حرب مجلية أو سلم مخزية.. من يصرخ أولا إسرائيل أم المقاومة؟
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
"اختاروا بين خصلتين حرب مجلية أو سلم مخزية" ظلت العبارة التي قالها الخليفة الأول أبو بكر الصديق، للقبائل التي رجعت عن الإسلام بعد وفاة النبي الكريم، مضرب مثل لتحديد الخيارات بين خصمين بينهما عداء صفري، أي لا حل إلا بحرب تجلي العدو أو سلم يخزيه، وهذا ينطبق على العديد من الصراعات الحالية والسابقة في منطقتنا، وربما غزة أهمها وأشهرها.
مع مرور العام الأول واستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار مشتبكا في رفح، بدأت العديد من الآراء توجه النقد للمقاومة خصوصا أن غياب السنوار في عين نتنياهو وحلفائه يعني نهاية العدو اللدود والخصم الذي كسر هيبة "جيش الدفاع" وضرب "إسرائيل" كما لم تضرب من قبل.
يستند العديد من أصحاب هذا الرأي إلى فاتورة الضحايا الكبيرة والدمار الهائل في القطاع بالإضافة إلى اشتداد وطأة العدوان في الشمال، لكن ثمة فصولا من القصة لم ترو في هذه السردية التي تطالب صراحة أو ضمنا المقاومة الفلسطينية في غزة بالاستسلام.
كما تعدت هذه الدعوات إلى الحديث سلبيا عن الجدوى من عملية طوفان الأقصى ورمتها والتعامل معها بمنطق الربح والخسارة، كمعركة ثانوية لا حرب فتحت أفاقا وغيرت معادلات ولا تزال.
وثمة أسئلة يتوفر جوابها لدى الإسرائيليين قبل الفلسطينيين أنفسهم، من قبيل من المسؤول عن استمرار الحرب؟ ومن يقتل الآلاف بالبراميل المتفجرة؟ ومن يقاتل بقادته قبل جنده؟ وأيهما أقرب للاستسلام، صاحب الأهداف التي لم تحقق، أم من تعهد بحرب استنزاف طويلة وصدق وعده؟
دعوات ليست جديدة
يقول الكاتب والباحث السياسي نظير الكندوري، إن الدعوات التي تطلب من حركة حماس بالاستسلام للعدو الإسرائيلي ليست بالجديدة، فمنذ بداية المعارك البرية التي شنها جيش الاحتلال على غزة كنا نسمع مثل هذه الدعوات التي لم تلق آذانا صاغية من المقاومة الفلسطينية أو من الشعب الغزاوي.
وأضاف في حديث لـ "عربي21"، أنه بعد مرور ما يزيد عن سنة على العدوان الإسرائيلي على غزة، يتوهم هذا العدو ومن يسانده من الأنظمة بالمنطقة، إن الوقت مثالي للضغط على المقاومة للاستسلام، خاصة بعد الضربات الناجحة التي قام بها جيش الاحتلال ضد حزب الله، وبذلك يحقق نتنياهو أهداف التي أعلنها في حربه على غزة، أنه سوف يحرر الأسرى دون أن صفقة ودون تقديم تنازلات للمقاومة الفلسطينية.
ويخلص الكندوري، "بالتالي فأن هذه الدعوات التي من ورائها نتنياهو وحكومته، يتحملون المسؤولية بشكل كامل عن عدم إبرام صفقة لتبادل الأسرى وإنهاء الحرب في غزة.".
ويشير الكندوري إلى أن ما يجعل مثل هذه الدعوات أكثر إيلامًا للفلسطينيين وبالأخص المقاومين منهم، إنها تُطرح على ألسنة عربية تمثل الأنظمة العربية التي تتوافق مع توجهات "إسرائيل" على تصفية فصائل المقاومة، وتصفية كامل القضية الفلسطينية.
وبين، أن الأنظمة العربية لم تكتفي بالصمت على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية لفترة طويلة من هذه الحرب الجارية حتى الان، إنما بدأت تحاول أن تستفيد من حالة الدمار الذي حلَّ بغزة وفي لبنان لفرض الاستسلام عليها وعلى مقاوميها.
أصحاب فلسفة أن المقاومة حالة دفاعية، وأخطأت عندما قامت بجهد حربي، هم ذاتهم منظرو الهزيمة في جيش طالوت، أولئك الذين قالوا " لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده ".
كان من بين الفئة القليلة التي ظنّت أنها ملاقية الله فتى بمقلاع، لا يملك غيره، فتقدم القوم، وقتل جالوت الذي قال منظرو الهزيمة… — Saeed Ziad | سعيد زياد (@saeedziad) October 23, 2024
لمن الغلبة؟
منذ بداية الحرب وضع كلا الطرفين أهدافا منها المعلن ومنها الضمني، نتنياهو تحدث عن تحرير الأسرى بالقوة وإنهاء حكم حماس وهذا لم يحدث، بينما حقق جزئيا هدفه باغتيال قادة حماس، في المقابل توعدت المقاومة بحرب استنزاف طويلة في غزة، وهي جزء من أخرى أوسع قد تبتلع الإقليم، وهذا ما يتحقق بالحرب على الأرض.
تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تقرير أعده باتريك كينغزلي وأرون بوكسرمان، إن مقتل العقيد في جيش الاحتلال جباليا كان مثالا واضحا على قدرة حماس على الصمود لمدة عام تقريبا، ومن المرجح أن تتمكن من ذلك حتى بعد وفاة زعيمها يحيى السنوار الأسبوع الماضي.
ويختبئ مقاتلو حماس في المباني المدمرة وشبكة الأنفاق الضخمة تحت الأرض، والتي لا يزال الكثير منها سليما على الرغم من جهود إسرائيل لتدميرها، وفقا لمحللين عسكريين وجنود إسرائيليين، وفقا للصحيفة.
???? كتائب القسام: مشاهد من إيقاع قوة هندسية لجيش الاحتلال في كمين محكم جنوب دوار الصفطاوي غرب مخيم جباليا شمال قطاع غزة.???????????? pic.twitter.com/jD9sCd3eEo — أنت الجماعة ولو كنت وحدك (@t0Nq6WpPDHub0JC) October 24, 2024
ويظهر المقاتلون لفترة وجيزة في وحدات صغيرة لتفخيخ المباني، ووضع القنابل على جانب الطريق، وإلصاق الألغام بالمركبات المدرعة الإسرائيلية أو إطلاق قذائف صاروخية على القوات الإسرائيلية قبل محاولة العودة تحت الأرض.
في حين لا تستطيع حماس هزيمة إسرائيل في مواجهة مباشرة، فإن نهجها الصغير النطاق والسريع في الكر والفر سمح لها بمواصلة إلحاق الأذى بإسرائيل وتجنب الهزيمة بحسب التقرير.
ونقلت عن مايكل ميلشتين، المحلل إسرائيلي للشؤون الفلسطينية قوله، “نحن نحتل الأراضي، ثم نخرج منها. وهذا النوع من العقيدة يعني أنك تجد نفسك في حرب لا نهاية لها”.
وتابعت الصحيفة، "منذ أن سيطرت إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي على طريق رئيسي يفصل بين شمال وجنوب غزة، مارست قيادة حماس في الجنوب، والتي تضمنت السنوار، القليل من السيطرة المباشرة على المقاتلين في الشمال. وبعد أكثر من عام من القتال على غرار حرب العصابات، من المرجح أن يكون مقاتلو حماس المتبقون معتادين الآن على اتخاذ القرارات محليا بدلا من تلقي الأوامر من هيكل قيادة مركزي".
من يصرخ أولا؟
كان الجنرال غيورا آيلندا أكثر المتفائلين بخطة الجنرالات التي تقضي بتهجير سكان غزة لإبادة عناصر المقاومة، وما إن بدأ الاحتلال بتنفيذ الخطة حتى خرج بمقال في يديعوت أحرونوت يدعو خلاله إلى إنهاء الحرب على غزة بصفقة تبادل.
وقال آيلند: "استمرارنا في الحرب على قطاع غزة لن يغيّر الواقع هناك. سيحدث أمران فقط: كل المختطفين سيموتون، وسيقتل مزيد من الجنود. الواقع في غزة لن يتغيّر".
واستدرك: "بعيداً عن الحاجة الماسة لإنقاذ الرهائن في آخر فرصة لا تزال قائمة، هناك على الأقل أربعة أسباب أخرى تجعل هذه الخطوة صحيحة".
ويحدد الجنرال المتقاعد أول الأسباب بأنها الخسائر البشرية، قائلا: "لقد قست قلوبنا لمقتل العسكر خيرة أبنائنا، بسبب المصابين بجروح خطيرة، توقفنا عن الإثارة تمامًا، لكن هؤلاء شباب فقدوا أطرافهم، أو أبصارهم، ودُمر عالمهم أولا، ضحايانا، فقبل 13 شهرا كان الجمهور الإسرائيلي بأكمله يبكي لعدة أيام على كل جندي ميت. يبدو أننا فقدناه".
ثانيا، العبء الجنوني على الجنود، أولئك الذين هم في الخدمة النظامية، ولكن معظمهم من جنود الاحتياط، الذين يكون وضعهم العائلي والمالي معقداً في كثير من الحالات، وسيظل العبء على المقاتلين كبيرا في كل الأحوال، لكن من المرغوب تخفيفه قدر الإمكان.
ثالثا، العبء الاقتصادي. كل يوم قتال يكلف حوالي نصف مليار شيكل! صحيح أن الجهد الرئيسي ينصب الآن في لبنان، لكن كل شيكل ننفقه اليوم سنفتقده بشدة غداً.
السبب الرابع: العالم كله متشوقون لانتهاء الحرب في غزة. هناك المزيد من الفهم في العالم لماذا تقاتل إسرائيل في لبنان، وحتى بشكل مباشر ضد إيران، لكن لا أحد يفهم ما الذي نريد تحقيقه في غزة.
وختم: "لدينا سبعة قطاعات أخرى مفتوحة (بما في ذلك الحدود الأردنية). لقد حان الوقت لكي نحاول إنهاء الحرب، حيث تكون التكلفة أكبر من أي فائدة. وللأسف فإن حكومة إسرائيل لا تتصرف وفق هذا المنطق، ولا تجتمع حتى لنقاش هدفه الاختيار بين خيارين: استمرار الحرب في غزة حتى "النصر النهائي"، أو الاستعداد لإنهاء الحرب على غزة مقابل عودة جميع المختطفين".
هل انتهت المقاومة؟
اتخذ دعاة الاستسلام استشهاد السنوار كمنطلق لدعوتهم الجديدة، وكأن المقاومة قد وصلت مرحلة الانهيار باغتيال قادتها، فإذا لا طائلة من الحرب.
في ذات الوقت تتحدث التقارير الإسرائيلية والغربية عن معطيات مختلفة تماما، فيقول الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي ورئيس معهد "مسغاف" لدراسات الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات، إنه "يجب توجيه الأنظار لزيادة الضغط على القيادة الجديدة لحركة حماس"، مضيفا أن "اغتيال السنوار إنجاز مهم، ومن المتوقع أن يؤثر على وضع الحركة وسياساتها ومواقفها وسلوكها".
واستدرك بن شبات في مقال نشرته القناة الـ12 العبرية، وترجمته "عربي21" بأنه "رغم ذلك فلا يزال من غير الممكن نعي حماس، التي أثبتت قدرتها على التعامل مع الأزمات الصعبة، ما يستدعي من تل أبيب مواصلة جهودها في قطاع غزة حتى إعادة المختطفين، وتحقيق الأهداف الكاملة للحرب".
وتابع قائلا: "اغتيال السنوار ينضم إلى اغتيالات سابقة شملت قادة حماس، وعلى رأسهم إسماعيل هنية ومحمد الضيف ومروان عيسى، وسلسلة طويلة من كبار المسؤولين الذين أداروا حماس في غزة، وبنوا قوتها العسكرية".
لو تدققون في الفديو جيداً:
قوة السنوار قوة مجبولة بشخصيته، قوة لم تكن مكتسبة او مصطنعة، قوة القتال للنفس الأخير، بحد ذاته هذا الأمر ليس اختياري بل هو من صميم هذه الشخصية. رضي الله عنك. pic.twitter.com/eKIXhllHK3 — نحو الحرية (@hureyaksa) October 18, 2024
وأردف "على مدى سنوات كانت القرارات في الحركة تتخذ بموافقة قياداتها الأربعة، حيث مراكز قواتها في قطاع غزة والضفة الغربية والسجون الإسرائيلية والخارج"، مؤكدا أنه "في العقدين الأخيرين تعزز تأثير قيادة غزة في هذه القرارات بشكل كبير، على حساب ممثلي السجون والخارج".
جدوى الطوفان
يرى كثيرون أن معركة "طوفان الأقصى" ما زالت في بدايتها، وأن توسعها مسألة وقت فقط، لذا فإن السؤال عن جدواها سابق لأوانه، خصوصا إذ اعتمد السائل على القياسات المادية التي لا تنطبق على معركة استراتيجية كبيرة كالطوفان.
يقول نظير الكندوري في حديثته لـ "عربي21"، إن "الشعوب التي تتعرض للاحتلال وتقرر البدء بحرب استقلال لبلدانها، هي تعلم تماما أن هذا الأمر ليس بالهين، إنما يستغرق سنوات طويلة وتدفع لأجلها دماء غزيرة حتى تنال استقلالها، وأحيانا كثيرة تفشل ثورات تلو الثورات حتى تنجح بالنهاية للوصول إلى استقلاها".
وأضاف، "وعلى هذا الأساس، فإن الفلسطينيين ليسوا استثناء من هذه القاعدة، ولم نكن نتوقع أن طوفان الأقصى سينتهي بتحرير كامل فلسطين، فالموضوع مبكر جدا للوصول لهذه المرحلة، لكن طوفان الأقصى قام بتأسيس مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني ستتوارثها الأجيال القادمة من الشعب الفلسطيني، وسيبقى الشعب الفلسطيني حيًا يدافع عن ارضه واستقلاله إلى أن يناله بالنهاية".
وتابع، "وأكثر من ذلك، طوفان الأقصى لم يترك أثره على الشعب الفلسطيني فحسب، أنما ترك أثره على الشعوب العربية التي كانت تراقب المجازر التي تحصل في غزة دون أن تُعطى فرصة للمشاركة بإنقاذ اخوانهم هناك بسبب تسلط الأنظمة على رقابها".
ويشير الكندوري إلى الاحتقان المتراكم في نفوس الشعوب العربية، الذي لا بد أن يثمر قريبًا عن ثورات ضد هذه الأنظمة، التي سهَّلت للمحتل الصهيوني عميلة ذبح الشعب الفلسطيني.
أما الاحتلال الإسرائيلي، فقد تعرى أمام شعوب العالم ونُسفت روايته التي كان يروجها للمجتمعات الغربية بأنه الدولة الرحيمة والديمقراطية الوحيدة بالمنطقة، فقد استطاعت عملية طوفان الأقصى كشف هذا الكيان بأنه ليس القوة الأولى بالمنطقة، وأظهرت للعالم مدى وحشيته، حتى أصبح الكيان مرادف لكل طغاة العالم بنظر الشعوب الغربية. وهذا يعتبر انتصار استراتيجي حاسم للشعب الفلسطيني في طريقه للتحرر، وفقا للكندوري.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية غزة الاحتلال لبنان جباليا استشهاد السنوار لبنان غزة الاحتلال جباليا استشهاد السنوار المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب الفلسطینی طوفان الأقصى جیش الاحتلال هذه الدعوات الحرب على قطاع غزة على غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
من هو القسام الذي بدأ المقاومة.. وماذا ورثت عنه الكتائب في غزة؟
تحل ذكرى استشهاد الشيخ عز الدين القسام الذي قضى في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، بعدما اكتشفت القوات البريطانية تواجده في منطقة ما بين مدينتي جنين ونابلس مع 11 شخصا من أتباعه المقاومين.
وكانت نتيجة المعركة وحصار وضع نهاية لعمل مقاوم استمرار لسنوات ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا والانتداب البريطاني في فلسطين.
واستشهد القسام حينها مع ثلاثة من مجموعته في الاشتباك وهُم يوسف عبد الله الزيباوي وعطية أحمد المصري وأحمد سعيد، فيما جرح نمر السعدي وأسعد المفلح، بينما اعتقل حسن الباير، وأحمد عبد الرحمن، وعربي البدوي، ومحمد يوسف، وحكم على كل منهم بالسجن مدة 14 عاما.
ووضع استشهاد القسام نهاية لمرحلة من المقاومة المنظمة غير المسبوقة في فلسطين، لكنه أسس لبداية أخرى تمثلت في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، واستمر اسمه حاليا مع كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، والذي يوصف بأنه المسؤول عن أكبر عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي في العصر الحديث، وهي طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
يُصادف اليوم الذكرى ال ٨٨ لاستشهاد الشيخ عز الدين القسام بعدما حاصرته القوات البريطانية في أحراش جنين طالبة منه الاستسلام.
جوابه كان :
"وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد".
٢٠ تشرين الثاني ١٩٣٥. pic.twitter.com/fwgkPXJGMi — دانيال ???? (@DanielHasRisen) November 20, 2023
كيف عاش؟
ولد باسم مركب وهو محمد عز الدين عبد القادر القسام عام 1882، في قرية جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، وتلقى تعليمه الأول في كتاب الشيخ محمود وزاوية الإمام الغزالي بقريته، ومن ثم انتقل في الرابعة عشرة من عمره إلى القاهرة لإكمال دراسته في الأزهر حيث التقى واستلهم من الشيخ الإصلاحي الكبير محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.
وبعد نحو عقد من الزمن عاد إلى بلدته عام 1906 ليُدّرس في كُتاب والده بجبلة وعُين إماما وخطيبا في مسجد إبراهيم بن أدهم، وعندما غزا الجيش الإيطالي ليبيا في عام 1911، صعد الشيخ القسام إلى منبر مسجد المنصوري داعيا إلى الجهاد.
وسرعان ما قام بتجنيد عشرات الشباب للقتال في طرابلس، بعدما بدأت إيطاليا حصار المدينة عقب تنسيق مع فرنسا لتقسيم المستعمرات، وجمع مئات الشباب وتواصل مع الحكومة التركية وأخذ موافقتها على نقل المتطوعين عبر ميناء إسكندرون، فمكثوا 40 يوما ولم تأتهم الباخرة للإبحار.
ورغم ذلك أصر القسام على النجدة فانتقل سرا إلى الأراضي الليبية، وأنجز جزءا من المهمة بإيصال التبرعات السورية إلى ليبيا ولقاء الشيخ عمر المختار.
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تطوع عز الدين القسام للخدمة في الجيش التركي، وأرسل إلى معسكر جنوب دمشق، والمرجح أنه اعتزل القتال حين أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك، وعاد إلى بلده عام 1916، لأنه رفض أن يرفع السلاح في وجه أخيه العربي.
نأى عز الدين بنفسه عن التأثر بالنزعات العرقية التي تخطط لانفصال العرب عن الترك بقيادة الجمعية العلمية السورية، التي تأسست عام 1868، كما رفض مساوئ الاتجاه القومي الطوراني، الذي كان يسعى لطمس الهوية العربية ومحاصرة لغة الضاد.
وعندما وصل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري، أقدم القسام إلى بيع بيته لتجهيز نفسه للمواجهة وأعلن التحدي ورفض التفاوض، ورد لجنة كراين الأمريكي للاستفتاء على تقرير المصير، وأخذ في التعبئة من المساجد، وتدريب المتطوعين والخروج إلى جبال صهيون للتخفي، واصطياد معسكرات الفرنسيين المحتلين، لتكون هذه النقطة مع جبال العلويين وحلب مراكز الانطلاق الثلاثة ضد القوات الفرنسية.
ولما اشتدت وطأة المقاومين على معسكرات المحتلين حاولت فرنسا استمالة القسام بالعفو والمال والمنصب، فرفض كل شيء وقال للوسيط: "عد من حيث أتيت"، فصدر حكم بإعدام عز الدين وبعض رفاقه، ورصدت قوات الاحتلال جائزة كبيرة لمن يدل عليه.
وبعد اشتداد المطاردة وارتكاب الاحتلال مجازر في القرى بحثا عنه، توجه القسام حيفا وبدء مرحلة جديدة من المقاومة
في فلسطين
استقر عز الدين القسام في مسجد الاستقلال في الحي القديم بحيفا، الذي كان يأوي الفلاحين والطبعة العاملة المتوسطة الذين نزحوا من قراهم بسبب الأوضاع الاقتصادية، ونشط بينهم في محاولة لتعليمهم ومكافحة الأمية التي كانت منتشرة عبر تقديم دروس ليلية لهم.
انضم القسام إلى المدرسة الإسلامية في حيفا ثم جمعية الشبان المسلمين هناك، وأصبح رئيسا للجمعية في العام 1926، وقام بالتدريس في مدرسة البرج ومسجد الاستقلال.
ومع حلول عام 1928، التحق بالمحكمة الشرعية أثناء تأسيسه وترأسه جماعة "الشباب المسلمين" في فلسطين، مستوحيا من تجربة جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا قبيل ذلك في مصر.
كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ذروتها، حيث ارتفع عدد اليهود في فلسطين من نحو 175 ألف عام 1931 إلى أكثر من 355 ألف في 1935، وقبل أن يدعو القسام إلى حمل السلاح، ظهرت مجموعات مسلحة تشن عمليات عسكرية ضد المنشآت البريطانية واليهودية في فلسطين.
ولم يصدق الناس في ذلك الوقت أن بريطانيا جادة في تنفيذ وعد بلفور بجعل فلسطين وطن قومي لليهود، وحينها سارع لإطلاق الشرارة الأولى للمقاومة، ولكنه لم يعلن ذلك تصريحا بل كان في شكل تحذيرات كثيرة من الثقة بوعود الإنجليز وتحذيرات أشد من الهجرات اليهودية التي تتدفق بمساعدة الانتداب البريطاني.
وأنشأ القسام ما تُسمى "العصبة القسامية" في صورة مجموعات سرية لمحاربة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وحرص فيها على السرية، حيث كان يختار الأفراد بعناية كبيرة، ويؤكد لهم ضرورة التخفي عن عيون الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية.
وظلت هذه المجموعات تشن هجماتها على الإنجليز لسنوات دون أن تعرف سلطات الاحتلال البريطاني ومخابراته حقيقتها، حتى أعلنها القسام نفسه عام 1935، ولم يوجه الاحتلال إلى القسام أي اتهامات أكثر من التحريض، ولم تعرف النخب المقربة منه ما يقوم به.
وقد نشطت المجموعات القسامية في تنفيذ عملياتها ضد الاحتلال البريطاني منذ عام 1928، وحافظت على سريتها حتى عام 1935، ومع كثرة العمليات في حيفا وملاحظة إصرار عز الدين القسام على الدعوة إلى جهاد المحتل شكت السلطات البريطانية فيه، فاستدعته الشرطة للتحقيق ولكنها لم تدنه لعدم كفاية الأدلة.
"قد بلغت"
بعد تزايد مراقبة القسام وملاحقته مع كل من له صلة به، قرر إعلان الحركة القسامية مخافة أن تختفي قبل أن تظهر، ومع تزايد معدلات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين رأى أنه من الواجب إعلان الثورة، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1935 ألقى آخر خطبه في جامع الاستقلال.
وجاء في الخطبة الشهيرة: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون"، ثم اختفى.
وتوجه عز الدين القسام إلى جنين، وكانت خطته التخفي والاستمرار في العمليات ضد الانتداب والعصابات الصهيونية، وأثناء التنقل بين القرى اكتشفت القوات البريطانية مكان المجموعة وتوجهت قوة كبيرة إلى هناك وحاصرتهم فدارت بين الجانبين معركة استمرت لمدة 6 ساعات تقريبا.
وبحسب كتاب "عز الدين القسام"، فإنه جرى نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشُيّعت جثامينهم في تظاهرة وطنية كبرى، نادت بسقوط الإنجليز، ورفض الوطن القومي لليهود.
وبعد استشهاد القسام، لم تنتهِ المقاومة بل كانت الانطلاقة الجديدة لها في فلسطين؛ وبهذا أكد مؤلف كتاب "زعماء الإصلاح الإسلامي"، محمد مورو، أن لـ"استشهاد القسّام وكفاحه دورا في نشر الوعي والثورة، وأثراً مهماً في اندلاع الثورة الوطنية الكبرى في فلسطين سنة 1936، التي امتدت 3 سنوات، وظل التنظيم الذي شكله عز الدين ينفّذ العديد من العمليات الفدائية ضد اليهود والإنجليز".
الإمام المجاهد عزالدين القسام: "ليس المهم أن ننتصر المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا درسا للأمة و للأجيال القادمة"#التناصح pic.twitter.com/9ObFGGPT7f — قناة التناصح (@TanasuhTV) May 19, 2021
"ولادة جديدة"
بعد استشهاد القسام بنحو 7 شهور، ولد طفل فلسطيني على أرض قرية الجورة، التابعة لقضاء المجدل جنوبي عسقلان، واسمه أحمد إسماعيل ياسين، الذي أسس لاحقا حركة حماس وكان زعيمها التاريخي.
وتزامن تأسيس حماس مع بداية الانتفاضة الأولى، حيث أصدرت الحركة بيانها الأول في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1987 بعد خمسة أيام فقط من بداية الانتفاضة، وسرعان ما حققت الحركة نجاحا وانتشارا شعبيا واسعا في الأوساط الفلسطينية.
وكان الجهاز العسكري لحماس حسنها يُسمى "المجاهدون الفلسطينيون" بقيادة الشيخ صلاح شحادة (جرى اغتياله عام 2002) قد بدأ في عملياته العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتمكن من خطف وقتل الرقيب الإسرائيلي آفي ساسبورتس في شباط/ فبراير 1989، والجندي إيلان سعدون في أيار/ مايو من العام نفسه.
وترتبط قصة سعدون بالشيخ ياسين بشكل مباشر، ففي أيار/ مايو 1989، وبعد وقت قصير من اختطاف واختفاءه، تم اعتقال الشيخ، وتبين في التحقيق معه أنه أعطى تعليماته لعناصر حماس بخطف الجنود وقتلهم ودفنهم، ليتم إجراء المفاوضات حول إعادة الجثث مقابل إطلاق سراح عناصر حماس.
وقال رئيس مخابرات مصلحة السجون تسفي سيلا الذي كلفته حكومة الاحتلال بجمع المعلومات الجنائية والأمنية من داخل السجون، إن أحمد ياسين رفض فرصة الحرية والإفراج عنه مقابل تسليم جثة الجندي سعدون، بحسب تقرير لصحيفة "هآرتس" نشر عام 2009.
وكشف سيلا: "بعد عامين من الحديث معه، جاءتني السلطة وقالت: اذهب إليه واطلب جثة الجندي المفقود سعدون، وفي المقابل إسرائيل مستعدة للإفراج عنه، وكان رده: لا يوجد يهودي في العالم يعرف عن أحفادي، عن شوقي إلى الحرية، أنت الوحيد الذي يعرف الحقيقة، وكيف أعيش، وكم أريد الحرية".
وبينما تشابه موقف الشيخ ياسين بموقف القسام الذي رفض الاستمالة بالعفو والمال والمنصب، جاء أيار/ مايو 1990 وتشيكل حماس جناحها العسكري باسم كتائب عز الدين القسام الذي حل محل كتائب "المجاهدون الفلسطينيون".
استمرت العمليات العسكرية لحماس في السنوات اللاحقة، فبحسب دراسة كتبها غسان دوعر، نفذت حماس 138 عملية عام 1993 خسر الكيان الإسرائيلي فيها حسبما أعلن بنفسه 79 قتيلا و220 جريحا.
ورغم دخول منظمة التحرير الفلسطينية في تسوية مع "إسرائيل"، وإعلان اتفاقية أوسلو بين الجانبين في العام ذاته، وتوليها إدارة الضفة وقطاع غزة، ما أدى إلى انخفاض حاد في وتيرة الأعمال العسكرية لحماس؛ فإن ذلك لم يمنع ظهور "العمليات الاستشهادية" فيما بعد.
شهدنا أنهم قد جاهَدوا صَيفًا وشِتاءً، في عِزِّ الصقيعِ، وتحتَ وهجِ الشمس، في أيامِ الفطرِ، وأيامِ الصيامِ، في الأشهُرِ الحُرُمِ، وغيرِها..
جَاهَدوا فوقَ الأرضِ وتحتها، علی اليابسةِ، وفي البِحار، في وسط الشوارعِ، وبينَ الرُّكام.
إن كانَ منهُم عِشرونَ صَابرونَ؛ فإنهم يغلِبوا… pic.twitter.com/K6UsF24N1W — أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) November 6, 2024
واستمرت هذه العمليات خلال الانتفاضة الثانية، وتوسعت دائرتها وأساليب المواجهة فيها خلاصة خلال تصاعد العدوان على قطاع غزة عام 2021 (عملية سيف القدس)، وأخيرا بحرب الإبادة الحالية المستمرة (طوفان الأقصى).