سودانايل:
2024-12-23@07:14:46 GMT

أثر الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي

تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT

د. نازك حامد الهاشمي

تؤدي النقود دورًا محوريًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، حيث تؤثر على مجالات متعددة مثل الإنتاج والاستهلاك والتداول والدخل والبطالة في العصر الحديث. ومع ظهور النقود الإلكترونية، أصبحت المعاملات المالية أكثر سلاسة وسهولة عبر البلدان. ويُعد النظام المالي، الذي يضم المؤسسات المالية والمصرفية، حجر الزاوية للاقتصاد الوطني، حيث يسعى لتحقيق الأرباح وتوفير التمويل اللازم من خلال الأسواق المالية.

بينما يمثل الاقتصاد النقدي، الذي يعتمد على النقد كوسيلة رئيسية لتبادل السلع والخدمات، نظامًا مبسطًا للمعاملات التجارية. عوضاً من المقايضة. وتُستخدم العملات المعدنية والأوراق النقدية لتسهيل التداول، كما أنها تعمل كوسيلة لتخزين القيمة ووحدة حساب. وهذا النظام أساسي في معظم الاقتصادات الحديثة، حيث يسهم بشكل كبير في تنظيم وتيسير الأنشطة الاقتصادية.
وفي ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية في الدول التي تعاني من عدم الاستقرار المالي، يتزايد الاعتماد بشكل كبير على التعاملات النقدية (الكاش). وبالإضافة إلى تراجع الثقة في القطاع المصرفي وانتشار القيود المفروضة على السحوبات المصرفية، يلجأ المواطنون إلى استخدام النقد بشكل متزايد في تعاملاتهم اليومية. ومعلوم أن الاقتصاد النقدي يُساهم في تجاوز القيود المصرفية وحل المشكلات المرتبطة بتعدد أسعار الصرف. ومع غياب التدخل من قِبَل صانعي السياسات النقدية، يُتوقع أن يستمر توسع حجم الاقتصاد النقدي، مما سيضيف تحديات جديدة أمام تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد. لذلك تلجا الدول التي تواجه أزمات، سوءاً أكانت مالية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، أو نتيجة لكوارث طبيعية، إلى دعم القطاع المصرفي لاستعادة التوازن، حتى لا يغدو النظام المصرفي نفسه جزءاً أساسياً من الأزمة، وذلك تجنبا للأثار المدمرة التي ينتجها الاعتماد المفرط على الاقتصاد النقدي. ومن أهم تلك الآثار زيادة حجم الاقتصاد غير الرسمي، حيث تصبح العديد من المعاملات غير مسجلة أو خارج نطاق الرقابة الحكومية ومؤسسات الرقابة المالية. وهذا مما قد يؤدي إلى تقليص قدرة الدولة على تحصيل الضرائب وزيادة نشاط السوق السوداء وغيرها من أنشطة الاقتصاد الخفي. كذلك تعمل زيادة الاعتماد على النقد على إضعاف مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ونظرًا لصعوبة تتبع التدفقات المالية في الاقتصاد النقدي مقارنةً بالتعاملات الرقمية. وبالإضافة إلى ذلك، قد يبطئ الانتقال الكبير إلى الاقتصاد النقدي من عملية التحول الرقمي في الاقتصاد، مما يقلل من فرص الاستثمار في التقنيات المالية المبتكرة. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون للاقتصاد النقدي تأثيرات على القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة في ظل التضخم المتزايد، حيث قد يؤدي زيادة الطلب على النقد إلى انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية. وهذا مما من شأنه أن يضع ضغوطًا إضافية على الاقتصاد الوطني ويضاعف من تعقيد الأزمات الاقتصادية القائمة.
وفي تقرير صدر عن البنك الدولي في 15 أبريل 2024، تحت عنوان "الانتكاسات الكبرى: الآفاق والمخاطر والسياسات في البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية"، قُدمت فيه نظرة شاملة عن التحديات والفرص التي تواجه 75 بلدًا تُعد من بين الأكثر ضعفًا على مستوى العالم. وهذه البلدان مؤهلة للحصول على منح وقروض بدون فوائد أو بفوائد منخفضة من المؤسسة الدولية للتنمية التابعة للبنك الدولي.
وركز ذلك التقرير على مفهوم اتساع الفجوة في الدخل، حيث أشار إلى أن نصيب الفرد من الدخل في نصف هذه البلدان كان قد نما بوتيرة أبطأ من البلدان الغنية بين عامي 2020 و2024م. وهذا التباطؤ هو الأكبر منذ بداية القرن، مما أدى إلى زيادة الفجوة في الدخل بين هذه البلدان والاقتصادات الأكثر تقدمًا. كذلك تفاقمت حالات الفقر والجوع، إذ أن حوالي 33% من هذه البلدان شهدت زيادة في معدلات الفقر مقارنةً بما كان عليه الوضع قبل جائحة كورونا. كما يعاني 90% من السكان في هذه البلدان من الجوع أو سوء التغذية، حيث يعيش واحد من كل أربعة أشخاص على أقل من 2.15 دولار يوميًا. مما يتطلب الأمر حاجة ملحة إلى الدعم الدولي لتحقيق التنمية المستدامة، بإضافة إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة لتحسين إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية.
وعندما أشار ذلك التقرير إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجها البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية - بما في ذلك التباطؤ في نمو نصيب الفرد من الدخل واتساع فجوة الفقر- كان يهدف إلى ربط تلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة بتحديات إضافية ناتجة عنها مثل التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. وفي ظل هذه الأزمات، يتضاعف الاعتماد على الاقتصاد النقدي (الكاش) في هذه البلدان، حيث يفضل المواطنون الاحتفاظ بالنقد وتجنب التعاملات المصرفية بسبب ضعف الثقة في المصارف وعدم استقرار أسعار الصرف. ويمكن أن يساهم هذا الاعتماد المتزايد على النقد في تفاقم التضخم، حيث قد يؤدي إلى زيادة الطلب على العملات المحلية، مما يضع ضغطًا على قيمتها. ومع استمرار التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات، يصبح من الصعب على الحكومات تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مما يزيد من التحديات أمام هذه البلدان ويعقد جهودها في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وهي سلسلة من الازمات مرتبطة ببعضها البعض. كذلك من الموضوعات المهمة في التقرير، أنه تحدث عن الإمكانات غير المستغلة في تلك البلدان رغم كل هذه التحديات، حيث تمتلك هذه البلدان إمكانات هائلة مثل القوى العاملة الشابة، الموارد الطبيعية الغنية، والإمكانات الكبيرة للطاقة الشمسية. هذه العوامل يمكن أن تسهم في تحقيق تحول اقتصادي إيجابي إذا تم استغلالها بشكل صحيح، غير أن التقرير لم يذكر أسماء محددة لجميع البلدان، ولكنه كان يشير فقط إلى بعض الفئات الإقليمية مثل دول افريقيا جنوب الصحراء "ويذكر أن 33 دولة في المجمل منها توصف بأنها "هشة ومتأثرة بالصراعات."
وأهمية التقرير نابعة من العلاقة بين التضخم والاقتراض، حيث دائما ما يشار للتضخم ودوره المهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تواجهها البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية، حيث تتأكل القوة الشرائية في البلدان التي تعاني من ارتفاع معدلات التضخم، وتزداد تكلفة السلع والخدمات بشكل كبير، مما يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين. هذا يؤثر بشكل خاص على الفئات الفقيرة التي تنفق نسبة كبيرة من دخلها على الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والطاقة. مما يدفع الناس في ظل هذه الظروف إلى استخدام الاقتصاد النقدي بشكل أكبر باعتباره وسيلةً للتعامل مع عدم اليقين الاقتصادي، مما يزيد من الطلب على العملات المحلية ويؤثر سلباً على قيمتها. وبالتالي تجد الفئات الأقل دخلًا صعوبة أكبر في مواجهة ارتفاع الأسعار. وعندما يجتمع عاملا التضخم وعدم استقرار الأسعار معا، يدفع ذلك المواطنين في هذه البلدان إلى تفضيل النقد على الادخار في المصارف أو الدخول في الاستثمارات، بسبب الخوف من تآكل قيمة مدخراتهم، مما يفضي الى زيادة الاعتماد على الاقتصاد النقدي. وهذا التحول نحو الاقتصاد النقدي يضعف النظام المالي الرسمي ويزيد من صعوبة تنفيذ السياسات النقدية التي تهدف إلى السيطرة على التضخم. وبالتالي، فإن زيادة معدلات التضخم لا تحدث فقط بسبب الأزمات الاقتصادية التي تواجهها هذه البلدان، بل هو أيضًا بسبب عامل يزيد من تعقيد هذه الأزمات ويعوق الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي المستدام، بينما تسعى المصارف المركزية في البلدان الفقيرة إلى تقليص معدلات التضخم عبر تطبيق سياسات نقدية تقييدية، فإنها تواجه مجموعة من التحديات الكبيرة. ولتحقيق فعالية هذه الاستراتيجيات وتخفيف من آثارها السلبية على الاقتصاد، قد تحتاج هذه البلدان إلى دعم دولي مستمر. وعلى سبيل المثال في القارة الافريقية تُعتبر تجربة دولة "غانا" خلال الفترة ما بين 2015 و2019م مثالاً على كيفية إسهام السياسات النقدية الفعالة المدعومة بالإصلاحات الاقتصادية والاستثمارات في خفض التضخم واستعادة الاستقرار الاقتصادي حتى في ظل الظروف الصعبة. ومن الأمثلة الأخرى دولة تركيا التي بدأت في معالجة ارتفاع التضخم بشكل جدي في عام 2001م، عندما واجهت أزمة اقتصادية كبيرة. ففي تلك الفترة، قامت الحكومة التركية بالتعاون مع مصرفها المركزي بتنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة وتبنت سياسات نقدية صارمة. وبفضل تلك الجهود، تمكنت تركيا بحلول عام 2005م من خفض معدل التضخم إلى أرقام فردية لأول مرة منذ عقود، مما اعتُبر إنجازًا كبيرًا على صعيد استقرار الاقتصاد التركي.
وللتخفيف من الآثار السلبية للاقتصاد النقدي على المصارف، ينبغي تبني سياسات واضحة ومستقرة تهدف إلى تعزيز الاستقرار المالي وبناء الثقة في النظام المصرفي. ومن بين هذه السياسات زيادة الاحتياطيات النقدية، حيث تعزز المصارف الاحتياطيات النقدية لمواجهة الطلب المتزايد على النقد، مما يساعد في تخفيف الضغط على السيولة؛ وتحسين إدارة التدفقات النقدية، حيث يتطلب الأمر تخطيطًا دقيقًا للسيولة وتوقعًا مستقبليًا للاحتياجات النقدية لضمان إدارة فعالة لها. كذلك يجب العمل على توسيع برامج التيسير الكمي (وبرنامج التيسير الكمي هو أداة تستخدمها المصارف المركزية لتحفيز الاقتصاد عندما تكون السياسات النقدية التقليدية (التي تشمل خفض أسعار الفائدة) غير فعالة. ويتضمن التيسير الكمي كذلك زيادة العرض النقدي في الاقتصاد عبر شراء الأصول المالية مثل السندات الحكومية والأوراق المالية من السوق) حيث يساهم استخدام برامج التيسير الكمي في زيادة السيولة داخل النظام المصرفي، مما يساعد على مواجهة الطلب المتزايد على النقد. ومن خلال هذه الإجراءات، يمكن تحقيق استقرار أكبر وتخفيف الآثار السلبية للاقتصاد النقدي على المصارف.
بالإضافة إلى ذلك فإن تطبيق السياسات النقدية وتخفيض أسعار الفائدة في حالة وجود ضغوط تضخمية منخفضة تتطلب استراتيجية نقدية مرنة، وعندها يمكن للمصرف المركزي خفض أسعار الفائدة لتحفيز النشاط الاقتصادي وتقليل الطلب على النقد. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي تحسين استراتيجيات الرقابة والإشراف من حيث تعزيز الرقابة على المصارف بتطوير آليات الإشراف والمراقبة فعالة لضمان أن المصارف تدير مخاطر السيولة بشكل جيد وتلتزم بمعايير السلامة المالية. ويجب كذلك ضمان تنفيذ اختبارات قدرة تحمل المصارف التعامل مع الاحتمالات المختلفة لضغط السيولة. ومن الحلول الأخرى أيضاً توسيع قاعدة التمويل من أجل تقليل الاعتماد على النقد والودائع التقليدية. ويتطلب ذلك أن تدفع السياسات النقدية المصارف إلى تنويع مصادر التمويل، من خلال إصدار أدوات مالية جديدة أو تطوير شراكات مع مستثمرين خارجيين. كذلك يُعتبر التعاون المثمر مع الهيئات المالية الدولية والاقليمية المختلفة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الافريقي للتنمية وغيرها، أمرًا بالغ الأهمية للحصول على الدعم المالي والتقني اللازم لمواجهة التحديات الاقتصادية والنقدية. وبمقدور مثل هذا التعاون أن يمكّن المصارف من التعامل بفعالية مع آثار أزمات الاقتصاد النقدية، والمساهمة في تعزيز استقرار النظام المصرفي والمالي بشكل عام.

nazikelhashmi@hotmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: من المؤسسة الدولیة للتنمیة الأزمات الاقتصادیة السیاسات النقدیة الاقتصاد النقدی النظام المصرفی الاعتماد على على الاقتصاد هذه البلدان الطلب على على النقد

إقرأ أيضاً:

لماذا تعد سوريا من أكثر البلدان قابلية للانقلاب العسكري؟

القارئ للتاريخ السوري الحديث يلاحظ أنها ثاني أكثر بلد عربي وقع فيه انقلابات عسكرية بعد جلاء الاحتلال الفرنسي عام 1946، بينما يأتي السودان في مقدمة الدول العربية، وقد بدأت هذه الانقلابات منذ مارس/آذار 1949 مع رئيس أركان الجيش حسني الزعيم وانتهت مع حافظ الأسد في عام 1970.

فعلى مدى هذين العقدين شهدت البلاد سيطرة النخبة العسكرية بـ8 انقلابات شبه متتالية، وازدياد نفوذ هذه النخب، ثم كثرة الاختلافات البينية بين قيادييها وتأثيرها الكبير على الشأن الداخلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، على أن أخطر هذه الانقلابات وأكثرها مأساوية وتأثيرا في التاريخ والواقع السوري حتى يومنا هذا، كان انقلاب الضباط البعثيين في مارس/آذار عام 1963، ثم الانقلابينِ التاليين في عامي 1966 و1970 الذي أفضى إلى سيطرة آل الأسد على البلاد لأكثر من نصف قرن.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2التنين الصيني يتوسع نفوذه في أميركا اللاتينية فكيف حدث ذلك؟list 2 of 2قصة السجين السوري.. هل انخدعت "كلاريسا وارد" أم تعمّدت تزييف الحقيقة؟end of list أسباب الانقلابات العسكرية

في مذكراته الشخصية بعنوان "أيام عشتها" يكشف العميد الأسبق في الجيش السوري محمد معروف عن أسباب كثير من هذه الانقلابات، فهو نفسه قد شارك في الانقلاب العسكري الثاني في تاريخ سوريا بعد الاستقلال مع سامي الحناوي، وكان أحد الرؤوس في إقصاء حسني الزعيم وقتله، ثم كان ممن عانوا من الانقلابات التالية التي أدخله بعضها في غياهب السجن، والبعض الآخر بالنفي والإقصاء خارج وطنه.

تقع سوريا في موقع جيوسياسي هام يجعلها مطمعا للتدخلات الخارجية (الجزيرة)

يرى معروف أن ثمة أسبابا كثيرة داخلية وخارجية أدت إلى هذا العدد الكبير من الانقلابات، حتى إن العام 1949 شهد وحده 3 انقلابات عسكرية، فكما يقول كانت سوريا محط طموحات جيرانها العرب الذين كوّنوا في تلك المرحلة المبكرة حزبين متنافسين، فبينما أراد الهاشميون في الأردن والعراق أن تنضم إليهم سوريا لتكون جزءا من مشروع الهلال الخصيب الذي يضم العراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، كانت في المقابل مصر بزعامة الملك فاروق وبالتحالف مع المملكة السعودية تقفان بالمرصاد لهذا المشروع الخطر الذي كان سيهيمن على المنطقة العربية في وجهة نظرهما.

إعلان

يُضاف إلى ذلك أن التركة الاستعمارية التي ورثتها الولايات المتحدة عن البريطانيين والفرنسيين في الشرق الأوسط جعل وزارة خارجيتها تزيد اهتمامها بالمنطقة العربية وعلى رأسها سوريا، لأنها تقع بين الشرق والغرب، وتمتلك ثروات معدنية كبيرة، وللحيلولة دون اتحاد البلدان العربية واتخاذها موقفا معاديا للغرب ولإسرائيل كان التدخل الأميركي في الشأن السوري حتميا.

وقد كشفت بعض المصادر التاريخية فيما بعد عن اتصال حسني الزعيم قائد الانقلاب العسكري الأول بالأميركيين، وأنهم أشرفوا وساعدوا على نجاح هذا الانقلاب كما يذكر الكاتب والمؤرخ سعد فنصة، وكذلك عدنان ملوحي في كتابه "قصة الانقلابات"، وهي الورقة التي أدركها بعض من جاؤوا بعده من العسكريين الانقلابيين، وخاصة العقيد أديب الشيشكلي الذي قاد الانقلاب الثالث في أواخر عام 1949.

فعقب انقلاب حسني الزعيم كتب كيللي الوزير الأميركي المفوض في دمشق مبررا ما حدث قائلا: "إن الوضع قبل الانقلاب الأول وصل إلى حالة من التدهور والفوضى لم يبق معها أي احترام لقانون أو خضوع لنظام، وإن إعادة الأمور إلى نصابها ضرورة لا بد منها وبأي ثمن كان".

في المقابل لم يكن الاتحاد السوفياتي -القوة العظمى الأخرى وقتئذ- ليرضى بالاستئثار الأميركي بالمنطقة العربية، وعلى رأسها سوريا، وهي التي اعتبروها جزءا أساسيا من نفوذهم الجيوسياسي الجنوبي، وقاعدتهم التي استهدفوها ليطلوا منها على المتوسط والمنطقة العربية، فكان للروس تدخلهم الكبير في المنطقة، ونفوذهم الفكري الواضح على كثير من الفئات المدنية والعسكرية في سوريا، وخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري.

ومن اللافت أن شكري القوتلي الرئيس السوري الأسبق الذي عاد للحكم بعد انقلاب 1954 قرر الاتحاد مع مصر عام 1958، وسلّم جمال عبد الناصر زعامة الجمهورية العربية المتحدة، وأبدى له وقت التنازل عن ملاحظة مهمة بخصوص الشأن السوري قائلا: "إنني أُسلّمك قيادة بلد عدد سكانه 8 ملايين، وكل فرد منهم يعتقد في نفسه أنه صالح للرئاسة"، في دلالة على أن الاختلاف كان السمة الغالبة على قطاعات كبيرة من السوريين وقتئذ بحسب رأي القوتلي.

إعلان

وقد رأى الضابط محمد معروف في مذكراته الآنفة أن شخصية السياسي السوري أكرم الحوراني الذي بلغ منصب نائب رئيس وزراء سوريا، وكان أحد كبار منظريها ومن ساهم مع صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق في دمج حزبه وتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في 1962، رأى أن هذا الرجل كان سببا رئيسيا من أسباب كثرة الانقلابات العسكرية في سوريا في تلك السنوات العصيبة.

وقد أيد كامل مروة الكاتب والمفكر اللبناني ومؤسس جريدة الحياة هذا الرأي حين كتب: "إن أكرم الحوراني في كل انقلاب ومع كل انقلاب وضد كل انقلاب"، وسنلاحظ هذه الحقيقة جليا، فقد كان الحوراني في انقلاب حسني الزعيم ومعه، ثم وقف ضده، وكان في انقلاب سامي الحناوي وهو الانقلاب على حسني الزعيم والثاني في تاريخ سوريا الحديث، وعُيّن وزيرا ثم نجح نائبا في البرلمان بالتزوير كما يقول معروف الذي يعترف أنه ساعده في هذا الأمر، ثم وقف الحوراني ضد الحناوي، كما انضم إلى الانقلاب الثالث بقيادة أديب الشيشكلي، ثم انقلب عليه، وكان من أنصار الوحدة مع جمال عبد الناصر ومصر ثم انقلب عليها، وأخيرا أدرك البعثيون بعد انقلابهم في 1963 خطره الشديد فنفوه خارج البلاد، ليكون في صف صدام حسين ويبقى في الأردن حتى وفاته عام 1996.

الخلافات المدنية العسكرية

على الجانب الآخر كانت الحياة النيابية والديمقراطية التي بدأ السوريون يتنسّمونها بعد خروج المحتل الفرنسي تثير قلق بعض قادة الجيش، فقد انتقد كثير من النواب أداء بعض الإدارات، مثل الشرطة العسكرية واستهتارها بالناس، بل ناقشت الحكومة في عشية انقلاب حسني الزعيم في ربيع سنة 1949 ميزانية الجيش بكافة تفاصيلها، وخلُصت إلى أن ضرورة تقليص هذه الميزانية.

وفي أثناء جولة تفقدية للرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس وزرائه للمعسكرات الأمامية للجيش في 1949، اشتم رائحة سيئة تنبعث من المطبخ فاستفهم عن الأمر وأُجيب بأنها رائحة السمن الذي يُصنع منه طعام الجنود، فأمر بإجراء فحص مخبري وتبين أنها مخلوطة ببقايا نُخاع عظام الحيوانات، فأمر الرئيس القوتلي بإيقاف العقيد أنطوان بستاني المسؤول عن تموين الجيش وإلقائه في السجن وإحالته للمحاكمة بتهمة الغش والإثراء على حساب الجيش، لكن البستاني هدد حسني الزعيم قائد الجيش بفضح كل شيء، ويبدو أن تواطؤ الزعيم في قضية الفساد هذه كانت سببا من جملة أسباب انقلابه على الديمقراطية السورية.

إعلان

الأمر الآخر الذي يلاحظه المؤرخ سيد عبد العال في كتابه "الانقلابات العسكرية في سوريا 1949-1954" أن النظام الحاكم بقيادة الرئيس شكري القوتلي فشل في حكم المجتمع السوري بسبب كثرة اختلافاته البينية، وسعي كل طائفة أو أقلية للبحث عن مصالحها وزيادة نفوذها، فسوء سياسة الحكومة أدت إلى تقسيم الدروز إلى "طرشان" و"شعبية"، وهو ما نتج عنه تناحر شديد بين الفريقين، وقد أدى هذا إلى عداء شديد بين الحكومة وبين الدروز وخاصة سلطان باشا الأطرش وهو الزعيم التاريخي للدروز.

أما محسن البرازي رئيس الوزراء فقد استغل هزيمة سوريا في حرب فلسطين سنة 1948 ليكسب لأبناء جنسه من الأكراد منصب رئيس أركان الجيش، حيث أوعز إلى الرئيس القوتلي لكي يعين حسني الزعيم في هذا المنصب، الذي استغل المنصب أسوأ استغلال فبدأ يكوّن لواء كرديا وآخر شركسيا وثالثا آشوريا، بهدف تقوية الأقليات، وهو الأمر الذي أدى إلى التذمر بين الضباط العرب.

والأمر الآخر الذي أثار حنق الضباط أن حسني الزعيم ومحسن البرازي كانا من أشد المتحمسين للتفاهم مع إسرائيل رغم الهزيمة الثقيلة التي تعرض لها الجيش السوري في حرب 48، وكان الزعيم ورئيس وزرائه يسعون لعقد اتفاق سلام مع بن غوريون، وهو الأمر الذي أدى إلى تراكم مشاعر الغضب في داخل الجيش، سواء من استئثار حسني الزعيم للسلطة أو تقاربه العلني مع إسرائيل وهي المنبوذة وقتها من العرب كافة.

والحق أن سياسة تقوية نفوذ الأقليات داخل الجيش السوري لم تكن من ابتداع حسني الزعيم والبرازي، وهما اللذين أُعدما في انقلاب سامي الحناوي في أغسطس/آب 1949، بل كانت في الأصل سياسة أوجدها الاحتلال الفرنسي حين كان يشجّع الأقليات على الالتحاق بالجيش، وقد أدّت هذه السياسة لاحقا إلى أن يقوم أفراد الأقليات كالدروز والعلويين عند توليهم المناصب القيادية بالجيش إلى تبني أقربائهم وأبناء طوائفهم ومساعدتهم على الترقي السريع، وهذا ما يكشفه المؤرخ إليعازر بعيري في كتابه "ضباط الجيش في السياسة والمجتمع".

إعلان

وإذا كان هناك نفور متزايد بين العسكريين من جانب وأنَفتهم من أن يتحكم فيهم المدنيون المنتخبون من الرئيس القوتلي مرورا برئيس الوزراء ووزير الدفاع مردم بك آنذاك، فإن استقطابا آخر شهدته البلاد منذ حقبة الاحتلال الفرنسي وهو استقطاب أيديولوجي بين الاشتراكيين الذين أسسوا فيما بعد لانقلابات البعث المتتالية في ستينيات القرن الماضي، وبين التيارات الديمقراطية والإسلامية التي كانوا يصفونها بالقوى الموالية للرأسمالية العالمية أو قوى الرجعية والتخلف.

انتصار القمع وجمهورية الخوف

ولئن أراد سامي الحناوي أن تعود البلاد إلى المسار الديمقراطي، والحياة النيابية السليمة، فقد قضى الضابط أديب الشيشكلي على هذا الحلم بانقلاب ديسمبر/كانون الأول 1949، وهو الانقلاب الثالث في العام نفسه، وشرع في الحكم الثنائي مع الرئيس هاشم الأتاسي، ولما كان الشيشكلي الذي كان مشاركًا في انقلاب سامي الحناوي محبا للصدارة والتطلع فسرعان ما قضى على هذا الحكم الثنائي في 31 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، وأرغم هاشم الأتاسي على الاستقالة مع اعتقال رئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وأصدر قراراته بحظر معظم الأحزاب عدا حزبي البعث والعربي الاشتراكي اللذين سيندمجان فيما بعد ويصبحان حزب البعث العربي الاشتراكي.

وقد وصف بعض المؤرخين عهده بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن نظرا لاستبداده بالسلطة، وترسيخه لانقلابه العسكري الرابع، وسلطة الحزب الواحد فقد انتفضت البلاد، وخرج الطلبة في مظاهرات متتابعة في حلب وحمص وحماة والسويداء، واستطاع الشيشكلي قمع هذه الاحتجاجات بالقوة، ولكن في فبراير/شباط 1954 قاد الجنرال فيصل الأتاسي والفرق العسكرية الموالية له في حلب الانقلاب العسكري الخامس في البلاد، وهو الانقلاب الذي أعاد الديمقراطية والحياة النيابية للبلاد، في حين هرب الشيشكلي إلى البرازيل ولقي مصرعه فيها على يد مهاجر درزي في عام 1964.

إعلان

وكما أراد سامي الحناوي إعادة الحياة الديمقراطية وتسلم السلطة للمدنيين وكاد ينجح لولا انقلاب الشيشكلي، استطاع فيصل الأتاسي أن ينجح في انقلابه ويعيد تسليم السلطة للمدنيين بقيادة الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، لتدخل سوريا لمدة 4 فيما سُمي بربيع الديمقراطية بين عامي 1954 و1958.

وفي عام 1958 اندمجت سوريا ومصر في الوحدة بإنشاء الجمهورية العربية المتحدة، وعاصمتها القاهرة، ورئيسها جمال عبد الناصر، ولكن نظرا لكثير من الأخطاء التي وقعت حينئذ، وعلى رأسها انفراد عبد الناصر وكثير من كبار الساسة والجنرالات في مصر بالقرارات، وعدم إدراكهم لحقوق السوريين الاقتصادية والسياسية، فسرعان ما أدى ذلك إلى استياء النخب المدنية والعسكرية السورية مما كان يحدث.

وعلى إثر ازدياد النقمة من التأثير المصري السلبي على الداخل السوري وقع الانقلاب السادس في سوريا بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي في سبتمبر/أيلول 1961، وكان النحلاوي مثل سامي الحناوي وفيصل الأتاسي من قبله مؤمنًا بضرورة سيطرة المدنيين على الدولة والجيش، ولهذا السبب ترك السلطة لهم، ولكن طوال عامين تصارعت القوى السياسية والحزبية في البلد للسيطرة على الجيش وسط استقطاب حاد، وفي النهاية نجح الضباط البعثيون في انقلابهم في مارس/آذار 1963.

وقد كشف النحلاوي بعد انقلاب البعث أن قادة البعث الأربعة وهم أكرم الحوراني وأمين الحافظ وعبد الغني قنوت ومصطفى حمدون هم السبب الأبرز في خراب وتدمير سوريا، لأنهم بحسب تصريحه لجريدة العربي الجديد في سبتمبر/أيلول 2021 كانوا العامل الأهم في تسهيل دخول العلويين إلى الجيش بكثرة ظنا منهم أنهم بهذه الصورة سيتحكمون في الجيش، وهو ما ثبت خطؤه لاحقا حين انقلب العلويون بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد والدرزي سليم حاطوم على البعثيين المدنيين بقيادة أمين الحافظ بل على قادة البعث التاريخيين مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار ونفيهم خارج البلاد لاحقا، وذلك في عام 1966، وهو الانقلاب السابع في تاريخ سوريا.

إعلان

أما الانقلاب الثامن والأخير في تاريخ البلاد الذي حسمه حافظ الأسد لصالحه في نوفمبر/تشرين الثاني 1970، فقد استطاع أن يُقصي فيه كل خصومه وعلى رأسهم صلاح جديد بالسجن لمدة قاربت ربع قرن توفي في آخرها عام 1993، كما تتبع كل القوى المدنية والعسكرية المناوئة له، فارتكب مجازر حماة وتدمر، وأصبح الرجل الأقوى في سوريا حتى وفاته عام 2000.

ولا شك أن كثرة هذه الاختلافات الشخصية والعسكرية والمدنية والأقلوية والأيديولوجية، وفوق ذلك تصارع القوى الدولية الكبرى مثل الأميركيين والسوفيات والقوى القديمة مثل الإنجليز والفرنسيين، وحتى القوى الإقليمية المحيطة بالشأن السياسي السوري كلها كانت السبب الأبرز في كثرة تلك الانقلابات وما ترتب عليها من تحولات سياسية مفاجئة وكارثية، أدت في النهاية إلى تفرد حافظ الأسد بقيادة البلاد وتوريثها لابنه الرئيس المخلوع بشار الأسد فيما بعد.

أما اليوم، وبعد سقوط نظام بشار الأسد، وسقوط حكم عائلة الأسد، تسعى القوى الثورية السورية لعبور المرحلة الانتقالية الصعبة، في محاولة لتجنب سيناريوهات الانقلابات العسكرية والتدخلات الخارجية التي أثرت بصورة واضحة على شكل النظام السياسي في البلاد.

مقالات مشابهة

  • تقرير: المغرب ما يزال ضمن البلدان الفقيرة 
  • أستاذ علوم سياسية: تضخم بالاقتصاد الروسي.. وهذا هو الحل
  • أستاذ علوم سياسية: هناك تضخم في الاقتصاد الروسي لكن موسكو تعتمد على التصنيع
  • العقوبات الغربية تواصل الضغط على الاقتصاد الروسي
  • أستاذ في العلوم السياسية: الحرب والعقوبات وراء ارتفاع التضخم الاقتصادي في روسيا
  • عام مضى.. معلومات الوزراء يستعرض مؤشرات وتقارير المؤسسات الدولية حول أداء الاقتصاد العالمي
  • «معلومات الوزراء» يستعرض مؤشرات المؤسسات الدولية حول أداء الاقتصاد العالمي
  • لماذا تعد سوريا من أكثر البلدان قابلية للانقلاب العسكري؟
  • العراق يتراجع للمرتبة الثانية بين البلدان العربية في السياحة إلى تركيا
  • نصف مليون عربي خلف القضبان