا المشروع، ليس لأَنَّ القوة العسكرية عاجزة عن ذلك، بل لأَنَّهم يقفون أمام سد منيع من الوعي الذي لا يتزعزع، والصمود الذي لا ينكسر.

 

المشروعُ القرآني في اليمن حالة استثناء:

وما يثير الاهتمام أكثر هو هذه القدرة الفريدة للمشروع على الاستمرار والنمو وسط التحديات، فكل حرب شُنت عليه كانت بمثابة وقود جديد يدفعه إلى الأمام، وكلّ محاولة لإخماده لم تكن إلا خطوة جديدة في مسار ترسيخ حضوره، نحن أمام حالة استثنائية، حَيثُ يتحول القمع إلى سبب للاستمرار، والحصار إلى مصدر للقوة.

إن القوة التي تُهمل بناء الوعي، مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه العبارة التي تعكس جوهر الصراع بين المشاريع العربية التي تعثرت، والمشروع القرآني في اليمن الذي ظل شامخاً رغم كُـلّ الحروب والتحالفات الدولية.

إن التجارب العربية في مواجهة الهيمنة الغربية، بدءًا من القومية الناصرية مُرورًا بالاشتراكية البعثية وُصُـولًا إلى حركات الإسلام السياسي، تكشف عن نمط متكرّر من الإخفاقات، حَيثُ ظلت الشعارات تضج على السطح بينما كان الأَسَاس هشًّا لا يصمد أمام التحديات.

المشروع الناصري بقيادة جمال عبدالناصر كان رمزًا للتحرّر في الخمسينيات، لكنه اصطدم بواقعه في نكسة 1967، واعتمد على تحالفات خارجية مع الاتّحاد السوفيتي وأهمل بناءَ وعي شعبي مسلح بالحرية والمسؤولية.

النظام البعثي في العراق كذلك، رغم هيمنته على المشهد لعقود، انهار سريعًا في مواجهة الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كان يعتمد على حزب أوحد منفصل عن تطلعات الجماهير.

حتى المشاريع الثورية التي ظهرت مع موجة التغييرات الحاصلة منذ مطلع العام 2011، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، تعاملت مع السلطة كغنيمة سياسية بدلًا من كونها أدَاة لتحرير الإرادَة الوطنية.

على النقيض، المشروع القرآني في اليمن يمثل استثناءً جذريًّا لهذه الحلقة من الإخفاقات، لقد أسس هذا المشروع دعائمه على منظومة إيمانية عميقة تستند إلى نصوص القرآن الكريم كمصدر للتشريع والحركة؛ مما جعله قويًّا لا يتأثر بأية مؤامرات، بينما كانت المشاريع العربية تستورد الأيديولوجيات من الخارج وتبني عليها سياساتها.

ولقد أعاد المشروع القرآني تعريف المقاومة كواجب ديني ووطني، واستحضر قوة الهوية في معادلة الصراع، فكان أحد أبرز عوامل نجاح المشروع القرآني هو رفضه التبعية لأية قوة خارجية.

لقد اعتمد المشروع القرآني على مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، فتبنى اقتصاد المقاومة من خلال التصنيع العسكري المحلي والاكتفاء الذاتي الزراعي، وهو ما حرّره من هيمنة البنك الدولي وشروط القوى الكبرى، هذا الاستقلال منح المشروع القرآني مرونة عالية في التعامل مع التحديات، حَيثُ لم يعد رهينة لقرارات اللاعبين الدوليين.

المشروع القرآني أَيْـضًا قلب معادلة الجيش والدولة، بينما انهارت جيوش عربية نظامية؛ لأَنَّها قاتلت كجيوش موظفين، نجح المشروع القرآني في تحويل الشعب اليمني إلى جيش شعبي مقاتل يدافع عن قضيته من منطلق عقائدي، والمسيرات المليونية في اليمن لم تكن مُجَـرّد استعراض للقوة، بل كانت مدرسة جماهيرية لصناعة وعي مقاوم يتحدى أدوات الاستعمار والعدوان.

الأهم من ذلك، كُـلّ المؤامرات التي استهدفت المشروع القرآني تحولت إلى وقود يزيد من قوته، اغتيال السيد حسين بدر الدين الحوثي في 2004 لم يكن نهاية المشروع، بل كان بدايةً لمرحلة أوسع، على عكس المشاريع العربية التي كانت تنهار بمقتل قادتها أَو بتغير الظروف الدولية، حَيثُ نجح المشروع القرآني في تحويل رموزه إلى أيقونات نضال تتجاوز الزمان والمكان.

اليوم، تعجز القوى الكبرى عن كسر المشروع القرآني؛ لأَنَّه لا يقبل التفاوض على ثوابته؛ لأَنَّ ما يميزه عن غيره هو فهمه العميق لمعركة الوعي، حَيثُ أدرك أن الصراع مع الهيمنة الغربية ليس على الأرض فقط، بل على شرعية الرواية الحضارية، فالغرب قدم نفسه كحضارة نهائية، والمشروع القرآني رد بإحياء نموذج ديني يثبت قدرة الأُمَّــة على إدارة دولتها بعيدًا عن التبعية، بينما حوَّلت الأنظمة العربية الدين إلى شعارات أَو طقوس فردية، أعاد المشروع القرآني القرآن إلى مركز الحياة كمنهج ودستور حركة.

 

مشروع لم يؤطر:

قبل عَقدَينِ من الزمن، لم يكن أحد يتوقع أن يقفَ مشروعٌ ناشئ في وجه منظومة دولية تملك أقوى أدوات القمع والسيطرة، ولكن المشروع القرآني، كما أثبتت التجربة، لا يقوم على حسابات القوة التقليدية بل يرتكز على بناء الإنسان الواعي، القادر على مواجهة التحديات بفكر ثاقب وإيمان صلب، لذلك فَــإنَّ أية محاولة لفهم هذا المشروع من خلال عدسات السياسة التقليدية ستخفق في إدراك عمقه وتأثيره.

المثير في تجربة المشروع القرآني هو أنه لم يأتِ من رحم الأنظمة، ولم يُؤطَّر ضمن الأيديولوجيات التقليدية التي أسقطتها الأحداث، إنه مشروع خرج من الناس وإليهم، يتغذى على احتياجاتهم، ويستمد قوته من إيمانهم، لذلك فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” في كسره؛ لأَنَّهم لا يواجهون جيشًا تقليديًّا أَو حركة سياسية عابرة، بل يواجهون حالةَ وعي جماعي راسخة وسدًّا منيعًا من الصمود والإرادَة.

إن هذا المشروع يقدم للأُمَّـة نموذجًا مختلفًا، ليس لأَنَّه تحدى القوى الكبرى فحسب، بل لأَنَّه أثبت أن النصر لا يتطلب أدوات القوة التقليدية، ويمكن لشعب محاصر أن يصنع معادلة جديدة، يمكن لوعي مستمد من القيم القرآنية أن يتحدى أعتى الإمبراطوريات.

اليوم، عندما ننظر إلى المشهد العربي، لا نجد مشروعاً آخر استطاع أن يصمد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية بهذا الشكل، فالأنظمة التقليدية إما انهارت أَو استسلمت، والمشاريع الأُخرى تلاشت في زحام المصالح الدولية، وحده المشروع القرآني الذي يحمله اليمنيون استطاع أن يقدّم نموذجًا متكاملًا، يجمع بين المقاومة الشعبيّة، والصمود العسكري، والوعي الثقافي.

إن هذا المشروع لم يظهر من فراغ؛ بل جاء لحكمة ربانية على يد شهيد وقائد ينتمي لمدرسة آل البيت كاستجابة تاريخية لواقع متراكم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأُمَّــة الإسلامية.

والثقافة القرآنية كانت العمود الفقري الذي أسّس عليه هذا المشروع، حَيثُ عمل على بناء وعي جمعي قادر على مواجهة أعقد المعادلات الإقليمية والدولية وبالتالي تحول هذا الوعي من مُجَـرّد أدَاة دفاعية إلى حالة هجومية تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب وقوى الاستكبار العالمي.

في النهاية، يمكن القول بثقة إن المشروع القرآني الذي يمثل تجربة فريدة لليمن، أثبت أنه أكثر من مُجَـرّد حركة مقاومة، إنه نموذج متكامل لإعادة بناء الأُمَّــة على أسس الوعي والإيمان، رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة لتضعَ أُسُساً جديدةً لبناء أُمَّـة إسلامية قوية، تمتلكُ استقلالية القرار، وتحملُ رسالةً إنسانية متجاوزة للهُويات الضيقة والانتماءات العابرة.

هذه الرسالة، المستمدة من القرآن الكريم، تعيد للإنسان مكانته المركزية كفاعل ومسؤول عن تغيير واقعه، وتحمل في طياتها قيم العدل والسلام التي غُيبت طويلًا في ظل الهيمنة الاستعمارية والتبعية.

إنه مشروع يتحدى الهيمنة ليس بالسلاح فقط، بل بفكرة، بفهم عميق لمعنى الحرية والكرامة، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن للأُمَّـة أن تتعلمه من التجربة اليمنية، فالقوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الوعي والإرادَة والانطلاق من القرآن وما يجب أن يفهمه الجميع أنه ليس مشروعًا يمنيًّا بل قرآنيًّا جامعاً، خارطة طريق للأُمَّـة لمواجهة أعداء الإسلام والإنسانية.

ولا سبيل للأمتين العربية والإسلامية للخروج من حالة الانحطاط والذل والخضوع للهيمنة الأمريكية والصهيونية إلا بهذا المشروع القرآني الذي يواصل حمله السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في محاضراته وخطاباته للأُمَّـة، انطلاقاً من مسؤوليته الدينية، وسيأتي اليوم الذي تصدح فيه كُـلّ الأُمَّــة بالصرخة وتتبناها كشعار للمواجهة، فهذه الصرخة التي صدح بها القائد المؤسّس الشهيد حسين الحوثي، وأرادها لتكون مشروع كُـلّ الأُمَّــة وستكون كذلك.

المصدر: المسيرة

مقالات مشابهة

  • علي بن تميم: «عام المجتمع» رؤية حكيمة تجاه بناء مجتمع مزدهر
  • مغير الخييلي: «عام المجتمع» رؤية عميقة في بناء مجتمع قوي
  • «عام المجتمع».. مبادرة لبناء مستقبل مشرق وترسيخ القيم الأصيلة
  • محمد القرقاوي: عام المجتمع يجسد رؤية قيادية للمستقبل محورها الإنسان
  • يداً بيد نحو مجتمع مزدهر ومستقر
  • قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
  • «الرياضة للجميع»: «عام المجتمع» دفعة قوية لمسيرة الاتحاد
  • الأشخاص ذوي الإعاقة .. تميز وإصرار على النجاح في بناء مجتمع ملهم
  • غباش: المجتمع المتعاضد والمترابط أساس مسيرة التنمية
  • عبدالله آل حامد: «عام المجتمع» يعبر عن نهج الإمارات في بناء مجتمع طموح ومبدع