في مقال يوم الثلاثاء (الخامس عشر من أكتوبر) للأخ الكاتب بدر العبري والمعنون بـ«الدّولة الوطنيّة في العالم العربيّ وما بعد فكرة الخلافة»، فقد استهله بأنه مع: «سقوط الدّولة العثمانيّة عام 1922م انتهت دولة الخلافة، وبدأ تكوّن الدّولة الوطنيّة القِطْريّة، ومفهوم الدّولة بمعناها الإقليميّ الوطنيّ التّعاقديّ تبلور بشكل كبير في الغرب بعد عصر الأنوار».

مضيفًا في فقرة أخرى من هذا المقال، ما أسماه بـالمراجعات: «وأجرأها ما قدّمه عليّ عبد الرّازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، والذي صدر مبكرًا عام 1925م، الذي خلص فيه إلى «أنّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- ما كان إلا رسولا لدعوة دينيّة خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنّه لم يكن للنّبي -صلّى الله عليه وسلّم- ملك ولا حكومة، وأنّه -صلّى الله عليه وسلّم- لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الّذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرّسل، وما كان ملكًا، ولا مؤسّس دولة، ولا داعيًا إلى ملك». كما طرح الزميل الكاتب قضايا أخرى جدلية تحتاج إلى حوارات مستقلة عن هذا الموضوع المطروح. فلا شك أن سقوط الدولة العثمانية، جاء بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا السقوط جاء نتيجة للرجل المريض كما سميت من قبل الباحثين، وتم إسقاطها بانقلاب من قبل بعض الضباط العسكريين، ومنهم الجنرال أتاتورك المعروف بميوله العلمانية، لكنني، أخالف الكاتب العبري أن الدولة العربية القطرية، لم تأتِ مباشرة بعد انتهاء الخلافة العثمانية، بل سبقتها الدولة العربية التقليدية، التي كانت موجودة حتى في فترة الدولة العثمانية، لكن قيام الدولة العربية القطرية، سبقتها دعوات للوحدة العربية، ودعوات أخرى للوحدة الإسلامية، لكن الاستعمار جاء محتلًا مع وجود الدولة العثمانية، وبعد سقوطها استكمل احتلاله لبعضها، وساهم في التفتيت وتشجيع التجزئة وليس الوحدة، وبعد استقلال بعض هذه الدول، أصبحت الدولة العربية القطرية واقعا لا مفر من القبول بها.

أشار الكاتب العبري في مقاله إلى كتاب علي عبدالرازق ـ رحمه الله ـ (الإسلام وأصول الحكم)، واعتبر العبري أن هذا الكتيب من ـ أجرأ المراجعات ـ بحسب قوله، وخلاصة قول علي عبدالرازق إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: «ما كان إلا رسولًا لدعوة دينيّة خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة». وهذا الكتاب الشهير (الإسلام وأصول الحكم)، الذي لا يتجاوز المائة والعشرين صفحة، لم يطرح فيه رأيًا متماسكًا، كما أن هذا الرأي الذي وضعه علي عبدالرازق، يعتبر سابقة في الفكر الإسلامي، بما طرحه في هذا الكتيب من آراء، ذلك أن الإسلام وإن كان لم يعتبر الدولة والسلطة جزءا من الدين، لكن الدولة والسلطة ضرورة من ضرورات تطبيق شرائع الدين؛ لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وهذه الشريعة لا بد لها من الدولة والسلطة، وقد تحققت هذه الدولة في العصر الراشدي، وما بعده، وهذه مسألة بديهية وضرورة عقلية للأمة وللمجتمع، لتطبيق الدين وتنفيذ أوامره وتكليفاته التشريعية. ولم يقل أحد أن الدولة والسلطة أمر إلهي، والفقهاء المسلمون في أغلبهم اعتبروا الإمامة من الفروع وليست من الأصول، صحيح أن الإسلام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، جاء ليقيم الدين في الأساس، وهداية البشر، وتنمية الإنسان على الأخلاق والسلوك والقيم إلخ، لكن هذا الدين ليس عقيدة فحسب، بل إن الوحي الإلهي جاء بتشريع مع هذا الدين، ليتم تطبيقه على هذه الأمة، وهذا التشريع لا بد من دولة وسلطة لتنفذه وتطبقه، لتنظيم العلاقات بين الناس.

وقد ناقشت في كتابي (الأمة والدولة المواطنة)، قضية الدولة ومقومات قيامها وأسسها، لذلك الذي قاله عبدالرازق فيه أيضا خلط عجيب بين الرؤية الإسلامية للدولة كما عُرف عنها، وما كانت عليه الكنيسة المسيحية، قبل تجريدها من صلاحياتها في القرن الثامن عشر الميلادي. وهناك الكثير من المواقف للخلفاء الراشدين، تبرز أن الخليفة أو أمير المؤمنين، رأيه ليس معصومًا ولا مقدسًا، وأبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، قال في اليوم التالي لتوليه الخلافة، بصفته وقفًا يحدد برنامجه السياسي بـمقاييس ذلك العصر: «أيها الناس: إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح عنه علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله». وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال في إحدى المناسبات: «لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة». والتاريخ الإسلامي يحفل بالكثير من المواقف التي تبرز مدنيّة الدولة، ولا عصمة ولا قدسية لزعماء الأمة وسياساتهم، ولم يقل أحد بذلك، عدا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بموجب الوحي الإلهي.

فالإسلام ليس كهنوتًا ولا ادعى أحد أن الدولة في الإسلام، تعد أمرًا منصوصًا عليه في القرآن الكريم، إنما الإسلام أقام دولة وسلطة مدنية منذ العصر الأول - وليست دينية بما كانت عليه الكنيسة في القرون الوسطى- وكانت تقوم بواجباتها السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، وهذه من سنن الحياة الطبيعية، لكل الأمم والشعوب، وقد رد على الشيخ علي عبدالرازق، العديد من العلماء والباحثين، بعد صدور كتابه هذا، ومن هؤلاء الذين ردوا على هذا الكتاب العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (نقد علي لكتاب الإسلام وأصول الحكم) والشيخ أحمد الخضر حسين في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) حيث فنّدوا كل ما قاله عبدالرازق، بعيدا عن النقد العنيف أو التشهير أو التكفير، والإشكالية أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، طرح حججًا غير سليمة في رؤيته هذه خاصة ما قاله إن الإسلام دين لا دولة ـ رسالة لا حكما ـ وكان ردهم عليه: إن الخلافة أو الرئاسة السياسية للمسلمين ليست منصبا دينيا، أو جزءا من رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ المحتجّين لها أو لطابعها الديني إنما يؤسِّسون ذلك على الإجماع، وليس على الكتاب أو السُّنة».

والشيخ علي عبدالرازق ناقضَ نفسه بنفسه في هذا الكتاب عندما قال في هذا الكتاب: إن (الإسلام دين فحسب)، لكنه اعترف في الكتاب نفسه، أن الرسول لم يكن رسولا فحسب، بل إنه كان حاكما، حيث قال ما نصه: «من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته سلطانا عاما، وأمره في المسلمين مطاعا، وحكمه شاملا، فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نوع مما يتصور من الرئاسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين» ص69 من كتاب (الإسلام وأصول الحكم). وهناك أقوال عن أسباب صدور هذا الكتاب أن الشيخ علي عبدالرازق وأسرته ينتمون لحزب الوفد وهو حزب الأغلبية في مصر في عهد الملك فؤاد، وشاع الكلام أن الملك فؤاد سيعلن نفسه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية، وهذا لم يرض عنه حزب الوفد لأسباب سياسية وحزبية، فجاء إصدار هذا الكتاب.

ومن الباحثين من غير التوجهات الإسلامية، خاصة من التوجهات القومية والعروبية والليبرالية، خالفوا عبدالرازق فيما قاله: إن الإسلام دين لا دولة، فكتبوا عن قيام الدولة منذ العصر الأول ومن هؤلاء: د.محمد عابد الجابري في كتابه (الدين والدولة وتطبيق الشريعة) ود.برهان غليون في كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين) ود.عبد الإله بلقزيز في كتابه (تكوين المجال السياسي الإسلامي، ود.هشام جعيط في كتابه (الوحي، القرآن، النبوة). ومن الباحثين البارزين الذين ناقشوا علي عبدالرازق برؤية منهجية وموضوعية د.عبد الإله بلقزيز في كتابه (تكوين المجال السياسي الإسلامي)، فيقول في ص 137 (ميلاد دولة): «وضعت دولة المدينة، في عهدها النبوي، أسس دولة المسلمين اللاحقة سواء في تنظيمها السياسي ـ الإداري أو تنظيمها الاقتصادي (...)، حيث مؤسس الجماعة الإسلامية محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم نبي وقائد سياسي وعسكري ورئيس الدولة». وفي كتاب د.بلقزيز الآخر: (العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين) ص:(142،140)، يرى أن الارتباك كان واضحا في الرؤية العامة لما يريده عبدالرازق في رصد التجربة النبوية: «ذلك ما يستفيده قارئ علي عبد الرازق، يحاول الأخير تبديد الاشتباه ذاك وبيان غياب لحظةٍ سياسية فيهما. لكن القارئ نفسه لا يملك مقاومة الشعور بأن حجة عبدالرازق لم تكن قوية بما يكفي لتأسيس موقفه على النحو الرصين. إذ كان يخالطه الكثير من الارتباك، ناهيك عن تناقضات لم تكن تسمح لخطابه في المسألة بالتماسك، فحين يكتب أن الجهاد «كان آية من آيات الدولة الإسلامية، ومثالًا من أمثلة الشؤون الملكية».(...)، ينتهي إلى إسقاط الماهيتين السياسية والدينية عنه من دون أن يثبت له ماهية أو يقرر له صلة بأي من السياسة والدين»!.

والواقع أن الزميل الكاتب بدر العبري في هذا المقال، لم يتناول قضية الخلافة أو الدولة الوطنية القطرية بعدها، وكتاب علي عبدالرازق تناولًا محايدًا تتعدد فيه الآراء وقرأ كثيرا عن الكتاب، وكان يفترض أن يأخذ الآراء الأخرى التي ناقشت عبدالرازق، سواء بالتأييد أو النقد المخالف لفكرته، لكنه اقتصر على رأي واحد أوحد، ولم يخرج عنه، ويبقى الرأي والرأي المخالف مهمًا، كمن يرمي حجرًا في المياه الراكدة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم الدولة العربیة الدولة والسلطة علی عبدالرازق هذا الکتاب فی کتابه علی عبد الد ولة فی هذا ما کان

إقرأ أيضاً:

هالة أبو السعد: الحوار الوطني ضرورة وجودية لمواجهة التحديات الإقليمية وحماية الهوية الوطنية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قالت النائبة الدكتورة هالة أبو السعد، وكيلة لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بمجلس النواب، إن لقاء الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مع المستشار محمود فوزي، رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني، يعكس إدراك الدولة العميق لأهمية الحوار الوطني كآلية فعالة لاستيعاب التنوع الفكري والسياسي داخل المجتمع المصري، والعمل على تحويله إلى طاقة إيجابية تصب في خدمة قضايا الوطن.

ولفتت أبو السعد  في بيان لها، أن الحوار الوطني في هذه المرحلة ضرورة وجودية ترتبط بملفات مصيرية تفرضها التطورات الإقليمية والدولية، مشيرة إلى أهمية أن يناقش الحوار الوطني المستجدات الخارجية التي تحدث على الساحة جراء المتغيرات المتلاحقة في المنطقة وسط أجواء من الصراعات والتذبذبات وكذلك السياسات الخارجية وأولويات التحرك المصري، بما يعزز من وحدة الموقف الداخلي، ويُعد الرأي العام لدعم توجهات الدولة ومساندتها في ظل ظروف استثنائية .

وأوضحت الدكتورة هالة أبو السعد أن قضايا الإعلام والدراما والثقافة تمثل حجر زاوية في معركة بناء الإنسان المصري وتعزيز هويته الوطنية، لافتة أن المجتمع ما زال بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة وعميقة للخطاب الإعلامي والمضامين الدرامية بما يجعلها أكثر ارتباطًا بالواقع المصري، وأكثر قدرة على حماية الهوية الوطنية من محاولات التزييف والاختراق الثقافي.

وأضافت أن تأكيد رئيس مجلس الوزراء على الاستعداد الكامل للاستماع إلى رؤى المثقفين والخبراء يعكس قناعة راسخة لدى الدولة بأن معركة بناء الإنسان لا يمكن أن تنجح دون مشاركة واسعة من كافة قوى المجتمع الحية، مشيرة إلى أن المضي قدمًا في تفعيل مخرجات الحوار الوطني، تعد التحدي الحقيقي الذي سيحدد مدى قدرة الدولة المصرية على تحقيق مشروعها الطموح لبناء الإنسان وتحديث الدولة.

مقالات مشابهة

  • هالة أبو السعد: الحوار الوطني ضرورة وجودية لمواجهة التحديات الإقليمية وحماية الهوية الوطنية
  • رئيس وزراء لبنان: حصر السلاح بيد الدولة سيناقش قريبا
  • حسان .. لن نسمح لأحد أن يتدخل بشؤون الأردن أو أن يملي عليه
  • رويترز عن مسؤول بحزب الله: مستعدّون لمناقشة مسألة أسلحتنا إذا انسحبت إسرائيل وأنهت ضرباتها
  • الراعي استقبل نكد معايداً: كهرباء زحلة نموذجا للحفاظ عليه وتعميمه
  • المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث
  • الدكتور السيد عبد الباري: النصر والتمكين سيكونان لأمة الإسلام في النهاية
  • أدعية زيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • ما موقف الإسلام من دراسة الساينس (العلم التجريبي)؟.. علي جمعة يوضح
  • حكم زيارة القبور والأضرحة في الإسلام.. أمين الفتوى يجيب