سلطان بن محمد القاسمي
ما الذي نبحث عنه في الحياة؟ هل هي الأهداف الكبيرة التي نضعها نصب أعيننا، أم اللحظات البسيطة التي نعيشها يومًا بيوم؟ فنحن كثيرًا ما ننشغل بالنتيجة النهائية، متجاهلين جمال الرحلة نفسها. ولكن، ماذا لو كانت السعادة الحقيقية تكمن في الطريق، في تلك التجارب اليومية، في التحديات التي نتخطاها، وفي الفرح الذي نجده في أبسط التفاصيل؟
نحن نعيش في عالم يعج بالتوقعات، حيث يبدو أن الهدف النهائي هو النجاح، أو الوصول إلى محطة معينة.
إن الاستمتاع بالرحلة يعني أن نعيش الحاضر بكل تفاصيله، أن نقدر اللحظات التي تُشكّل حياتنا، وأن نرى الجمال في كل ما نمر به. فلو نظرنا إلى الحياة كفرصة للتعلم والاكتشاف، سنجد أن التحديات والصعوبات ليست عوائق، بل محطات نتوقف عندها لننمو. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ" (سورة الشرح: 7)، إشارة إلى أنَّ الحياة يجب أن تكون مزيجًا من العمل والراحة، التفاني والتأمل. فالرحلة ليست مجرد وسيلة للوصول إلى الهدف، بل هي الهدف بحد ذاته.
خذ مثلاً الحياة الأسرية. فكثير من الأهل يركزون على النتيجة النهائية: أن يصبح أبناؤهم ناجحين، متفوقين، ومحققين لأحلامهم. ولكن ماذا عن الوقت الذي يقضونه مع أبنائهم؟ اللحظات التي يشاركونهم فيها الحب، القيم، والدروس الحياتية. لنأخذ مثالاً من الحياة الأسرية: الأب أو الأم اللذان يضعان احتياجات أبنائهما قبل احتياجاتهما الشخصية سيشعران بالرضا والفرح عندما يريان أبناءهم ينضجون ويتحملون المسؤولية. هذا العطاء داخل الأسرة لا يُعتبر خسارة، بل هو استثمار طويل الأمد في بناء روابط قوية، ينعكس إيجابيًا على الأسرة بأكملها.
وفي الحياة المهنية، نجد أن الكثير منَّا يطارد الإنجازات الكبيرة: الترقيات، المكافآت، أو التقدير. لكن ماذا عن اللحظات اليومية التي نقضيها في العمل؟ ماذا لو قررنا أن نستمتع بكل يوم بدلاً من الانتظار حتى نُحقق تلك الأهداف البعيدة؟ الاستمتاع بالرحلة المهنية يعني أن نركز على العلاقات التي نبنيها، التجارب التي نكتسبها، وحتى التحديات التي تواجهنا. فهي كلها عناصر تجعل رحلتنا أكثر غنى وتمنحنا فرصًا لا تُقدر بثمن.
وفي بعض الأحيان، ننسى أن الرحلة ليست فقط فردية. الله سبحانه وتعالى يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" (سورة المائدة: 2). فالتفاعل مع الآخرين، وتقديم العون والمساعدة، ومشاركة الرحلة مع من حولنا يجعل من الحياة أكثر إشراقًا. وعندما نعيش بروح التعاون والإيثار، نجد أن الرحلة تصبح أكثر متعة وإشباعًا. فكل لحظة نقضيها مع الآخرين تزيد من قيمتها، وتمنحنا فرصة للتعلم من تجاربهم ومشاركة نجاحاتهم.
كذلك، الاستمتاع بالرحلة أيضًا يتطلب منّا التخلّي عن القلق بشأن المستقبل. فنحن كثيرًا ما ننشغل بما سيحدث غدًا، أو بما قد نخسره أو نكسبه. لكن هذا القلق المستمر يجعلنا ننسى الحاضر. الله يقول في القرآن الكريم: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (سورة الشرح: 6). فالتحديات التي نواجهها اليوم هي جزء من الرحلة، وما بعدها من يسر هو أيضًا جزء من هذه الرحلة الجميلة. إن الاستمتاع لا يعني تجاهل الصعوبات، بل يعني فهم أن هذه الصعوبات هي ما يجعل اللحظات الجيدة أكثر جمالًا.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن هذا الأمر يقربنا من الله سبحانه وتعالى. فعندما نعيش كل لحظة بامتنان ونحمد الله على نعمه، نجد أن الرحلة تأخذ طابعًا أعمق وأكثر غنى. وكل خطوة نخطوها تصبح فرصة للتقرب من الله، وكل تجربة نمر بها تزيد من وعينا الروحي. القرآن الكريم يذكرنا في سورة القصص: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (سورة القصص: 77). هذا التوازن بين السعي للآخرة والاستمتاع بالدنيا هو ما يجعل الرحلة ذات قيمة حقيقية.
حتى في العلاقات الإنسانية، نجد أن الرحلة المشتركة مع الآخرين تضيف الكثير من المعاني الجميلة إلى حياتنا. وهي ليست مجرد وسيلة لتحقيق مصالح شخصية، بل هي رحلة مشتركة نتعلم فيها كيف نتواصل، كيف نتفهم، وكيف نتعايش. كما أن مشاركة الآخرين في حياتنا تجعل الرحلة أكثر إثراءً، لأننا نتعلم من تجاربهم ونتفاعل مع مشاعرهم.
نحن ندرك أن الحياة ليست مجرد سباق للوصول إلى هدف محدد، بل هي رحلة مليئة بالتجارب التي تعلّمنا، تُعمّق نضجنا، وتُكسبنا حكمتها. وكل خطوة نخطوها تفتح لنا أفقًا جديدًا، وكل تجربة نخوضها تضيف إلى تكويننا وتُقربنا أكثر إلى ذواتنا الحقيقية، وأن التحديات التي نواجهها ليست مجرد عقبات، بل هي دروس تعلمنا الصبر، والتكيف، والقوة الداخلية.
إن السعادة الحقيقية تكمن في قدرتنا على الاستمتاع بكل لحظة نعيشها، سواء كانت مليئة بالنجاح أو بالصعوبات. فالحياة ليست مجرد وجهة نصل إليها، بل هي كل لحظة تُشكّل هذا الطريق. وفي كل خطوة، نجد فرصًا لتعلم شيء جديد، لتطوير أنفسنا، ولإيجاد الفرح في أبسط التفاصيل. لذلك، بدلاً من التركيز على نهاية الرحلة، علينا أن نستمتع بكل ما تقدمه لنا من دروس ولحظات فريدة.
وفي خضم هذه الرحلة التي نسير فيها، عندما نوسع عقولنا لاحتضان كل لحظة، نكتشف أن السعادة ليست غاية بعيدة نلاحقها، بل هي رفيقة دائمة ترافقنا في كل خطوة. إن الفرح لا يكمن في المستقبل الغامض، بل ينبعث من الحاضر، من اللحظة التي نعيشها بكل حواسنا. ولذلك، في كل تجربة نخوضها، وفي كل تحدٍّ نواجهه، نجد فرصًا للنمو والارتقاء، نكتشف من خلالها أعماقًا جديدة داخل أنفسنا.
وبالمثل، حين نترك خلفنا المخاوف ونتحرر من الضغوط، نجد أن السعادة ليست هدفًا نصل إليه يومًا ما، بل هي في كل تفصيل من تفاصيل الرحلة. وكلما تقدمنا بخطواتنا نحو المستقبل، كلما أصبح الحاضر هو منبع الفرح الحقيقي. فلهذا، علينا أن نعيش كل لحظة بعمق، لأن الحياة تُمنح لنا بكل جمالها في الحاضر وليس في غايات بعيدة.
وبعد ذلك، عندما نعيش بقلوب مفتوحة وعقول متحررة من قيود التوقعات، نجد أن السعادة لا تتعلق بما نحققه من إنجازات، بل بما نعيشه من تجارب. ومن هنا، وسع عقلك واستمتع بكل لحظة، فالسعادة ليست في الوصول، بل في الرحلة ذاتها، في كل محطة تقف عندها، وفي كل خطوة تأخذها.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بورتسودان لا توجد بها منطقة وسطي مابين الجنة والنار
بورتسودان لا توجد بها منطقة وسطي مابين الجنة والنار فشتاؤها حافل بالمطر والأجواء الساحرة أما صيفها فيكفي فيه ضربات الشمس ونقص ماء الشرب وتفشي بعض الأمراض المستوطنة وصعوبة العيش وتوقف النشاط التعليمي والرياضي ويخيل للقادم لمدينة الثغر أن السكان قيد الإقامة
في العام ١٩٦٩ شددت الرحال مع ثلة من المعلمين لمدينة بورتسودان وكنت حديث عهد بالتدريس في المرحلة الوسطي وقلت انتهز فرصة العطلة الصيفية واستفيد من التصاريح المجانية لامتطاء قطار الغرب من الأبيض إلي الخرطوم ( صرة ) السودان في ذلك الزمان وقطار الشرق ذلك ( الاكسبريس ) المحترم من العاصمة الي ميناء البلاد الذي سارت بسمعته الركبان.
كان يخيل لي و ( إنا بالرصيف مستني ) لحظة الدخول ل ( قمرة ) الدرجة الثانية ) المخصصة للمعلمين الصغار ( ناس اسكيل J و H ) أنني ساجد الطريق سالكة في ( الممشي ) حتي اصل مطمئنا الي ( الكنبات المبطنة ) واجد زملائي في الرحلة وقد سبقوني في اتخاذ كل منهم موقعه في ذاك المكان المريح الصالح للسفريات الطويلة . كان مسموح لركاب القطار في الدرجتين الأولي والثانية ودرجة النوم القابلة للاستبدال بمقعد في الطائرة أن يستفيدوا من خدمات ( بوفيه ) القطار التابع لمصلحة السياحة والفنادق والمرطبات ولا غرابة والوضع هكذا أن تكون الخدمة المقدمة ٥ نجوم والنادل الذي يحضر الطلبات في غاية من الأناقة والاحترام من ناحية الزي وأسلوب التخاطب وان الفاتورة تصل للزبون بعد نهاية الرحلة واسعارها معقولة مع جودة في الطعام والمشروبات الباردة والساخنة ويتم استدعاء النادل بالجرس ويلبي هذا النادل النداء بمسؤولية كاملة ومن غير تلكؤ أو تردد !!..
أول محاولة لي لاجتياز السلم للدخول في الممشي علي امل الوصول إلي ( القمرة ) باءت بالفشل لأن القطار في ذاك اليوم وهو ينوء بحمولته من البشر كان يخيل لي وكان موسم الهجرة إلي الشرق قد بدأ والكل متلهف أن يلحق بهذا الموسم لدرجة أن من يحملون تصاريح وحجوزات معتمدة في الدرجات الممتازة انتهي بهم المطاف في السلم ليس جلوسا بل وقوفا في أجواء عالية الحرارة ورياح تلفح الوجوه بذرات من الغبار لا تبالي أن هي ملأت عليك خياشيمك أو فمك واذنيك والعرق يتصبب مدرارا والتنفس يتم بعد مجاهدة والوضع مثل ما قال الشاعر وهو في وسط معمعةمن حرب ضروس :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا .. واسيافنا ليل تهاوي كواكبه !!..
اكيد أننا كنا في حرب وجودية مؤقتة لحين الوصول إلي محطة المقصد ولكن لم نكن نمتشق سيوفا تبرق مع احتكاكها بالذرات المتطايرة مثلما تبرق الشهب ( النيازك ) والكواكب وهي تسير بسرعة متناهية في المجال الجوي مما ينتج عن احتكاكها هذا اضواء واضواء !!..
وقلت في نفسي طالما أننا نحتاج لهذه الرحلة ورغم مايكتنفها من مصاعب منذ ضربة البداية فلابد من تحمل وعثايها وعدم التراجع منها والا تم وصفنا بالمتخاذلين أصحاب الهمم المنخفضة الذين لا يحبون النزال ولا الكر والفر وصعود الجبال والخوض في لجة الأطلسي وبحر الصين الجنوبي ومضيق هرمز وبحر الادرياتيك !!..
المهم وقد انسدت أمامنا الآفاق وكان القرار أن نقف علي السلم في رحلة طويلة في شهر يونيو احر شهور السنة واكيد أن مع شدة درجة الحرارة هذه يحتاج المرء الي تأمين عدد من لترات الماء لشربه ولترطيب ( بشكيره ) ليجعل منه مكيف هواء في وقت الحاجة هذه وقد قالوا إن الحاجة أم الاختراع !!..
نواصل أن شاء الله في الحلقة القادمة .
حمدالنيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com