شاركتُ في المؤتمر الدولي "العهد الديمقراطي العربي: خارطة طريق للديمقراطية العربية" الذي انعقد في مدينة سراييفو (جمهورية البوسنة والهرسك) يومي 19- 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.
شهد المؤتمر حضورا مشرفا من كافة البلدان العربية، وتخلف عن حضور المؤتمر الأشقاء من السودان لظروف خاصة.
استهلّ رئيس المؤتمر الدكتور محمد المنصف المرزوقي حديثه بقوله: "نحن نعيش تحت السقف وإخواننا في غزة يعيشون في العراء وتحت الأنقاض ويموتون من العطش".
وتحدث نائب الرئيس الدكتور أيمن نور عن الأنظمة التي تهاب الحوار وتمنع حرية الرأي والتعبير وتبادل الأفكار وتعميق المفاهيم، محتجا ورافضا لهذا السلوك المشين. وتحدثت الأستاذة توكل كرمان عن معايير الديمقراطية الحقيقية المنشودة والتي يتطلع اليها شعوب العالم العربي.
بعدها ناقش المؤتمر في جلساته الخمس التحديات التي تواجه الديمقراطية في العالم العربي في ظل التسلط الداخلي والعدوان الخارجي، ووضع الديمقراطية في العالم عموما -التحديات والأفاق- وإعادة تعريف الديمقراطية في العالم العربي من أجل مشروع تحرري كامل. وفي نهاية المؤتمر صدرت وثيقة العهد الديمقراطي العربي، كان لي شرف التوقيع عليها بقناعة تامة، وإن كان لي بعض الملاحظات الطفيفة التي لا تقلل أبدا من الوثيقة كميثاق يجب العناية به والعمل على تنفيذ ما ورد فيه.
من هذه الملاحظات، كنت أرى أن يصدر الميثاق في بنود مختصرة واضحة المعالم من خمس إلى سبع نقاط على الأكثر، حتى يحفظها الكبير والصغير والسياسي وغير السياسي والمثقف والأمي، وتكون في متناول فهم الجميع.. وبعد إعداد هذا الميثاق المختصر يتم تسويقه إعلاميا وشعبيا وسياسيا في أنحاء العالم العربي، ومن ثم يبدأ التفكير في إجراءات عملية للتنفيذ، وكلي ثقة أن أمانة المجلس الأستاذ عماد الدائمي وزملاءه ستعمل على ذلك بكل صدق وإخلاص.
كنت أرى أن يصدر الميثاق في بنود مختصرة واضحة المعالم من خمس إلى سبع نقاط على الأكثر، حتى يحفظها الكبير والصغير والسياسي وغير السياسي والمثقف والأمي، وتكون في متناول فهم الجميع.. وبعد إعداد هذا الميثاق المختصر يتم تسويقه إعلاميا وشعبيا وسياسيا في أنحاء العالم العربي، ومن ثم يبدأ التفكير في إجراءات عملية للتنفيذ
"وثيقة العهد الديمقراطي العربي ومفهوم الشورى"
قصة الفصل بين قيم الديمقراطية الفكرية والمؤسسات في الغرب هي قصة قديمة والحقيقة التاريخية تقول: إن قيم الديمقراطية يتم صناعتها في خارج العالم العربي على مقاس الطموحات الاستعمارية ونهب ثروات الشعوب، هذه حقيقة تاريخية قديمة، والأمر الثاني أنه برغم جريمة الإبادة الجماعية التي تدور على أرض فلسطين منذ مائة عام والتي هي صناعة غربية بامتياز، ومشاهد القتل المروعة التي تحدث منذ عام، فإن معظم المؤسسات الديمقراطية الحاكمة في الغرب، وأعني بذلك الأحزاب والنخب السياسية والإعلامية، تقف موقف المؤيد بشكل كامل لإسرائيل حتى الآن، وذلك لسبب بسيط؛ وهو أن العالم وخاصة الغرب لا يخضع في الحقيقة منذ فجر التاريخ لفكرة تحقيق العدالة، بل التاريخ الإنساني يسير وفق قانون المصلحة والهيمنة الاستعمارية التي تحقق الثروة والرفاهية لمن يملك القوة.
وهنا جاءت الوثيقة في بندها الرابع لتؤكد على أننا نجدّد قناعتنا بأن الخط الفاصل في النضال السياسي اليوم لم يعد يمرّ بين قومي وانفصالي، أو تقدّمي ورجعي، أو إسلامي وعلماني، وإنّما بين الديمقراطي والاستبدادي. فالاستبداد يجمع كل الآفات التي نتصدى لها: التبعية، والفساد، والانعزالية، ومواجهة قيمنا العربية والإسلامية. فبالمقابل، يمثل مشروعنا الديمقراطي تحديثا لمطالبنا الأزلية في الحرية، والعدالة، والاستقلال، وهو إعادة صلة واستئناف بأدوات العصر للخيار السياسي الأول لأمتنا، أي الشورى، التي لم تستمر لافتقارها إلى الآليات والمؤسسات التي نجح الغرب في تطويرها لتحقيق توجه مماثل.
لذلك ندعو إلى تجاوز الانقسامات الأيديولوجية القديمة وتوحيد الجهود بين علمانيين وإسلاميين، ووطنيين وعروبيين، وتقدميين واشتراكيين. فإطار العهد الديمقراطي العربي يحقق أهدافا لا غنى عنها إن أردنا بناء فضاء سياسي تعددي سليم وخلّاق، يعزز تحقيق أحلامنا المشتركة ويدفع نحو مستقبل أفضل. في نفس الوقت، تناولت الوثيقة في بندها الخامس النموذج الغربي والديمقراطية المزيفة والفجوة الموجودة بين القيم والإجراءات، وهذا يبين تفريغ الديمقراطية من مضمونها.
"الديمقراطية وحرية العمل السياسي للجميع دون فصل أو إقصاء"
فهناك إشكالية حقيقية في عالمنا العربي وهي من مورثات الاستعمار، وهذه الإشكالية هي رفض الإسلام من قبل التيارات السياسية العلمانية، والإسلام هو هوية الأمة الثقافية شئنا أم أبينا، فلا يمكن أن تمحو أكثر من 1400 سنة من تاريخ أمة من الأمم ثم تمضي، ومن خلال هذا الرفض فقد صنعت تلك التيارات التي تدعو للديمقراطية حاجزا ضخما وسدّا منيعا بينها وبين الشعوب. والأمر الثاني هو عداء التيارات السياسية الليبرالية في معظمها للحركة الإسلامية، وهذا فرع من المشكلة الأولى والذي يجعل الكثير من الليبراليين يصمتون عن المذابح المهولة والاضطهاد الشامل الذي يتعرض له أبناء الحركة الإسلامية، بل والأدهى من ذلك أن نجد هؤلاء الليبراليين يدعون بشكل مستمر لاعتزال الحركة الإسلامية للعمل السياسي والتسويق لفكرة أن وجود الإسلامي في الساحة السياسية هو أحد أسباب غياب الديمقراطية، وهذا يتناقض مع الدعوة للديمقراطية ويفقد دعاة الديمقراطية الليبراليين مصداقياتهم عند رجل الشارع. وهنا نجد الليبرالي الديمقراطي مصطفّا بامتياز مع الأنظمة الاستبدادية.
والأمر الثالث، هو تعاون معظم النخب السياسية العلمانية في عالمنا العربي مع أنظمة الاستبداد وتبوّؤ البعض منهم لمناصب تنفيذية في أجهزة الدولة الاستبدادية لفترات ليست قليلة، الأمر الذي يجعل حديث البعض عن الديمقراطية بعد ذلك لونا من العبث، فكيف تساهم كديمقراطي في انقلاب عسكري ضد حكم مدني، ثم تخرج بعد ذلك تدعو لحكم ديمقراطي وتتحدث عن الإرادة الشعبية؟.. هذه تساؤلات جادة طرحتها الأوراق وأجابت الوثيقة عنها بشكل قوى وواضح، ولذلك؛ أثمّن الوثيقة في بندها الثالث الذي أكد على الديمقراطية التي تحرص على المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع مكونات المجتمع رجالا ونساء من مختلف الأجناس والطوائف، دون أي شكل من أشكال التمييز. تلك هي الديمقراطية التي ننشدها والتي أقرت أن حرية العمل السياسي والتنافس على السلطة حق دستوري قانوني سلمي، حق للجميع دون تجنب الإقصاء والحذف لأي أحد.
حيث أن القضية الفلسطينية تمثل محورا مركزيا في وجدان الأمتين العربية والإسلامية، فهذا دعاها إلى مراجعة جادة ووقفة صادقة مع النفس، فالأحداث المتسارعة كشفت عن الحاجة لإعادة النظر في أدائنا تجاه هذه القضية الكبرى: ماذا قدمنا؟ وماذا كان علينا أن نقدم؟ وكيف يمكننا استدراك ما فات لنواجه المشروع الصهيوني بفعالية؟ ولقد كشفت "طوفان الأقصى" أن هناك تباطؤا في استكمال مشروع التحرر الشامل في المنطقة العربية، وبيّنت مواطن القصور في محاور متعددة
وفي بندها الرابع نصت الوثيقة بوضوح وحسمت قرارها "الفز الحقيقي في النضال السياسي هو بين الديمقراطيين والاستبداديين، ولم يكن أبدا بين التقدميين والرجعيين أو الاسلاميين والعلمانيين أو القوميين والوطنيين، فالاستبداد يجسد كل الآفات التي تحاربها التبعية والفساد والانعزالية ومواجهه قيمنا العربية والإسلامية"، فالاستبداد استأصل هؤلاء جميعا وجمعهم خلف الجدران في السجون والمعتقلات.
"التموضع الاستراتيجي لديمقراطية العهد الديمقراطي العربي"
أكدت الوثيقة في بندها السادس على ضرورة تحقيق نموذج ديمقراطي ناجز فعال يتجاوز الشكليات ويواجه التحديات ويقاوم الاستبداد، وبيّنت بوضوح تام أن هذا النموذج لا يتحقق إلا بالنضال والكفاح والصمود والثبات وليس الاستسلام والإحباط ورفع الراية البيضاء، وجاء البند سابعا متمما رافعا راية العهد عاقدا العزم على النضال من أجل تحقيق ديمقراطية عربيه وطنيه سياديه اتحاديه اجتماعيه شعارها "نحن من سنربح الحرب".
"الديمقراطية والقضية الفلسطينية"
تناولت الوثيقة البند ثالثا اهداف الديمقراطية واشارت في الفقرة (ج) منها؛ أننا أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية. لكننا اليوم نشهد حالة عجز تام من التنكيل بالشعب الفلسطيني "أشجع شعوبنا" نتيجة تفرق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صماء تستطيع حماية الأمن القومي للأمة لشعب من شعوبها. هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدا، بل تتنازع، حيث يسعى كل دكتاتور أن يكون المالك الوحيد لمزرعته أو ملك الملوك، وهو ما لا يقبله له أبدا المستبدون المنافسون. لهذا نرى أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لذلك -تجربة الاتحاد الأوربي نموذجا- لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة القادرة وحدها على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة.
كان يجب أن تذيّل الوثيقة ببند خاص بالقضية الفلسطينية، خاصة وقد تفضل السيد الرئيس المرزوقي بتنظيم جلسة خاصة بها ناقشت "كيف يمكن البحث عن وسائل ديمقراطية فعالة لدعم الحقوق الفلسطينية وإنهاء الاحتلال كجزء من مسار تحرري شامل في المنطقة العربية".
وحيث أن القضية الفلسطينية تمثل محورا مركزيا في وجدان الأمتين العربية والإسلامية، فهذا دعاها إلى مراجعة جادة ووقفة صادقة مع النفس، فالأحداث المتسارعة كشفت عن الحاجة لإعادة النظر في أدائنا تجاه هذه القضية الكبرى: ماذا قدمنا؟ وماذا كان علينا أن نقدم؟ وكيف يمكننا استدراك ما فات لنواجه المشروع الصهيوني بفعالية؟ ولقد كشفت "طوفان الأقصى" أن هناك تباطؤا في استكمال مشروع التحرر الشامل في المنطقة العربية، وبيّنت مواطن القصور في محاور متعددة، منها:
- المحور الثقافي والمعرفي: ضعف في فهم طبيعة الصراع مع الاحتلال الصهيوني، والمناهج التربوية تخلو من العناصر الشرعية والسياسية والتاريخية المتعلقة بالقضية.
الديمقراطية ليست ضد هوية الأمة وثقافتها وشريعتها الإسلامية، بل إنها تعبير حقيقي معاصر عن حقيقة جوهر النظام السياسي في الإسلام الذي يحترم إرادة الشعب وحقه في اختيار حاكمه ومحاسبته، كما أن شريعتنا الإسلامية الغراء تحترم التنوع والخلاف في الرأي ولا تضطهد الأقليات، ولا تمارس سياسات الإبادة والتطهير العرقي
- المحور التأهيلي والمهاري: غياب خطط متكاملة لتأهيل الكوادر في مختلف التخصصات لقيادة الأمة.
- المحور المؤسسي: ضعف في بناء مؤسسات تربوية وتعليمية وثقافية وخدمية في العالمين العربي والغربي لدعم القضية.
- المحور المالي: غياب مؤسسية التمويل، مما يجعل الدعم مرهونا بالظروف بدلا من أن يكون جزءا من استراتيجية مستدامة.
- المحور التربوي: الحاجة إلى ترسيخ مفهوم المقاومة والجهاد، وأنه ضروري لبقاء أمة الإسلام أمة قوية مرهوبة الجانب بعيدة عن أطماع الطامعين من المعتدين والمتصهينين، وأن ترك الجهاد سبب للمذلة والهوان وضياع الديار وتسلط الأعداء على المقدسات والأوطان.
- المحور التقني: الحاجة إلى استثمار التقنيات الحديثة في مواجهة المشروع الصهيوني، خاصة في الحرب السيبرانية، حيث يلعب الذكاء الاصطناعي دورا كبيرا في الصراعات المعاصرة.
- المحور الاستراتيجي: غياب خطة واضحة وشاملة تحقق تكامل المحاور جميعها في مشروع نهضة متكامل.
وتوصلت الجلسة إلى أنه لا يمكن الاكتفاء بالبكاء على ما فات، بل يجب الشروع في وضع خطة فاعلة لتحقيق "تفعيل وتعزيز الوعي بطبيعة الصراع وأهداف التحرير". وهنا وقف الرئيس الإنسان "المنصف المرزوقي " بنفسه طالبا من الجلسة إعداد واعتماد روشتة كاملة: "مأسسة الدعم المالي لضمان استمرارية التمويل لكل محاور المقاومة، وبناء مؤسسات فاعلة تتواصل وتتفاعل مع المؤسسات العالمية لخدمة القضية، والتركيز على التقنيات الحديثة بهدف دعم جهود المقاومة في الحرب السيبرانية، وإعادة تأهيل الصفوف وفق رؤية متكاملة تشمل قوة العقيدة والرابطة والسلاح".
إن طوفان الأقصى فرصة لإعادة توجيه البوصلة نحو مشروع نهضة شامل، نواجه فيه المشروع الصهيوني بوعي واستراتيجية، لنحقق الحرية لفلسطين ونهضة الأمتين العربية والإسلامية.
في الختام: نؤكد على أن الديمقراطية ليست ضد هوية الأمة وثقافتها وشريعتها الإسلامية، بل إنها تعبير حقيقي معاصر عن حقيقة جوهر النظام السياسي في الإسلام الذي يحترم إرادة الشعب وحقه في اختيار حاكمه ومحاسبته، كما أن شريعتنا الإسلامية الغراء تحترم التنوع والخلاف في الرأي ولا تضطهد الأقليات، ولا تمارس سياسات الإبادة والتطهير العرقي. ولهذا عاشت أمتنا العربية الإسلامية على مدار قرون وامتزجت في حضارتها كل الديانات والأعراق في تعايش وتناغم فريد؛ أخرج للعالم منتجا حضاريا لم تر الدنيا له مثيلا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المؤتمر الديمقراطية العالم العربي فلسطين الاستبدادية فلسطين مؤتمر الديمقراطية العالم العربي الاستبداد مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العربیة والإسلامیة القضیة الفلسطینیة المشروع الصهیونی العالم العربی فی العالم
إقرأ أيضاً:
الإعلان الدستوري السوري: خطوة على طريق بناء الدولة الديمقراطية
#الإعلان_الدستوري_السوري: خطوة على طريق #بناء_الدولة_الديمقراطية
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
وسط الخراب الذي خلّفه النظام المستبد الذي حكم سوريا لعقود، جاء الإعلان الدستوري السوري ليضع حجر الأساس لمستقبل جديد، يحمل معه قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ووحدة التراب السوري، ومدنية الدولة. هذا الإعلان ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو تعبير صادق عن تطلعات شعبٍ قدّم تضحيات جسامًا لينتزع حريته، ويؤسس لدولة قائمة على العدالة والمساواة، بعيدًا عن الاستبداد والهيمنة الفردية.
من أبرز ما يميّز الإعلان الدستوري أنه يعكس إرادة شعبية حقيقية تسعى إلى إقامة دولة حديثة تُحترم فيها الحقوق والحريات، ويتساوى فيها المواطنون أمام القانون دون تمييز. لقد أرسى الإعلان مبادئ الديمقراطية كركيزة أساسية للحكم، من خلال التأكيد على سيادة الشعب، وحقه في اختيار ممثليه بحرية، وإنشاء مؤسسات ديمقراطية قادرة على إدارة الدولة وفقًا لإرادة الشعب، وليس وفقًا لرغبات فردٍ أو حزبٍ متسلط.
مقالات ذات صلة تصاعد الخلافات بين نتنياهو ورئيس جهاز “الشاباك” بسبب هزيمة الـ”7 أكتوبر” 2025/03/14كما شدد الإعلان على حماية حقوق الإنسان، وصون كرامة المواطن السوري، بعد عقودٍ من القمع والتهميش. لقد عانى السوريون من نظامٍ استبدادي صادر الحريات، وأقام دولته على الخوف والقمع، ولكن هذا الإعلان جاء ليعيد الاعتبار لكل من حُرم من حقوقه، ويؤسس لعهدٍ جديد تكون فيه الكلمة العليا للعدالة، وليس للأجهزة الأمنية القمعية.
لم يغفل الإعلان الدستوري عن أهمية وحدة سوريا، خاصة بعد محاولات التقسيم والتفتيت التي تعرضت لها البلاد خلال سنوات الحرب. فقد أكد الإعلان على أن سوريا دولة موحدة، لا تقبل التجزئة، وأن جميع مكوناتها متساوون في الحقوق والواجبات، مما يمهد الطريق لبناء دولة قوية متماسكة، لا مكان فيها للطائفية والانقسامات المصطنعة.
كما أرسى الإعلان مبدأ مدنية الدولة، وهو ما يشكّل قطيعة تامة مع النظام السابق الذي استغل الدين والطائفية لتعزيز سلطته. إن التأكيد على مدنية الدولة يعني أن سوريا الجديدة ستكون دولة يحكمها القانون، وتقوم على المواطنة، وتحترم التعددية، مما يفتح الباب أمام نظام ديمقراطي حديث، يستوعب الجميع دون إقصاء أو تهميش.
لقد كان أحد أكبر التحديات التي واجهت سوريا هو النظام البائد الذي دمّر المجتمع، وأضعف الدولة، وتركها عرضة للفوضى والانهيار. ولذلك، فإن الإعلان الدستوري يُعتبر خطوة أولى في اقتلاع جذور الاستبداد، وإقامة نظام جديد مبني على المؤسسات، وليس على حكم الفرد أو الحزب الواحد.
إن بناء مؤسسات الدولة الحديثة هو مفتاح الاستقرار والازدهار، وهذا الإعلان يضع اللبنة الأولى في هذا المسار. فبدون مؤسسات قوية، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية، ولا عن اقتصاد مزدهر، ولا عن مجتمع متماسك. ولهذا، فإن تطبيق المبادئ التي وردت في الإعلان الدستوري سيسهم في تأسيس دولة قانون، يكون فيها القضاء مستقلاً، والسلطة التنفيذية خاضعة للمحاسبة، والمجتمع المدني شريكًا أساسيًا في بناء المستقبل.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن الدستور القادم يجب أن يأتي بصيغة أكثر ديمقراطية، تعكس بوضوح إرادة الشعب السوري، استنادًا إلى مبدأ أن السيادة للأمة باعتبارها مصدر السلطات. لا بد أن يكون هذا الدستور ضامنًا للفصل والتوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث لا تتركز السلطة في يد جهة واحدة، مما يضمن عدم تكرار الاستبداد الذي حكم سوريا لعقود. إن تحقيق هذا التوازن هو السبيل الوحيد لمنع الطغيان، وضمان أن تكون الدولة قائمة على حكم القانون، وليس حكم الأفراد. يجب أن يتأسس الدستور الجديد على مبادئ الشفافية والمساءلة، بحيث يكون كل مسؤول في الدولة خاضعًا للمحاسبة، ولا يُسمح بأي شكل من أشكال الانفراد بالسلطة أو إعادة إنتاج أنظمة قمعية تحت أي مسمى.
إن هذا الإعلان، رغم كونه خطوة أولى، يمثل بارقة أمل لسوريا ولشعبها الذي عانى لسنوات طويلة. فهو يُعيد رسم ملامح المستقبل، ويضع خارطة طريق لبناء دولة تحترم حقوق مواطنيها، وتصون حرياتهم، وتحمي وحدتهم.
نأمل أن تكون سوريا الجديدة دولة يسودها العدل، وتُحترم فيها كرامة الإنسان، وتنطلق نحو مستقبل من التنمية والازدهار، بعيدًا عن الدمار الذي خلفه النظام البائد. إن بناء دولة حديثة ومستقرة يحتاج إلى جهود الجميع، وإلى إيمان راسخ بالمبادئ الديمقراطية التي أرساها هذا الإعلان.
سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، والمسؤولية كبيرة في تحويل هذه المبادئ إلى واقع ملموس. فالإعلان الدستوري هو البداية، ولكنه يحتاج إلى إرادة حقيقية لترسيخ قيمه، وتحقيق أحلام السوريين في دولة عادلة، ديمقراطية، ومستقرة.
[10:25 م، 2025/3/14] د محمد تركي بني سلامة: عندما يصبح الفساد قاعدة والصمت الرسمي فضيحة أكبر!
بقلم : ا د محمد تركي بني سلامة
في زمنٍ يُكافأ فيه الفاسد، ويُحارب فيه الشرفاء، نقرأ عن فضيحة مدوية تهز جامعة …، فتُضاف حلقة جديدة إلى مسلسل الانهيار الممنهج لمؤسساتنا الوطنية. جامعة … التي شُيّدت بدماء الأردنيين وعرقهم، والتي كانت يومًا منارة للعلم والفكر، تُساق اليوم إلى غرفة الإنعاش بسبب إدارة لا تُجيد سوى تكديس الديون، وإغراق المؤسسة في مستنقع المحسوبية والفساد.
رئيسٌ يدير جامعة … كما لو كانت مزرعته الخاصة، ديون تتضاعف بشكل مخيف، تعيينات مشبوهة، وابتعاثات تُفصّل على مقاس المحاسيب والأقارب، بينما يُحرم المستحقون الحقيقيون لأنهم لا يملكون واسطة أو اسمًا عائليًا نافذًا. والأدهى من ذلك، أن هذه القرارات تُصاغ في غرف مغلقة، لا تمر عبر المجالس الأكاديمية، وكأننا في دولة لا مؤسسات فيها، وكأن النزاهة أصبحت تهمة، والاستحقاق أصبح جريمة!
أما الدولة، فصامتة صمت القبور! هل هو العجز أم التواطؤ؟ هل هو الإهمال أم رسالة بأن الفساد مسموح، بل وربما مرحّب به؟! كيف تُترك جامعة … بهذا الحجم لتنهار أمام أعين الجميع دون مساءلة؟ كيف يتم تعيينات وابتعاثات على أسس الكيدية والمحسوبية دون تدخل؟
أمام هذه الكارثة، لدينا خياران لا ثالث لهما: إما أن تتحرك الدولة فورًا للتحقيق في هذه الفضيحة، وكشف جميع المتورطين، وتحويلهم إلى القضاء، أو أن يتم تكريمهم ومنحهم أوسمة في زمن الرداءة والتفاهة، كما يُفعل مع المفسدين في عصور الانحطاط. في كلتا الحالتين، نحن أمام لحظة فارقة؛ إما أن تُثبت الدولة أن هناك قانونًا يُطبّق، وأن المؤسسات الوطنية ليست للبيع، أو أن تُعلن صراحة أن الفساد هو النهج الرسمي، وأن على الأردنيين التعايش مع واقعٍ جديد عنوانه “البقاء للأكثر فسادًا.”
المؤلم أن جامعة … ليست وحدها في هذا النفق المظلم، بل هي نموذج لحالة عامة تسود مؤسسات الدولة، حيث يُكافأ الوصولي والانتهازي، ويُهمّش أصحاب الكفاءة. وما يحدث اليوم في هذه المؤسسة العريقة هو ليس مجرد فساد مالي أو إداري، بل هو اغتيالٌ لمستقبل أجيال قادمة، كانت تحلم بمؤسسة تنصفهم بالعلم والعدالة، لا بصفقاتٍ مشبوهة وابتعاثات على مقاس أبناء الذوات.
إذا لم تتحرك الجهات الرسمية اليوم، فإن الغد سيكون أسوأ، وسنقرأ عن مؤسسات أخرى تُدار بالعقلية نفسها، وسنشهد انهيارًا متسارعًا لمنظومة التعليم العالي بأكملها. فهل ننتظر حتى يتحول الفساد إلى عرف؟ أم أن هناك بقية من ضمير، بقية من دولة، قادرة على وقف هذا النزيف قبل فوات الأوان؟
جامعة … اليوم ليست مجرد مؤسسة، بل اختبار للدولة كلها. فإما أن تنتصر العدالة، أو أن نترحّم على آخر ما تبقى من مؤسساتنا الوطنية.