سودانايل:
2025-05-02@15:46:51 GMT

الجنّة والجحيم في عيون الأطفال!!

تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT

(1)
بينما أسيرُ في دروب الغابة الوعرة إلى الأسفل باتجاه البحيرة، بعكّازٍ يُميّز عجائز القرية الصغيرة فقط، ثمّ صعوداً مرةً أخرى منها، رأيتُ مشهداً خلاباً: سربٌ من الأطفال ينحدرون عبر دربٍ لا يُرى، وبسرعةٍ هائلةٍ دون توقّف، بأيديهم سنّارات الصيد صوب الماء كالسهام ويضحكون بصوتٍ عالٍ. ربما كانوا يتسابقون، ولكن في هذه الوعورة؟ بعدهم ألقي نظرة على البوت البلاستيكي العالي الذي أرتديه اتقاء الحشائش وأغصان الأشجار والأوراق اليابسة وسط الخضرة الهائلة.

دروب الغابة كتبتها أقدامُ هؤلاء الأطفال –مثلما "الفتوحات في الأرض مكتوبةٌ بدماء الخيول- ولو لا ركضهم ومشيهم هم وأهلهم حفاةً، يلامسون الأرض مباشرةً، لما رُسمت هذه الدروب. يأتي الهائمون من أمثالنا -حيواناتٌ مدنيّةٌ مُدلَّلة- يجدون الدرب الضعيف المكتوب ويسيرون عليه كمن يقرأون كتاب الأرض، ويأخذهم إلى أجمل المشاهد حيث يمكن أن تجلس وتقرأ.
تذكّرت، وأنا أشاهدهم ينحدرون بهذه السرعة، مشهدنا أنا وصديقي أيمن الدسوري في الصخور الكبيرة المؤدّية إلى شلال كُلْبي بمدينة كادوقلي، في أول زيارةٍ لي إليها ضيفاً على أيمن، وفي أول رؤية لهذا الشلال. كُنَّا حرفيَّاً نسيرُ على أربع بينما نتسلّق توقاً لصوت الشلال، ثمَّ فجأةً يعبرنا سربٌ من الأطفال، وبذات السرعة العجيبة، يتقافزون من صخرةٍ إلى صخرة ويضحكون على مشهدنا. ثمَّ -إمعاناً في إذلالنا- صعد طفلٌ منهم بسرعةٍ الشلال ذاته حتَّى وازى منبعه، ثمَّ قفز، ببراعةٍ خطفت أنفاسنا، إلى قلب بحيرة الشلال الصغيرة.

(2)
يمكنني أن أتصوّر مدى صدمة الأطفال وهم يشاهدون الأسلحة والقذائف والطائرات تدكّ حياتهم! لنا نحن الكبار فقد أدركنا التسلسل التاريخي وتراكمه ويمكننا أن نفهم، بطرقٍ مختلفة طبعاً، لماذا تحدث الحرب؟ أتذكّر اليوم حديث أختي العزيزة والروائية الشاعرة كلتوم فضل الله عن مدى الجنّة التي كانت تتمدّد من حولهم في "الليري" بولاية جنوب كردفان، وكيف خُطفَت منهم فجأةً، ودون سابق إنذار. لقد بدأت حربنا في الجنان حقيقةً، ضدّ أشدّ الشعوب مسالمةً، وها هي تنتهي ضدّ أقوى الثورات سِلميَّةً!. ذلك كلّه سيظلّ ضبابيّاً بالنسبة للأطفال، وكيف يجدون أنفسهم، -وهم الراكضون الحفاة، السابحون العُراة في الجنّة- فجأةً في جحيم مدينةٍ لا يعرفون لقلبها القاسي تعريفاً.
الأطفال المحظوظون الذين كان لأهلهم سيارات أقلّتهم مباشرةً عند اندلاع الحرب إلى الخارج، يجتهد أهلهم في تفسير ما جرى! قالت عزّة لابنتها إبّان قصف السبعة أيامٍ الأولى أن كلّ ذلك ما هو إلا تجريب للألعاب الناريّة استعداداً للعيد، وهذا هو الفِعل الصحيح، أن لا يُدرك الأطفال ما الذي حدث. لكن ما الذي يُمكن أن يُفسَّر لمن رأى والدته تُقتلُ أمامه بقذيفة؟.

(3)
في مدينة الرنك، خلال أسبوعٍ قضيناه هناك إبّان عبورنا، كان صادماً دخولنا إلى جامعة أعالي النيل، حيث يتكوّم اللاجئون الجنوبيوّن في أغلبهم –نساء، أطفال، كبار سن- لأسبوعين تحت الأمطار وبلا غطاء ولا طعام. إنه لمن المدهش كيف يتصرّف الأطفال، وصادم أيضاً، إذ أنهم يُتقِنون فنَّ الحياة دون تعليمٍ حتَّى! ففي حين تكون نظرات الكبار زائغة، سيبتسم لك الأطفال ولسوف يلعبون بعد قليل.
اليوم، يتساقط الأطفال قتلى بوحشيّةٍ لا يُمكن أن يمتلكها من رأى طفلاً في حياته. في تقريرٍ عن النازحين من مدينة الجنينة، قالت امرأة إنهم، في طريق عبورهم عبر الغابة إلى تشاد، كانوا يفرزون الأطفال بالجنس، ثمّ يقتلون الذكور أمام أمهاتهم. وفي الرنك، حكت لي امرأة وهي تغسل الملابس في العراء، أنهم هربوا لأن قذيفةً قتلت أطفال جيرانهم. كانت تبتسم لأن أطفالها كانوا جميعهم من حولها.

(4)
عندما كنت شاباً يافعاً كان من أشدّ الأسئلة قسوةً على قلبي –وقد كنتُ المسلم المؤمن جدّاً- هو كيف لكل أطفال السوق العربي وشماسة الخرطوم أن ينجو دون أن يُمنحوا فرصةً، أصلاً، في فهم كيف تكون الحياة؟ وفي كلّ مرةٍ دخلتُ حراسة شرطة كنتُ فقط أحدّق في هؤلاء "المجرمين" الصغار، المخدّرين لأجل إذهاب الجوع من البطن الخاوية أبداً، والذين ربما يسرقون مرآة سيّارتك. لقد قضينا معظم فترة شبابنا في السوق العربي، ورأيناه يختفي رويداً رويداً، وشهدنا مقتلة أطفال الشوارع النائمين في خيران المدينة بالإسبريت السام، تلك الحادثة الشهيرة التي وثّقها الروائي عبد العزيز بركة ساكن في كتابه "ذاكرة الخندريس"، وقد كانت جبهات مدنيّة حيّة قد أقامت لأجلهم عزاءاً بدار حزب الأمّة بأمدرمان.

(5)
واحدٌ من الكتب التي تشرّفت بتحريرها -بينما كنتُ أبكي- هو كتاب "الجحيم والأمل: تجنيد الأطفال في السودان" لكاتبه الدكتور محمد حسين موسى.
كتبت مباشرةً بعد أن انتهيت منه، وهو مجلد ضخم يضمّ عمليات تجنيد الأطفال من قبل الجميع: الجيش، مليشيات الجنجويد، حركات دارفور، الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ الدكتور جون قرنق، جميعهم جنّدوا الأطفال بطرقٍ مُختلفة. الكاتب كان حاضراً في جميع هذه المراحل، وجمع مادة علميّة غاية في البراعة، لكنّني، عندما كتبت عن الكتاب، وقد كنتُ غاضباً حينها، عارضني الدكتور وطلب مني عدم الزج به في صراعاتٍ لا تدور إلا في رأسي. عذرته بالتأكيد، فهو –خلال عمله- لم يضع سوى حبّه للأطفال كعاطفة دافعة لإنجازه لهذا البحث المهم.
كتبتُ – غفر الله لي-:
"عن كتاب محمد حسين موسى الذي كان لي شرف تحريره مؤخراً، الجحيم والأمل: تجنيد الأطفال في السودان"
يُخبرنا الكتاب، بكثيرٍ من القسوة والغضب البائنين، بعيداً، خلف اللغة العلمية التي كُتب بها نصّ الكتاب – البحث؛ يُخبرنا بتفاصيل ومعلومات دقيقة في حدّتها ووخذها للقلب، حول الأحوال التي عايشها أطفال السودان، في جميع مناطق حربه في مختلف أقاليم السودان، جرّاء التجنيد القسري أو الطوعي – التحريضي. ولا يُشفق الكاتب على الحكومة السودانية مثلما لا تأخذه رأفة بالحركات المسلّحة أيضاً؛ فقد جاب الباحث مناطق وأجرى مقابلات شخصيّة وحصر إفادات وبحث في الوثائق والتقارير الحكومية والدوليّة، ثمّ أتانا بحصيلة مفصّلة ومبوّبة حول تلك الحيوات المريرة التي عاشها الأطفال.
وليس بعيداً عن هذه الهموم، كنتُ أشاهد فيلماً دراميّاً تدور أحداثه في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية؛ ما بين فرنسا التي تُظهر اللحظات الأخيرة لانسحاب الجيوش الألمانية المُحتلَّة، وبلجيكا، ثمّ أطراف ألمانيا. وهي عن علماء فنون وآثار يُبتعثوا من الولايات المتحدة الأمريكية لحصر التماثيل والأعمال الفنيّة التي حُرق الكثير منها ودُمِّر الكثير، وبفضلهم لا تزال ملايين الأعمال الفنية (5 ملايين) موجودة في متاحف العالم. في معمعة الفيلم، يظهر الأطفال يُحاربون بشراسة في اللحظات الأخيرة، يتبعون للجيش النازي، وإنهم لمؤمنون بحقّ. هذه الأحداث ليست بعيدة من حاضرنا اليوم، وفي الحقيقة فقد وُضعت الكثير من القوانين للجيوش النظاميّة حول العالم بعد ذلك الجنون المتمرّد على الخيال البشري، ولكن الحرب لا تزال تدور في كلّ مكان، فبعد أن كانت محصورةً في عوالمنا الفقيرة البائسة، انتقل البؤساء المُحبطين والمكتئبين لينقلوا الحربَ، فرديَّةً، في بلاد الأمان والسلام "المُتحضّرة"؛ لا تزال الأسلحة تُباع، ليمتطيها أطفال العالم الموحش الفقير، وتُصنّع وتُطوَّر في ذات الدول التي حفظت جيوشها من استغلال الأطفال، وتُحاكِم حروبنا بعنجهيّة لا تُطاق.
الكاتب، في هذا المبحث المهم للغاية، يُرينا جانباً مُرعباً من الحرب، بتفاصيله المهولة، ويُخبرنا أننا، مهما تعاطفنا حقيقةً، وعبّرنا عن غضبنا من الحرب، فإننا لن نعرف عنها شيئاً على الإطلاق، ليس ما يعرفه من عايشوا الحرب.
إنني أتحدث، طبعاً، ككاتب خرطومي سمع صوت الحرب من بعيد، مرةً واحدة، في الهجوم الشهير لحركة العدل والمساواة على أمدرمان، حيث كنتُ صحفيّاً أعمل في الخرطوم وقد سُدَّت العاصمة تماماً، حيث كانت تدور المعارك في الكباري، ثمّ رأيتُ أجزاءً منها في صباح اليوم التالي؛ خرابها، الملاحقات المؤلمة للناس، وسرادق العزاء، وثقوب مهولة في المباني والبيوت، وعملتُ مصوّراً مع صحفيين آخرين. فما الذي نعرفه حقّاً عن الحرب؟ وعن استغلال الأطفال فيها بالتحديد؟.
ثمّ، ألن تستطيع الحروب أن تقوم على قدمين إلا بالأطفال والشبّان الصغار؟ نعم، أعتقد ذلك، لا شأن للكبار بالأمر، الذين يُشعلون الحروب باللغة مجرَّدةً؛ منثورةً في الشعارات والخطب الحماسيّة والآيات الدينية وجميع أنواع الآلهة والرسل والأنبياء والمفكرين والفلاسفة والشعراء!.
إنه من أكثر الكتب إيلاماً وكَيًّاً، ولكنه يداوي قلّة المعرفة". انتهى.
غضبي كان على "ثوّار الهامش" أعلى من الجيش الحكومي وميليشيَّاته، ولم أندهش اليوم من بيعهم لأنفسهم وتفاوضهم الدائم على "اقتسام السلطة والثروة"، ما دام الأطفال لا يُهمّونهم في شيء.
على أرض المعركة، لا أعتقد أنني أفهم شيئاً عن غضب الأطفال من ما حلَّ بعائلاتهم وأرضهم وحياتهم، لن أُدرك ذلك، لكنّني أفهم شيئاً واحداً: لا يمكنك استغلالُ غضب طفلٍ ليكون في صفوفك الأماميّة. الجيش السوداني كان يختطف الأطفال –عبر معسكرات الدفاع الشعبي- حتّى من الحافلات، ويزجّ بهم تماماً في الخطوط الأماميّة في حربه ضدّ ثوّار جنوب السودان. سمعتُ قصَّةً من عسكري، قال إنهم كانوا، لأيامٍ، يسيرون عبر الغابات وقد نفد الماء. وعندما وصلوا بحيرةً صغيرةً ركض "شفَّع" الدفاع الشعبي مباشرةً إلى الماء، بينما ربض أفرادُ الجيش ليستكشفوا المكان، حسب القواعد العسكريَّة: الأطفال الذين ركضوا إلى بركة الماء مرحين تمّت تصفيتهم عن بكرة أبيهم خلال دقائق.
ذلك ما أراه الآن: "المجاهدون" الإسلاميّون الصغار، الذين لا يعرفون كيف يصمدوا خلال الاشتباكات وكيف يحموا أنفسهم، هم من يموتون في الخطوط الأماميّة في قتالٍ بريٍّ بلا خبرة ضدّ قوّاتٍ بريَّة درَّبها الجيشُ نفسه! كذلك علمنا أن الثوّار كذلك –من كان يقتلهم ذات الجيش خلال مظاهراتهم السلميَّة- يدافعون عنه في معسكر الشجرة، ويموتون في الخطوط الأماميّة.
يا للعار!.

(6)
وأخيراً، في أغسطس من 2018م، كتبت بوستاً غاضباً على فيسبوك، عن حادثةٍ قَتَلَت طفلات صغيرات، لم أُدرك أنه سيتكرر في مدينتي ذاتها بعد أعوامٍ قليلة، وكان عنوان البوست، لحكمةٍ تعلمها الكوميديا الإلهية: "الجحيم الآن وهنا". وهو عنوان مأخوذ من كتاباتٍ كثيرة، ليس أقلّها ما قاله شكسبير: "الجحيم فارغ، كل الشياطين هنا":
[دائماً، وأبداً، لن ينجو ضميرٌ حيٌّ، كامنٌ في جسدٍ يُسمَّى بشريّ، مهما كان شريراً وحاقداً وغافلاً وتافهاً، من حقِّ الأطفال في العيش. إذ: ما الحياة إذاً؟ إن لم تكن في بدايتها تستحق هذا السؤال؟ كائنٌ لم يُسأل أصلاً عن معنى الحياة، عن تطورها، ومعاناتها، ونهاياتها، بل يُقتَلُ في المَهد، إنه إنهاءٌ لوجودٍ لم يُوجد. هكذا، كلما تفكّرت في حيوات الطفلات المقتولات، قتلاً عَمداً، تحت أطنان الأسمنت الجداري؛ هكذا تأتي إلى قلبي الأسئلة الأساسيَّة: لم يكنَّ الوحيدات، كان غيرهنّ من شُفَّعٍ وشافعات في أنحاء الحروب الغاشمة في الجنوب والشرق والغرب والشمال، بلادٌ اسمها السودان، تنهدم الأسئلة الأساسيّة حول الحياة قبل أن تبدأ أصلاً، اقتلاع الأشجار من جذورها، وهضم محتويات مستقبلها في الخطابات السياسة، كأنك تلوك لبانةً، أو كأن لا وجود لما يُسمَّى إزهاراً.
في الماضي، والحاضر والمستقبل. تقول مديرة المدرسة "الخاصَّة" –ما الذي يعنيه هذا بحق الشيطان؟- إنهم لم يعلموا بأن الجدار آيلٌ للانهيار، وتقول الطفلة، في ذات الصفحة المنشورة بصحيفة ورقية أن الأستاذات والأساتذة قد نبهوهنَّ، مراراً وتكراراً، بأن لا يقتَربنَ من (هذا الجدار) وخصوصاً في الخريف! أيتها الرأسمالية المنهارة على أسقفنا جميعاً، أيها العالم المنهار إلى أبدِ الآبدين، متى تعترف؟
هكذا تعيش الأرض، كل يومٍ من أيام حياتها القاسية، وهكذا نتأقلم مع كل ما يحدث. وما من عاطفةٍ تأخذ بتلابيبنا، وتقذف بنا إلى جحيمٍ يقولون أنه في انتظارنا. جحيمٌ أشدُّ من هذا؟ لا أعتقد، ولن أعتقد. الجحيم الآن، وهنا.
نتفهَّم (هل قلتُ نتفهَّم؟) أن يحدث موت الأطفال خلال الحرب، لكن في السِلم، أثناء الحياة التي ترجو أن تكون مُستقبلاً، كيف نظلّ صامدين بثِقل الدم الذي لا يُوصف أمام حوادثٍ كهذه؟ إذ أنها ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما انصاع التعليم لجشع العالم المعاصر اللامبالي بتكويم ذات الأطفال في إعلاناته التلفزيونيّة المقززة لإرضاء العوائل التي تظنّ، ظنّاً آثماً، أنها في منأى عن الجحيم. تعليمٌ خاص؟ بميزانيات مهولة؟ وجدران تتهاوى؟ الأفظع أنه لا من مُستَقيل.
قبل سنوات، في القضارف، تهاوى جدار مؤسسة تُعنى بالحج، على صفوف الحُجاج لبيت الله، سبحانه وتعالى، ومات 12 شخصاً تحت الأنقاض. وبكل صفاقة لا يُحسدُ عليها مدير تلك المؤسسة التي طالبه مجلِسُها بأن يستقيل، قال: (الاستقالة تقليد غربي، ونحن لا نقلّد الكفار، لأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قال ....(إلى نهاية الحديث)، ثانياً، فإننا قومٌ نؤمن بالقضاء والقدر. يا إلهي، أيُّ جحيمٍ يُمكنُ أن يكون أشدَّ من قضائكَ وقدركَ الذي ابتليتنا به بهؤلاء؟ ماذا فعلنا لنُلقى في جحيمٍ كهذا؟ ما الذي جنيناه؟ هل كانت لنا حيواة أخرى أخطأنا فيها ونُعاقب عليها بولادتنا في هذا الحيّز الزماني المُحيِّر؟ حيث تحكمنا الأوراق ذات الأرقام؟ والأجهزة العاجزة عن مداواة أشدّ ما في أنفسنا من عجزٍ وخيانة؟.
قصف التحالف السعودي باصَّاً يقل أكثر من 25 طفلاً وقَتَلهم، بدمٍ بارد، إذ قالوا إن كل ذلك مشروع، وقد ذكروا كلمة مشروع هذه في (بي بي سي) العربيَّة! ودون أدنى اعتذار!
هذه هي صلاةُ جُمعتك، ولم يتحدث أيُّ خطيبٍ، في العاصمة المرفَّهة البعيدة عن الحرب، عن موت الطفلات الثلاث. تحدثت الصحف، ولكن، كيف يشتري الناس الصحف؟ وكذلك لم يَستَقل أحد. إلى الأبد. سيستمر الجميع في جني مستحقَّاتهم من سلطة المال والتعليم ودال الدكتوراة ونجمة الكَتِف. هكذا تدور الأرض، ولن تدور من غير ذلك.
آمين]

12 أغسطس 2023م.

mamoun.elfatib1982@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأطفال فی الأمامی ة ما الذی التی ت ة التی

إقرأ أيضاً:

في غزة.. طفولة معذبة تحت سياط الحرب

غزة- في السابعة صباحا، تدق الأجراس في مدارس العالم، إيذانا باصطفاف الأطفال في طابور صباحي منظم حاملين حقائبهم، يحيّون أعلام أوطانهم ويرددون أناشيدها، بينما في الوقت نفسه، وفي الركن المنسي من العالم حيث "غزة"، ثمة أطفال عطشى، يسعون باكرا بحثا عن شربة ماء محملين بزجاجات وعبوات بلاستيكية فارغة.

شُعثا غُبرا يترقّبون "زامور" شاحنة المياه المتجولة، ومنبعثين من خيامهم وصفوف مدارسهم -التي تحولت إلى مآوٍ لنزوحهم- يصطفون طوابير لتعبئة المياه، في مشهد لا ملامح للوطن فيه إلا فتات عالق في ذاكرتهم، حين غنوا له في أعوام سابقة "الحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك".

معاناة أطفال غزة في مهمة تأمين مياه الشرب (الجزيرة) "جالونات" لا بالونات

يخرج محمد (8 أعوام) من طابور المياه بجالونين ممتلئين، ويشي العرق المتصبب من وجهه بثقل ما يحمل، إذ يبدو وزنهما أثقل منه؛ يعرج بهما تارة، ويسرع الخطى أخرى، ثم تنقطع أنفاسه فيضعهما أرضا.

سألته الجزيرة نت خلال استراحته القصيرة "هل تعبت؟"، فحدّق مجيبا "أمي وإخوتي ينتظرونني"، ثم تابع المسير، وهو اعتذار عن عدم الإجابة، وليس تبريرا لهرولته.

للأمام قليلا، يتوافد الأطفال إلى خيمة عُلقت على بابها لافتة مكتوب عليها "خيمة تعليمية"، يتلقّى فيها بعض الأطفال النازحين أبجديات المناهج الدراسية، بعدما اجتازوا تعلّم أبجديات الحرب بمفردات النار والخوف والجوع والنزوح، وينكفئ الأطفال على دفاترهم، وهم يجلسون على الأرض.

إعلان

وتقول المعلمة المشرفة للجزيرة نت "نبذل جهدا مضاعفا في إيصال المعلومة، ويجد الأطفال صعوبة في استيعاب الدروس الجديدة؛ فلا بيئة ملائمة ولا نفسية مهيّأة للتعلّم".

الطفلة نسمة تسند ورقتها على وعاء ليتسنى لها الانتظار في طابور تكية الطعام بعد الانتهاء من درسها (الجزيرة) تعليم جائع

كان لافتا مشهد الطفلة نسمة (6 أعوام) وهي تسند ورقتها على قدر حديدي وتنهمك بالكتابة، وتقاطع المعلمة المسترسلة في الشرح بسؤالها "متى ينتهي الدرس؟ لا أريد أن أتأخر على طابور التكية"، لتطوي ورقتها وتخرج على عجل وتركض ووراءها الأطفال، خشية الوصول متأخرين، فلا يجدوا ما يسدون به رمقهم من طبق الأرز بلا لحم، أو حساء العدس، أو طبق الفاصولياء المطبوخ بالماء وقليل من صلصة الطماطم، مما حصّلوه من معلبات الإغاثة.

تلك هي قائمة طعامهم التي لم تعرف معدتهم سواها خلال أشهر، فلا لحوم ولا فواكه ولا خضروات، حتى الحليب والشوكولاتة رفاهيات لا ينال منها الطفل الغزي شيئا منذ بدء الحرب.

الطفلة سوار عاشور (5 أشهر) تعاني سوء التغذية نتيجة عدم توفر الحليب والمكملات اللازمة (الجزيرة)

وبينما بدأت ملامح نهش الجوع للأطفال بالظهور على أجسادهم الهزيلة ووجوههم الشاحبة، فقد وقعت الرضيعة سوار عاشور فريسة ضعيفة له، إذ إن 5 أشهر بعد ولادتها لم تكن كافية ليزداد وزنها خلالها غراما واحدا، لتبرز عظام صدرها وتبدو كهيكل عظمي.

تقول والدتها للجزيرة نت "ابنتي تحتضر، لم يزدد وزنها منذ ولدت، توقفت عن الرضاعة الطبيعة، فأنا أيضا أعيش المجاعة ولا طعام يساعدني على إرضاعها، حتى الفيتامينات والمكملات شحيحة وغير متوفرة".

طفل رضيع بإحدى خيام النزوح في غزة (الجزيرة) أرغفة مقسمة

ليست سوار وحدها من تصارع شبح الجوع بجسدها الهزيل، بل إن أكثر من 65 ألف حالة مرضية من الأطفال وصلت إلى مشافي غزة نتيجة سوء التغذية، حسب المكتب الإعلامي الحكومي، في ظل توقف ضخ الأدوية والعلاجات.

في خيمة واحدة بمخيم التحرير بمدينة خان يونس، تتلون المعاناة، حيث تربي أم محمد المصابة بالفشل الكلوي 7 أيتام، 3 منهم مصابون بالسرطان، واثنان آخران يعانيان أمراض الكلى.

يتقاسم الجميع يوميا رغيفين من الخبز من عطاءات الجيران حولهم فيقسمونهما إلى أرباع، فلا ينهشهم الجوع فقط بل يتفشى فيهم المرض. تقول أم محمد للجزيرة نت "تؤذيني أمومتي، وأنا العاجزة عن تأمين دواء لي ولأطفالي الخمسة.. مستسلمة أنا وهم للموت والجوع والمرض دون سند".

الطفل علي فرج قذفته قوة غارة إسرائيلية إلى سطح الجيران وفقد ١٩ فردا من عائلته وبقي برفقة أمه (الجزيرة) أيتام بالآلاف

تتفنن إسرائيل في حرمان الصغار من الطفولة بمقوماتها البسيطة التقليدية، فكما تنتزع منهم عافيتهم وتمعن في تجهيلهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم، فهم لا ينالون من الحياة إلا فتاتها، فهي تنتزعهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم وتقذفهم في أحضان الفقد واليتم، تماما كما حدث مع الطفل علي فرج (7 أعوام)، الذي تداول النشطاء مقطعا مصورا له على منصات التواصل حين قذفته قوة غارة إسرائيلية إلى سقف المنزل المجاور، وهو يلوح لأمه وللمقابلين له لإنقاذه.

إعلان

يقول علي للجزيرة نت "كنت في حضن بابا وكنا نشاهد معا سبايدرمان (رسوما متحركة) غفوت حينها، ثم استيقظت وأنا فوق سطح الجيران"، فقد استشهد والده وشقيقاته الخمس دفعة واحدة، وكان ينظر إلى صورهن.

ويهمس "كنت أحب جوري كثيرا، كانت أصغر مني، كنا نلعب معا، وكانت تحبني وتطعمني قبل أن تأكل، ماتت جوري وكل أخواتي ومات بابا وجدي وجدتي وأخوالي وخالاتي، وبقيت وحيدا لأمي". وتقف أمه كجدار مكسور، تمسح دموعها وتقول "لقد أبقاني الله من أجل علي، وإن كان من شيء يمنعني من الانهيار فهو بقاؤه".

هو اغتيال للطفولة وفقدٌ مركَّب تجرعه أكثر من 26 ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما، ولن تطمئن قلوبهم لصوت أمٍّ أو حضن أب في ذروة هذا الخوف الذي ينغمسون فيه.

تحت الركام

حرب أتت على الطفولة فأفرغتها من محتواها، حتى أوقات لهو الأطفال تعج بسيرة الموت، فهنا يلعب باسل مع شقيقته مها أمام الخيمة، يدفنان الدمية في الرمال، ثم يحفران لانتشالها، يحملها باسل قائلا "لقد أنقذتها من تحت الركام"، وتكمل مها اللعبة "إنها شهيدة يا باسل.. تعال نلعب جنازة".

فالحرب ورّثت الأطفال آلاما عميقة لا تُرى بالعين المجردة، وأسكنت داخلهم صدمات نفسية، ظهرت جليا في سلوكياتهم العدوانية أو في مظاهر اضطراب الصدمة الواضحة التي يعاني منها 72% من الأطفال في غزة، كما يقول المختص النفسي عمر وليد، الذي أوضح للجزيرة نت أبرز مظاهر الاضطراب لدى الأطفال بحسب شهادته من الفزع الليلي والتبول اللاإرادي والتعلق المرضي بالوالدين أو عصيان أوامرهم.

طفلتان غزّيتان تلهوان فوق ركام المنازل المدمرة (الجزيرة) عجز الطب النفسي

وفي ظل إغلاق المعابر منذ بداية مارس/آذار الماضي ومنع دخول الأدوية اللازمة للأمراض النفسية، فإن انتكاسة كبيرة حدثت مع الأطفال الذين يتلقون علاجات دورية كمرضى التوحد والصرع والاكتئاب، بينما يبذل المختصون النفسيون ما يستطيعونه من محاولات لترميم الأرواح الصغيرة التي مزّقتها الحرب، من خلال تنقلهم بين الأطفال في مراكز الإيواء واللجوء.

إعلان

ويقول وليد "نقدّم إسعافا نفسيا أوّليا للأطفال بعد الصدمات، ونحاول إشراكهم في مجموعات تنشيطية ضمن جلسات للتفريغ النفسي، كما نعقد لقاءات تثقيفية للأهالي لتعريفهم بكيفية التعامل مع المشكلات السلوكية للأطفال".

وفي ذروة هذا الخراب النفسي، فإن علم النفس يخلو من طرق للتعامل مع طفل أُجبر على جمع أشلاء والديه في كيس أو دفن إخوته، أو من رأى النار تُذيب لحم ذويه، ومن حوصر في لقمة عيشه أو مات لحرمانه من الدواء أو نام ببطن تقرقر، في طفولة معذبة حفرت ندوبا حيّة على وجه الإنسانية جمعاء.

مقالات مشابهة

  • أطفال غزة.. أرقام تنزف تحت نيران العدوان الإسرائيلي
  • في غزة.. طفولة معذبة تحت سياط الحرب
  • «الأونروا»: 660 ألف طفل في غزة لا يتلقون أي تعليم مدرسي
  • هل معادن أوكرانيا النادرة التي أشعلت الحرب ستوقفها؟
  • شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام
  • الجحيم.. هذا ما يواجهه أطفال غزة
  • المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
  • أمنيتي أرى السعادة في عيون الجميع.. رحيل مؤثرة لـ جينا سلطان
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم