الدكتور الخضر هارون
maqamaat@hotmail.com
في مجموعة قصصية للقاص المصري يوسف إدريس بعنوان (الندّاهة) ,قصة بعنوان ( مسحوق الهمس) تصور بدقة مشاعر سجين لا رجاء لديه في الخروج من محبسه. والسجن لأي سبب كان شديد القسوة علي الإنسان وقد أحسنت العرب حين وصفته بأنه (موت الإحياء وشماتة الأعداء!). قد يختلف مذاقه بين صنديد صاحب مباد نبيلة استرخص في سبيلها كل دعة وراحة و رغد فهو يجد ذلك كله في صموده في محبسه يبلغ أحياناً حد الزهو بالانتصار لكن ذلك لا يعني ألا تراوده الحاجة لإشباع الغرائز المركبة فيه كمخلوق من لحم ودم ينازع بين المثل العليا المبرأة من جزيئيات المادة وبين مكونات التراب فالناس جميعا تتراوح رحلات الحياة لديهم بين السماوات والأرض.
والذي يعنينا هنا أن الرجل ذاق مرارة السجن فجاء وصفه لتلك المرارة عن تجربة حقيقية في (الليمان). يقول: " من قال إن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ إن فقدان حرية الإنسان ليس سوي الإحساس السطحي الأول.... فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة, كل ما يملكه أو باستطاعته امتلاكه, كل قدراته ومكتسباته...كل ما ينفرد به كشخص..."
ومع ذلك يعيش الأمل بين جوانحه, " يصل الأمر ليفسر كل فتحة باب علي أن الشاويش قادم بأمر الافراج وكل حذاء ثقيل يدق أرض العنبر انه حذاء المأمور او المدير جاء يحمل قرارا بالإفراج..."
وفي ذات يوم جاء العسكري عبد الفتاح الطويل الرفيع الأسمر وقبل ان ينطق بكلمة كانت عصاه الخيزران تدق علي باب الزنزانة , دقات كمزاج صاحبها في النهار ,عصبية متعجلة ملحة :
- يالله...لِم عزالك ..ياالله..شيل نزامك "نظامك " برشك وبطانيتك.. وتعال بسرعة! "
-
كل سجين متلهف للحرية يظن أن معني ذلك الإفراج ولكن ويا لمرارة الحسرات كان الأمر انتقالا من زنزانة إلي أخري في أقصي عنابر السجن مجاورة لسجن النساء .وفي السجن قالة يسعد بتكرارها كل سجين بأن أحد السجناء كان قد أحدث في الجدار نقباً أوصله إليهن! فتعلق الأمل بتلك الجيرة وغرق السجين في الأحلام وطفق ليله ونهاره ينقر في الجدار السميك الذي ضاعفوا متانته كي يستعصي علي النقب. وتوالي النقر علي الجدار أسبوعا حتي أيقن صاحبنا بخياله الجامح أنه بدأ يتلقى نقرات عبره ردا علي نقراته . وخال الناقرة بيضاء شقراء فارعة الطول وربما تخيلها لطيفة بريئة لم ترتكب جرماً قادها إلي السجن بل سوء الطالع لا سوء الطوية هو الذي فعل ذلك وربما ظلم الظالمين وحسد الحاسدين. وعاش أياماً تقتات مشاعره المرهفة علي هذا الخدر اللذيذ فأطلق علي هذه المحبوبة المتوهمة عبر الجدار الصلد اسم (فردوس). " أناديها بأعلى ما أستطيع من همس: سامعاني؟
- وتناديني دون أسمع لها صوتاً: أنت فين؟"
. قال " وجاءت مرة فرصة حين انتهت النوبة وجاءت نوبة جديدة وأصبح الاومباشي عبد الفتاح الرفيع ذو العصا حارسا لليل في الدور الذي احتلُ احدي زنازينه ..جاءت الفرصة لأني اعرف ان عبد الفتاح العصبي المتعجل بالنهار غيره عبد الفتاح حارس الليل حيث لا توجد عيون الشاويشية والضباط حيث لا عصا وحيث تعود إليه طبيعته الصعيدية البسيطة ويصبح الطريق إلي قلبه كوب شاي مصنوع علي السبيرتو المهرب والطريق إلي لسانه سيجارة بلومنت . تحدثت إليه . قال "عبر باب زنزانتي المصنوع من عمدان حديدية متينة .وقفنا بعد العشاء ندردش ونتحدث وبمهارة قدت الحديث الي اللومنجي (السجين) الذي ثقب الحائط, ضاحكاً قائلا له انني لطالما فكرت أن أصنع مثله ..وشخشخ صدر عبد الفتاح وهو يضحك ويقول:
- بس المرة دي ح يطلع نقبك علي شونة ( أي من غير نتيجة).. أمال علي شونة.. وسألته كيف؟ فقال:
- دول خلاص عزلوا .... كل الحريم راحوا القناطر.. كلو عزل ..كلو...ودق الخاطر في رأسي اذن هذا هو السبب في رحيلها المفاجئ لا بد!
- وقلت لأتأكد:
- اظنهم نقلوهم بقي من حوالي عشرة أيام كده؟
- فعادت إليه العصبية:
- لا...لا.لا...عشرة أيام إيه...أنت نايم حضرتك.. دول من زمان... زمان خالص. من ثلاثة أشهر... بيجي من أربعة أشهر..
كدت اقهقه قهقهة من فقد العقل... أليس من الجائز ألا تكون هناك فردوس بالمرة؟ بل من يدري لعل الهمس المسحوق همس رجل كان يعتقد أنه يخاطب به أنثي؟؟ "
وفي ظني أنا كاتب هذه السطور، أيها السادة وأيتها السيدات أنه كان كذلك!!
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: یوسف إدریس عبد الفتاح
إقرأ أيضاً:
انا بتفق مع الاستاذ يوسف عزت كبير مستشارى الدعم السريع (سابقا؟) لانه علي حق
نصيحة انا بتفق مع الاستاذ يوسف عزت كبير مستشارى الدعم السريع(سابقا؟) لانه علي حق.
ظل من الواضح ان ضلعي الحلف الجنجويدى – الضلع المقاتل في الميدان والضلع الموفر للمال والسلاح – قد قاما بواجبهما خير قيام بما يكفي من شراسة وسخاء. لكن الضلع الثالث المسؤول عن توفير الحشد السياسي والغطاء الاعلامي قد فشل فشلا زريعا لتدني قدراته ولانه جبن واراد التظاهر بالحياد واللعب علي كل الحبال حتي يسلم بالحفاظ علي خط رجعة لو فشلت المغامرة.
لذلك من حق السيد المستشار عزت ان يصرف لهم بركاوى وكذلك من حق الضلع الممول ان يدبل البركاوى. ما معقول دايرين السلطة باردة علي حساب دماء الاشاوس ومن غير ما تخاطرو باي حاجة.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب