الاتفاق الإطاري: لو أوقفوا الحفر
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
(1-2)
عبد الله علي إبراهيم
كان خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات "الدعم السريع" الذي أذاعه في التاسع من أكتوبر الجاري مما ملأ السودان وشغل الناس في الأسبوع الماضي. وكان توقيت الخطاب بعد خسارة "الدعم السريع" لعدد من المواقع لمصلحة القوات المسلحة وهجوم حميدتي العاصف الذي لم يترك أحداً، مما أوحى لبعضهم بأنه كمَن رأى نذر الهزيمة فأقلقت مضجعه، وهذا إبعاد في النجعة مع ذلك.
وحظي حديث حميدتي عن الاتفاق، الذي وقعه الجيش و"الدعم السريع" و"قوى الحرية والتغيير" في ديسمبر 2022، بأكثر التعليق. فذكر فيه بروز بعض قادة "الكيزان" على الساحة السياسية خلال الأيام الماضية ليستنكر ذلك من المجتمع الدولي وأميركا بالذات. فقال إن هذا المجتمع لو أراد أصلاً العودة بـ"الكيزان" لمسرح السياسة كما نرى، فلماذا جاء بالاتفاق الإطاري الذي دمر بلدنا؟ فـ"الإطاري"، على حد قوله، هو سبب الحرب. وزاد أنه لم يرفض الاتفاق في يومه وقبله كمرحلة انتقالية ولكنه كان يعرف أن فيه "حاجات" حدث بها المجتمع الدولي، وما اعتبروها. فحدّث ممثلي هذا المجتمع بأن ذلك الاتفاق لن يتحقق. وسأل لماذا أنشأتموه؟ هل لتدمروا السودان؟ أليس كذلك؟، حسناً. ثم عاد للهجوم على الإطاري في نهايات خطابه. فحمّل المجتمع الدولي مسؤولية خراب السودان، وكان سبق أن قال لهم إن "الإطاري سيدخل البلد في مشكلات حرب" على رؤوس الأشهاد.
الطرف الثالث
كان وقع الهجوم على "الإطاري" ثقيلاً على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية "تقدم" التي كانت هي الطرف الثالث في التوقيع على ذلك الاتفاق، وظلت تزكيه كالبلسم الشافي المنتظر لأزمة السودان بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021 لولا أن الكيزان كانوا قد بيتوا النية على تخريبه حرباً ليعودوا إلى الحكم بعد إجلائهم منه بعد ثورة ديسمبر 2018. ولا ريب أن تحرجت "تقدم" من هذا التوزير بالحرب يأتيها من مأمن. وأمسك أحمد طه، الإعلامي بشبكة "الجزيرة" بزمام هذه الحرج حين قال لبكري الجاك، المتحدث الرسمي لـ"تقدم" على برنامجه، باجتماع طرفي الحرب على تحميل "الإطاري" وزر الحرب. فكان ذلك رأي الإسلاميين فيه وها هو "حميدتي" يتفق معهم.
صرف بعض أهل "تقدم" نكير "حميدتي" على "الإطاري" بالإتيان بأحاديث سبقت له لم يرَ فيها بـ"الإطاري" ما رآه الآن. فجاؤوا بفيديو له قبل التوقيع على "الإطاري" اتفق فيه معه جملة وتفصيلاً. وقال إنه هو المخرج من الأزمة السياسية التي تأخذ بخناق البلد وتكاد تعصف به بددا. وقال إن من وراء "الإطاري" جماعة قليلة كتبته في قالب جاهز في ورقة كتلك (وعرض ورقة على المستمعين) فيها ثمان أو تسع فقرات. وقال إنه سألهم إن كان كلامكم ذلك "بيبقى" أي يصير. فأكدوا له أنه صائر. فسألهم إن كانوا سينطون منه فقالوا لا. وسألهم إن كانوا سيرجعون عنه فقالوا لا. فقال لهم بسم الله الرحمن الرحيم ومن هنا ولقدام. وقال للمستمعين إن ذلك الاتفاق مخرج البلد فتمسكوا به، لا رجعة منه والمجتمع الدولي كله واقف معه.
وإذا كان ثمة درس من المبارزة بنصوص "حميدتي" هذه فهو أنها ربما صح تجاهلها كبينة على رأيه في "الإطاري" إيجاباً وسلباً. وإن كان غريباً أن يبدو "حميدتي" حتى في النص الذي جاء به أهل "تقدم" كبينة على موافقته على "الإطاري" متشككاً في سداده، أو أنه سيقطع بنا المسافة إلى بر السلامة من الأزمة السياسية. فكرر قوله لقوى الحرية والتغيير (قحت) إن كان الإطاري "حيبقى"، أي سيجد طريقه للتنفيذ، وأنهم على قلب راجل واحد خلفه. وربما صدق هنا في قوله في خطابه الأخير من أنه حذر من الاتفاق الإطاري حتى وجد من طمأنه على أنه اتفاق سديد وسينزل برداً وسلاماً على السودان. وسيتعين علينا أن نعرف ما هي تلك "الحاجات" التي ذكر في حديثه الأخير والتي قال إنه كان يقولها لـ "قحت" وممثلي المجتمع الدولي وتغاضوا عنها. فواضح من النص القديم الذي جاء به أهل "تقدم" لإفحامه أنه كان قابلاً بالاتفاق باكراً فما دهاه، أنه كان في نفس "حميدتي" "شيء من حتى" الإطاري.
ونواصل.
الاتفاق الإطاري: لو أوقفوا الحفر (2-2)
كان خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، الذي أذاعه في يوم 9 أكتوبر الجاري مما ملأ السودان وشغل الناس في الأسبوع الماضي.
كان وقع هجوم حميدتي على الاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022)، الذي سعت به قوي الحرية والتغيير والمجتمع الدولي لحل الأزمة السياسية بعد انقلاب أكتوبر 2021، ثقيلاً على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية "تقدم" التي كانت هي الطرف الثالث في التوقيع على الإطاري بجانب القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وظلت تزكيه كالبلسم الشافي المنتظر لأزمة السودان بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2012 لولا أن الكيزان كانوا قد بيتوا النية على تخريبه حرباً ليعودوا للحكم بعد إجلائهم منه بعد ثورة ديسمبر 2018. ولا ريب أن تحرجت "تقدم" من هذا التوزير بالحرب يأتيها من مأمن. وأمسك أحمد طه، الإعلامي بشبكة الجزيرة، بزمام هذه الحرج حين قال لبكري الجاك، الناطق الرسمي ل"تقدم" على برنامجه باجتماع طرفي الحرب على تحميل الإطاري وزر بالحرب. فكان ذلك رأي الإسلاميين فيه وها هو حميدتي يتفق معهم.
صرف به بعض أهل "تقدم" نكير حميدتي على الإطاري واتهامه له بإثارة الحرب بصور مختلفة.
فاتفق كل من بكري الجاك ورشا عوض، الناطق الرسمي السابق ب"تقدم"، بأن تذنيب "تقدم" بإشعال الحرب على ضوء هجوم حميدتي الأخير عليه، قول مرسل. فاستنكرت رشا أن كيف لجهة مثل "تقدم" أن تشعل حرباً وهي بلا جيش في حين أن للكيزان جيش. وتساءلت عن أي سلطان لقوى مدنية مثلها على الدعم السريع حتى تأمرها بالحرب فتطيع وتشعلها. وسار بكري الجاك على نفس منوال رشا في تبرئة الاتفاق الإطاري و"تقدم" من جريرة شن الحرب. فقال إن حقيقة الأمر أن الإطاري ليس جهة تعطي الأوامر بالحرب. ولكن هناك من أعطى الأوامر بالحرب. وهناك من يجيش الجيوش. وهناك من يريد للحرب أن تستمر ويقوم بالتشوين والتسليح. فأين الإطاري هنا؟ وسمى من يتهمون الإطاري أو "تقدم" بإشعال الحرب بالسذج الذين يبسطون الأمور.
ويرى كل من بكري ورشا أن الحرب لا يشنها إلا من امتلك جيشاً. وزاد بكري بقوله إن الاتفاق ليس "شخص" و"لا جيوش" حتى يتهم بإشعال الحرب. والحرب أولها كلام في قول سائر. والوثائق مثل الإطاري "كلام" إن خرج عن الفطانة جر إلى الحرب التي هي السياسة بطريق آخر. فلم تبدأ الحرب الأهلية الأمريكية بتجييش الجيوش. فكانت انفجرت حول "قانون العبيد الآبقين" (1850) الذي عدل نسخته الباكرة (1793) تعديلاً أغضب الولايات الشمالية لأنه تشدد في استرجاع العبيد لأسيادهم بما فاق ما جاء في الصورة الأولى منه. وخلص بكري إلى أن هجوم حميدتي الأخير على الإطاري شهادة براءة ل"تقدم" مما توصف بأنها الذراع السياسي للدعم السريع حسب نظريته عن استحالة أن تركب تهمة تسبيب الحرب بمن خلا من جيش. فها هو الدعم السريع على خلاف معهم حول صمامة الإطاري. فحميدتي يراه سبباً من وراء الحرب بينما لا يرون هم رأيه. فلو كانوا تُبعاً له لما اختلفا.
بدا لي أنه لا رشا ولا بكري من أدرك أن اتفاقاً كالإطاري مباءة خطر كبير إن تنزل فطيراً على وضع هما من شدد على خطره. فقال بكري إنهم خرجوا بالاتفاق في قحت لأنهاء الأزمة التي نشأت بعد انقلاب العسكريين في أكتوبر 2021. فكان الانقلاب قد وصل إلى طريق مسدود لعام ونصف لم يتمكن خلالها من تشكيل أي حكومة. واستنكر أن يوصفوا بأنهم من أشعل الحرب وهم جماعة جاءت لتفكك تلك الأزمة. وكأن حساب من جاء إلى حل معضلة كالتي عطلت الدولة لعام ونصف مما يتم على فرط نبله لا حسن تدبيره. واستغربت لبكري يصف الإطاري بأنه "مجرد تصور مفاهيمي" لإنهاء الانقلاب العسكري في وضع سياسي ملتهب وصفه ب"تعدد الجيوش وتعدد مراكز القيادة" وغيرها من المشاكل بإصلاح المنظومة الأمنية العسكرية. وهو الإصلاح الذي تقرر به دمج الدعم السريع في القوات المسلحة على مراحل متفق عليها. وهو نفس الإصلاح، في قول رشا، الذي جرد القوات المسلحة والدعم السريع من السيطرة على 80 في المائة من إيرادات النشاط الاقتصادي. ولا أعرف كيف تسمى هذه السياسات التي تعيد تشكيل الجيوش المتعددة وتحرمها من موارد استأثرت بها طويلاً دون الدولة "مجرد تصور مفاهيمي" كأننا في حلقة دراسة أكاديمية لا بصدد سياسات ستتنزل على تراكيب ومصالح قوى عسكرية متحامرة.
ليس الاتفاق الإطاري شخصاً وليس لديه جيوش كما قال بكري. ونشهد لقحت أنها جاءت إليه بإملاء من نبل أرادت به فض الأزمة التي اشتهرت بأنها وضعت السودان على "شفا حفرة". ولكن النبل ليس استراتيجية. فظل حميدتي مثلاً يحدثهم عن "حاجات" في الاتفاق بدا أنها لم تتفق له. كما دأب على سؤالهم إن كان اتفاقهم هذا "سيبقى". ولم يطرأ لقحت أن تقف منه على ما كدر خاطره تجاه الاتفاق الذي كان سيمحو الدعم السريع من الساحة العسكرية والسياسية ولكن "على مراحل" اشتجر حلولها الخلاف من يومها الأول.
نعم كان السودان في براثن حفرة. وللحفر قانون يقول إذا وجدت نفسك في واحدة منها فتوقف عن الحفر. إلا إن قحت باتفاقها الإطاري واصلت الحفر. وانفجرت الحرب. ويقال لمثلها إذا كسرت شيئاً صرت مالكاً له بغض النظر عن حسن نواياك.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الاتفاق الإطاری القوات المسلحة المجتمع الدولی الدعم السریع على الإطاری بعد انقلاب بکری الجاک إن کان
إقرأ أيضاً:
حرب السودان في عامها الثالث: الجيش يتقدم وانتهاكات جديدة بواسطة الدعم السريع
على الرغم من الأحداث الجسام والمآسي الإنسانية الضخمة التي خلفتها الحرب المستمرة في السودان منذ عامين، إلا أن استعادة الجيش للعاصمة الخرطوم وتحرير مبنى القيادة العامة للجيش والقصر الجمهوري في قلب العاصمة، ومؤسسات سيادية وأحياء سكنية، يظل العامل الأبرز في حكايات الحرب اليومية الدامية.
إذ إن تحرير الخرطوم نقل توازن القوة لصالح الجيش بدرجة كبيرة، ففضلا عن استعادة العاصمة من مليشيا الدعم السريع والتي جاءت بعد زحف طويل ابتدأه الجيش من ولاية سنار 500 كيلومتر شرقي الخرطوم مرورا بولاية الجزيرة المهمة في وسط السودان ووصولا للعاصمة بمدنها الثلاث أمدرمان، الخرطوم والخرطوم بحري، فإن هذا الزحف مثّل تغييرا جوهريا في تكتيك الجيش الذي ظل يستخدم سياسة الدفاع عن مقاره تاركا لمليشيا الدعم السريع أن تتمدد في مساحة واسعة من جغرافيا البلاد، قبل أن يعيد الجيش تنظيم صفوفه ويعدل خطته في أيلول/ سبتمبر الماضي ويبدأ هجومه الواسع.
واليوم وبعد استعادة الجيش للخرطوم، حيث عبر الجسور من أمدرمان نحو الخرطوم وبحري وانتهى بدحر الدعم السريع إلى خارج العاصمة الخرطوم، تكون المرحلة الأولى من الحرب قد حُسمت لصالح القوات المسلحة السودانية، إلا أن هناك شوطا طويلا ينتظر الجيش لا يقل صعوبة عن مشوار تحرير وسط السودان، حيث تسيطر المليشيا على أربع من خمس ولايات في إقليم دارفور غربي السودان، مهد المليشيا وأرض حاضنتها الاجتماعية.
وقد كثفت المليشيا من هجماتها على الفاشر، عاصمة الإقليم، وسط تقارير عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ترتكبها المليشيا في محاولتها المستميتة لإسقاط الفاشر ليتسني لها تكوين حكومة موازية ظلت تعد لها منذ فترة انطلاقا من نيروبي، بعد توقيع تحالف سياسي َمع مجموعة منشقة من تحالف القوى المدنية (تقدم) التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، ولكن حالت انتصارات الجيش في الخرطوم والخلافات بين المكونات الداعمة للمليشيا دون إنجازها.
والأسبوع الماضي أدانت منظمات حقوقية ودول أبرزها مصر وقطر وتركيا وجامعة الدول العربية؛ هجوم المليشيا على معسكر زمزم للنازحين وارتكاب مجازر وسط المدنيين خلفت عشرات الجرحى والقتلى بينهم نساء واطفال.
حصاد الحرب خلال عامين.. دمار وانتهاكات مروعة
لم يصدق السودانيون ما آلت اليه الأمور في العاصمة الخرطوم، فبعد دخول قوات الجيش السوداني إلى المدينة وجد الناس أن حجم الدمار أكبر مما يتصورون، حيث بلغ حجم الخسائر في البنية التحتية الصحية حوالي 11 مليار دولار وخروج 70 في المئة من المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، فيما بلغ عدد الضحايا ما بين 70 ألفا و100 الف قتيل بين المدنيين، حسب تقارير وإحصاءات منظمات محلية ودولية.
وما زالت معاناة الآلاف مستمرة من نقص الخدمات الضرورية من الماء والغذاء والكهرباء والخدمة الطبية داخل العاصمة بسبب الدمار غير المسبوق في البنى التحتية والمؤسسات الخدمية، حيث توقفت معظم محطات المياه عن الخدمة بعد تعرضها للقصف، فيما تمت سرقة كابلات الكهرباء وشبكاتها الرئيسية وبيع محتوياتها من النحاس وتهريبها إلى دول الجوار.
وتسببت حرب العامين في لجوء حوالي عشرة ملايين مواطن سوداني إلى دول الجوار والخليج (منهم ثلاثة ملايين إلى جمهورية مصر العربية)، والبقية موزعون ما بين إثيوبيا وإرتريا وجنوب السودان وكينيا وأوغندا وتشاد والمملكة العربية السعودية والإمارات وبعض دول المنافي البعيدة، فيما آثر حوالي ثمانية ملايين النزوح داخل السودان إلى المناطق الآمنة في شرق وشمال السودان وأوسطه قبل سقوط ولايتي الجزيرة وسنار في أيدي مليشيات الدعم السريع، والتي غادرتها بعد انفتاح الجيش وتحريره لأجزاء واسعة من البلاد منذ مطلع العام الحالي.
وتشير التقديرات إلى خسائر عامة تجاوزت 215 مليار دولار، وقد تصل إلى ضعفيها حال تم حصر الخسائر المماثلة في ولايات دارفور وأجزاء من ولايات كردفان، بجانب تراجع العملة الوطنية وتوقف عجلة الإنتاج وتوقف صادرات السودان المتمثلة في الذهب والصمغ العربي والفول السوداني واللحوم.
وفي محور التعليم تعطلت العملية الدراسية، وحُرم حوالي ستة ملايين طالب من الوصول إلى المدارس، و714 ألف طالب من مواصلة تعليمهم الجامعي بسبب إغلاق الجامعات وتخريبها جراء الحرب.
وبعد إغلاق مطار الخرطوم الدولي صبيحة الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023 توقفت جميع شركات الطيران الدولية، وبالرغم من انتقال الحكومة السودانية الي العاصمة المؤقتة في بورتسودان لم تعد شركات الطيران العالمية للعمل في السودان باستثناء الخطوط المصرية والإثيوبية.
في هذه الظروف تسابق الحكومة السودانية الزمن في رحلة تطبيع الحياة وعودة سكان العاصمة إلى منازلهم التي أخرجتهم منها مليشيات الدعم السريع بداية الحرب وحولتها إلى ثكنات عسكرية، بهدف الاحتماء بالمدنيين واتخاذهم دروعا بشرية أمام هجمات الجيش السوداني.
وفي سبيل ذلك اتخذت الحكومة السودانية عدة خطوات بدأت بإعلان الأمانة العامة لمجلس السيادة بداية العمل في إعادة تأهيل القصر الرئاسي، أحد أبرز معالم العاصمة الذي تم احتلاله صبيحة أول أيام الحرب تمهيدا لإعلان سيطرة قوات التمرد على الحكومة بواسطة قائدها حميدتي والذي شوهد وسط جنوده عند مدخل القصر الرئاسي، وهو الظهور الأخير له داخل العاصمة قبل مغادرته لها لتلقي العلاج من إصابة بالغة يرجح أنه تعرض لها في الأيام الأولى من الحرب، فيما أعلنت قوات الشرطة عشية الذكرى الثالثة لانطلاق الحرب بداية عودة وحدات من قواتها إلى الخرطوم لمباشرة عمليات حفظ الأمن وتأمين المنشآت الحيوية.
وتنشط منظمات مجتمع مدني وجمعيات في دعم الجهود الحكومية لمساعدة السكان في العودة إلى منازلهم، عن طريق صيانة شبكات المياه والكهرباء وحملات النظافة والتعقيم وإزالة مخلفات الحرب والمتفجرات ودفن الموتى.
الفاشر.. المعركة الجديدة وملامح النموذج الليبي تلوح في الأفق
ثلاث ليال عصيبة عاشتها مدينة الفاشر وسكان معسكر زمزم للنازحين في شمال دارفور، فقد تعرضت المنطقة للقصف المدفعي والهجمات الأرضية والجوية المتواصلة بواسطة مليشيا الدعم السريع، في واحدة من أعنف موجات العنف التي تعرض لها المدنيون منذ اندلاع الحرب، وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، خلفت الهجمات أكثر من 100 قتيل، بينهم 20 طفلا، وإصابة ما لا يقل عن 200 آخرين. كما أُعلن عن مقتل 14 من موظفي منظمات الإغاثة الدولية الخيرية، في قصف استهدف مناطق سكنية ومقار إنسانية داخل مخيمي زمزم وأبو شوك. كما لقي متطوعون من الكوادر الطبية مصرعهم من ضمن الضحايا المدنيين.
إدانة دولية وإقليمية لأحداث الفاشر
وصف المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، القصف بأنه "كارثة إنسانية متكاملة"، وأضاف: "ما يحدث في شمال دارفور يهدد حياة مئات الآلاف، ويُظهر استهانة صارخة بالقانون الدولي الإنساني." كما أصدرت جامعة الدول العربية بيانا أدانت فيه الهجمات "بأشد العبارات"، واعتبرت ما حدث "جريمة ضد النازحين الأبرياء"، منوّهة بقرار مجلس الأمن رقم 2736 (2024) المطالب بفك حصار الفاشر وسحب الجيوش وكافة المظاهر العسكرية المهددة لحياة المدنيين من محيط المدينة، فيما سارعت عدد من الدول لإدانتها وسط مخاوف من مجازر وعمليات تطهير عرقي على غرار ما حدث لقبيلة المساليت في عاصمة غرب دارفور (الجنينة).
وتسعى مليشيا الدعم السريع لإسقاط مدينة الفاشر تمهيدا لإعلان الحكومة الموازية من داخل إقليم دارفور بولاياته الخمس الواقعة تحت سيطرتها، مع وعود بالحصول على اعتراف ودعم إقليمي ودولي.
وتشهد ولايات دارفور عمليات استقطاب وتجنيد مستمرة تقوم بها مليشيات الدعم السريع للشباب المقاتلين بواسطة زعماء الإدارة الأهلية إضافة إلى بقايا القوات المنسحبة من الخرطوم، تأهبا للهجوم على الفاشر، وسط مخاوف من ارتكاب جرائم جديدة ضد المدنيين فيها.
وما زالت قيادة الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني والقوات المشتركة المساندة لها صامدة داخل المدينة المحاصرة قرابة العامين، فيما أطلق حاكم إقليم دارفور، مني اركوي مناوي، نداء لقيادة الجيش بضرورة التحرك العاجل نحو المدينة بعد اتساع رقعة انتشار الجيش السوداني.
ويشكل سقوط مدينة الفاشر حال وقوعه خطوة مهمة في اتجاه إعلان حكومة تحالف (الدعم السريع والأحزاب المنشقة عن الدكتور عبد الله حمدوك)، وتطبيق النموذج الليبي في السودان وبداية صفحة جديدة من النزاع وعدم الاستقرار في السودان ومحيط الإقليمي.
دبلوماسيا وسياسيا، نظرت محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ في الدعوى المقدمة من الحكومة السودانية ضد الإمارات لدورها في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع، في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة السودانية العودة إلى مفاوضات جدة إلا بعد تطبيق البنود الموقعة والقاضية بانسحاب الدعم السريع من المدن والأحياء السكنية والأعيان المدنية وتجميع قواته داخل ثكنات عسكرية خارج المدن.
وتحظى معركة الفاشر باهتمام دولي وإقليمي واسع باعتبارها النسخة الجديدة من حرب السودان في عامها الثالث، حيث ترمي مليشيا الدعم السريع بكامل ثقلها السياسي والعسكري لدخول المدينة الصامدة في وجه الحصار والمذابح والمجازر البشرية المتكررة ضد المدنيين لإرغامهم على النزوح. ويقود معركة الفاشر من جانب الدعم السريع؛ نائب القائد العام عبد الرحيم دقلو شخصيا، فبعد جولة خارجية قام به الأخ غير الشقيق لقائد المليشيا لجلب العتاد والسلاح، عاد دقلو إلى دارفور وأشرف بنفسه على تدريب المئات من الشباب بغرض إعادة الروح لقواته المنهكة الهاربة من الخرطوم، يقابل ذلك صمود أسطوري لقوات الجيش السوداني والقوات المشتركة مع اقتراب فك الحصار عن الفاشر بواسطة متحرك الصياد وقوات أخرى تتمركز في إقليم كردفان.
استهداف البنى التحتية وسيلة جديدة للضغط على البرهان
تصاعدت جماهيرية قائد الجيش السوداني الجنرال البرهان عقب الانتصارات الكبيرة في ولاية الخرطوم والجزيرة، وبدأت مظاهر الحياة من خلال العودة الطوعية من داخل وخارج السودان، وسط تنبؤات بعودة الحياة إلى طبيعتها في الخرطوم بالتزامن مع إعلان عدد من البعثات الدبلوماسية رجوعها إلى مقارها الأساسية واتساع الرقعة الأمنية، وتأكيدات القائد البرهان بمضي مسيرة التحرير الكامل للتراب السوداني.
واتجهت مليشيا الدعم السريع الي استهداف البنية التحتية في عدد من الولايات أبرزها الشمالية ونهر النيل، حيث دخلت الأخيرة أسبوعها الرابع بلا كهرباء بعد استهداف سد مروى ومحطات الكهرباء في عدد من مدن الولاية، كما تأثرت ولاية الخرطوم والبحر الأحمر بتعطيل محطة كهرباء عطبرة بواسطة مسيّرات الدعم السريع.
كما قصفت مسيّرات الدعم السريع مستشفيات وأعيان مدنية في ولاية النيل الأبيض، بجانب المجزرة البشعة في ضاحية صالحة في أمدرمان التي راح ضحيتها 31 شابا مدنيا قتلتهم قوات الدعم السريع، ووثقت ذلك وأقرت به للعالم الذي لم يحرك ساكنا تجاه ذلك. ويرى مراقبون بأن ذلك يأتي في إطار ضغوط للعودة إلى المفاوضات التي يرفضها الجيش حاليا.
ووسط المعاناة التي يعيشها المواطن السوداني بسبب انقطاع الكهرباء والماء مع دخول فصل الصيف، بث البرهان تطميناته بأن مسيّرات الدعم السريع لن تستطيع تهديد المنشآت الخدمية قريبا.