ضحايا الاغتصاب بحرب تيغراي يستفدن من تجارب رواندا للتعافي
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
تقول بيزونيش، وهي تغزل الصوف في منزلها الصغير المبني من الطين في بورا، وهي منطقة نائية مليئة بالوديان العميقة والجبال المنحدرة والمزارع الصغيرة ذات المدرجات بمنطقة تيغراي الشمالية في إثيوبيا "كنت غاضبة طوال الوقت".
لقد مرت سنوات قليلة منذ أن تعرضت أم 8 أطفال، والتي لا نستخدم اسمها الحقيقي لحماية خصوصيتها، لأسوأ هجوم في حياتها، ولا تزال صدمة ما حدث تطاردها.
وتعرضت تيغراي لحصار وحشي من قبل الجيشين الإثيوبي والإريتري بين نوفمبر/تشرين الثاني 2020 ونوفمبر/تشرين الثاني 2022. وبحسب الاتحاد الأفريقي، قُتل أكثر من 600 ألف مدني، ونزح الملايين. وتعرض ما لا يقل عن 120 ألف امرأة وفتاة للاغتصاب خلال ما تقول السلطات الصحية الإقليمية إنها حملة ممنهجة من العنف الجنسي تستخدم سلاحا في الحرب.
وجدت دراسة استقصائية أجرتها جامعة ميكيلي في تيغراي أن ما لا يقل عن 570 امرأة تعرضن للاغتصاب في بورا وحدها. ومن بينهن 34 مصابة بفيروس نقص المناعة البشرية (إيدز) وتوفيت اثنتان بسبب الانتحار، كما أصيب العديد منهن بإعاقة دائمة.
ومع ذلك، يُعتقد أن عدد الاعتداءات الجنسية أعلى بكثير لأن وصمة العار ضد الضحايا بهذه المنطقة الدينية والمحافظة قوية جدًا لدرجة أن العديد من النساء فضلن عدم الإبلاغ عنها خوفًا من نبذ أسرهن.
بيزونيش أيضًا -التي تصف معاناتها من الصدمة التي يقول الخبراء إنها شائعة بين الناجيات من العنف الجنسي- لم تقل أبدًا بشكل مباشر إنها تعرضت للاغتصاب، وبدلاً من ذلك تحدثت بشكل عام عن السنوات القليلة الماضية.
وقالت للجزيرة "قبل الحرب، كنا نعيش حياة جيدة. وكان زوجي مزارعًا، وكنت أعتني بالمنزل وأطفالنا الثمانية. ولكن بعد ذلك بدأت الحرب. قُتل زوجي عشية عيد الميلاد في يناير/كانون الثاني 2021، ومعه 175 من شعبنا (على يد الجيش الإثيوبي). وأضافت "لقد دخلوا من منزل إلى منزل وقتلوا الناس بشكل عشوائي".
وبعد الهجوم، قالت بيزونيش إن الصدمة كانت كبيرة لدرجة أن "بعض النساء لم يستطعن النوم، وشعرن وكأن رؤوسهن على وشك الانفجار. آخرون، على الأرجح يكافحون من الإجهاد اللاحق للصدمة، كانوا يضيعون، معتقدين أنهم ذاهبون إلى الكنيسة أو لزيارة صديق ويجدون أنفسهم فجأة في مكان آخر". وأضافت "أنا شخصياً كنت متوترة للغاية، وكنت أتشاجر مع أطفالي والناس وحتى الحيوانات".
كانت بلين، وهي أم 4 أطفال ومعلمة لا نستخدم اسمها الكامل، من بين الذين تعرضوا للهجوم. ونتيجة لذلك، لم تعد قادرة على الإنجاب.
ومثل بيزونيش، فهي أيضًا لا تتحدث بشكل مباشر عن الاعتداء الذي تعرضت له، وتركز بدلاً من ذلك على الأصدقاء والجيران، وتقول "لقد سرقونا واغتصبونا وضربونا وقتلوا أكثر من 30 شخصًا. ذبحوا أبقارنا وأكلوها، وأخذوا حميرنا. لقد عادوا 3 مرات لاغتصاب جارتي. وهي الآن تجلس في المنزل طوال اليوم بمفردها. إنها هادئة وتساقط كل شعرها". وأضافت "إنها بالكاد تشبه البشر. لم تعتقد النساء قط أن شيئًا كهذا سيحدث لهن".
وبعد بضعة أشهر من نهب الجيش الإثيوبي للقرية، جاء دور الجنود الإريتريين.
إليزابيث كيدان، طالبة طب من تيغراي تساعد في دعم الناجين، تقول "إنهن يشعرن بالخجل الشديد لدرجة أنهن لا يستطعن التحدث مع أطفالهن وآبائهن وأزواجهن".
وأضافت أن هؤلاء الضحايا كانوا ينعزلون ويعانون من الصدمة بعد الهجمات عليهم، والعديد منهم "يخشون أن يصابوا بالجنون أو يتعرضوا للعنة، أو يعاقبوا على بعض الخطايا الفظيعة".
نظام "هال" الشعبيولكن في ظل غياب الدعم النفسي أثناء الحرب، مع انهيار الخدمات الصحية وحتى بالكاد تصل المساعدات الإنسانية الأساسية، حاولت مجموعة صغيرة من النساء داخل وخارج تيغراي التوصل إلى خطة.
وضمت هذه المجموعة الأساسية ممرضة وأخصائية اجتماعية وطالبة طب وعاملة إغاثة ورئيسة جمعية "بنات المحبة" وهي مؤسسة خيرية تحظى باحترام كبير ولها جذور عميقة في المجتمعات.
وقد سمعت بعض هؤلاء النساء عن النهج الشعبي الذي يسمى "هال وهي اختصار لما سمي "حلقات الاستماع المفيد" والذي ساعد الناجين من الإبادة الجماعية في رواندا على الشفاء، واعتقدن أن هذه الطريقة قد تساعد نساء تيغراي أيضًا.
ويعد "هال" أسلوبًا سهلاً ورخيصًا ولا يتطلب أي خبرة مهنية ويمكنه الوصول بسرعة إلى عدد كبير من الناجين. وهو يتضمن تدريب بعض النساء من المجتمع، واللاتي يبدين أكثر مرونة، لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي الأساسي للناجيات الأخريات في حلقات النساء.
وقد تم تطوير نظام "هال" مباشرة بعد الإبادة الجماعية في رواندا من قبل البروفيسور الراحل سيدني براندون، وهو طبيب نفسي متقاعد عمل لسنوات عديدة في سلاح الجو الملكي بالمملكة المتحدة.
واتصلت المجموعة الأساسية بروانديتين شاركتا في مشروع "هال". وعلى مدى الأشهر التالية، تعلمن منهن كيفية عمل حلقات، وكيفية تطوير البرنامج والمواد التدريبية، وكيفية تكييف النموذج الرواندي مع سياق تيغراي. وقامت هؤلاء النساء أولاً بمشاركة المعرفة عبر الإنترنت ثم حضرن شخصيًا عندما أصبح السفر أكثر أمانًا.
وقالت إحدى المرأتين وتدعى أديليت موكامانا، وهي من الناجيات من الإبادة الجماعية الرواندية وطبيبة نفسية "لقد شاركت تجربتي مع النساء في تيغراي وفكرت في كيفية تكييف البرنامج مع وضعهن. وعلى سبيل المثال، في رواندا، لم تتمكن النساء من التحدث علناً عما حدث لهن، لكنهن كن يفعلن ذلك على انفراد، في تيغراي، وكان العار كبيرا للغاية لدرجة أن النساء لم يستطعن حتى التحدث على انفراد".
وقالت موكامانا إن نظام "هال" في رواندا ساعد مجموعات النساء الناجيات على استعادة إنسانيتهن واحترامهن لذواتهن. وأضافت "من علامات العنف الجنسي الشعور بالخجل والذنب. ولكن إذا تمكنت المرأة من التحدث وإدراك أن العار يخص المضطهد، فهذا يساعدها جدا".
وأوضحت أن الجاني أراد تجريدهن من إنسانيتهن، لكن المجموعة تساعدهن على استعادة إنسانيتهن، والشعور بالفهم والاحترام.
وبمساعدة موكامانا، طورت المجموعة الأساسية إرشادات للناجين الذين يتطوعون بحلقات "هال" في بورا، وتم استخدام هذا النظام لتدريب 48 متطوعا على مدى 5 أيام على مهارات الاتصال الداعمة، وتأثير الصدمة على الأجسام والعقول، وعلامات الضيق النفسي، وتحديد المحفزات والطرق الصحية للتعامل مع آثار الصدمة.
وقالت كيدان وهي جزء من المجموعة الأساسية "المادة سهلة الفهم ومناسبة ثقافيًا. إن كونك متطوعا لا يتطلب أي خلفية تعليمية، فقط أن تكون ناجيًا، وأن تكون متعاطفًا، وأن تكون معروفًا في المجتمع، وأن تكون قويًا وجديرًا بالثقة".
مكان آمنولتمويل أول برنامج "هال" في تيغراي، قامت المجموعة الأساسية بالضغط على السفارات الأجنبية في أديس أبابا. وبدعم من السفارة الفرنسية، ثم السفارة الأيرلندية، تمت تجربة المشروع في الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2021 إلى نفس الشهر من العام التالي في منزل آمن ومخيم للاجئين في ميكيلي عاصمة تيغراي. ويجري حاليًا توسيع للبرنامج بتمويل من المملكة المتحدة في بورا منذ فبراير/شباط 2023.
وفي بورا، الحلقات مفتوحة للنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب، ولكن أيضًا للنساء اللاتي تعرضن لصدمات نفسية بسبب الحرب بعد أن فقدن منازلهن أو أسرهن، ولذا فإن الحضور إلى الحلقات لا يعني بالضرورة تعريف المرأة بأنها ضحية للعنف الجنسي.
وتقود كل متطوعة مجموعة من 10 نساء خلال 6 جلسات مدة كل منها 3 ساعات على مدى 3 أشهر. وخلال الجلسات، لا يُتوقع من النساء أن يشاركن قصصهن عن الاعتداء الجنسي والعنف، بل كيف يعانين من الصدمة الناتجة عن ذلك. ويخبرهم المتطوع بما تفعله الصدمة بعقل الفرد وجسده، باستخدام استعارات لأشياء مألوفة لهن.
وعلى سبيل المثال، يشرحون كيف "ينكسر" العقل عندما تحاول المرأة التصرف كما لو لم يحدث شيء فـ"يبدو الأمر كما لو أنك تثني عصا رفيعة أكثر فأكثر، فتنكسر". ثم يتم إخبارهن عن الطرق الممكنة التي يمكنهن من خلالها محاولة التغلب على المشكلة، وذلك باستخدام الاستعارات أيضًا.
وقد أعدت منظمة "بنات المحبة" مكانًا آمنًا للنساء في مجمع بقرية فاير سيوات الإدارية الرئيسية وسط منطقة بورا. وهناك عدد قليل من أشجار البابايا والجوافة، وخيمة تابعة للمفوضية تعمل مركزا للحرف اليدوية والعديد من الغرف الصغيرة على 3 جهات من فناء صغير، ثلاث منها لمجموعات "هال". وتم تصميم غرف "هال" لتبدو وكأنها غرفة معيشة نموذجية تحتوي على مراتب وكراسي وأطقم لحفلات القهوة التقليدية.
وقالت كيدان "من الناحية الثقافية، تتعامل النساء مع الأخبار الحزينة: يجتمعن للتحدث مع أخواتهن، واحتساء القهوة ومواساة بعضهن البعض. لقد حضرت جلسات هال وهذا غيرني حقًا".
ومن جانبها قالت بيزونيش "هذا ما أعطاني القوة والأمل. لقد ساعدت الجلسات في المقام الأول بسبب الاستماع والمشاركة ومعرفة أننا لسنا وحدنا". وأضافت "في البداية، كنت خجولة وغير متأكدة من الذهاب إلى الاجتماعات، ولكن في وقت لاحق، كنت متحمسة للغاية".
وأضافت "التغييرات واضحة جدًا، في طرق تفاعلنا مع عائلاتنا، وكيف نتعامل مع أطفالنا بشكل صحيح. إنه ظاهر حتى في مشينا. لم نعد نضيع، ونسير بثقة أكبر. نحن أيضًا نحب هذه الجلسات لأنها تشبه طقوس القهوة لدينا، وهناك موسيقى إذا أردنا ذلك، وغالبًا ما ننهي الجلسة بالرقص".
"الاحتياجات تفوق قدرتنا"وصل مشروع "هال" في بورا الآن إلى 1320 ناجية وسيتم إغلاقه في مارس/ آذار 2025، ما لم يتم العثور على مزيد من الدعم بعد انتهاء التمويل من المملكة المتحدة.
ومع ذلك، تواصل العديد من النساء حلقاتهن المنفصلة. وقالت سارة، وهي أم 5 أطفال لا نستخدم اسمها الكامل "بعد أن أكملت مجموعة هال الجلسات الست، نجتمع الآن معًا لنلتقي ونساعد بعضنا البعض في مواجهة التحديات الجديدة باستخدام ما تعلمناه من الجلسة. نحن أيضًا نوفر المال معًا ونقرضه لبعضنا بالتناوب للمساعدة في بناء أعمالنا".
وكما هو الحال مع سارة، فإن العديد من حلقات "هال تتطور" الآن إلى تعاونيات المساعدة الذاتية طويلة الأجل ومجموعات التمويل الأصغر، وقد تم الاعتراف ببعضها من قبل الحكومة المحلية التي تتشاور معها الآن بشأن بعض القرارات التي تؤثر على النساء.
وقالت كيدان "وبهذه الطريقة، يمكنهن المشاركة في القرارات التي تؤثر عليهن. هذا شيء غير مسبوق، لكنه مؤثر".
وقد أظهرت المقابلات -التي أجريت مع الناجيات نهاية المرحلة التجريبية في ميكيلي من قبل جمعية "بنات المحبة"- أن النساء وجدن نهج "هال" مفيدًا في الحد من الإجهاد اللاحق للصدمة وفي إيقاف لوم الذات والعار والشعور بالذنب. لقد شعرن أيضًا أنهن فعلن ذلك ليصبحن أكثر مرونة وأكثر قدرة على البحث عن حلول للاحتياجات الملحة الأخرى.
وسلط المشروع التجريبي الضوء على أهمية معالجة الاهتمامات الأخرى لدى النساء، بما في ذلك الوصول إلى الغذاء والصحة البدنية والسلامة والقضايا العائلية. ومن خلال هذه الرؤية، قامت منظمة "بنات المحبة" بتزويد المشاركين ببعض الدعم الغذائي والنقدي الطارئ، ومستلزمات النظافة ومواد الحرف اليدوية، وكذلك ربط بعضها بمبادرات دعم الأعمال الصغيرة.
كما أشاد تقييم مستقل أجراه مستشارون للسفارة الفرنسية -التي مولت المرحلة التجريبية- بالمشروع "لكسر الوصمة والمحرمات المحيطة بالعنف الجنسي وتعزيز إنشاء روابط تضامن جديدة بين الضحايا".
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الإنجازات الملموسة، فإن المشروع لا يزال بعيدًا عن تلبية الاحتياجات الضخمة بالمنطقة. وتسرد كيدان بعض التحديات وتقول "نحن بحاجة إلى الغذاء والأطفال يعانون من التقزم. نحن وسط مجاعة ناجمة عن الجفاف والدمار الذي خلفته الحرب".
ويحتاج السكان المحليون في بورا إلى المساعدة للتعافي، وتقول كيدان إن المجموعة الأساسية تجتمع مع إدارة المنطقة لإيجاد طرق لتوسيع نطاق برنامج التوعية الخاص بها.
وأضافت كيدان "الاحتياجات تفوق بكثير قدرتنا على المساعدة".
وفيما يتعلق بالنساء، كانت الخسائر في السنوات القليلة الماضية ثقيلة بشكل خاص، وتشعر أنه لا بد من بذل المزيد من الجهود.
وتوضح كيدان "في ثقافتنا، تعتبر المرأة أقل شأنا. من المتوقع أن يترك الأزواج زوجاتهم إذا تعرضن للاغتصاب".
وللمساعدة في تغيير المواقف، ترى كيدان أن هناك حاجة إلى "جلسات شفاء مجتمعية، وإيجاد الوعي حول الصحة العقلية ومع مقدمي الخدمات، والمعلمين، والزعماء الدينيين، والعمل مع المجتمع بأكمله، وفهم عملية الشفاء، لكن الأمر سيستغرق سنوات".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المجموعة الأساسیة العنف الجنسی العدید من من النساء فی رواندا فی تیغرای لدرجة أن أن تکون فی بورا من قبل
إقرأ أيضاً:
رمضــان.. تجــارب أولى وذكريات تبقــــى وزمــن لا يعــود
لو سألت أحدًا من أصدقائك أو أقربائك أو كائنًا من يكون عن سر حبهم لشهر رمضان الفضيل، ستجد بأن هناك تقاربًا في الإجابات والردود السريعة، والبعض قد يتحدث عن رمضان وما يعنيه له باستفاضة كبيرة سواء من حيث البدايات أو الذكريات التي مرت عليه في هذا الشهر الفضيل، وقد يحكي لك البعض عن أسرار العلاقات الأولى بهذا الشهر وتجاربه الأولى مع صيام شهر رمضان المبارك في مراحله الأولى من حياته، وكيف كان يحاول أن يصوم أوقاتا متفاوتة من اليوم ويفطر في أوقات أخرى بدون أن يخبر أحدا من أهله ويصر على أن يكون أول الجالسين على المائدة الرمضانية وقت الإفطار، والبعض قد يستخرج لك العديد من المواقف التي لا ينساها مثل الصعوبات التي واجهها في بداية مشوار الصيام وتزامنها مع أوقات الدراسة وارتفاع في درجات الحرارة، وقد يقصُّ عليك البعض حال الناس في فترة زمنية بعيدة وكيف كانوا يحتفلون بقدوم شهر التوبة والغفران، وكيف كان الناس يتجمعون في المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح وكأن الأطفال مصدر قلق للمصلين لحداثة أعمارهم وعدم التزامهم بخفض الصوت أو الحركة أثناء الصلاة، وعدد آخر سيتناول جانبا مهما من حياته ويخبرك بأنه لا يزال حتى يومنا هذا يحن للعودة إلى الوراء ويلتقي بنفس الوجوه الراحلة والأماكن التي لم تعد كما كانت في حقبة زمنية ماضية مثل دكان القرية الذي كان متنفسا مهما لهم في شراء الحلويات وغيرها بعد أداء صلاة العشاء.
ترى، هل هناك سر ما يخفيه هذا الشهر الفضيل في قلوب الناس؟ الإجابة ليست سرًا واحدًا، وإنما هناك أسرار كثيرة، بعضها أصبح مجرد ذكريات دفنت في قعر الذاكرة، ولكنها لا تزال تنبض بالحياة حتى وإن تغيرت تفاصيل الحياة، وتبدلت الوجوه والأحوال وذهبت الأيام الصعبة والظروف القاسية، لكن -كما قلت- لا تزال الذاكرة البشرية محملة بعبق الماضي وفصول من ذكريات وأحداث قديمة، ومهما توالت الأجيال ورحلت وجوه أخرى إلى بارئها، لا يزال رمضان يعيش في مخيلة الصائمين كعبق ينثر شذاه في هيئة رموز لا تنسى سواء «للمكان أو الزمان أو الأشخاص» الذين غيبهم الموت، لكن كل ذلك وغيره بقي صامدا رغم كل ما تعانيه ذاكرة الإنسان من النسيان والضياع لبعض التفاصيل المهمة في الحياة.
أن تعيش لحظات الإيمان والسلام والاستقرار النفسي في شهر رمضان المبارك هي نعمة عظيمة يمنحك الله إياها فلا تضيعها، ولذا على المسلم الصائم أن يحرص على التمسك بأسباب المغفرة والرضوان وذلك بالحفاظ على أداء صيامه وقيامه وقراءة للقرآن وأداء للواجبات المفروضة عليه، وأن يبتعد عن أسباب الطرد والحرمان بارتكاب المعاصي والآثام في رمضان وبعد رمضان ليكون من الفائزين.
في كل عام يأتينا شهر رمضان الفضيل فيعيد لنا بعضا من الذكريات، ويقربنا إلى الله بالطاعات، وذلك تأسيا بنبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقد ورد عن ابن القيم -رحمه الله- أنه قال: «وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر والاعتكاف.. وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانًا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة».
هذا القول يؤكد تأكيدا يقينا على أهمية الحرص على استغلال أيام شهر رمضان المبارك بما فيه من «قراءة للقرآن الكريم، والتهجد، والتعبد، وفعل الطاعات، والبعد عن المعاصي والذنوب».
ومن الأشياء التي وجبت الإشارة إليها هي تلك التي وردت في السيرة النبوية الشريفة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر» رواه مسلم.
لقد ربط علماء الدين والفقهاء الكثير من نصوص الأحاديث الشريفة على أنها المغفرة الموعودة للصائمين من الله عز وجل، ولكن ربطها بثلاثة شروط - كما ورد ذكرها في الكثير من كتب التفسير والتبيين، ومن بينها ما استندت إليه في موقع «الإسلام سؤال وجواب» ووجدتها مدونة في بعض الأماكن والمصادر وهي-: الشرط الأول: أن يصوم رمضان إيمانا، أي إيمانا بالله ورسوله وتصديقا بفرضية الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر. الشرط الثاني: أن يصومه احتسابا، أي طلبا للأجر والثواب، بأن يصومه إخلاصًا لوجه الله تعالى، لا رياءً ولا تقليدا ولا تجلدا لئلا يخالف الناس، أو غير ذلك من المقاصد، بل يصومه طيبة به نفسه غير كاره لصيامه ولا مستثقل لأيامه، بل يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.
أما الشرط الثالث والأخير: أن يجتنب الكبائر، وهي جمع كبيرة، وهي كل ذنب ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو ترتب عليه غضب ونحوه، وذلك كالإشراك بالله وأكل الربا وأكل مال اليتيم والزنا والسحر والقتل وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وشهادة الزور واليمين الغموس، والغش في البيع وسائر المعاملات، وغير ذلك، قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلًا كريما»، فإذا صام العبد رمضان كما ينبغي غفر الله له بصيامه الصغائر والخطيئات التي اقترفها إذا اجتُنبت كبائر الذنوب وتاب مما وقع فيه منها.
إذن شهر رمضان شهر التوبة والغفران من الذنوب، تخلص المؤمن الصائم من عوالق الخطايا، فحري بنا أن نجدد في هذا الشهر ونتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وطلب العفو والغفران.