معسكرين فقط، لا ثالث لهما…
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
معسكرين فقط، لا ثالث لهما…
مهدي رابح
بنظرة موضوعية صارمة للواقع في السودان، بعيداً عن أي انحيازات عاطفية صغيرة، وبتفكيك طرفي الحرب الى عناصرهما الاساسية، فإننا وبكل يسر يمكننا أن نصل الى محصلة أن من يتقاتلان اليوم ليس قوتان مسلحتان فقط بل عشرات القوى الحاملة للسلاح، والمنضوية في اتحادين رئسيين أشبه بالكارتيلات، يتنازعان في السلطة والثروة.
تماسك هذين الاتحادين واستقرارهما في خضم سياق الحرب يتناقض مع طبيعة تكوين عناصرهما الاساسية، اي مليشيات يرتبط استمرارها في الوجود بحد ذاته بمدى قوتها العسكرية، وهو ما يدفعها الى مزيد تعزيز قدراتها القتالية وهذا الأمر بدوره يعتمد مدى نجاحه على قدرتها توفير مزيد الموارد اللازمة وهو ما يستتبع تلقائيا السعي لمزيد من السلطة للسيطرة على مصادر تلك الموارد وهكذا دواليك، في عملية ذات اتجاه تصاعدي واحد لا يتوقف.
هذا النمط يجعل من الثابت في معادلة الصراع هو السعي لمزيد الموارد اما المتغيّر فهو طبيعة التحالفات التي تحقق ذلك “داخلية كانت ام خارجية” وهو ما يفسر تغيير بعض امراء الحرب لولاءاتهم حسب ما تقتضيه الحاجة او الواقع العسكري في الميدان وتصاعد التوتر الداخلي داخل تلك الكارتيلات مثلما رشح مؤخرا بين شركاء تحالف بورتسودان كنموذج جيّد.
إن اعتبار الحرب الحالية وكأنها نزاع بين الجيش والدعم السريع فقط لهو خطأ في التحليل سيؤدي الى الاستمرار في تبني مقاربات غير مجدية وغير عملية، تتباين بين الانحياز لأحدهما او لعب دور الوسيط بينهما او الانغلاق في موقف سلبي غامض يكون عرضة لتعدد التفسيرات، وهو ما لن يؤدي بأية حال من الأحوال إلى ايقاف الحرب أو إلى الوصول إلى أعتاب عملية سياسية قد تفضي لسلام دائم وتسمح بتدشين عمليات إعادة رتق النسيج المجتمعي المهترئ واعادة بناء السودان. بل العكس، اي انها ستؤدي الي تنشيط عملية تناسل المليشيات وامراء الحرب وازدياد تدخل الأطراف الخارجية واستمرار عداد الموت المجاني المجنون في الدوران.
في تقديري المتواضع ان الخطوة الصحيحة الأولي للمدنيين، دعاة السلام والتحول الديموقراطي، من اجل الوصول إلى تصميم صحيح لعملية الخروج من هذه الازمة، هو النظر إلى الحالة السودانية من خلال منظور طرفين رئيسيين مختلفين، واقصد بذلك ومن جهة أولى جماع تلك القوى الحاملة للسلاح والتي تخوض الحرب، التي تخوض في دماء السودانيين الآن، مع بعضها البعض وضد بعضها البعض “الآخر”، بغض النظر عن شكل التحالفات التاكتيكية المتغيرة التي ينتمون اليها اليوم أو تلك التي سينتمون اليها غدا، وبغض النظر عن الشعارات التي يرفعونها اليوم او التي سيرفعونها غداً، ومن الجهة الثانية جماع القوى الساعية لإيقاف الحرب والداعية لوضع حد للمأساة الإنسانية المروعة وغير المسبوقة.
أي أن هنالك في حقيقة الأمر معسكرين فقط لا ثالث لهما، معسكر الحرب ومعسكر السلام، معسكر المجرمين ومعسكر الناجين من السقوط في وحل هذه الجريمة النكراء.
#لازم_تقيف
الوسومأمراء الحرب التحول الديمقراطي الجيش الدعم السريع السلام السودان المليشيات مهدي رابحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: أمراء الحرب التحول الديمقراطي الجيش الدعم السريع السلام السودان المليشيات وهو ما
إقرأ أيضاً:
على أبرسي.. وتبقى المآثر (2/2)
1من يسمع اسم علي أبرسي، يظن أنه ورث المجد والثروة، ولكن الحقيقة أن أبرسي شيد إمبراطوريته المالية بشقاء الليالي والجهد المضني. فمن تاجر صغير في نواحي نيالا والأبيض وزالنجي وإلى واحد من أشهر وأميز رجال الأعمال السودانيين، ارتاد آفاقًا شتى في مجال الأعمال الكبرى، وظلت مغامراته التجارية الناجحة مستمرة حتى آخر يوم في حياته.
لم يكن طريق أبرسي سهلاً ولا ميسوراً، فقد حكى لي صديقه وقريبه عوض كرار أنه التقى بأبرسي في ستينيات القرن الماضي في مجاهل دارفور، أشعث أغبر، يطارد رزقه هناك ويقود لاندروفر قديمًا.
يحكي أبرسي عن أيامه تلك في غرب السودان:
“كنا جميعًا بإحساس مشترك أبناء هذا البلد، نشق بجمالنا الأرياف والحلال، حلة حلة، وفريق فريق، نبيت ليالينا تحت الجميزة، ونصطاد الغزلان برفرف اللوري، ونشويها تحت القمر. كنا نصطاد دجاج الوادي ببندقية الخرطوش، وما زلت أتذكر ليلة رأس السنة في عام 1962، ونحن تحت جميزة، ومعي ابن عمي نشرب الشاي في ليل بهيم، إلا صوت المرفعين.”
2
بدأ أبرسي حياته التجارية بين الدويم ونيالا وزالنجي وبورتسودان، ثم عاد إلى أم درمان وأسس شركةً لاستيراد الشاي،الدقيق والاقمشه ثم اتجه إلى مجال تصدير زيت الزيوت إلى السعودية ولبنان وهولندا. وحين قدم أبرسي إلى العاصمة، كان قد أسس نفسه واسمه كتاجر ذكي يعرف أصول المهنة، وبدأت ثروته تنمو، وكذلك طموحه الذي لم يهدأ حتى آخر لحظات حياته.
بنى أبرسي لنفسه ولبلده إمبراطورية تجارية داخل السودان وخارجه. أسس في بدايته كرجل في العاصمة شركة “أبرسي للنقل”، وله حكاية معها.
يقول أبرسي:
“كنت أحلم بامتلاك (لوري) وفتح دكان، وبفضل الله امتلكت 30 (قندران)، وعمري لم يتجاوز الـ24 سنة.”
ويحكي قصة بداية إمبراطورية “أبرسي للنقل” قائلًا:
“لاحظت أن هناك فجوة في النقل، حيث بدأت السكك الحديدية في التدهور، والبضائع تتكدس في الميناء، ففكرت في تأسيس شركة نقل، لكن لم يكن لدي ما يكفي من رأس المال. طرقت عدة أبواب، ولكنني لم أفلح في إيجاد مصدر للتمويل. ألهمني الله فكرة التعامل مع البنك، فذهبت إلى عمي عمر عبد السلام وطرحت عليه الفكرة، وطلبت منه أن يضمنني لدى البنك، فنظر إليّ وقال لي: ‘أضمنك بماذا؟’. واخذت علي خاطري وخرجت من عنده، لكنه لحق بي وأوضح لي أنه أراد فقط أن يختبر مدى تصميمي على الفكرة. وبالفعل، وفر لي كل الضمانات للبنك دون أي ضمان من جانبي، إذ كانت سمعتي في السوق ممتازة. استوردت 30 شاحنة ماركة فيات الايطاليه(إيفكو)، مما جعلني أحصل لاحقًا على توكيل الشركة في السودان.”
من هنا كانت بداية إمبراطورية علي أبرسي، الذي ولج مجالات عديدة، وكلها ناجحة، فلم يبدأ عملًا أو استثمارًا إلا وأتمه على أكمل وجه.
حينما اندلعت الحرب في 15 أبريل، كان موجودا بالاراضي المقدسه لاداء العمره غادر البلاد تاركًا وراءه كل ما امتلكه من ثروة جمعها بالكفاح عبر سنوات طويلة، وشيد بها المصانع التي دمرها الجنجويد كليًا. حين يروي لك مأساة تدمير مصنع أبرسي لاسطوانات الغاز بالمنطقة الصناعية بحري، تحس بالأسى؛ فقد تم تدمير المصنع تمامًا، وتحولت عشرات الملايين إلى رماد بين يوم وليلة، كما نُهبت أكثر من 70 ألف أسطوانة غاز. لكن أبرسي لم يبالِ بما دمره الجنجويد، وكان يقول لي: “المهم أن يتعافى السودان.”
3
عندما وقعت كارثة الحرب، لم يلبث إلا قليلًا حتى واصل أعماله واستثماراته بالخارج، فعزز استثماراته القائمة في أوغندا في مجال إنتاج البن والقهوة، ثم افتتح مصائد الأسماك للتصدير.
كان يحلم بتأسيس شركة طيران عملاقة في السودان “أبرسي للطيران”، وقد بدأ خطواتها بالفعل. أرجو أن يوفق الله أبناءه لإكمال ما بدأه والدهم.
4
ويُضاف إلى رصيده التجاري، ممارسته للعمل السياسي الراشد. يقول د. أبوشوك:
“سطع نجم أبرسي عندما كان رئيسًا لبلدية أم درمان، وأصدر قرارًا شهيرًا في مطلع الثمانينيات يقضي بإغلاق البارات (حانات بيع الخمور) ومنع بيع الخمور بمدينة أم درمان، الأمر الذي أغضب الرئيس نميري ودفعه إلى إلغاء القرار، قبل أن يتخذ نميري نفسه القرار ذاته لاحقًا.”
لعب أبرسي أدوارًا سياسية متعددة منذ سبعينيات القرن الماضي، وظل دائم الحضور في الساحة السياسية، عضوًا في عدة برلمانات ومجالس شعب، وكان صوته عاليًا في نقد السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الإنقاذ.
5
حين وقعت كارثة الحرب، كان أبرسي أول من مدّ يده لدعم القوات المسلحة بمليارات الجنيهات، التي لم يفصح عنها لأحد.
يروي لي أحد قادة الجيش المرابطين بمنطقة جبل سركاب:
“كان لعلي أبرسي مزرعة ضخمة في تلك المنطقة بها كل أنواع الفواكه ومئات من الأبقار والدواجن والبيض وكل شيء. كنا في أمسّ الحاجة للغذاء لإطعام آلاف الجنود، فقررنا الاتصال بأبرسي لشراء كل ما في المزرعة على أن يدفع الجيش له بعد انتهاء الحرب. وعندما تحدثنا إليه، صمت قليلًا ثم قال: ‘يا ولدي، أنتم تقدمون أرواحكم فداءً للسودان، فمزرعة شنو البتشتروها مني؟ هي لكم بكل ما فيها، ولا تتحدثوا معي عن قروش، نحن كلنا وأموالنا فداء للسودان.’ فأغلقنا الهاتف وبكينا جميعًا.”
6
قبل وفاته بأسبوع، تبرع أبرسي بحفر عشرات من آبار المياه في مناطق المسلمين بأوغندا، كما تكفل بمئات الأسر التي شردتها الحرب، وعشرات الطلاب، وكل ذلك دون أن تعرف يمينه ما فعلت شماله.
7
بإمكاني أن أكتب عشرات الصفحات عن علي أبرسي، حياته ومآثره وأعماله، وشخصيته الحبيبة، إلا أن ذلك لن يوفيه حقه. فهو رجل له بصماته في خدمة الشعب، سياسيًا واقتصاديًا، وله في خدمة الإسلام أيادٍ بيضاء ممتدة داخل السودان وخارجه، سواء عبر الطريقة الختمية التي أفنى عمره في خدمتها أو غيرها.
اللهم إني أشهد بأن صديقي علي أبرسي كان كريمًا، فأكرمه، وكان صادقًا مع نفسه ووطنه والناس، فاجعله مع الصديقين والشهداء، وكان محبًا لرسول الله، فانزله بقربه، واجعل الجنة مثواه.
العزاء لكافة أسرة الكوارتة الممتدة داخل وخارج السودان، وأولاده وبناته وأصهاره وأصدقائه وكل من عرفه.
أعزي فيه الشعب السوداني الذي رحل عنه وهو في أمسّ الحاجة إليه، في وقت تتكاثر فيه الزعاع، وتتناقص فيه أوتاد البلد.
لا حول ولا قوة إلا بالله. وداعًا أيها الحبيب.
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتساب