فلنواجههم بهذه القوة الجبارة التي نملكها ولا يمكن إيقافها
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
عندما يسود الظلام وتحجب الرؤية، ويكثر الزبد فوق الماء، يحتاج المرء إلى نور مصباح أو ضوء قنديل أو حتى إبرة وخز لتحريك الجسم المخدر. واليوم، أكثر جسم عليل في العالم العربي هو جسم الصحافة والإعلام، لذا لا بأس من التذكير ببعض مبادئ هذه الحرفة التي صارت بلا باب ولا حارس ولا تقاليد ولا أعراف، ولا حتى ذوق في بعض الأحيان.
في تعريف ذكي وشامل لوظيفة الصحافة في المجتمعات الحديثة، قال اللورد نورث كليف (Lord Northcliffe) (1865-1920)، أحد أساطير الصحافة البريطانية ومؤسس Daily Mail وDaily Mirror: "إن الصحافة، إن كانت حرة، فهي قادرة على إنقاذ الدولة من أي خطر يحيط بها؛ لأن أسلحتها الأمضى هي أن الشعب بفضلها يعرف الحقيقة. لأن الصحافة لا تنقل الأخبار فقط، بل تصنع الأحداث وتقدمها للرأي العام"، الذي يرى فيه اللورد نورث كليف "القوة الوحيدة التي لا يمكن إيقافها".
هذه وجهة نظر أخرى عن شكل العلاقة الصحية والمنتجة للسلطة الأولى مع السلطة الرابعة، غير الأشكال التي نراها أمامنا اليوم، والتي لا تخدم لا السلطة ولا الصحافة، بل تخدم مصالح شخصية صغيرة وعابرة في الضفتين.
ولكي يميز بين خبر وخبر، قال عميد الصحافة البريطانية: "الأخبار التي تستحق النشر في الصحافة هي الأخبار التي يسعى شخص أو مؤسسة لإخفائها، الباقي مجرد إعلانات". هذا استطراد لا علاقة له بالموضوع سوى أنه يهم المهنيين وصناع الأخبار الذين لم يعودوا يميزون بين الشعر والشعير.
مربط الفرس – بتعبير بدو العرب – هنا هو أن الصحافة مهنة ورسالة، وهي أداة حفر عميق فيما وراء الظاهر. هي شك دائم فيما يسمع الصحفي ويراه، لأن المرئي غالبًا ما يعمي العين غير المدربة عن رؤية ما وراء الحجاب، من سياسات ومصالح ومؤامرات وحروب وخدع بصرية وعقلية.
عن الشك وعقيدته وضرورته في كل عمل صحفي وأداء مهني قالت الصحفية الأميركية من أصل لبناني، هيلين توماس (1920-2013)، بعد قرابة 50 سنة من العمل كمراسلة صحفية في البيت الأبيض، والتي قال عنها باراك أوباما في حفل تقاعدها بنادي الصحافة في واشنطن: "هيلين توماس كانت وما زالت سيدة الأسئلة الصعبة، وكان وقع أسئلتها على الرؤساء الذين وقفت أمامهم، من كينيدي إلى الرئيس الواقف أمامكم اليوم، مثل وخز الإبر".
قالت الراحلة هيلين، واسمها العربي خيرية صقلي: "أيها الصحفي، إذا أخبرتك أمك بأنها تحبك، فأول شيء تقوم به هو أن تشك في هذا التصريح، وبعدها راقب الأفعال لا الأقوال".
على ما في هذا القول من مبالغة ظاهرة، فهو يرسل إشارة تنبيه إلى حاسة الشك لدى الصحفي، التي يجب ألا تفارقه، تمامًا مثل خوذة الجندي على جبهة القتال، أو حذر العصفور الدائم على الأرض، إذ طوق نجاته في حذره الدائم.
إن الاختلاف هو جوهر العمل الصحفي ومبرر وجود الإعلام. وحيث لا اختلاف، لا إعلام. البروباغندا وحدها تسبح في البرك الآسنة للسياسة العربية اليوم، أما الإعلام الحر والمهني فإنه يسبح في مياه متحركة ومتجددة وحتى هادرة؛ طلبًا للحياة ولمواكبة تغيرات الزمن والإنسان والعصور والأحوال.
الصحافة إذن حرية ومسؤولية، مهنة ورسالة، قلم وميكروفون وشاشة، ومعها، أو قل قبلها، حرفية وتقاليد وأعراف وثقافة وحس نقدي ومسافة أمان تجاه كل صانعي الأخبار والسياسات والقرارات والمصائر.
وهذا لا يجعلها بالضرورة جبهة معارضة ولا منصة رفض لكل ما يأتي من الدولة، لا أبدًا. همّ السلطة الأول هو الاستقرار، وهمّ الصحافة الأساس هو الحرية. وبدون استقرار وسلام أهلي لا حرية، وبدون حرية لا يوجد استقرار حقيقي ومستدام ومنتج للإصلاح والتقدم والنهضة الشاملة. في هذا التقاطع يمكن إنتاج مساحات توافق ووئام بين الصحافة والسلطة دون تبعية ودون علاقة خدمة وأجر.
ومنطق جاهلي يقول شاعره:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد.
يوم اختلف الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع الصحفي الأشهر في القاهرة آنذاك، محمد حسنين هيكل، حول خط تحرير جريدة الأهرام، وبالتحديد حول منهجية التفاوض مع أميركا وإسرائيل بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، قام السادات بإزاحة هيكل من إدارة الأهرام، وهي آنذاك جريدة مقروءة ومؤثرة في كل العالم العربي، وقال له: "يا محمد، ليس من المنطقي أن تظل مصر كلها تقرأ لصحفي واحد". فرد عليه هيكل بسرعة بديهته: "الأخطر من أن تقرأ مصر كلها لصحفي واحد يا سيادة الرئيس، هو أن تكتب الصحافة كلها في مصر لقارئ واحد"، وكان يقصد طبعًا بالقارئ الوحيد رئيس الجمهورية.
هذه ثلاث ومضات سريعة في فضاء إعلامي عربي ملوث إلى درجة باتت معها الصحة العامة، والصحة العقلية للجمهور تحديدًا، في خطر.
وللحديث بقية..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
«مستقبل الصحافة الإقليمية و مصيرها في ظل التحول الرقمي» محور نقاش في الخيمة الرمضانية بقناة الدلتا
تواصل قناة الدلتا التابعة لشبكة قنوات المحروسة بالهيئة الوطنية للإعلام، تقديم فقراتها المتنوعة من خلال الخيمة الرمضانية التي تقيمها مساء كل يوم على الهواء مباشرةً، وتستضيف نخبة متنوعة من مختلف الفئات العمرية من مثقفين وأدباء وصحفيين وفنانين وأطباء وغيرهم ويتم تناول محاور عديدة تدور حول طقوس شهر رمضان المبارك والعادات والتقاليد والذكريات.
تضمنت فقرات "الخيمة الرمضانية" موضوعاً هاماً حول دور الصحافة الإقليمية في التوعية ومستقبلها في ظل تنامي الصحافة الإلكترونية الحديثة ومواكبة العصر.
واستضافت أسرة الخيمة، الكاتب الصحفي علاء شبل، والكاتب الصحفى محمد عوف، والشاعر مصطفى منصور، وعدد من المثقفين والأدباء والمواهب الصغيرة.
وطرح مقدم الحلقة الإعلامي عاصم الرفاعي، سؤالاً حول «مستقبل الصحافة الإقليمية و مصيرها في ظل التحول الرقمي» والتقنيات الحديثة في الوسائل الإعلامية، وقال الكاتب الصحفي علاء شبل، أن الصحافة الإقليمية خاصة الورقية، تواجه تحديات كبيرة في ظل التحول الرقمي، ومنها تراجع المبيعات الورقية بسبب انتقال الجمهور إلى المنصات الرقمية للحصول على الأخبار بشكل أسرع وأرخص، و ضعف التمويل والإعلانات حيث تركز الشركات الإعلانية على المنصات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك وجوجل، مما يقلل من الإيرادات التقليدية للصحف الإقليمية، كما أن الصحف الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر الرئيسي للأخبار المحلية.
فيما قال الصحفي محمد عوف، يتوقف مستقبل الصحافة الإقليمية على مدى قدرتها على التكيف مع التحول الرقمي، فقد اختفت تدريجياً بعض الصحف التي فشلت في التكيف، بينما نجحت أخرى في التحول إلى منصات رقمية قوية تقدم محتوى محليًا متميزًا.
أضاف أن التحول الرقمي يمثل تحديًا كبيرًا لكنه أيضًا فرصة ذهبية للصحافة الإقليمية لإعادة اكتشاف نفسها ويعتمد نجاحها على الابتكار، واستغلال الأدوات الرقمية، وتقديم محتوى عالي الجودة يلبي احتياجات الجمهور المحلي بطرق جديدة ومبتكرة.
وتناول الشاعر مصطفى منصور محور آخر حول افتقاد الشاشة للدراما الهادفة والتي تعمل على توعية وتثقيف المشاهدين والتي حلت محلها الدراما الهادمة التي تقدم إسفاف لا يعبر عن الواقع، وبشكل مبالغ فيه، مطالباً بعودة قطاع الإنتاج الذي يعد بمثابة حائط الصد ضد كل ماهو مسف ومبتزل.
كما تخللت الفعالية فقرات فنية وشعرية لعدد من المواهب.
قدم برنامج الخيمة الإعلامي عاصم الرفاعي، وأعد فقراتها هشام حنجل وأخرجها الدكتور السيد موسى، ويتولى الإشراف الهندسي المهندس أحمد ممدوح عثمان، مدير تشغيل استوديوهات قناة الدلتا، وتتنوع فقرات الخيمة بحسب البرنامج المعد يومياً والشخصيات التي يتم استضافتها، فضلاً عن الفقرات الفنية المتنوعة.
وتأتي الخيمة الرمضانية ضمن جهود قناة الدلتا لتعزيز الدور الإعلامي والثقافي، وتسليط الضوء على المواهب الشابة والرموز الفنية والثقافية في الدلتا، في أجواء رمضانية تعكس روح الشهر الفضيل.