جغرافيا الثراء الأفريقي وتحديات السياسة والمنافسة
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
تشهد أفريقيا أحد أسرع معدلات النمو الاقتصادي على مستوى العالم، مدفوعة بالثروات الطبيعية وموقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي يضعها على خارطة أهم المراكز المحورية للتجارة الدولية، وسلاسل الإنتاج والتوريد.
لكن القارة تواجه مجموعة من التحديات المرتبطة بتدني الاستثمارات المخصصة لتطوير البنية التحتية، والتي تعد بدورها ركنا أساسيا لدعم تلك السلاسل.
وتتنوع ثروات القارة بين المعادن الثمينة وثروات باطن الأرض عموما، وتمتلك قرابة 30% من إجمالي احتياطيات المعادن العالمية، ونحو 12% من احتياطات النفط العالمية و8% من احتياطيات الغاز الطبيعي، بحسب البنك الأفريقي للتنمية.
ثروات
كما تعد أفريقيا مصدرا رئيسيا لأهم المعادن المستخدمة في الصناعات الحديثة، أهمها الكوبالت إذ تملك قرابة 60% من الاحتياطي العالمي منه، و90% من احتياطي البلاتين، و40% من الذهب. كما تسهم بإنتاج حوالي 77% من الكوبالت و51% من المنغنيز، فضلا عن 46% من إنتاج الألماس و39% من إنتاج الكروم عالميا.
ويقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم توجد في أفريقيا، وهو ما يؤهلها لتلبية الطلب العالمي المتزايد على الغذاء، بشرط توفر الاستثمارات الزراعية المباشرة في إنتاج المحاصيل، وفي الصناعات الغذائية التحويلية.
ويضاف إليها ثروة سكانية يمكن أن تكون واعدة، ويعد النمو السكاني فيها الأسرع على مستوى العالم. وعام 2023، وصل عدد سكان القارة لنحو 1.4 مليار نسمة، ويتوقع أن يرتفع إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050.
ولا يمكن الحديث عن انتظام في سلاسل الإنتاج والتوريد بمعزل عن شبكات المواصلات القادرة على الربط بين مناطق الإنتاج ومنافذ التجارة في القارة الشاسعة. وبينما يتنافس الشرق والغرب على الثروات في أفريقيا، يسارع أيضا لإنشاء بنى تحتية تمكنه من الوصول لتلك الثروات وإيصالها للمصانع عالميا.
يعد ممر لوبيتو الشريان الأهم -الذي تموله الولايات المتحدة بشكل أساسي- من أهم خطوط سلاسل التوريد المستقبلية في القارة، إذ يُفترض به ربط ساحل أنغولا بدول مغلقة من بينها زامبيا والكونغو الديمقراطية، ويوصف بالممر الإستراتيجي بين مناطق إنتاج المعادن الثمينة.
ويؤكد الممثل الإقليمي للوكالة الأميركية للتنمية ويليام باترفيلد أن بلاده “تخصص جهودا عالية للاستثمار في إنجاح مشروع لوبيتو، مما يظهر التزاما واضحا بتطوير البنية التحتية في القارة. وتبعا، توسع الممر ليرتبط بتنزانيا عبر ممرات سكك حديدية إضافية لتحسين الاتصال في جنوب وشرق أفريقيا”.
ويهدف الممر إلى تعزيز النقل الفعال للمعادن والبضائع الثقيلة إلى الموانئ البحرية للتصدير، ويعد النحاس والكوبالت من أهم المعادن التي سينقلها. كما يعتبر من أسرع وأكثر خطوط النقل والتصدير كفاءة. ويتوقع أن يعزز الصادرات من منطقة حزام النحاس في زامبيا والكونغو إلى الأسواق العالمية.
ويرى الباحث في مركز أفريقيا بمعهد السلام الأميركي توم شيهي أن ممر لوبيتو يمثل “مقاربة غير معهودة في آليات عمل الولايات المتحدة في أفريقيا، التي بدأت بضخ استثمارات مباشرة في مشاريع البنية التحتية بدلا من مقارباتها التقليدية التي ركزت سابقا على مجالات أخرى من بينها الزراعة”.
جغرافيا التنافس
كما تبرز خطوط ربط ثنائية، من بينها خط سكة حديد ممباسا-نيروبي، ويعد جزءا من خطة لربط شرق أفريقيا بشبكة حديثة للنقل. يبلغ طولها نحو 480 كيلومترا، وتمثل أكبر مشروع بنية تحتية في كينيا. مما يتيح نقل المنتجات الزراعية والمعادن بين ميناء مومباسا والعاصمة نيروبي بكلفة أقل بنحو 40% مما كانت عليه قبل إتمام المشروع.
ويسهم مشروع سكة حديد تنزانيا-زامبيا في تعزيز التجارة البينية والإقليمية وزيادة الصادرات الزراعية والمعدنية. أما مشروع سكة حديد جيبوتي-إثيوبيا فيسهم بشكل أساسي في ربط إثيوبيا الدولة الحبيسة بميناء جيبوتي، وبخفض تكاليف النقل ويزيد من قدرة أديس أبابا على الوصول إلى الأسواق العالمية.
هذا المشهد الثري من المعادن النادرة وتشابك خطوط النقل، يكشف عن منافسة تشتد بين الولايات المتحدة والصين في أفريقيا، وتتركز على محاولات السيطرة للإمساك بخيوط سلاسل التوريد الحيوية المتعلقة بالمعادن الثمينة، خاصة الكوبالت والليثيوم والنحاس، والتي تعد عماد الصناعات التقنية الحديثة.
ووضعت بكين موطئ قدم قويا في القارة من خلال مبادرة الحزام والطريق واستثمرت بشكل موسع في مشاريع البنية التحتية من طرق وسكك حديد وموانئ، وشركات تعدين في عدد من الدول الأفريقية لضمان الوصول إلى الموارد المعدنية الحيوية. مكنتها هذه الهيمنة من الحفاظ على يد عليا في سلسلة التوريد العالمية، وخاصة في قطاعي الطاقة المتجددة والتكنولوجيا.
ويصف الباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ أندريه هوركي هلوشان حضور الصين في أفريقيا بأنه مساهمة -وإن بدرجات متفاوتة- في دعم الميزانيات العامة الكاملة لشركائها الأفارقة، عبر تعميق الاعتماد الاقتصادي لتلك الدول على ثرواتها من المعادن والخامات المختارة في أماكن أخرى.
وأوضح أن بكين تمكنت من تحقيق ذلك عبر الاستخراج وبناء سلاسل إنتاج وتوريد قيمة ومعقدة في قطاع التعدين التي تحتاجها الصناعات الحديثة، وأنها تدعم أيضا الانتقال نحو استخدام الطاقة المستدامة على المستوى العالمي.
تحديات
هذه الإستراتيجية الصينية في القارة -بحسب الباحث هلوشان- دفعت واشنطن إلى تغيير خطابها وسياستها في أفريقيا من خلال تعزيز أولوياتها بدلا من الانشغال باتخاذ خطوات للرد المضاد على بكين. فسعت إلى تحدي الهيمنة الصينية بالاستثمار إستراتيجيا في تطوير البنية التحتية والشراكات بهدف الوصول إلى المعادن الحيوية.
ويعد ممر لوبيتو المثال الأكثر صراحة لهذه الإستراتيجية، الذي يهدف إلى توسيع النفوذ الغربي على سلاسل التوريد هذه والحد من اعتماد أفريقيا على الصين.
ورغم الثراء، تعاني أفريقيا من نقص الاستثمار في البنية التحتية حيث يقدر البنك الدولي أن مجمل استثمارات القارة في البنية التحتية لا تتعدى 3.5% من إجمالي الناتج المحلي.
ويؤدي نقص التمويل إلى إضعاف كفاءة سلاسل التوريد ويرفع تكاليف النقل، وبالتالي يخفض من قدرة القارة على المنافسة في الأسواق العالمية، ويقول البنك إن هناك حاجة لرفع هذه الاستثمارات بنحو 7.1% من الناتج المحلي سنويا.
فضعف كفاءة شبكات الطرق الداخلية يؤدي إلى زيادة تعقيدات الربط بين مرافق الإنتاج وموانئ التصدير، وبالتالي تراجع التجارة البينية. وتظهر دراسة نشرتها جامعة براندنبورغ أن التجارة البينية الأفريقية تمثل فقط 16% من إجمالي التجارة في القارة.
المصدر : الجزيرة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الأسواق العالمیة البنیة التحتیة سلاسل التورید فی أفریقیا فی القارة
إقرأ أيضاً:
آلة التصنيف الفكري وتحديات التبدّل
يدفعنا الواقع المعاصر إلى الحديث عن مربعات التصنيف الفكري للشعوب عبر مراحل تاريخية مختلفة، وتحديد الوقت المعاصر لا يعني الانقطاع الزمني عن التاريخ عبر مراحله وعصوره المختلفة؛ إذ عرف التاريخ قديمُه وحديثه هذه التصنيفات تأسيسا وتوظيفا، ثم نقدا وصل في أحيان كثيرة إلى القطيعة ورمي متلبس الفكر بالضلالة، وتجريمه وعقابه بأقسى صنوف العذاب، وحيث إن آلة التصنيف الفكري منذ بدايتها لم تكن بمعزل عن الدعم السياسي ومكوناته فإن تنظيمات الدول والحكومات كانت وما زالت شريكة في وضع تلك التأسيسات ودعمها ثم رفضها ونبذها ومهاجمتها، فما هي تلك التصنيفات؟ وما الذي دفع الحكومات لتأسيسها قبل التخلي عنها، ثم رفضها ومهاجمتها لاحقا؟ وكيف يمكن اليوم تحميل الأفراد مسؤولية مراحل التجييش الفكري والدعم المالي الضخم لتلك التصنيفات الفكري بما تضمنته من جماعات ومؤسسات وتنظيمات؟
تحاول مقالة اليوم تذكير المؤسسات المالية والإدارية بمسؤوليتها تجاه تأسيس تلك التصنيفات الفكرية التي استغرقت عقودا من الزمن وأجيالا من معتنقيها في كل أرجاء العالم، مع التأكيد على بديهيات العقائد الفكرية التاريخية التي يمكن تأسيسها انطلاقا من أفكار فاضلة ومبادئ نبيلة، ثم حشد الجماعات في كل مكان لتبنيها بما تتضمن من قيم ومبادئ تلامس عاطفة الشعوب وتتبنى قضاياهم، وتدافع عن إنسانيتهم في سعيها لحماية منظومة القيم العليا والأخلاق الرفيعة، من عدالة ومساواة. ضمن هذه المنطلقات مر القرن العشرون بمجموعة من التصنيفات الفكرية التي بقيت آثارها حتى اليوم، ولا ندري إن كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ليستبدلها أصحاب المال والنفوذ بتصنيفات أخرى أكثر توافقا مع مصالح الدول وأقوى تأثيرا على الشعوب، أم أنها تهدأ اليوم لتشتعل بعد أمد قريب أو بعيد؟ من هذه المربعات الفكرية «حركة القومية العربية» (القوميين العرب) حركة أُسست في أعقاب نكبة فلسطين عام 1948، والتي نشأت أساسًا في لبنان بين أوساط طلبة الجامعات مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، ضمّت في صفوفها أردنيين وفلسطينيين وكويتيين وعراقيين، ثم كل العرب عبر عقود، ولهذه الحركة ما لها من أثر على حياة الشعوب العربية سياسيا، واجتماعيا وحتى ثقافيا في المدارس الأدبية والفنية، بين كثير ممن استجابوا للنداءات العاطفية التي خاطبت الشعوب العربية بعد الهزيمة لتدعوهم إلى وحدة تمكنهم من الحفاظ على ممتلكات ومقدرات الأمة العربية والنأي عن التفكير بشكل فردي يريده الاحتلال وتدعمه المركزية الدولية الغربية لتفكيك الوطن العربي، ومع معتنقي هذه الحركة كان هنالك مجموعة من السياسيين والقادة العسكريين ممن عززوا مبادئ هذه الحركة، لكن بعد مجموعة من الهزائم المتكررة والخيانات الموثقة لمبادئ القومية والتقنّع برداء القومية لنيل مصالح شخصية تراجعت هذه الحركة، لتظهر حركات أخرى أبعدتها عن الواجهة دون أن تختفي تماما؛ إذ لا يمكن خلع عباءات التصنيف الفكري بسهولة وسرعة كخلع عباءات الأزياء، أو التبدل العمراني، إذ يتسم الفكر بالبناء التراكمي صعب التأسيس بطيء التحوّل، خصوصا حينما يتصل بعقائد الناس المرتبطة بالدين والأرض والحياة.
كما يتضمن القرن العشرون «حركة الوحدة الإسلامية» وهي حركة سياسية تدعو إلى وحدة المسلمين تحت دولة إسلامية واحدة أو خلافة واحدة بينما الوحدة العربية تدعو إلى وحدة واستقلال العرب بغض النظر عن الدين، الوحدة الإسلامية تدعو إلى وحدة واستقلال المسلمين بغض النظر عن العرق، ومن هذه الحركة انبثقت مجموعات تصنيفات فرعية مثل: الجماعة الإسلامية، وتنظيم القاعدة، والخلافة الإسلامية، وعصائب أهل الحق، والمجاهدون، والمنظمات الجهادية، وكذلك الأمر في تبنيها ودعمها من كثير من الجماعات والدول انطلاقا من دعوتها الأوسع «جغرافيا» للوحدة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، لكنها اتصلت كذلك بكثير من المصالح السياسية كمحاربة الاتحاد السوفييتي حينها وهي دعوة سياسية أكثر منها دينية لما كان يعرف عن الاتحاد السوفييتي حينها من دعمه لحركات التمرد والثورة في الوطن العربي مما ألّب عليه الحكومات العربية خاصة الملكية التي كان يدعو صراحة لتقويضها، فلم يكن أفضل من تجييش الشعوب العربية والإسلامية لمحاربة الروس أعداء الدين و الأمة الإسلامية، ويعيد التاريخ ما حدث مع القومية العربية لتخرج هذه الحركة عن أهدافها الأولى إلى أهداف أخرى سياسية، أو مادية اختلط فيها القيمي النبيل مع الدنيوي الهزيل، والقناعة مع التضليل، والحق مع الباطل وبدأت هذه الحركات سواء الأولى أو الثانية بنقد تطبيقها وتوسيع مجالات التنفيذ وحدود التأثير لتبدأ الكثير من الحكومات (ومنها حكومات غربية كان لها مصالح مشتركة مع قادة هذه الجماعات) بالتحول والتبدل على هذه الحركات ومهاجمتها بعد نصرتها، سواء كان ذلك عبر جسر من اختلاق الذرائع المصنوعة أو مجرد الاتهامات المدفوعة إعلاميا للتأثير على ما تأسس من سمعة لهذه الحركات عبر عقود.
ومن التصنيفات الفكرية في القرن العشرين كذلك «حركة الإخوان المسلمين» وهي حركة إسلامية سياسية تصف نفسها بأنها «إصلاحية شاملة» أسسها حسن البنا في مصر في 22 مارس 1928م عقب تخرجه من دار العلوم فانتشرت تعاليم البنا إلى ما هو أبعد من مصر، حيث أثرت على مجموعة متنوعة من الحركات الإسلامية من المنظمات الخيرية والدعوية إلى الأحزاب السياسية، الهدف المعلن للجماعة حسب موقعها الرسمي هو إقامة دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، وكذلك وجدت هذه الحركة ما سبقتها إليه باقي الحركات من التبدل والتحول والصدام مع السياسيين في محاولة للإلغاء أو الإحلال.
ختاما؛ ما يعنينا في هذه المقالة ضرورة تحمل الحكومات ومتخذي القرار مسؤولياتهم عن تأسيس وتبني ودعم هذه الحركات عبر عقود، أو على الأقل إغفال نشاطاتها وإهمال نقدها وتوجيه معتنقيها، وليس من العدل اليوم تحميل أفراد تبنوا فكريا ما وضع أمامهم مبدأ راسخا، ووضعهم ضمن دوائر التهميش والإقصاء المجتمعي لمجرد استجابتهم لمؤثرات الحكومات إعلاميا وفكريا، كما لا يمكن إزالة وإلغاء آثار تلك الحركات أو بعض آثارها المتطرفة في غمضة عين، لذلك فلا سبيل لأي انتقال فكري مرحلي جديد إلا عبر الحوار المعزز بمنطلقات منطقية مُقْنِعة، ومبادئ قيمية مقبولة وإيجاد بدائل ممكنة تسعى للإحلال مكان السابق في التأثير الفكري المجتمعي.