ما هي الصدقات الجارية التي ينتفع بها الميت؟.. 10 أمور لا تهملها
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
ما هي الصدقات الجارية التي ينتفع بها الميت؟، سؤال نوضح بيانه من خلال ما ذكرته دار الإفتاء المصرية والعلماء حول أنواع الصدقات الجارية التي تنفع ابن آدم بعد موته.
ما هي الصدقات الجارية التي ينتفع بها الميت؟الصدقة الجارية معناها: أنها المستمرة للأجيال المتعاقبة، لا لجيل واحد، والمتعدية للعديد من الأشخاص، لا لشخص واحد؛ كطباعة المصاحف، وكتب العلم النافع، وبناء المساجد، والمدارس، والمستشفيات، والمقابر للمحتاجين، وتوصيل الماء والكهرباء والخدمات للمحرومين، وإقامة جمعيات خدمية وتطوعية للزواج، وحل مشكلات الناس، وتوصيل احتياجاتهم للمسؤولين وما شابه، ممَّا يُحقّق غرض الدوام والتعدية.
والأصل في مشروعية الصدقة الجارية ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول». وقال ابن سيرين: غير متأثلٍ مالًا.
وكذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يقال له ثمغ وكان نخلًا، فقال عمر: يا رسول الله، إني استفدت مالًا وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ»، فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يوكل صديقه، غير متمول به.
وكذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
يقول العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (1/ 136)، ط. دار الكتب العلمية: [الصدقة الجارية تحمل على الوقف وعلى الوصية بمنافع داره وثمار بستانه على الدوام، فإن ذلك من كسبه لتسببه إليه، فكان له أجر التسبب] اهـ.
ويقول الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط أبيات شعرية تجمع ما يصل إلى المسلم بعد وفاته وهو ما يعرف بالصدقات الجارية .
ذكر الحافظ جلال الدين السيوطي : أنه وجدها تبلغ عشرة أشياء ثبتت عنده بالأحاديث النبوية الشريفة ، فجمعها في هذه الأبيات .
إذا مات ابن آدم ليس يجري *** عليه من فعال غير عشر
علوم بثها , ودعاء نجل *** وغرس النخل , والصدقات تجري
وراثة مصحف , ورباط ثغر *** وحفر البئر , أو اجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي *** إليه , أو بناء محل ذكر
وجاء في شرح السيوطي على مسلم لهذه العشر ما يلي: «ﺇﺫا ﻣﺎﺕ اﻹﻧﺴﺎﻥ اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻤﻠﻪ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺛﻼﺙ ﺃﻱ ﻓﺈﻥ اﻟﺜﻮاﺏ ﻳﺠﺮﻱ ﻟﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺻﺪﻗﺔ ﺟﺎﺭﻳﺔ ﻗﺎﻟﻮا ﻫﻲ اﻟﻮﻗﻒ ﺃﻭ ﻋﻠﻢ ﻳﻨﺘﻔﻊ ﺑﻪ ﻗﺎﻟﻮا ﻫﻲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻭاﻟﺘﺼﻨﻴﻒ ﻭﺫﻛﺮ اﻟﻘﺎﺿﻲ ﺗﺎﺝ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺴﺒﻜﻲ ﺃﻥ اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺃﻗﻮﻯ ﻟﻄﻮﻝ ﺑﻘﺎﺋﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﻤﺮ اﻟﺰﻣﺎﻥ ﺃﻭ ﻭﻟﺪ ﺻﺎﻟﺢ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻪ».
وجاء ﻓﻲ اﻟﻄﺒﺮاﻧﻲ ﺟ8ﺭﻗﻢ7831 ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ ﺃﻣﺎﻣﺔ ﻣﺮﻓﻮﻋًﺎ: «ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺗﺠﺮﻱ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﺟﻮﺭﻫﻢ ﺑﻌﺪ اﻟﻤﻮﺕ ﻣﺮاﺑﻂ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻭ ﺭﺟﻞ ﺗﺼﺪﻕ ﺑﺼﺪﻗﺔ ﻓﺄﺟﺮﻫﺎ ﻟﻪ ﻣﺎ ﺟﺮﺕ ﻭﺭﺟﻞ ﺗﺮﻙ ﻭﻟﺪا ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻪ»، ﻭﻟﻠﺒﺰاﺭ ﺟ1ﺭﻗﻢ 149 ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﻧﺲ ﻣﺮﻓﻮﻋًﺎ: «ﺳﺒﻊ ﻳﺠﺮﻱ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﺃﺟﺮﻫﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﻗﺒﺮﻩ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﻋﻠﻤًﺎ ﺃﻭ ﺃﺟﺮﻯ ﻧﻬﺮًا ﺃﻭ ﺣﻔﺮ ﺑﺌﺮًا ﺃﻭ ﻏﺮﺱ ﻧﺨﻼً ﺃﻭ ﺑﻨﻰ ﻣﺴﺠﺪًا ﺃﻭ ﻭﺭﺙ ﻣﺼﺤﻔًﺎ ﺃﻭ ﺗﺮﻙ ﻭﻟﺪا ﻳﺴﺘﻐﻔﺮ ﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ».
ﻭشدد على أنه ﻻﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ 242 ﻭاﺑﻦ ﺧﺰﻳﻤﺔ 249 ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺮﻓﻮﻋًﺎ: «ﺇﻥ ﻣﻤﺎ ﻳﻠﺤﻖ اﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺎﺗﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻋﻠﻤﺎ ﻧﺸﺮﻩ ﺃﻭ ﻭﻟﺪا ﺻﺎﻟﺤﺎ ﺗﺮﻛﻪ ﺃﻭ ﻣﺼﺤﻔﺎ ﻭﺭﺛﻪ ﺃﻭ ﻣﺴﺠﺪا ﺑﻨﺎﻩ ﺃﻭ ﺑﻴﺘﺎ ﻻﺑﻦ اﻟﺴﺒﻴﻞ ﺑﻨﺎﻩ ﺃﻭ ﻧﻬﺮا ﺃﺟﺮاﻩ ﺃﻭ ﺻﺪﻗﺔ ﺃﺧﺮﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻲ ﺻﺤﺘﻪ ﺗﻠﺤﻘﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ»، ﻭﻻﺑﻦ ﻋﺴﺎﻛﺮ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺨﻪ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ ﻣﺮﻓﻮﻋًﺎ: «ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺁﻳﺔ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺃﻭ ﺑﺎﺑﺎ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺃﻧﻤﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺟﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ».
أكد الشيخ أحمد ممدوح، مدير إدارة الأبحاث الشرعية وأمين الفتوى بدار الإفتاء، أن هناك أمورا ينتفع بها الإنسان بعد موته، منها الصدقة الجارية، والدعاء له، والحج أو العمرة ووهب ثوابها له، مستدلًا خلال إجابته عن سؤال: « ما أفضل الأعمال للميت بعد موته ؟» بقول الله عليه وسلم يقول: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء».
وتابع إن افضل الاعمال للميت بعد موته: ثانيا إخراج الصدقة عن الميت تنفعه ويصل ثوابها إليه بإجماع المسلمين، لما روى مسلم (1630) عن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم»، وروى مسلم أيضا (1004) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها (أي: ماتت فجأة)، وإني أظنها لو تكلمت تصدقت، فلي أجر أن أتصدق عنها؟ قال: نعم»
واستطرد أن أفضل الأعمال للميت بعد موته : ثالثا: والصوم عن الميت ينفعه ويصل ثوابه إليه، لما روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى».
وأكمل أن افضل الاعمال للميت بعد موته: رابعا الحج عن الميت ويصل ثوابه إليه لما رواه البخاري عن ابن عباس: «جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه قال: نعم»
واختتم أمين الفتوى: خامسا قراءة القرآن وجعل ثواب القراءة للميت جائز شرعا، ويصل الثواب للميت وينتفع به.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الصدقات الجارية أفضل الأعمال للميت الصدقة الجارية دار الإفتاء صلى الله علیه وآله وسلم الصدقة الجاریة الله علیه وسلم رسول الله رضی الله عنه ما رواه عن ابن
إقرأ أيضاً:
السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة
لا يعلم التاريخ شخصية كتب عنها بقدر ما كتب عن محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كانت الكتابة عنه منصفة أم متجنية، واختلفت طرق التناول لشخصيته وسيرته، بحسب توجه الكاتب وتخصصه. ولكن المتأمل لمؤلفات وكتابات القرن العشرين وبخاصة النصف الأول منه، سيجد أن كثيرا من الأدباء والمفكرين، سواء ممن ينتسبون للأزهر الشريف، أو لا ينتسبون إليه، قد أسهموا بإسهامات مضيئة ومبهرة، تتعلق بالدراسات القرآنية، والسيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة السلام.
ولأن هذه المرحلة مارت بأفكار كثيرة، وكان الغزو الفكري مستهدفا بلدان الإسلام، وفي القلب منها قلبه النابض، بلد الأزهر الشريف، وكانت العلوم الإنسانية تتخذ مدخلا للتشكيك فيه، ولذا رأينا أفضل من دافعوا عن الإسلام في هذه المرحلة، من امتلكوا ناصية هذه العلوم، مع إيمان راسخ بعقيدتهم، وتحرق شديد للدفاع عن دينه، وعن سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ويأتي على رأس هؤلاء: العلامة الأستاذ محمد فريد وجدي، الذي كان له القدح المعلى في الإسهام في نقاش الإلحاد، والأفكار المستوردة، مثل: الشيوعية، وغيرها من الأفكار، التي بدأت تغزو بلاد الإسلام، واتخذ كل منبر مكن له فيه، ليمارس نشاطه المفضل، فقد رزق وجدي قلما سيالا، وفكرا متقدا، وعطاء لم ينقطع حتى أسلم الروح لبارئها.
تحدث فريد وجدي عن نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، ليرد على من ينكرون عليه النبوة، ويتهمونه بادعائها، بأنه لم يشتهر قبل النبوة في قومه بمميزات تدعوه إلى التطلع للرئاسة الدنيوية، بل كان هناك غيره من تطلع لذلك..في وقت اشتهر التفكير الفلسفي في أوروبا، وعاد الدارسون له من أهل المشرق، وبدأت نزعات تحكيم الفلسفة ومناهجها، والعقل البشري، في كل ما هو من مساحته وما ليس من مساحته، بما في ذلك الثوابت الدينية، انبرى محمد فريد وجدي، ليكتب سلسلة مقالات، جمعها فيما بعد العالم الإسلامي الكبير الدكتور محمد رجب البيومي، تحت عنوان: (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة)، وقد كتبها وجدي في سنوات متتالية في مجلة (الأزهر)، مر على أهم المحطات من السيرة النبوية، وبخاصة المحطات التي يكثر فيها التشكيك، ومحاولة زعزعة إيمان الشباب المسلم بها.
اتخذ فريد وجدي العلوم الإنسانية من علم النفس والفلسفة والاجتماع، لكن بالمعنى القرآني، وليس بالمعنى المادي، وبالمعنى البشري الذي لا يتعارض مع المنهج السديد، ليكون أداة لعرض السيرة النبوية، وكان يطرح بكل جرأة الأسئلة التي يطرحها المنطق المادي، ويأتي عليها بقلمه لينسفها نسفا، ويفندها تفنيدا، لا يبقي منها شبهة، بدون رد علمي، بما انتهى إليه العلم، وثبت من العلوم التطبيقية والإنسانية، وقد مكنه من ذلك: اطلاعه الواسع على هذه المدارس، وكيف لا، وقد قام الرجل وحده بعبء كتابة موسوعة، أطلق عليها: موسوعة القرن العشرين، في عشر مجلدات، قام بكتابته وحده.
فمن أهم القضايا التي تطرح للتشكيك في النبوة، مسألة الوحي، وقد كان يطرحها المستشرقون بأنها هواجس نفس، وإيحاءات، لا علاقة لها بملكوت السماء، فتحدث فريد وجدي عن نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، ليرد على من ينكرون عليه النبوة، ويتهمونه بادعائها، بأنه لم يشتهر قبل النبوة في قومه بمميزات تدعوه إلى التطلع للرئاسة الدنيوية، بل كان هناك غيره من تطلع لذلك، فما الذي جد ليخرج عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فجأة ليعلن نبوته، سوى أنها نبوة حقيقية، وبدأ يستشهد بمشهد الوحي، وكيف ارتعد وخاف حين جاءه، ثم حزن حينما غاب عنه الوحي لفترة، أيكون ذلك عن تخيل، أو ادعاء؟!
ومن أقوى ما استشهد به فريد وجدي للتدليل على فكرة الوحي، ثم فكرة النبوة بعامة، وفكرة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تحديدا، فقال: (اللهم ما أقوى سلطانك، وأسطع برهانك، أمي في أقصى بيئة عن العمران، وأبعد مكان عن معترك العقول، ومضطر النظريات والمبادئ، وبين ظهراني قوم لم يألفوا النظام، ولم يأنسوا بالوحدة، ينتدب أن يكون رسولا للناس كافة فيدعوهم للكلمة الجامعة، ملوحا لهم بالأصول الحكيمة لتحقيق هذا المأرب، الذي لم يطف بخيال فيلسوف ولا مصلح قبله، مدللا على إمكانه بالأدلة القاطعة، ضاربا لهم المثل العملي بتأليف أمة عالية ليس فيها ظل من نعرة قومية، ولا عصبية الجنسية، وبتوزيع العدالة، وجميع الحقوق المدنية بين الكافة بالسوية.
أمة خالصة من جميع علل الاجتماع، يسودها قانون أصوله الحقوق الطبيعية، رأس مالها المعرفة، دينها العقل، سلاحها الحكمة، غايتها المثل الأعلى، أمي في أقصى بيئة من العمران يأتي بكل هذا بنصوص صريحة لا تحتمل الصرف والتأويل، لا يعقل أن يكون كل هذا من عنده!
بل لا بد أن يهبط عليه من عالم علوي، إذ هي أرقى مما سبقها من فلسفات الأقدمين مجموعة متضافرة! ومن العجيب أن موحي هذه التعاليم يقرر سبقها لزمانها، وأن الناس سيعرفون فضلها بعد حين (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) أي دليل على الوحي أقوى من هذا الدليل).
وهكذا يمضي فريد وجدي في كتابه على هذا المنوال الفكري في مراحل مهمة من السيرة النبوية، سواء العهد المكي، أو المدني، وسواء ما تعلق بجانب السلم والتنمية والحضارة، أو بالجانب الحربي وما يتعلق به من فلسفة وأخلاق وقيم، ثارت حول كل ذلك شبهات قام بدحضها بمكنة علمية، ورسوخ فكري كبير، وهو خط واضح في كل كتابه، لا يحيد عنه.
حتى في حديثه عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يحيد عن منهجه، بل ينتهي كما بدأ، فيقول رحمه الله: (إن من يتأمل أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه ـ وهذه حالة يفضى فيها بين الإنسان وأهول ساعة قدرت له في حياته ـ يتحقق أنها صادرة عن قلب نبي، لا عن قلب رجل عادي.
أمة خالصة من جميع علل الاجتماع، يسودها قانون أصوله الحقوق الطبيعية، رأس مالها المعرفة، دينها العقل، سلاحها الحكمة، غايتها المثل الأعلى، أمي في أقصى بيئة من العمران يأتي بكل هذا بنصوص صريحة لا تحتمل الصرف والتأويل، لا يعقل أن يكون كل هذا من عنده!فإن تلك الساعة التي يرى الإنسان نفسه على وشك ترك أهله وذويه، وكل ما كان يملأ صدره، ويستوعب فكره من لذاته وعاداته، يشغله من أمر نفسه شاغل هائل؛ فإن فكر في شيء يخرج عن دائرة خصوصياته، فلا يمكن أن يكون ذلك الشيء مما كان يخادع فيه الناس ليتسلط على عقولهم، ويسخرهم لسلطانه، بل شوهد أن بعض الذين كانوا من هذا القبيل، اعترفوا في تلك الساعة الرهيبة بجريمتهم، وتبرأوا من ضلالتهم.
الذي رآه الناس من محمد خلاف ما عهده الناس في أولئك، فإنه لما تحقق أنه لا محالة ميت، قال للذين احتفّوا به من صحبه: "أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي فيمن بعث الله فأخلد فيكم؟!".
ثم أوصاهم بالحق والصبر وعدم الفساد في الأرض، وبالتحاب والتواصل. إن رجلا يذكر الحق والصبر وهو يرى الموت بعينيه، ويذكر الجماعة، وينهى عن الفساد في الأرض، لهو رجل خلق روحا وجسدا لأداء مهمة عالية قد استوعبت شعوره كله، ولم تزايله حتى في تلك الآونة التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه وبنيه وكل ما يملك).
الحقيقة إن كتاب: (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة) للراحل محمد فريد وجدي، جهد متميز، وعمل جبار، في ميزان حسنات كاتبه، مع كتب أخرى، نافح فيها عن دينه ورسالته، وهو جدير بالقراءة والاطلاع، والتدبر، والتعلم، في هذه الأيام المباركة.
[email protected]