بعد نجاح مصر في مكافحة الإرهاب.. هل يستعين الصومال بالخبرة المصرية في محاربة الجماعات الإرهابية؟
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قد تبدو المقارنة بين الحالتين المصرية والصومالية فى مواجهة الإرهاب غير متكافئة من عدة نواح، أولها طبيعة الأرض والنظام السياسى السائد، وكذلك التشابكات الدولية ذات التأثير على نوعية وكم الجماعات الإرهابية التى واجهت البلدين.
لكن من زاوية أخرى، فإن الأصول والمرجعيات الأساسية لتلك الجماعات سواء فى مصر أو القرن الإفريقى ومن بينها الصومال أو فى غيرهما تكاد تتفق فى مجموعة من الأصول التى تجعل تلك المقارنة أمرًا ممكنًا، وبالتالى يكون من الممكن تكرار تجربة مصر الناجحة فى مواجهة الإرهاب فى مناطق أخرى من العالم مع الأخذ فى الاعتبار طبيعة الأرض ومصادر الإمداد البشرية أو المادية لتلك الجماعات.
لا يمكن التعامل مع الجماعات الإسلامية فى الصومال بمعزل عن محيطها العربى والإسلامي، فجميع هذه الجماعات تعود مرجعياتها الأساسية إلى ما قبل عام ١٩٧٩، فى ذلك الحدث التاريخى والمفصلي، الذى كان إيذانًا بميلاد تلك الصورة العنيفة من الجماعات المتطرفة، التى نشأت بعد إعلان الجهاد العالمى فى أفغانستان خلال حربها مع الاتحاد السوفييتي، والتى شارك فيها الكثير من الشباب المسلمين فى مختلف دول العالم الإسلامى وكان من بينهم المصريون والصوماليون والسوريون والعراقيون والجزائريون وغيرهم.
مثلت تلك الحقبة «الثمانينيات والتسعينيات» مع الظروف السياسية التى مر بها الصومال- كغيره من الدول العربية والإسلامية- فى تلك الآونة الحاضنة الفكرية التى تلقفت العائدين من أفغانستان، والمتأثرين بتنظيم القاعدة الذى نشأ فى أفغانستان وبعد سقوط الاتحاد السوفييتى والذى انتشر بقوة فى البلاد الإسلامية، فظهرت الحركة الإسلامية الجهادية فى الصومال، وكان على رأس تلك الكيانات، الاتحاد الإسلامى الذى دعا إلى حمل السلاح ضد السلطة خلال فترة الثمانينيات وبعد سقوط نظام سياد برى عام ١٩٩١ ظهرت عناصر أكثر تشددًا وخطورة كشفتها وثائق سرية سربتها جهات تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، أكدت أن حركة الاتحاد الإسلامى أقامت شبكة من العلاقات والاتصالات الواسعة مع تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، وقد استولت الحركة وقتها على بعض المناطق فى إقليم «غدو» جنوب الصومال فى الفترة بين عامى ١٩٩٢ و١٩٩٦ وأعلنت تلك المنطقة ولاية إسلامية، وبدأت معسكرات تنظيم القاعدة تظهر علنا فيها.
كانت تلك الموجة الأولى من الجماعات الإرهابية التى بنيت عليها الهياكل والأعمدة الرئيسية للكيانات المسلحة الكبيرة التى نشرت الإرهاب فى الأراضى الصومالية المنقسمة، إلى أن جاءت الموجة التالية لتكون أكثر عنفًا من سابقتها مع ما يسمى بثورات الربيع العربى لتتطور تلك الجماعات وتأخذ أشكالًا أكثر حدة وعنفًا.
فقد ظهرت حركة الشباب المجاهدين الذى انفصل عن اتحاد المحاكم الإسلامية، وأعلنت سعيها لإقامة دولة إسلامية، ثم أعلنت ولاءها لتنظيم القاعدة عام ٢٠١٢، وشنّت حربا ضد الحكومة الصومالية وحلفائها فى الداخل والخارج.
ويعود تأسيس حركة الشباب الصومالية إلى عام ٢٠٠٤، لكن أول ظهور علنى لاسم «حركة الشباب المجاهدين» كان فى عام ٢٠٠٦، وظلت الحركة تعبر عن نفسها بأنها الجناح العسكرى لاتحاد المحاكم الإسلامية بقيادة مختار أبو الزبير الذى كان يشغل منصب الأمين العام للمكتب التنفيذى لاتحاد المحاكم الإسلامية.
وبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، انفصل مجموعة من حركة شباب المجاهدين بعد مجموعة من الانشقاقات التى وقعت داخل الحركة بعد مقتل زعيمها أحمد عبدى غودانى فى غارة أمريكية فى سبتمبر ٢٠١٤م. إلى أن تمكن عبد القادر مؤمن أحد قيادات الحركة إعلان انشقاقه ومبايعة أبى بكر البغدادى زعيم تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» فى أكتوبر ٢٠١٥م ليظهر التنظيم على يديه ويكون أول زعيم لولاية الصومال.
لم يكن ذلك الحدث ليمر بسهولة على الحركة التى دخلت فى صراعات دامية مع تنظيم داعش الذى فرض سيطرته على الكثير من المناطق فى الصومال.
وبعد سقوط جماعة الإخوان فى مصر كان الصومال إحدى المحطات التى فر إليها الهاربون من جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية من بينهم عبدالرحمن الشواف، وعزب مصطفى، وعزت صبرى، وأمير بسام، وعز الدين الكومى، إضافة إلى قيادات الصف الثانى والشباب خاصة من الجناح المسلح للجماعة من حركتى حسم ولواء الثورة.
التجربة المصرية مع الإرهابكما شهدت تلك الفترة «الثمانينات والتسعينات» تدفق عناصر مشبعة بفكر تنظيم قاعدة الجهاد فى أفغانستان والذى يعد النواة الأولى لتنظيم القاعدة على جميع البلاد العربية والإسلامية التى شارك الكثير من أبنائها فى الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتى فى تلك الحقبة التاريخية شديدة الخصوصية.
تحول هؤلاء العائدون جميعا فيما بعد إلى قنابل موقوتة ضد بلادهم فكما حدث فى الصومال حدثت صورة شبيهة له فى مصر، فقد تشكلت الموجة الأولى من تلك الجماعات المتطرفة التى حملت السلاح ضد الدولة وكانت مرجعياتها الأولى تنظيم القاعدة.
ففى نهاية عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات ظهرت جماعتا الجهاد والجماعة الإسلامية والتى كان قوامها عدد من كوادر جماعة الإخوان الذين سافروا للجهاد فى أفغانستان ضد الحكومة الموالية للروس وكذا القوات السوفييتة المحتلة.
فى نهاية عهد الرئيس الراحل أنور السادات لجماعتى «الجهاد والجماعة الإسلامية» وقيادات وكوادر تنظيم الإخوان بالسفر إلى هناك للقتال إلى جانب المقاتلين الأفغان فى حربهم على الحكومة الموالية لروسيا، فقد نشط هؤلاء فى تنفيذ عمليات إرهابية ضد الدولة فى مصر طبقوا خلالها الخبرات التى اكتسبوها خلال وجودهم فى أفغانستان والتى تمثلت فى العديد من المهارات منها الاغتيال وحرب العصابات. وظلت هذه الموجة فى مصر خلال فترة التسعينات إلا أن القبضة الأمنية المصرية كانت أقوى من استمرار هذه الصورة إلى الآن، فسرعان ما سيطرت الدولة عليها من خلال المواجهات الأمنية والفكرية، وبدأت حركة المراجعات فى السجون إلى أن أعلن العديد منهم توبته وانخرط فى الحياة الاجتماعية المصرية بعد ذلك.
ثم جاءت الموجة الثانية من العنف بعد أحداث يناير ٢٠١١م بعد تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، بعدها نهضت الخلايا النائمة لتلك الجماعات مرة أخرى واعلنت عن وجودها بشدة خاصة خلال الفترة التى وصلت فيها جماعة الإخوان إلى السلطة، لتنشط بعد ذلك فى العديد من المناطق متخذة ثلاثة أشكال:
وظهر ذلك فى محافظات الوادى خاصة محافظة القاهرة كحركة حسم ولواء الثورة. ونفذت تلك الكيانات العديد من العمليات الإرهابية منها حادث اتوبيس حلوان عام ٢٠١٤م، وكذلك استهداف المرافق الحيوية خاصة أكشاك الكهرباء.
الثاني: الروافد الفكرية لتلك الحركات والجماعاتوتمثلت فى العديد من المنصات والمنابر الدعوية التى انتشرت فى العديد من المحافظات والتى لم يكن نشاطها محصورا فقط فى نطاق الدعوة بل كانت أيضا تعمل فى جمع الموارد المالية للجماعات الاخوان والجماعات والحركات الإرهابية المتصلة بها سواء فى داخل المحافظات والقاهرة أو فى شبه جزيرة سيناء، وكانت تعمل تحت غطاء العمل الخيرى والتطوعي.
الثالث: الجماعات المسلحة فى سيناءوتمثلت فى العديد من عناصر الجماعات المسلحة الموالية لتنظيم القاعدة كجماعة المرابطين، ثم تنظيم داعش، التى تسربت إلى مصر خلال الفترة من يناير ٢٠١١م إلى يونيه ٢٠١٣م وقت سقوط جماعة الإخوان فى مصر.
ولعل هناك تشابه فى طبيعة التكوين الأيديولوجى والفكرى الذى نشأت عليها الجماعات المسلحة فى كل من مصر والصومال وغيرهما من الدول العربية والإسلامية، والملاحظ أن هناك موجتين من العنف قادتهما تلك الجماعات التى لا تزال تعيث فسادًا فى الصومال، وقد تمكنت مصر من القضاء على هاتين الموجتين بعد صراع طويل وتجربة يمكن تكرارها فى الصومال وغيرها.
وضعت مصر إستراتيجية أمنية للتعامل مع ذلك المثلث الخطير الذى ظهر مع الموجة الثانية من العنف، وفى غضون سنوات قليلة أعلنت القضاء التام عليه، على عدة مستويات كان آخرها العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨م
أسقطت الدولة إمبراطورية التنظيم السرى لجماعة الإخوان والذى عاد للظهور خلال فترة حكم الجماعة، وانطلق ينفذ أعماله العدائية ضد الدولة بعد سقوط الاخوانى محمد مرسى فى ٣٠ يونيه، ووجهت الدولة ضربة قاتلة لقلب التنظيم بعد استهداف قيادات الجناح المسلح للجماعة وزعيمه محمد كمال فى منطقة المعراج بالمعادي، بعد تورطهم فى العديد من الجرائم الإرهابية التى شهدتها البلاد منها التخطيط لاغتيال النائب العام الأسبق المستشار هشام بركات وعدد من القيادات الأمنية وضباط الجيش والشرطة.
إغلاق ومحاصرة الروافد الفكرية والمادية والبشرية التى تدعم الجماعة ومحاصرتها فى جميع مراكزها بالقاهرة والمحافظات، وكان أول قرار اتخذته الدولة بعد ٣٠ يونيه مباشرة إغلاق جميع القنوات الفضائية الناطقة باسم الإخوان وداعميها فى مصر، ثم مراجعة جميع الجمعيات الخيرية التابعة للجماعة فى المحافظات وتجميد عدد كبير منها.
إطلاق العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨م، وقد تمكنت الدولة فى فترة وجيزة من السيطرة على كامل تراب شبه جزيرة سيناء والتى أعلنها تنظيم داعش واحدة من أكبر ثلاث ولايات تابعة له خارج مركزه الأساسى فى سوريا والعراق، كما تمكنت أيضًا من السيطرة على الجماعات الإرهابية الأخرى الموالية لتنظيم القاعدة والتى كانت تنافس داعش فى سيناء وفى المناطق الحدودية.
وفى يناير ٢٠٢٣ أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى أن مصر أصبحت خالية من الإرهاب وقال فى كلمة بهذه المناسبة: «لقد نجحنا بنسبة كبير جدا فى إنهائه، وقال: الثمن كان كبيرا»، مشيرا إلى «شهداء ومصابين سالت دماءهم هناك، ويجب أن نتذكرهم فى كل وقت، وعيب علينا أن ننسى الفضل والكرم الذى عاملوا به بلدهم حتى نستطيع أن نقول الآن بعد عشر سنوات أنه ليس هناك إرهاب فى مصر».
المحور الأول: المواجهة المسلحة وحرب العصابات فى المناطق السكنية والصحراوية المتمثلة فى شبه جزيرة سيناء وفى الصحراء الغربية والمناطق الحدودية.
المحور الثاني: المواجهة الفكرية، والتى تمثلت فى تجفيف المنابع الأيديولوجية لتلك الجماعات إضافة إلى تخصيص منابر ومنصات لشيوخ المؤسسات الدينية الرسمية لتفنيد شبهات الجماعات المتطرفة.
المحور الثالث: وهو المحور الاقتصادي، وتمكنت فيه الدولة من تجميد العديد من المؤسسات الاقتصادية والجمعيات الخيرية التى تعد اهم الروافد الاقتصادية لتمويل تلك الجماعات وتغذيتها كذلك بالعناصر البشرية خاصة جماعة الإخوان المسلمين.
وبالتالى فقد امتلكت مصر خبرة واسعة فى التعامل مع الجماعات المسلحة على مختلف الأراضى الصحراوية والبيئة الزراعية وفى المناطق السكنية وهو ما يؤهلها لنقل تلك الخبرات لمناطق أخرى من العالم تنشط فيها تلك الجماعات مثل الصومال. وفى الوقت نفسه أصبح لديها خبرة طويلة فى المواجهات الفكرية مع قيادات تلك الجماعات خاصة فى جانب المراجعات الفكرية.
لم يكن التعاون المصرى الصومالى فى المجال الأمنى وليد الأسابيع الماضية، بل يتمد إلى ما هو ابعد من ذلك خاصة فى مجال مكافحة الإرهاب وجماعات العنف سواء بشكل مباشر من خلال قوات حفظ السلام فى افريقيا، وفى الأسبوع الأول من أغسطس الماضى وقعت مصر بروتوكول تعاون عسكرى مع الصومال بين كل من الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ونظيره الصومالى حسن شيخ محمود خلال زيارته للقاهرة.
وجاءت توقيع ذلك البروتوكول فى ظل ظروف سياسية وأمنية خطيرة تشهدها الصومال ومنطقة القرن الإفريقى تأكيدا لموقف مصر الداعم لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه، والرافض لأى تدخل فى شئونه الداخلية، ومواصلة العمل على إرساء الأمن والاستقرار فى منطقة القرن الإفريقي.
ورغم أن البرتوكول له أبعاد سياسية إلا أن العامل الأمنى يظل هو الأساس الذى انبنى عليه، وبطبيعة الحال فإن الإرهاب والجماعات المتطرفة المنتشرة فى الصومال تمثل عقبة اساسية أمام استقرار ووحدة الصومال وبالتالى فإن القضاء على تلك الجماعات يعتبر من الأمور التى ليس من السهل التغاضى عنها فى ظل الأجواء الأمنية والسياسية المضطربة والمتشابكة فى تلك المنطقة.
ورغم أنه ليس هناك بنود واضحة فى البروتكول العسكرى والأمنى إلا أن القضاء على الجماعات الإرهابية والمسلحة يمثل ضرورة ملحة فى هذا الوقت من أجل تحقيق الاستقرار التام فى الصومال، ولا شك أن مصر تؤكد أهمية القضاء على الإرهاب والتطرف فى الصومال والعالم كعامل أساسى من عوامل التنمية والاستقرار، لأن وجود العنف فى هذه المنطقة الحساسة بالنسبة للأمن القومى المصرى والعربى يمثل تهديدا للجميع.
ومن هنا فإن التجربة المصرية فى محاربة الإرهاب يمكن نقلها إلى الصومال، نظرًا لوجود مجموعة من العوامل:
أولا: تشابه المرجعيات الفكرية والأيديولوجية بين الجماعات العنف فى الصومال ومصر، بل إن جذورهما تعتبر واحدة.
ثانيًا: نجاح التجربة المصرية فى القضاء على الإرهاب والتطرف فى كل مستوياته. نتيجة الخبرات المصرية فى التعامل مع حرب العصابات التى تشبه الاستراتيجيات التى تتعامل بها الجماعات المسلحة فى الصومال.
ثالثًا: امتلاك مصر الإمكانيات البشرية والفكرية التى تؤهلها لنقل تجربة المراجعات للجماعات الإسلامية فى الصومال، خاصة من خلال المؤسسات الرسمية الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف الذى يمثل قبلة لطلاب الصومال المهتمين بدراسة العلوم الشرعية والذين يمثلون سفراء لبلادهم فى الأزهر وحين يعودون إلى الصومال يكونون محملين بما يؤهلهم لممارسة هذا الدور المهم.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: مصر الصومال الجماعات الإرهابية مكافحة الإرهاب الجماعات الإرهابیة الجماعات المتطرفة الجماعات المسلحة لتنظیم القاعدة جماعة الإخوان تنظیم القاعدة تلک الجماعات فى أفغانستان الإسلامیة فى فى العدید من القضاء على فى الصومال مجموعة من بعد سقوط فى مصر
إقرأ أيضاً:
د. عمرو عبد المنعم يكتب: عقل الإخوان فى زنزانة 65 بعنبر قناة مكملين.. استحضار العمل لتاريخ تنظيم سيد قطب.. ومساحات المظلومية ما زالت تعكس واقعًا مأزومًا لدى الجماعة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق عقدة ضابط أمن الدولة الراسخ فى وجدانهم.. وقناة مكملين تتحول لعنبر فى سجن الإخوان الكبير الإخوان يستغلون مشاعر البسطاء كأداة للتجنيد وتناقض عقلية البناء مع واقع المحن هناك سجون ريفيرا وهناك منشقون فى أسر التنظيم حتى الآن عقلية المظلومية تتنافى مع بناء المجتمعات الحديثة
زنزانة ٦٥ يُعد أول عمل درامى تتناول فيه جماعة الإخوان المسلمين بشكل مباشر أوضاع السجون فى مصر. يضم المسلسل فى بطولته كل من محمد شومان، هشام عبد الله، وجدى العربى، همام حوت، عمرو مسعد، عمرو ممدوح، وعبد الله المصرى، ويتولى إخراجه عبادة البغدادى. العمل من إنتاج قناة "مكملين"، التى تُدار من قِبَل أحمد الشناف، وهى واحدة من القنوات التابعة للإخوان المسلمين ومقرها تركيا.
تؤسس جماعة الإخوان دائمًا لفكرة "المظلومية التاريخية"، حيث تُصور نفسها كضحية للاستبداد السياسى. لهذه الغاية، توظف عددًا من شركات الإنتاج الإعلامى والاستثمار الفنى، بالإضافة إلى شركات تسويق تعمل لصالح القنوات الخارجية، بعض هذه الشركات تحمل أسماء وهمية، فيما يلجأ البعض الآخر إلى تغيير سجلاتها باستمرار لتجنب الرقابة أو الالتفاف على الملاحقة القانونية أو التهرب من الضرائب المتعلقة بالإنتاج.
تعدد الأسماء وقائمة الشركات تعكس القدرات المالية والموارد الإعلامية المباشرة المتاحة لهم، مما دفعهم لاستغلال أسواق الإنتاج الإعلامى المستقل بطرق مختلفة، تنتج هذه الشركات فى بعض الأحيان مقاطع فيديو قصيرة، وأفلامًا وثائقية طويلة، أو أعمالًا درامية مثل "زنزانة ٦٥"، بل وتدعى نجاحها فى مهرجانات غير معروفة مثلما حدث مع فيلم "بسبوسة بالقشطة"... هذا الفيلم من إنتاج نفس الفريق بقيادة وإخراج عبادة البغدادى وتأليف أحمد زين، أداء تمثيلى لهشام عبد الله تحت مظلة شركة A to Z التى تتبع أيضًا لعبادة البغدادى. قيل إن الفيلم حصد "الجائزة الماسية" فى مهرجان أوروبى، لكن البحث يظهر أنه لا وجود لمثل تلك الجائزة أو المهرجان أصلًا، وأقصى ما وُجد هو إدراجه ضمن قائمة مدفوعة لنشاطات إنتاجية مجهولة فى أوروبا.
برومو العمل أعلن أنه العمل الممنوع من العرض، ولم يكشف أى من صناع العمل أن هناك خلافا على عرض المسلسل وفكرته من الأساس لذلك تأخر عرضه أربع سنوات من تاريخ انتهاء تصويره، إضافة إلى مشكلات إدارية جعل بعض الممثلين ينتظر بقية أجره فترة بعد انتهاء التصوير، لكن تمسك المخرج عبادة البغدادى حال دون إلغاء المسلسل كونه شريكا فى الفكرة بشكل كبير وراهن عليه بشكل شخصى، وهو مايدحض العنوان الدعائى أن المسلسل ممنوع من العرض، لكنها علامة إفلاس لضعف فكرة المسلسل وحبكته الباهتة وأداء التمثيل المتواضع، وقد توقف تصوير المسلسل فترة ثم استأنفوا العمل من باب النظرية المعروفة اقتصاديا فى الإنتاج الوثائقى "التكلفة الغارقة" أى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تدور أحداث المسلسل داخل أحد السجون المصرية، والتى تستعد لزيارة من منظمات حقوق الإنسان. فى إطار التحضير لهذه الزيارة، تختار الإدارة مجموعة من السجناء لتدريبهم وتأهيلهم ليظهروا كمتحدثين داعمين للنظام، من خلال التلاعب بالحقائق وتزييف الواقع، بهدف خداع اللجنة الزائرة. ومع انتهاء الزيارة، تُستأنف الممارسات المعتادة داخل السجن. تتعمق الأحداث داخل زنزانة جماعية تضم سجناء سياسيين لم يتم الكشف بشكل واضح عن أسباب اعتقالهم أو علاقتهم المحتملة بجماعة الإخوان المسلمين. يصبح هذا السجن، بكل ممراته وزنازينه ومكاتب ضباطه، عالمًا مغلقًا يعج بالصراعات بين الشخصيات، محاطًا بأسئلة غامضة حول مصير السجناء الذين تم نقلهم فجأة إلى زنزانة جديدة دون إبلاغهم بالأسباب أو بما ينتظرهم.
من جهة أخرى، ووفقًا لمصادر مقربة من الإخوان المسلمين، هناك نفى لاعتبار قناة "مكملين" تابعة للجماعة أو ملتزمة بخطها الفكرى. وذكرت هذه المصادر أن القناة تتجاهل معظم فعاليات الإخوان فى تركيا ودول أخرى. بالعودة إلى أرشيف القناة، تم العثور على حوار مع محمود حسين، القائم بالأعمال، فى مارس ٢٠١٩. وفى المقابل، أكد الفنان وجدى العربى فى حديثه مع محمد الناصر أن المسلسل من إنتاج الإخوان المسلمين، وهو ما ذهب إليه أيضًا الصحفى عبد المنعم محمود من قناة الجزيرة، عبر تدوينة نشرها على تويتر، مشيرًا إلى أن شركة الإنتاج قريبة من الجماعة.
1 - صانعو العمل.. مخرج مكملين «عبادة البغدادى»هو إعلامى إخوانى كان يعمل مونتيرًا بقناة «مكملين»، ثم أسس شركة "خان فيلم" بتوجيه من القيادى الإخوانى أحمد زين، وهم من قادة الإخوان البارزين والعاملين فى مجال الإعلام والأفلام الوثائقية. تتغير الشركة والشخصيات المرتبطة بها كل فترة، وتشرف على إنتاج بعض الأعمال لبرامج مثل "للقصة بقية" و"خارج النص" لقناة الجزيرة الوثائقية والتليفزيون العربى ومكملين والشرق والحوار.
يدير البغدادى أحمد زين، منتج القناة والمختص فى الأفلام الوثائقية. عمل لفترة كمدير لقناة الجزيرة مباشر مصر، وأسس شركة "إيه تو زد"، وهى شركات تعرف بـ "أوف شور"؛ حيث تأسست هذه الشركات لغرض العمل خارج الدولة التى تم تسجيلها فيها، وذلك للتهرب من دفع الضرائب أو للتمتع بأنظمة مخففة من الرقابة.
أخرج البغدادى قبل الزنزانة ٦٥ فيلم "بسبوسة بالقشة" الذى يحمل حبكة إخوانية مستهدفة الإساءة إلى الشرطة، وبالأخص قطاع الأمن الوطنى، وبطولته الثنائى المصرى الهارب هشام عبدالحميد ومحمد شومان مع محمد عبداللطيف ومحمود سعداوى. يجسد الفيلم مشاهد تمثيلية عن سجن العقرب وضباط السجون المصرية، وكيف يدير الأمن الوطنى بعض غرف السجناء السياسيين.
بعيدًا عن الثغرات الدرامية فى الحبكة القصصية، وبعيدًا عن الأداء التمثيلى الذى يحتوى على بعض المشكلات والهنات الفنية، باستثناء ممثلين بقوة وتاريخ هشام عبد الله، الذى يغلب عليه الانفعالات المصطنعة أكثر من التأثيرات الواقعية الجادة، وكذلك وجدى العربى الذى يمثل بسليقة وإحساس المستضعف وكأنه يتقمص دور عبد القادر عودة أو محمد فرغلى قيادات الإخوان فى محاكمات ٥٤، فهناك فرق كبير بين دوره فى الشباب فى فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" ورجل الأعمال الأبصيرى الصوفى الذى يردد أغانى أم كلثوم ومتهم بالانتماء للإخوان المسلمين فى هذا المسلسل.
أيضًا، خرج أداء بعض الشباب التمثيلى وكأنه يعيش تجربة السجين المستضعف، فكان أغلب الممثلين أداؤهم وظيفيًا أكثر من الإحساس الفنى الجياش بستثناء الشاب عمرو مسعد وهو طاقة فنية شابة له أعمال فنية جيدة، شاب ليس له انتماءات سياسية، وقد تجلى هذا على أدائه التمثيلى المتجرد من أى هوى إيديولوجى، ومن الأفضل أن تستثمر شركات الإنتاج المصرية تلك المواهب الشابة فى أعمال وطنية هادفة فى المستقبل.
أما الفنان محمد شومان ولن أخوض كثيرًا فى تركيبته ومواقفه الأمنية إلا أن تجاربه الشخصية المحيطه به تؤثر على شخصيته أكثر من الاداء الفنى الذى تعود المشاهد أن يراه عليه وظهر فى بعض اللقطات فى هذا المسلسل وكانه شخصيته الطبيعية لا التمثيلية.
2 - عقلية الزنزانة الإخوانيةلم يغادر الإخوان عقلية الزنزانة ولا طموح الزنزانة ولا أدبيات الزنزانة، لم يغادر الإخوان البوابة السوداء وسرداب الشيطان وأيام من حياتى، ولماذا أعدمونى، ولا أقسمت أن أروى، ولا أى من الشهادات التى روجوا لها جيل السبعينيات غن السجون عبر تاريخ الجماعة. ربما كان التعذيب الذى لا أتفق معه ولا أستبيحه على الإطلاق، وأنا الذى تربيت على أدبيات الجماعة والتنظيم القديم منه والحديث، وخبرت المشهد عن قرب، وكم أشفق على أى من الشبان والفتيات والزوجات التى يُزج بها فى أتون محن لا طائل لهم بها سوى أنهم لا يعون تجارب الماضى غيرهم.
لكن الزنزانة لم تغادر عقلية الجماعة ولا التنظيم، ولا حتى الذين خرجوا منها، فالزنزانة فى عقولهم ووجدانهم، وأقصد التكوين الفكرى وفقه الزنزانة بمشتملاته، ورغم أننى اخترقت كثيرًا من الزنازين وأعرف ما يُدار خلفها من نقاشات ومرويات وحوارات باردة خلف جدران ساخنة بعتبرارى سوسيولوجى وليس صحفى، إلا أن شهادتى أن الزنازين ليست سواء، وما يتحدث عنه مسلسل الزنزانة عندى مشاهد تؤكد عكسه تمامًا، أن بعض السجون مثل والحجزات فندق ثلاث نجوم به كل ما يريده السجين ما عدا الحرية والنساء فقط، فالمسلسل به أخطاء وتوجهات فى غاية الخطورة واللاإنسانية.
التاريخ يكشف عندما أفرج السادات عن الإخوان بعد حرب أكتوبر، كانت الجماعة فى حالة من الضياع النفسى والنهايات شبه الدرامية، وكانت تسيطر عليها عقلية المؤامرة، وأن عبد الناصر "فقهش" "ف" فرعون، "قارون" "هامان" ش "شيطان"، فهو طاغوت العصر الحديث الذى جمع الخبائث كلها، وهو العدو الأوحد والأول. وسيطرت عقلية المساحات الضيقة على الإخوان، فتمادوا فى نشر أدبياتهم وسيرهم الذاتية، وانطلقوا من هذه السير يشرحون للناس فى المساجد ويداعبون مشاعر الشباب للاستقطاب جيل جديد، وهذا ما جعلنا نتعاطف مع التجربة الإخوانية على الإطلاق، وانطلقت أناشيد "لا السجن يرهبنى ولا السجان ما دام فى قلبى الإيمان".
عقلية الإخوان فى الزنزانة تعتبر الرفاهية لا تصنع رجالًا، والضغوط فى سبيل الله تجعلك إنسانًا متألقًا. النبى صلى الله عليه وسلم عاش حياة مفعمة بالضغوط، فقد هاجر من بلده وذاق فى حياته ألوانًا وأشكالًا شتى من العذاب. وكلما ذاق منها الإخوانى شيئًا، ازداد قربًا من الله عز وجل، وازداد ثباتًا على طريقه ومنهجه ودعوته، وازداد يقينًا فى نصرة الله له ولو بعد حين. إن الأمر لا يتسع إلا إذا ضاق، وإن الصبح لا يتنفس إلا بعد ليل دامس مظلم، (فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا). لم يتعلم الإخوان أن تجربة السجون كلما زادت السنين، يفقد بسببها الإنسان الكثير، فدورة الحياة كما تبدأ قوية تنتهى ضعيفة، وبينهما سيرة ومسيرة وتجارب ومراجعات.
قديمًا كان يقول الإسلاميون من لم يعش التجربة الدعوية بدون محن لا يثبت فى المحن، وعند تجربة السجون كانوا يقولون السجون مصنع الرجال، وبدون الخبرات التى يجب ان يخرج الإنسان بتجارب تؤثر فى حياته المستقبلية فلن تستقيم تجاربه، نفس هذه المعنى هو ما دفع القيادى صلاح عبد الحق جبهة لندن حاليًا بعد تجربة سجون ٦٥ من تقييم التقربة بقوله الاخوان لا يجيدون سوى التعامل مع البلاء وليس الخيروالاوضاع السوية، فالانسان اشبه بمحمصة البن فحبة البن تتحرك داخل المحمصة حتى تنضج، وأكثر محمصة للإنسان هى السجون والمعتقلات، فهناك تتعلم وتتألم ويحدث لك الحرمان المادى والعطفى، وجوع وغضب وكرامة مهدرة اقصها الحرمان من الحرية واقلها القيود الحديدية، فالسجن والسجان والسجين بينهما علاقات طردية.
3- التجارب والمراجعاتفى السجن، لحظة يتعلم منها المناضل الحر التجربة. فى السجن، لحظات صفاء نفسى عجيبة لا يتمتع بها سوى من تجرد من أهواء التعصب وطموح السياسة. ربما يكتب الإنسان عنها أصدق لحظات حياته، لأنها تشبه تغريدة البجعة التى ترسلها قبل وفاتها، ترسل أبدع وأعذب الأصوات، وبعدها نكتشف الذات والحياة. ليست فقط تجربة السجن وتقييمها من الجلاد والسجان، فربما ساقك السجان لأروع قصة خبرة فى حياتك، لأنه فى السجن يجتمع الإنسان بأنماط مختلفة من البشر، بما فيهم القتلة ومهربى المخدرات بلغة السجون السياسية "الجنائي". يجتمع مع العميل والمرشد الذى يدل الضابط كل فترة على نواقصك الفكرية والنفسية بلغة السجون (السيكة أو العين أو البصاص)، فيتعرف أكثر على طبيعة البشر بشكل واقعى. فهناك أناس يدفعون مالًا مقابل هذه الخبرة فى التعرف على حقيقة البشر ومعادن الرجال، وما يدب فى الإنسان من خوالج، فهى تتم فى السجون بشكل مجانى.
هناك أبحاث أجريت داخل سجن مزرعة طرة العمومى فى أواخر السبعينيات قبل هدمه، وقادها فريق من مركز البحوث الجنائية باقتراح وإشراف الدكتور سعد الدين إبراهيم، وانتهت بنتيجة قالها سعد نفسه فى حوارى معه ذات مرة: " أن المسجونين فى قضيتى الفنية العسكرية والتكفير والهجرة هم الذين يدرسون فريق البحث وليس العكس"، وهنا تحول الباحث إلى مبحوث وليس العكس كما يردد ضعاف التجربة البحثية فى زماننا.
عاش الإخوانى السرى خارج السجن يخفق قلبه مع كل قرعة باب ليلًا لأنه يظن أنه مطلوب للسجن. يجهز متاعه ويضعه خلف الباب كلما سمع بهجمة "الداخلية" بعد كل نشاط متطرف فى منطقته أو معلومة عن أخ له تم القبض عليه وسبقه إلى المعتقل. بينما السجين يخفق قلبه فرحًا مع كل قرعة باب لأنه يتوقع الإفراج عنه والخروج من السجن. فى السجن يعرفون "السجين بأنه أخو المجنون"، كما يقول السجناء القدماء. نسى الإخوان كل هذه التجارب وتذكروا فقط تجربة ٦٥. فقد قال الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾. فالسجن تجربة أليمة يجب أن تخرج منها الجماعة بتقييم، فمجتمعاتنا لا تتعاطف مع المسجون سوى لحظات الإفراج عنه فقط، لكنها وقت الاختبار الفعلى تقول لك: "أنت سجين سابق مجرم إرهابى مدان قانونًا، لا حق لك فى الحياة والعيش الكريم، بل لا حق لك فى الزواج والإنجاب لأنك لن تكون سويًا على الإطلاق".
المحنة لابد لها من تقييم التجارب، والإخوان عبر سنوات النشأة والتكوين منذ عام ١٩٢٨م لم يقيموا ولم يخضعوا للتقييم سواء منهم أو من أى جهة محايدة يقبلونها. أى شركة استثمارية ناجحة تقوم بتقييم حساباتها الختامية كل عام، كم نجحت فى تحقيق طموحاتها وكم فشلت، وهى المعروفة بخبرة الإنتاج والاستثمار، حتى يكون حفظ رأس المال مقدمًا على الربح فى أحيان كثيرة، ومتى تكون المغامرة الإنتاجية محسوبة. فما بالك بجماعة تدعى الربانية، فهل غمار الحرب والوعد والوعيد تحقق فى مسيرتها؟ لكن الحقيقة أن كل تجربة خاضتها الجماعة تقول فى نهاياتها: "ما ينبغى إذا لبست الجماعة لامت الحرب أن تنزعها حتى تلقى العدو"، فخابت وخسرت، وانتهى بها المقام بوجود أحد قيادات السلفية الجهادية السابقة على مقعد رئاسة الجمهورية فى سوريا. أما هى فلم تبرح الجماعة ولا قناة مكملين ولا غرفة ٦٥ ولا حتى تنظيم سيد قطب الذى تعاطفت مع بعض رؤيته بعض قيادات الدول العربية.
تجربة السجن بدون مراجعة وتقييم وتمحيص تجربة فاشلة، ويكون نتاجها هو شخصية وجدى العربى، رجل الأعمال الكهل الذى تستوى عنده الحياة والموت، لأنه أدى غرضه وانتهى، ويريد أن يموت بطلًا بصرف النظر عن الأجيال القادمة هل تعلمت من الدرس أم لا. أما الجماعة فلا أظن أنها تعرف حتى الآن أنها أدت دورها وانتهت، ولا يشغلها سوى أمر البطولة التاريخية فقط.
4 - قيام الحضارات يتنافى مع المحنلم يعرف هؤلاء أن الحضارة بُنيت فى الرخاء والعافية. صحيح أن المحن تصنع الرجال، لكن أى محنة هذه التى يعيشها تنظيم ما يقرب من مئة عام؟ البلاء يدفع الإنسان إلى التأمل ومراجعة الذات ورؤية الماضى بعين الحاضر والمستقبل.
إذا كانت الجماعة فى عام ١٩٤٠م هى نفس الجماعة فى ٢٠١١، وهى نفس العقلية فى ٢٠٢٥، فبئس الأسلوب وبئس التصور. فنفس طريقة تعامل السجين مع ضابط الأمن الوطنى هى نفس طريقة تعامل الإخوانى مع قياداته، وهى رؤية تتحكم فى مصائر الجماعة وتكويناتها وتوجهاتها.
فكل من يفكر من داخل الجماعة يُنظر إليه على أنه تخلى عن الطريق، وأصابه فتنة، واخترقه الإيدز الحركى. فعقلية المؤامرة هى التى تسيطر، فتتخيل أن داخل كل تكوين حركى مرشدًا للأمن يبلغ عنهم ويدفعهم للحديث حتى ينقل لهم كل ما يريد النظام معرفته.
إن التطور الروحى والحركى والسياسى فقدته الجماعة على باب غرف الزنازين ومقرات الأمن الوطنى. معروف أن سن الأربعين هو سن الرشد، وجماعات الإسلام السياسى لم تبلغ سن المراهقة بعد، سواء فكريًا أو حركيًا. حتى مع عناصرها التى دخلت معها فى نفس التجربة، وبعدها تخرج بنتائج عكسية تدفعها إلى تبنى أى خطاب ضدها، حتى تُربى أتباعها أن المحن تربى الرجال، وليس كيفية تجنب المحن هو ما يُربى الرجال.
كل من يفكر فى الخروج من الزنزانة تواجهه أفكاركم، وتعلن له: "من أعان ظالمًا سلطه الله عليه" لمجرد المحاولة لينكسر أمامكم كل من يبحث عن البراءة يطلقون عليه أناشيد الخسران المبين: "لبيك إسلام البطولة، كلنا نفدى الحمى.. إن المرتدين قد باعوا البلاد، وعملوا لظوغلي" (مقر الأمن الوطني). مكه قال بابه مفتوح: "قال نتوب ونرجع"، أما الإخوان فلن تحيد عن قتال الطاغوت. حصار الأفكار داخل الزنزانة أخطر من حصار أمن الدولة والمحاكم على أبواب السجون والمعتقلات. فمن تخلى عن الطريق فهو خائن وعميل ومرتد، وإصابته الفتنة.
5 - أدب السجون وسينما الزنازينأدب السجون والمحن قديم، وقد عُرضت مقالات كثيرة عن أدب الزنزانة لكافة التيارات السياسية فى مجلة الهلال المصرية منذ أكثر من مئة عام. بعض الأعمال الدرامية مثل فيلم "الكرنك" لسعاد حسنى، و"إحنا بتوع الأتوبيس"، و"البرئ" كلها صُنعت فى الفترة الساداتية بعد التجربة الناصرية. بل ومعظم سير السجون انتشرت فى مرحلة الثمانينات مثل "فى الزنزانة" لعلى جريشة، و"البوابة السوداء"، و"سرداب الشيطان" لأحمد رائف، وغيرها من أدبيات الإخوان فى السجون.
ظهرت نماذج من الكتب التى تتحدث عن السجون والزنازين من الإسلاميين أو خصومهم من اليسار واليمين مثل "سنة أولى سجن" لمصطفى أمين، و"أقسمت أن أروزي" لروكسى معكرون، و"حوار مع الشيوعيين فى أقبية السجون" لعبد الحليم خفاجى، ومسرحية "التحقيق" لكاتب المسرح الألمانى بيتر فايس، وكثير من السير المرعبة عن حقبة عبد الناصر.
من أهم الأعمال السينمائية فيلم "الكرنك" لنجيب محفوظ وسيناريو ممدوح الليثى وإنتاج جمال الليثى عام ١٩٧٥، أحد قيادات مجلس قيادة الثورة، الذى سُجن فى قضية نواب القروض تقريبًا فى نفس الأقبية التى صُور فيها "الكرنك" بحسب ما روى لى فى إحدى الحوارات.
فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" لجلال الحمامصى، إنتاج ١٩٧٩، يظهر فيه السجين محمود. وفيلم "ليل وقضبان" والسجان شلقامى الشرير، تأليف الرائع نجيب الكيلانى، بإبداع حوارى مصطفى محرم، ونلاحظ أن تاريخ إنتاجه هو فبراير ١٩٧٣م، والعجيب أننا خرجنا بتعاطف مع السجين محمود ياسين.
عبقرية التفريغ السياسى فى المرحلة الساداتية أفرزت هذه المجموعة من الأفلام السياسية المعبرة عن واقع السيتينات، لكن سرعان ما جاءت حقبة الدراما الاجتماعية لتشد وتر المجتمع لحالة من القيم العالية، ولا ننسى "ليالى الحلمية" و"أربسك" و"المال والبنون".
الإخوان دائمًا ما يركزون على فكرة المحن والزنازين، وليس على الحضارة وبناء الواقع الطبيعى الذى تعيشه مجمل الشخصيات الإنسانية. فلو تبدلت المقاعد وأصبح الإخوانى حاكمًا، فسوف يمارس نفس العقلية الأمنية التى تتحسب وجوده وتحركاته. عقلية الإخوانى بعيدة عن النقد الذاتى، ولن يجيبوا عن الأسئلة الآتية أبدًا: لماذا أدى الأمر إلى السجون؟ وما هو الدافع لوجود سجون ومعتقلات تدفع الشخصيات الإخوانية إلى السجون؟ لماذا لا يتأمل الإسلاميون سر الفشل المتكرر فى كثير من الأمور السياسية؟ لماذا ينكسر كثير منهم فى تجربة السجون؟
فى مجمل تصورى، الفكرة مركب نفسى ناتج عن التوتر بين اليأس والاطمئنان، مما يدفعهم إلى تبنى المحن دائمًا. إن الدارسين للتاريخ دائمًا ما يلاحظون أن المحن تتبعها تجارب إنسانية رائدة وناجحة، مثل حياة النحل والنمل، حيث يكون هناك عمل شاق ولكن ينتج عنه حالة الرحيق المختوم والشغيلة فى حياة النمل.
المحنة التى تطول بهذا الشكل ينتج عنها خلل فى التكوين النفسى والإيمانى، لأن الجماعات والتنظيمات والدول لها دورة حياة متكاملة، تبدأ من الصعود ثم القوة، ثم الأفول، ثم السقوط، تمامًا كالجماعة البشرية. فدورة الحياة المتكاملة لا تقف عندها الإخوان ولا أخواتها من جماعات الإسلام السياسى.
عقلية تجربة تنظيم ٦٥ تبدو واضحة فى اختيار عنوان المسلسل والرقم، ويبدو أنه مقصود لأن الرقم بحسب بعض المصادر تغير عدة مرات، وهذا يشى بدلالات كثيرة، أهمها تاريخ القبض على سيد قطب ووقوع تنظيمه الشهير فى قبضة السلطات الأمنية، وانتقال الجماعة من المرحلة البناوية إلى القطبية.