فيصل بسمة
بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
و قد جآء في تعريف الثورة أنها تعني رغبة الجماهير في إحداث التغيير السياسيي و الإقتصادي و الإجتماعي ، و ترجمة ذلك عملياً تعني تثبيت الأمن و الإستقرار مما يقود إلى الإنتاج و التنمية و تحقيق الكفاية و الرفاهية ، أما أسباب إندلاع الثورات فيمكن تشبيهها بالمتوالية التي تبدأ من الململة و عدم الرضا من فساد الحكم الغير راشد إنتقالاً إلى الإنتقاد العلني للنظام الحاكم و رفض الإستبداد و حجر الحريات العامة و إنتهآءً ببلوغ المعارضة الجماهيرية مرحلة الثورة و الغليان نتيجة تفاقم القهر و البطش و المعاناة اليومية الناتجة عن البطالة و تدني الدخول و غلآء المعيشة و الندرة.
و الثورة في صورتها المثالية هي بحثٌ عن الحق و العدالة و رفضٌ للظلم مما قد يتطلب الخروج على الحاكم و قوانين الدولة و لوآئحها ، و تتراوح الأساليب التي تلجأ إليها الجماهير لإشعال الثورة و إحداث التغيير ما بين نهج المقاومة المدنية و الإحتجاجات السلمية إلى حمل السلاح و إستخدام العنف ، و في حالة نجاح الثورة فإن من المأمل أن تحدث قوى الثورة التغيير المطلوب الذي يزيل نظام الحكم السابق و مؤسساته ، و يؤسس لنظام و حكم جديد أركانه الأمن و المؤسسية و القانون و العدالة و بقية العناصر المفضية إلى السلم و الإستقرار و العمل و الإنتاج...
و إذا ما أسقطت الفقرات أعلاه على ثورة الحادي و العشرين (٢١) من أكتوبر (١٠) ١٩٦٤ ميلادية التي حدثت في بلاد السودان ضد نظام إنقلاب السابع عشر (١٧) من نوڨمبر (١١) ١٩٥٨ ميلادية العسكري (نظام الفريق إبراهيم عبود) و فيما يخص الأسباب فلربما واجهت الباحثون صعوبات من حيث إيجادها و التعرف عليها ، فالشواهد تشير إلى أن نظام الفريق إبراهيم عبود و مجلسه العسكري المركزي قد حقق فعلاً إنجازات تنموية و طفرات إقتصادية و إجتماعية ملموسة إنعكست في رفاهية قطاعات عريضة من الشعوب السودانية بدليل العديد من المشاريع: الزراعية و الصناعية و التعليمية و الصحية الناجحة ، كما ازدهرت الثقافة و الفنون و الرياضة ، هذا بالإضافة إلى نمو علاقات السودان الخارجية و توثقها مع العديد من الدول الفاعلة في المجتمع الدولي تحت مباديء التوازن و عدم الإنحياز ، و لم تكن هنالك ضآئقات مالية أو معاناة معيشية تذكر ، كما أن النظام لم يكن فاسداً أو قامعاً مقارنةً بالنظم الإستبدادية في المنطقة و العالم ، بل أن الشواهد تشير إلى أن يد النظام الأمنية/القمعية كانت خفيفة/ناعمة على المعارضين السياسيين!!! ، بل أن هنالك من يزعم أن نظام عبود كان في حالة وفاق/عدم خصام مع بعض/كثير من القوى السياسية!!! ، و أنه كان على تواصل/تناغم مع زعمآء الطوآئف الدينية الفاعلة سياسياً و إقتصادياً و مجتمعياً!!!...
و يعتقد كثيرون أن فشل نظام الفريق إبراهيم عبود في التعامل مع قضية جنوب السودان كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إشعال الثورة ، و يربطون تسلسل الأحداث بندوة سياسية حول القضية أقيمت في داخليات جامعة الخرطوم فضتها القوات الأمنية بالقوة مما أدى إلى مقتل الطالب الجامعي أحمد القرشي ، و أن تلك الحادثة كانت هي الشرارة التي أشعلت الحراك الجماهيري الواسع الذي عم أغلب بلاد السودان...
و قد ذكرت الوثآئق الكيفية التي تعامل بها النظام مع الأحداث المتسارعة التي أعقبت إندلاع الثورة مما حقن الدمآء و قلل الخسآئر ، و كذلك الحكمة التي تحلى بها الفريق إبراهيم عبود في تعامله و تفاعله مع الأزمة ، فقد وثقت له مقولات تأريخية مثل:
(نِحنَا جِينَا لخدمة الشعب... فإذا الشعب لا يرغب أن نخدمه فعلينا بالتنحي...)
و
(طالما أن الشعب لا يريدنا فنحن كذلك لا نريد أن نحكمه... خلاص نمشي... و مع السلامة...)
فكان التنازل عن الحكم سلمياً ، و تسليم السلطة إلى قادة تحالف جبهة الهيئات التي قادت الثورة ، و كانت الجبهة قد تكونت ، إثر إنتشار الإحتجاجات الشعبية عقب مقتل أحمد القرشي ، من نقابات: أساتذة جامعة الخرطوم و المحامين و الأطبآء و المهندسين و إتحادات: العمال و المزارعين و الطلبة و أحزاب سياسية...
و يمكن القول بأن الحادي و العشرين (٢١) من أكتوبر (١٠) ١٩٦٤ ميلادية كانت ثورة سياسية في المقام الأول ، قامت بها بعض من القوى السياسية من النقابات و الأحزاب (جبهة الهيئات) التي رأت أن العسكر قد إستفردوا بالحكم مما يتعارض مع مهام العسكر الأساسية المتمثلة في حماية الوطن و المواطنين و عدم الإشتغال بإمور السياسة و الحكم ، و أن بعضاً من ممارسات النظام العسكري تتنافى و تتعارض مع الحقوق الأساسية للشعوب في الحريات العامة و الحق في الحكم المدني المرتكز إلى التفويض/التمثيل الإختياري عبر صناديق الإقتراع...
و مما لا شك فيه فإن ثورة الحادي و العشرين (٢١) من أكتوبر (١٠) ١٩٦٤ ميلادية تمثل أنمودجاً فريداً لمقدرة الجماهير المنظمة على إقتلاع الأنظمة العسكرية عن طريق التوظيف الأمثل لأساليب و أدوات العصيان المدني المتنوعة من: الإحتجاجات و التظاهرات و الإضرابات و إقامة المتاريس ، كما أن الثورة قد أبانت عملياً كيف أن توافق القوى السياسية في النقابات و الإتحادات و الأحزاب و التنسيق فيما بينها يمثل عاملاً أساسياً في نجاح الحراك الجماهيري...
و من بعد النجاح في إقتلاع النظام العسكري لم تفلح قوى الثورة المتمثلة في جبهة الهيئات في تحقيق تقدم ملحوظ في مشروع التغيير الحقيقي ، و لم يرصد للجبهة نجاح ملموس في ملفي السلام و التنمية ، و لم تقوى قيادات جبهة الهيئات على مقاومة/مجابهة مناورات الأحزاب السياسية التقليدية التي أفلحت في تحجيمها و تحييدها و إبعادها عن المشهد السياسي ، و عوضاً عن إستكمال مهام الثورة في إحداث التغيير فقد إنهمكت القوى السياسية التقليدية في صراع محموم حول السلطة و النفوذ ، و كان من إفرازات ذلك الصراع الخصومات و الدسآئس و المجادلات البرلمانية العقيمة بين الأحزاب التقليدية التي تمثل اليمين و الطوآئف الدينية (الرجعية) فيما بينها من جهة و صراعها مع القوى الحديثة المتمثلة في النقابات و الأحزاب اليسارية (التقدمية) من جهة أخرى...
ثم تصاعد الصراع ، و احتدمت الخلافات السياسية ، و أخفقت الحكومات الإئتلافية المتعاقبة في مخاطبة تطلعات الجماهير مما أغرى مغامرين من العسكر المحسوبين على التيار العروبي القومي و اليسار بقيادة العقيد جعفر محمد النميري على الإستيلآء على السلطة بقوة السلاح و الإطاحة بالحكومة المنتخبة في الخامس و العشرين (٢٥) من مايو (٠٥) ١٩٦٩ ميلادية ، و قد إدعى قآئد الإنقلاب في بيانه الأول أنه و الرفاق قد أتوْا لمحاربة الفساد و الطآئفية و القوى الرجعية و حل قضية الجنوب و النهوض بالبلاد و تنميتها ، و قد إتبع ذلك النظام سياسات و تحالفات مختلفة و متناقضة مما أدخل البلاد و العباد في سلسلة متوالية من الأنفاق العسكرية المظلمة (طِيز وِزَّة) التي لم يخرجوا منها إلى يومنا هذا!!!...
الختام:
و سوف تظل ثورة الحادي و العشرين (٢١) من أكتوبر (١٠) ١٩٦٤ ميلادية نقطة خالدة في ذاكرة و تأريخ الشعوب السودانية بما بذلته من جهود و خطوات لكتابة دستور دآئم للبلاد يضمن الحقوق الأساسية مثل: الحرية و المساواة و حرية الإعتقاد و الرأي و التجمع و تكوين الجمعيات و الإتحادات و حرية الصحافة و حكم القانون و إستقلال القضآء ، و بما كفلته من حقوق تمثيل ”القوى الحديثة“ (دوآئر الخريجيين) ، و بمحاولتها مخاطبة جذور قضية الجنوب (مؤتمر المآئدة المستديرة) ، و يكفي فخراً للثورة أنها قد خَلَّفَت ورآءها إرث أدبي و ثقافي و فني عظيم سوف يظل ملهماً للأجيال عبر القرون و تشهد بذلك دواوين الشعر الجميل و مكتبات الغنآء الإكتوبري الرآئع...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى السیاسیة من أکتوبر
إقرأ أيضاً:
اعتقالات في صفوف فلول نظام الأسد وضبط متفجرات في حملة أمنية بدمشق
أعلنت وزارة الداخلية السورية عن شن حملة أمنية في أحياء دمشق القديمة ضد عناصر مرتبطة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ما أسفر عن اعتقالات وضبط أسلحة وذخائر ومتفجرات.
وقالت الداخلية السورية في بيان، الأربعاء، إن مديرية أمن دمشق أطلقت حملة أمنية في أحياء دمشق القديمة بهدف تعزيز الأمن والاستقرار، مشيرة إلى أنها تمكن إلقاء القبض على عدد من العناصر التابعة لفلول النظام المخلوع.
وأضافت أنه تم العثور في حوزة عناصر النظام المخلوع "على عبوات ناسفة وأسلحة وذخائر كانت معدة للتفجير في مناطق حيوية".
ونشرت الداخلية السورية صورا عبر حسابها على منصة "فيسبوك" تظهر بنادق ومتفجرات وأجهزة اتصالات لاسلكية ضمن المضبوطات خلال الحملة الأمنية في دمشق.
وضمن عمليات الأمن في دمشق، أعلنت وزارة الداخلية عن القبض على ماهر زياد حديد وهو أحد القادة العسكريين في حي التضامن الواقع جنوبي العاصمة خلال عهد النظام المخلوع.
وأوضحت الوزارة أن حديد "متورط بجرائم قتل واعتقال وتغييب بحق المدنيين في حي التضامن"، مشددة على أنه "سيُقدم إلى القضاء المختص لاستكمال الإجراءات القانونية اللازمة".
يأتي ذلك على وقع استمرار مساعي السلطات الأمنية السورية لملاحقة "فلول" النظام المخلوع في مختلف المدن السورية، وذلك مع تعهد الحكومة الجديدة بالسير في مسار العدالة الانتقالية ضمن المرحلة المقبلة.
والاثنين، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن إلقاء القبض على شادي عادل محفوظ أحد عناصر مخابرات النظام المخلوع، مشيرة إلى أنه متورط بـ"جرائم حرب" خلال الهجمات التي شنتها "فلول" النظام في منطقة الساحل مطلع الشهر الجاري.
وفي شباط /فبراير الماضي، كشف الأمن السوري عن القبض على أشخاص ارتكبوا مجازر بحق المدنيين في حي التضامن، موضحا أن من بين الموقوفين ثلاثة شاركوا في مجزرة "حفرة التضامن" المروعة.
وفجر الأحد 8 كانون الأول/ ديسمبر، دخلت فصائل المعارضة السورية إلى العاصمة دمشق، وسيطرت عليها مع انسحاب قوات النظام من المؤسسات العامة والشوارع، لينتهي بذلك عهد دام 61 عاما من حكم نظام حزب البعث، و53 عاما من حكم عائلة الأسد.
وفي 29 كانون الثاني/ يناير، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عن تعيين قائد قوات التحرير أحمد الشرع رئيسا للبلاد في المرحلة الانتقالية، بجانب العديد من القرارات الثورية التي قضت بحل حزب البعث العربي الاشتراكي ودستور عام 2012 والبرلمان التابع للنظام المخلوع.