هل يمكن القول إن الهوية الاتصالية للعالم، كما بدت منذ تسعينيات القرن الماضي عبر ثورة الاتصال والمعلوماتية، هي مؤشر لدخول مجتمعات البشر في أزمنة سائلة؟ أي من حيث كونها أزمنة يوازي فيها إيقاع الحياة سرعةً وسيولة هي على النقيض من الحركة النسبية لعالم القرن العشرين؟ (ذلك القرن الذي نعته المؤرخ الإنجليزي إريك هابزباوم بـ«عصر التطرفات» وأرَّخ له حقبة أقصر من الحقب المعهودة للقرون (100عام).
وفيما بدت له حقبة التسعينيات كما لو أنها عشرية متقدمة للقرن21. واستشرافًا لطبيعة الزمن القادم / الزمن السائل؛ صدَّر هابزباوم (الذي رحل عن عالمنا في 2012 عن 95 عامًا) أحد فصول الكتاب بهذا الاقتباس: «نحن في بداية عصر جديد يتميز بقدر كبير من انعدام الأمن وبالأزمات الدائمة، وغياب أي شكل من أشكال الوضع الراهن، ينبغي أن ندرك تمام الإدراك أننا نواجه الآن واحدة من أزمات التاريخ العالمي». وسيبدو واضحًا أن إحدى سمات السيولة في هذه الأزمنة الجديدة تكمن في الهوية اللامركزية للكثير من أنظمتها، بخلاف الهوية الصلبة للأنظمة التي طالما كانت تحكم مجتمعات البشر في عالم القرن العشرين وما قبله. ذلك أن تعدد وسائط الإعلام وانتشارها وسيولتها، كالسوشيال ميديا، وسهولة خلق عالم خاص وموازٍ في تعزيز العزلة الشخصية للفرد، مع القدرة -في الوقت ذاته- على الاتصال الفوري بأي شخص في العالم.. كل هذه السمات تنحو إلى تشويش مفهوم الحدود الصارمة والأنظمة الصلبة في حياة المخضرمين الذين عاشوا طرفًا من أزمنة نهايات القرن العشرين، فيما هم يخوضون هذا الزمن الجديد(ككاتب هذه السطور) بعيون مفتوحة على الدهشة. فهذه الأزمنة السائلة اليوم، وهي بطبيعة الحال عالقة عبر خيط غير مرئي بالأزمنة التي سبقتها، تنحو باستمرار نحو تمييز سريع يقفز قفزًا بمتوالية تغيير هندسية نحو عالم أكثر سيولةً وغموضًا. وحين يغترب الإنسان أكثر عن ذاته في هذه الأزمنة السائلة يسكنه خوف منها، ومن مستقبلها القريب الغامض، إنه خوف لا ينبع من الثقة بقدرة ما على التأقلم، وإنما ينبع من جهل الإنسان بالأسرار التي تخبئها له معجزات المعرفة ومفاجآت الذكاء الاصطناعي، وما ستطبعه التحولات على حياة الناس والأجيال المقبلة؟ في السياسة كما في التكنولوجيا والعوالم الأخرى، سيبدو تشابك حياة مجتمعات البشر في عالم العولمة هذا ومزيجه المعقد، أحد أهم دوافع التشكيك بالكثير من القناعات لاسيما قناعات أولئك الذين عاصروا في حياتهم طرفًا من أزمنة القرن العشرين وأجوائه. إن السيولة التي ضربت عالم السياسة منذ نهاية الحرب الباردة حطمت الكثير من القناعات الساذجة، وكشفت عن مواجهات عارية تعيَن على المجتمعات الساكنة (مجتمعات العالم الثالث) التعرض لضرباتها التحويلية وصدماتها الدموية الخطيرة، فهزت ثقة تلك المجتمعات بالكثير من قناعاتها الافتراضية؛ ليبدو البؤس الذي جلبته العولمة على حياة مجتمعات العالم الثالث هو أحد أهم معالم تلك الصدمات. وكما ظهرت مفاهيم «ما بعد» : ما بعد الحداثة، ما بعد الدولة القومية، لتنتصب دالةً على الدخول إلى مراحل غامضة يجري التحول إليها دون إدراك واعٍ بهويتها، حلت كذلك مفاهيم جديدة في وصف الأفراد مثل «ناشط» و«مؤثر» لتغيب معها مفاهيم سابقة، كما أصبحت القدرة على خلق مساحة اتصالية «إعلامية» للفرد -ولو من غير معايير- من أهم المساحات التي تعزل الناس عن بعضهم عبر السوشيال ميديا. هل يمكن القول -والحال هذه- إننا على عتبات أفول مفاهيم مثل: «الذوق العام» و«الوجدان المشترك» و«المشاركة الوجدانية» وغير ذلك من القيم التي كانت تسهر على صناعتها نظم إدراك موجهة لوعي الناس عبر أجهزة الدولة العامة؟ هناك الكثير من الأسئلة التي تطرحها تحديات الأزمنة السائلة هذه، لكن ماذا لو كانت هذه الأسئلة التي تهجس بالبال هي أسئلة أشخاص «مخضرمين» في الزمن الخطأ؟ بحيث تصدق عليهم حالة «مقلوبة» من حكمة الخليفة عمر بن الخطاب: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم». مع ذلك ربما سيبدو جليًا؛ أن بدايات هذه الأزمنة السائلة غير كافية لامتلاك القدرة على تحديد هويتها، حتى بالنسبة للأجيال التي ولدت في: «إيقاعات الزمن الجامح». |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القرن العشرین
إقرأ أيضاً:
عاش مدافعا عن السلام.. نشطاء ينعون البابا فرنسيس
وأعلن الفاتيكان وفاة البابا فرنسيس بمقر إقامته في دار القديسة مارتا، عن 88 عاما، وذلك بعد ظهوره أمس الأحد في احتفالات عيد الفصح بكاتدرائية القديس بطرس.
ووفقا لحلقة 2025/4/21 من برنامج "شبكات"، فقد كان الظهور الأخير للبابا فرنسيس هو الأول له منذ دخوله المستشفى نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، حيث بقي بها 38 يوما، وكانت أطول فترة يقضيها في المستشفى منذ توليه البابوية في 13 مارس/آذار 2013.
والبابا فرانسيس -واسمه الحقيقي خورخي ماريو بيرغوليو- من أصول أرجنتينية، وهو أول بابا للفاتيكان من أميركا اللاتينية، وقد عُرف بمواقفه السياسية الجريئة التي تجاوزت الأطر التقليدية للكنيسة الكاثوليكية.
وخلال توليه الباباوية، انتقد البابا فرنسيس سيطرة المال على العالم وعقوبة الإعدام، واتهم البشر بتحويل العالم إلى "مزبلة" والتعامل مع الكوكب وكأنهم أسياده. كما اتخذ موقفا شديدا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ونعى نشطاء على مواقع التواصل البابا فرانسيس، حيث كتبت دارين: "شخص عاش عمره كله مدافعا عن السلام والتسامح بين الأمم، هاد (هذا) غير مواقفه في حرب الإبادة في غزة".
إعلانكما كتب ناصر: "من لحظة إعلانه بابا للكنيسة، سعى لرفع حمامة السلام مع كل الأديان الأخرى". في حين قال محمود: "بابا الفاتيكان ده كان من أكتر رجال الدين المسيحي تسامحا وقصة مجيئه ملهمة جدا وكان بيحاول يخاطب العقل في خطابه".
في المقابل، قال إبراهيم: "الحقيقة أن القرن الحالي لغى فاعلية رجال الدين بشكل كبير عكس القرن الماضي وما قبله سواء مجتمعيا أو سياسيا، ولم تعد المرجعيات تحظى بنفس القدسية والهالة القديمة إلا في المناسبات".
وتمثل جنازات الباباوات حدثا كبيرا ومعقدا، لكن البابا فرنسيس وافق مؤخرا على خطط لجعل إجراءات وطقوس دفنه أقل تعقيدا، ومن المتوقع أن تستمر مراسم وطقوس الدفن نحو 9 أيام.
ويحكم أغلب هذه الطقوس ما يعرف بالدستور الرسولي الذي أقره البابا يوحنا بولس الثاني في 1996 وعدّله البابا بنديكت السادس عشر في 2007 و2013.
21/4/2025