لجريدة عمان:
2025-03-13@12:01:53 GMT

من قال إنهم بدائيون ؟

تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT

من قال إنهم بدائيون ؟

في حوارات طويلة قضيتها مع الحضارة، أجدني دخلت في معمعة من الأسئلة الجوهرية التي تتعلق بأصل وتاريخ الحضارات، وأخرى فرعية تتناول التفاصيل. على أثر هذه الأسئلة بشقيها الجوهري والتفصيلي، أدّعي بأنه تشكلت لدي سلسلة حضارية، لا أزعم أنها مكتملة؛ لأنني في أحيان كثيرة أجد السلسلة في ورطة الفجوات، هذه الفجوات تتطلب مني وقتا كثيرا حتى أملأها بالمواد العلمية أو بطرح الأسئلة داخلها.

من الأسئلة التي أفرزتها فجوات السلسلة كان السؤال: «من قال إنهم بدائيون؟» هذا السؤال قادني إلى إعادة التفكير في التصورات السائدة عن الإنسان القديم، فكيف لنا أن نعتبره مجرد كائن بدائي بينما تشير الأدلة إلى حضارات متكاملة تعكس فهما عميقا للحياة والعالم من حولهم. في هذا الطرح، أتناول الإجابة على هذا السؤال، معتمدا على تحليل الدلائل التي تشير إلى أن الإنسان القديم لم يكن بدائيا كما يعتقد الكثيرون، بل كان يمتلك قدرات معرفية وثقافية تفوق تصوراتنا النمطية عنه. إن هذا المقال دعوة لإعادة النظر في تصورنا عن الحضارة الإنسانية الأولى، والاعتراف بقدرتها على إرساء أسس الحضارة الحديثة.

إن الصورة السائدة عن مسار الحضارة لدى الإنسان بشكل عام هو ذلك الخط المستقيم المتخيل والمحصور بين قطري البداية والحاضر، حيث ينظر إلى ما هو قديم بأنه الأدنى في سلم التقدم، وإلى ما هو حديث بأنه الأعلى في هذا السلم التطوري الصاعد، بل إن البعض ذهب إلى ربط الأدنى في سلم التطور بالتدني، ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخُلُقية. ولو سلمنا بهذا الحكم الاعتباطي، فإن كل من جاء قبلنا في الحياة يعد أقل منا كفاءة وقدرة في التفاعل مع الحياة وفهمها. وهكذا ينظر إلى إنسان النيادندرتال، والأمريكي الجنوبي القديم، والأسترالي الأصلي، على أنهم أقل من الناحيتين الثقافية والطبيعية مقارنة بالإنسان الشرقي أو الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور.

لقد ذهب الأمر أبعد من ذلك، حيث ظهرت مصطلحات ومفاهيم جديدة؛ فصار الحديث عن الدين البدائي والأخلاق البدائية، وهو بالطبع حكم غير دقيق عن الإنسان القديم، إذ إن مسألة البدائية لا يمكن تفسيرها بهذه السهولة. نعم؛ إن السكين الحجري بدائي مقارنة بالمنشار الآلي، لكن لا يعني ذلك أن الذي اخترعه إنسان بدائي، ذو قدرات ذهنية محدودة، بل قد يكون أكثر ذكاء ممن طوّره عبر الحقب المتوالية، بل لا يمكن القول إن النظام الاقتصادي القديم، القائم على حرية العمل في أي مجال يشاء الإنسان، أقل إحكاما من النظام الاقتصادي الحديث الذي يضعك في أغلال القوانين والشهادات المحلية والدولية. ولا المذاهب الدينية المتأخرة، التي يمتلئ سجلها بالاضطهاد وملاحقة المختلفين، هي أكثر تطورا من المذاهب الدينية القديمة التي تتسم بالتسامح مع المعتقدات.

يذكر فراس سواح في «موسوعة تاريخ الأديان»: «إن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورا من أكثر المجتمعات المتقدمة، فالبدوي في صحارى رماله، والأسكيمو في صحارى جليده، هو أكثر ودا وشجاعة وصدقا وإخلاصا وتعاونا من أكثر أعضاء المجتمعات المتمدنة، إن الجماعة التي ندعوها «بدائية» هي أكثر جماعة الأشكال الاجتماعية والسياسية إتاحة لحرية الفرد وتفتيحا لإمكاناته».

إن المراجعات الشاملة التي عمل عليها بعض الباحثين الغربيين للمفاهيم القديمة حول البدائية والتطورية قادت إلى ظهور أصوت جديدة في الوسط البحثي الحضاري تنادي بكون البدائية ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشر، بل هي شكل من أشكال الحياة الإنسانية اليافعة والمكتفية بنفسها. ومن الآراء المنصفة لحياة الإنسان القديم ما عبَّر عنه آشلي مونتاغيو «إن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الفن البدائي، هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيا في الثقافة، وذلك مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافترض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. والواقع، فإننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية (= بدائية)، مثل: اللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر وغيرها، بمثيلاتها في المجتمعات المتمدنة، فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيان كثيرة».

هذه المراجعات تفتح لنا آفاقا جديدة لإعادة معرفة الإنسان القديم، ليس بكونه كائنا يسعى للبقاء فحسب، بل بكونه مبدعا ومفكرا صنع عالما متكاملا من القيم والرموز والفنون. الحياة البدائية لم تكن مجرد محطة في رحلة التطور، بل كانت تعبيرا أصيلا عن فهم عميق للطبيعة، وعن علاقة روحية مع الكون. الإنسان البدائي كان يعيش في تناغم مع محيطه، يستلهم من الأرض والسماء أساطيره وأغانيه، ويرسم على الصخور قصصه وذاكرته. إن حياة الإنسان لا يمكن أن تقاس كميا ونوعيا بالآلات ولا بالأرقام، فمنحوتتا الزراف في منطقة دابوس في الصحراء الكبرى خير مثال على دقة وبراعة الإنسان القديم؛ فمن ينظر إلى الرسمة يتصور أنها نُحتت بالكمبيوتر أو بآلة متقدمة قبل بضع سنوات فقط، إلا أن الحقيقة هي أنها أعجوبة من عجائب الفن الصخري على مر التاريخ. إذ يقدرها الدكتور جان كلوتس بأن عمر النقش حوالي 10000 عام، وهو ضرب من الخيال، فكيف لمنحوتات بهذا العمر، ولم يكن هناك معدن للأدوات الحادة بعد؟

أما ما يتعلق بنظام القربى والقبيلة في جزيرة العرب، فهو نظام شديد التعقيد لا يمكن مقارنته بأي نظام في العصر الحديث. وقوة هذا النظام في تفرعاته الطويلة إذ يشعرك بالأخوة العرقية والقبلية إلى أبعد نقطة يمتلكها الإنسان من معرفة بالنسل. من الناحية الدينية، فإن تعقيد الحياة الدينية لدى الشعوب القديمة لا يقارن بالحياة الدينية في يومنا هذا، رغم ما تحمله من مزايدات ومغالطات داخله. يقول فرويليخ وهو باحث في شؤون الديانات الإفريقية: «إن الديانات الإفريقية التقليدية ليست أبدا ديانات بدائية، لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها. إنها ثمرة تفكير استمر قرونا مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة وجها لوجه، ويمكن للباحث أن يعثر في هذه الديانات على مؤثرات شرق أوسطية قديمة، منها في سبيل المثال الأسبوع ذو السبعة الأيام التي يحكم كل منها أحد الكواكب السيارة السبعة».

أدت الرؤية الجديدة للبدائية إلى إعادة النظر في المصطلح نفسه، وظهرت بدائل جديدة لتحل محل المصطلح القديم، كونه لم يعد يوحي بالتدني بناء على الكشوفات الأثرية الحديثة. وقد اقترح بعض العلماء مصطلحات جديدة مثل: الجماعات الإثنية أو الجماعات اللاكتابية أو الجماعات التقليدية. بينما حافظ البعض على المصطلح القديم مع استبعاد المعاني السلبية التي ارتبطت به، مثل فراس سواح.

عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الإنسان القدیم لا یمکن

إقرأ أيضاً:

القحّاتة ما عندهم مشكلة مع حميدتي القديم ????، مشكلتهم مع كيكل بس!

كيكل مخاطباً الحشد الجماهيري في الفاو [١]!
نفس الصورة ممكن الناس تشوفها من زوايا مختلفة؛
القحّاتة بشوفوا حميدتي جديد بتطوّر؛
رغم إنّهم ما عنده مشكلة مع حميدتي القديم ????، مشكلتهم مع كيكل بس!
والعنده مشكلة مع الجيش بشوف ميليشيا جديدة بتتكوّن، وداير الجيش يحارب براه وينهزم بشرف ويبصق فوق قبره وقبر السودان؛
وفي المقابل، فأبناء الجزيرة والبطانة وعموم الوسط ممكن يشوفوا في الصورة دي صمّام أمان للمنطقة في وجه النزعات الجهويّة المتصاعدة على هامش الحرب؛
رغم تحفّظات بعضهم على كيكل؛
“البيت الما فيه صايع حقو ضايع
حنطبل للقائد كيكل لي يوم القيامة”
هكذا كتب أحد الأصدقاء اللفتني أصلاً للمقطع دا [٢]!
داير أضيف بعد مختلف للصورة دي، وممكن تحضر المقطع [١] شان تحس بيها أكتر؛
بعد بيظهر بمقارنة المقطع دا مع مقطع حضرته لكيكل نفسه “أيّام الجاهليّة” على قوله، لمن كان مع الميليشيا وبعبّر عن أحلامها [٣]؛
ما كان قدّامه حشد كبير؛
ودا استنتاج منّي، لأنّه الكاميراً أصلاً ما قبّلت على الحشد، وإنّما كانت موجّهة نحوه هو بس؛
وهنا يكمن الفرق كلّه؛
كيكل الفي الفاو دا مستمد قيمته من خلال تمثيل رغبة القاعدة الجماهيريّة المحتشدة أمامه دي؛
كيكل الأمس بمثّل العصابة المشغّلاه، وجايي يفرض كلامه على الجماهير الما عندها رغبة تسمع صوته وللا تشوف خلقته؛
كيكل، من دون الكثيرين، أتيحت ليه فرصة يشوف الفرق بين الحق والباطل، ويعي معنى “الجاهليّة” البتعبد الطاغوت، و”الإسلام” المافيه كبير غير الله؛
يكتمل المعنى دا باستحضار تجربة حميدتي المشى في الاتّجاه المعاكس؛
حميدتي بدا يلقى قبول بعد انحيازه الإسمي للثورة، رغم إنّه ما أطلق ولا رصّاصة في سبيل الحق؛
وحتّى بعد ليلة الغدر في ٢٩ رمضان، الناس قدرت تتجاوز بعد توسّل القوى المدنيّة العفو ليهم، ورحّبت بالاتّفاق في ١٧ أغسطس، وأكلت الحلاوة الوزّعوها الجنجويد، وكانت مستعدّة تفتح صفحة جديدة؛
وفعليّا الناس بقت تستلطف حميدتي وتستخدم عباراته؛
لكن هو من جانبه ما كان مضمر ليهم غير الغل، زي ما ظهر في خطابه الأخير، اللي يمكن يكون آخر خطاب ليه قبل أن يختفي للأبد؛
فماذا كانت النتيجة؟!
بينما بلغت قوّة حميدتي ما لم تبلغه قوّة أيّ فرد في تاريخ البلد، إلّا إنّه بقى عاجز تماماً عن مواجهة الجماهير؛
وتدرّج الأمر سريعاً من مخاطبة الجنود على الأرض في السوق العربي، ومحاورة القنوات عبر التلفون، لبث مقاطع ڤيديو مسجّلة من داخل مكتب مغلق في مكان مجهول!
كان بتجوّل بين الرؤساء الاشتراهم في أفريقيا، ويستقبلوه استقبال الملوك، لكن فشل تماماً يلقى أيّ استقبال علني في أيّ شبر داخل الأراضي السودانيّة، حتّى الواقعة تحت سيطرته؛
لأنّه ما عنده أيّ قاعدة يثق فيها ويستند عليها، رغم الآلاف من جنوده البحلفوا بي حياته؛
والحقيقة إنّه ضحّى بي كلّ أولئك المخلصين من أمثال جلحة، من أجل إرضاء الطاغوت المسيطر عليه؛
فباختصار شديد؛
#حميدتي_انتهى؛
في البداية حميدتي اتنفى، بقى عايش ملك خارج مملكته؛
بعدين حميدتي اتسجن، وبقى يتكلّم من مكتب مغلق في مكان مجهول، وتسجيلاته نفسها بتتمنتج وتتقصقص وتتعالج؛
ثمّ أخيراً ..
حميدتي اختفى!
ما حضر اللقاء التأسيسي للمملكة القضى عمره في بناها؛
ولا حتّى رسّل تهنئة من داخل سجنه البسجّل منّه؛
ولاااا حتّى واحد من رعاياه فقده أو تشاغل بغيابه؛
لأنّه، زي ما قلنا، باع كلّ رعاياه المخلصين البنتقدوه لو مشى غلط، واشترى البضحكوا ليه ويضحكوا عليه!!
نرجع تاني لي كيكل؛
فما قلناه عن كيكل بنطبق برضو على البرهان؛
الناس شتمته في وجهه لمن حاول يخاطب الجماهير في ام بدّة عقب الانقلاب، لو ما خانتي الذاكرة؛
واليوم يتجوّل بكلّ ثقة بين الجماهير البتتدافع لاستقباله في أيّ منطقة يزورها؛
العطا؛
هتفوا ضدّه في عطبرة زمان؛
وقال عبارة مشهودة إنّه “ح يجي يوم وتشكروني”، أو كما قال، لو فيه زول متذكّر؛
واهو جا اليوم الشكرناه فعلاً؛
زي ما جا اليوم اللعنّا حمدوك بعد ما كلنا بنقول #شكرا_حمدوك؛
عقّار، شتمناه لمن ازدرا شباب الثورة الوصل لمنصّة الحكم بفضل نضالهم؛
واليوم بنفخر بيه كرمز سيادة وهو بعبّر فعلاً عن سيادتنا في وجه الصلف الأمريكي؛
منّاوي، ياما ضحكنا عليه وسخرنا منه لمن كان بخاطب الجماهير المصطنعة في حفل التنصيب واعتصام الموز؛
واليوم اكتسب احترامنا ومحبّتنا وتقديرنا لمن بقى بعبّر عن إرادتنا ورفض عروض حميدتي وأولياؤه؛
وهكذا؛
ممكن تعدّد مئات الأمثلة؛
لحدّي “نجوم” الثورة الانطفت لمن آثرت النخبة على الجماهير، ولمعت مكانها نجوم جديدة بمواقفها المشرّفة في محكّات الحرب؛
الخلاصة ..
“خير الناس أنفعهم للناس”؛
نفعك للناس هو البيحدّد قيمتك:
﴿أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحتَمَلَ السَّيلُ زَبَدًا رابِيًا وَمِمّا يوقِدونَ عَلَيهِ فِى النّارِ ابتِغاءَ حِليَةٍ أَو مَتٰعٍ زَبَدٌ مِثلُهُ كَذٰلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالبٰطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِى الأَرضِ كَذٰلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ﴾ [الرعد ١٧]

عبد الله جعفر

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • سوق الصدرية القديم.. وجهة العراقيين لإحياء ليالي رمضان
  • التكفيريون.. خنجرٌ مسموم في خاصرة الأُمَّــة
  • الأزهري يؤكد ضرورة إحياء السياحة الدينية والاستفادة من التراث الإسلامي العريق
  • “الشؤون الدينية”: 840 ألف مستفيد من الخدمات الإثرائية في المسجد الحرام
  • منتدى حقوقي يستنكر التراجعات الحقوقية التي شهدها المغرب
  • الشبكة السورية لحقوق الإنسان: هجمات تودي بحياة أكثر من 1000 شخص بين 6 و10 مارس
  • الإمارات تدلي نيابة عن أكثر من 91 دولة ببيان مشترك أمام مجلس حقوق الإنسان حول حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة
  • ميقات ذي الحليفة.. من أبرز المعالم الدينية والتاريخية في المدينة المنورة
  • القحّاتة ما عندهم مشكلة مع حميدتي القديم ????، مشكلتهم مع كيكل بس!
  • لبنان في مركز مُتقدّم.. إليكم ترتيب الدول العربية التي لديها نساء متعلمات أكثر من رجالها