هل تصبح المحاصيل «المُحورة» وراثيًا الحل لأزمة الغذاء العالمية ؟
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
تُعتبر التقانة الحيوية الحديثة من أهم إنجازات العصر العلمية، إذ تمكن العلماء من التعرُّف الدقيق على التركيبة الوراثية لبعض الكائنات الحية، فضلًا عن عزل الجينات المرغوبة ونقلها بين الكائنات الحيّة، متخطين بذلك حواجز التكاثر الطبيعية، وهذا ما يُعرف بالهندسة الوراثية (Genetic Engineering).
وأسهمت طرق التربية والتحسين التقليدية الفعّالة في تطوير أصناف من المحاصيل الزراعية وأدّت إلى تحقيق الأمن الغذائي، وكان آخرها إنتاج أصناف جديدة من القمح والأرز ذات إنتاجية عالية، وهو ما أطلق عليه «الثورة الخضراء» (Green Revolution) التي قادها الدكتور نورمان بورلوج، الذي حاز على جائزة نوبل للسلام في عام 1970م، وبالرغم مما حققته الثورة الخضراء من إنجازات في مجال الأمن الغذائي، إلا أن التنامي المتزايد للسكان في العالم، ونقص الأراضي الزراعية، وشح المياه، وانجراف التباين الوراثي، جعل من الصعب الاعتماد كليًا على الطرق التقليدية في تربية وتحسين النبات، مما دفع العلماء للبحث عن طرق جديدة لإنتاج المحاصيل الزراعية، وقد كللت جهودهم بالنجاح، حيث تم الانتقال إلى عهد جديد من التقدم والتطور التكنولوجي.
واليوم، أصبح في مقدور العلماء تغيير سمات أي نبات باستخدام وسائل التكنولوجيا الحيوية الحديثة، من خلال إدخال جين معين، أو في معظم الحالات جينين أو ثلاثة، إلى المحصول من أجل تزويده بميزات تجعله أكثر جودة أو أكثر مقاومة لنوع من مبيدات الأعشاب المستخدمة للحد من الحشائش الضارة، أو إضافة جين ينتج نوعًا من البروتين الذي يسمم الحشرات التي تصيب الذرة الشامية، مما يؤدي إلى تقليل الحاجة لاستخدام أنواع معينة من المبيدات الحشرية التقليدية.
ومنذ دخول أول منتج تجاري محور وراثيًا إلى الأسواق في عام 1996م، هناك تزايد مطرد في عدد المنتجات والمساحات المزروعة بالمحاصيل المحورة وراثيًا في العالم، كما هو موضح في الشكل (1).
وقد عاد القبول العالمي للمحاصيل المعدَّلة وراثيًا في عام 2016 إلى سابق عهده، بعد أن عانى من انخفاض في عام 2015، وفقًا لتقديرات منظمة الخدمات العالمية لامتلاك تطبيقات التكنولوجيا الحيوية الزراعية، وبعنوان: «الحالة العالمية للتكنولوجيا الحيوية تجاريًا / المحاصيل المعدلة وراثيًا: 2016»، رصد تقرير المنظمة الصادر في مايو المنصرم المساحات المزروعة بالمحاصيل المعدَّلة وراثيًا في عامي 2015 و2016، وكانت ما يقرب من 180 مليون هكتار و185 مليون هكتار على التوالي، بينما كانت المساحات قد وصلت إلى 181 مليون هكتار في عام 2014.
تأتي هذه الأرقام من 26 بلدًا، 19 منها من البلدان النامية، وتصدرت الولايات المتحدة القائمة بمساحة بلغت حوالي 73 مليون هكتار، تلتها البرازيل بما يزيد على 49 مليون هكتار، ثم الأرجنتين، فكندا، والهند، ليبلغ مجموع المساحات في الدول الخمس 91% من المساحة العالمية المزروعة بالمحاصيل المعدَّلة وراثيًا.
وشكّل فول الصويا 50% من المساحة العالمية المزروعة بتلك المحاصيل في عام 2016، تليه الذرة (33%)، والقطن (12%)، والكانولا (5%)، وتشمل المحاصيل الأخرى المعدَّلة وراثيًا المتاحة اليوم في الأسواق بنجر السكر، والبابايا، والقرع، والباذنجان، والبطاطس، والتبغ المقاوم للفيروسات، والقطن المحور وراثيًا (Bt) المقاوم للحشرات، والطماطم، وكذلك السلجم، وبعض نباتات الزينة وخاصة القرنفل (الكارنشين).
وزادت مساحات زراعة المحاصيل المهندسة وراثيًا بمقدار 110 أضعاف في العقدين الأخيرين، وفقًا لتقديرات المنظمة، إذ بلغت المساحة التراكمية المزروعة بتلك المحاصيل ما يزيد على ملياري هكتار، وباعتبارها أسرع تكنولوجيا جرى تبنيها لإنتاج المحاصيل في الآونة الأخيرة، فقد ساعدت على التخفيف من وطأة الفقر والجوع، وفقًا لتقرير المنظمة، واستفاد منها 18 مليونًا من صغار المزارعين وأسرهم.
مزايا ومحاذير
الكائن المحور وراثيًا هو كائن حي تم تغيير مادته الوراثية بطريقة تختلف تمامًا عما يحدث باستخدام طرق التزاوج والتهجين التقليدية (Chromosomal Recombination)، بل تتم العملية بإضافة أو حذف أو تعطيل أو التحكم في بعض الصفات الوراثية لتصبح مستقرة على مرّ الأجيال، ويتم التحوير الوراثي هذا بواسطة نقل المادة الوراثية إلى الخلايا بطرق مختلفة، منها استخدام تقنيات الهندسة الوراثية أو DNA المهجن باستخدام النواقل مثل الفيروسات، وبلازميدات البكتيريا -البلازميد هو عبارة عن DNA حلقي- أو يتم النقل المباشر عن طريق القاذفات الحيوية، حيث يتم إدخال الـDNA إلى الخلايا النباتية أو الحيوانية أو الأعضاء بواسطة حبيبات أو كرات (DNA-coated) تحت ضغط عالٍ وسرعة فائقة، أو باستخدام الدمج الخلوي وإنتاج خلايا هجينة.
تحتاج طرق التربية والتحسين التقليدية إلى فترة طويلة قد تمتد إلى 15 سنة وجهد متواصل للوصول إلى الهدف المطلوب وخاصة إذا لم تكن هناك اختلافات وراثية (تباين وراثي) فإن المربي يلجأ إلى إجراء التهجينات أو استحداث الطفرات الوراثية المفيدة في النبات. بينما في حالة التحوير الوراثي، فالعملية بمجملها تختلف تماما عن استخدام الطرق التقليدية وتعتمد على نقل الجين أو الجينات مباشرة.
ومن مزايا هذه العملية أيضًا، الدقة في نقل الصفة المرغوبة، إذ يتم عزل الجين المستهدف وإدخاله مباشرة في النبات المستقبل، بينما في حالة استخدام الطرق التقليدية في التهجين فإن الجينوم (هو المادة الوراثية بأكملها في الخلية في الكائن الحي، ويمكن أن يكون كروموسوم واحد أو اكثر اعتمادا على الكائن الحي وتعقيداته) بأكمله يتم نقله بما في ذلك نقل صفات غير مرغوبة والتي يمكن التخلص منها بواسطة طرق التهجين الرجعي والذي يأخذ وقتا طويلا ولا يصل إلى تحقيق نسبة 100%. إضافة إلى مزايا أخرى كسرعة الحصول على النتائج ودقة التحقق منها، وإمكانية توسيع التنوع الحيوي (Biodiversity) من خلال نقل الجينات عبر الأنواع والأجناس، وتحسين بعض المحاصيل مثل الموز والكسافا، حيث لا يمكن تحسينها بالطرق التقليدية.
مزروعات وفيرة مقاومة للأمراض
ومن أهم إنجازات التحوير الوراثي في الإنتاج الزراعي، مقاومة الحشرات، فقد تم إنتاج نباتات أو محاصيل مقاومة للحشرات مما رفع الإنتاجية وخفض تكاليف الإنتاج بتقليل استخدام المبيدات، حيث تعرف العلماء على جين تحمله بكتيريا (huringensis Bacillus) وما يطلق عليه بـ(Bt gene) يقوم هذا الجين بإنتاج بروتين سام يؤثر على الحشرات الضارة مثل دورة جوزة القطن، وحفار ساق الذرة، وخنفساء البطاطس وغيرها من الآفات المدمرة للنباتات، وقد تم عزل هذا الجين من البكتيريا وادخل في نباتات بعض المحاصيل التجارية ليكسبها مقاومة الآفات ومن أهم هذه المحاصيل التي تحمل هذا الجين القطن، والذرة الشامية والتبغ ويمكن دراسة حالة الـBt قطن كنموذج لذلك في الصين.
كما ساهم تحوير النباتات في مقاومة مسببات الأمراض، ومقاومة مبيدات وتحسين جودة المنتج، ونذكر هنا صنف الطماطم (Flavr savr) وهو أول منتج محور وراثيا، حيث تم نقل جين يساعد على إبطاء العمليات الفسيولوجية بعد مرحلة النضج، بحيث يمكن أن تبقى ثمار الطماطم على النبات أو في الأسواق لفترة أطول من الطماطم الاعتيادية ودون أن تتلف، كما تسهم عمليات الهندسة الوراثية في تحسين القيمة الغذائية وزيادة تحمل ظروف الإجهادات وغيرها. التحوير الوراثي في الحيوان والإنسان
ومما تقدم فإن هذه الإنجازات تمت في مجال الإنتاج النباتي وهناك إنجازات كثيرة للتحوير الوراثي قد تمت في مجال الإنتاج الحيواني وهي في محورين، المحور الأول، وهو المحور المباشر والذي يستهدف نقل جينات لتحسين حيوانات نفسها من خلال الحقن المجهرية ونقل الخلايا الجينية أو الاستنساخ (Cloning) بنقل النواة. أما المحور الثاني، وهو غير مباشر فيتضمن استخدام التحوير الوراثي لإنتاج أعلاف الحيوانات أو منتجاتها مثل الجبن والألبان. على سبيل المثال، من المعروف أن هناك هرمونا تنتجه الأبقار يساعد في إنتاج الحليب. وتم بالفعل نقل الجين المشفر لهذا الهرمون إلى بكتيريا لتصنيعه بكميات كبيرة وهو الآن في الأسواق وتحقن به الأبقار في أمريكا لزيادة إنتاج الحليب.
كما أن هناك إنجازات أخرى جاءت لخدمة الإنسان وخاصة في مجال العقاقير والأدوية الصيدلانية ومعالجة الأمراض وخاصة الوراثية منها.. وبالرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها الهندسة الوراثية، إلا أن هناك بعض المخاوف والمحاذير من المنتجات المحورة وراثيا، فالضجة التي يشهدها العالم حول المحاصيل المعدلة وراثيا ومنتجاتها ربما لها ما يبررها، فالدول تضع شروطا صارمة على إنتاج الغذاء بالطرق التقليدية، فكيف بها الحال أن تجد نفسها أمام طوفان جديد من الغذاء لحد الآن لم تصل إلى نتائجه النهائية.
والمهم أن هذا الأمر لا ينبغي رفضه دون شروط أو ضمانات، فالهندسة الوراثية أو علم التقنية الحيوية (Biotechnology) جاء ليبقى، والقرن الحالي هو قرن التكنولوجيا الحيوية أو عصر الجينات شئنا أو أبينا.. وقد انقسم العالم في جدل حول هذا الموضوع بين معارض ومؤيد لهذه التقنية وكل فئة تستند إلى ما لديها من أدلة.. فالمؤيدون يشيدون بهذا الإنجاز العلمي المتقدم وما قدمه وسيقدمه لخدمة البشرية كما أن ما نشر عام 2000 من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية في تقريرها حول المحاصيل المعدلة وراثيا يؤكد عدم وجود دليل قاطع على أن هذه المحاصيل ومنتجاتها والموجودة في الأسواق غير أمينة بالإضافة إلى المزايا التي ذكرت سابقا.. بينما يقوم المعارضون بطرح وجهة نظر أخرى مغايرة ومن بينها قولهم إنه قد تؤثر المحاصيل المعدلة وراثيا على التنوع الجوي نتيجة لتفاعل المحاصيل المعدلة وراثيا مع العشائر البرية والمحلية وتنافسها بل أن هناك احتمالا لحدوث خلط للجينات بين هذه المحاصيل المعدلة وراثيا والمحاصيل التقليدية، وأن إنتاج محاصيل تتحمل مبيدات الأعشاب ربما سيشجع المزارعين على الإسراف باستخدام كميات أكبر من مبيدات الأعشاب وهذا بدوره سينعكس سلبا على البيئة.
ومما تم عرضه يتضح أن هناك سندان التأييد من خلال الفوائد الكثيرة التي يمكن أن تحققها المحاصيل المعدلة وراثيا من حيث رفع الطاقة الإنتاجية للمحاصيل الزراعية وخفض تكاليف الإنتاج بما يحسن دخل المزارع وربما يؤدي إلى خفض أسعار هذه المنتجات للمستهلك، بالإضافة إلى تحسين النوعية والقيمة الغذائية لهذه المنتجات، ولكن من ناحية أخرى هناك مطرقة الرفض والتي تأخذ بعين الاعتبار الحيطة والحذر من المخاطر المحتملة لهذه المحاصيل على البيئة وصحة الإنسان والحيوان، ولكي نجني الفوائد ونتجنب المخاطر لا بد من وضع القوانين والتشريعات اللازمة وإتباع قواعد تقييم المخاطر باستخدام الطرق العلمية السليمة والتقنيات المعترف بها من خلال توفير المختبرات المتطورة وكذلك الخبراء والفنيين في هذا المجال وكذلك كيفية رصد وإدارة المخاطر في حالة وقوعها ويمكن الاستهداء أو الاسترشاد ببروتوكول قرطاجنة للسلامة الإحيائية (Biosafety).
أ.د. حمـيد جلـوب عــلي الخفاجي خبير في علم الوراثة وتربية وتحسين النبات
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الطرق التقلیدیة هذه المحاصیل ملیون هکتار فی الأسواق فی مجال من خلال أن هناک فی عام
إقرأ أيضاً:
لماذا نكره سماع بعض الأصوات؟.. مرض وراثي مرتبط بالقلق والاكتئاب
يشعر البعض أحيانًا بكراهية ملحوظة تجاه بعض الأصوات، بل ويشعرون بالقلق والتوتر والضيق النفسي عند سماعها، رغم كون هذه الأصوات عادية تمامًا، بل وقد تكون أصواتًا محببة لكثيرين غيرهم، وهو ما يُعرف في علم النفس بمتلازمة «الميسوفونيا» أو «كراهية الأصوات».. فما هي تلك المتلازمة؟ وما سبب الإصابة بها؟
متلازمة «الميسوفونيا» والاضطرابات النفسيةفي دراسة جديدة نشرت في دورية «Frontiers in Neuroscience»، حلل فريق بحثي دولي البيانات الجينية لآلاف الأشخاص المصابين بمتلازمة «الميسوفونيا» ووجدوا أنهم يشتركون في جينات معينة مع المصابين بهذه الاضطرابات النفسية، فضلًا عن وجود صلة وراثية بين هذه المتلازمة ومجموعة من الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وهو ما أكدته الدكتورة صفاء حمودة، أستاذ الطب النفسي بطب الأزهر، خلال حديثها لـ«الوطن».
ما هي متلازمة «الميسوفونيا»؟متلازمة «الميسوفونيا» أو «كراهية الأصوات» هي اضطراب عصبي يتسبب في ردود فعل شديدة وسلبية تجاه أصوات معينة، مثل صوت المضغ أو الشخير أو حتى صوت التنفس وبعض الأصوات الأخرى، ويعاني المصابون بهذا الاضطراب من ضيق شديد أو غضب قد يتعارض مع حياتهم اليومية عند سماع الأصوات التي يكرهونها.
وأظهرت الدراسة أن الأشخاص المصابين بـ«الميسوفونيا» هم أكثر عرضة للإصابة بالقلق والاكتئاب والطنين في الأذنين، كما وجد الباحثون أن الجينات المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة تلعب دورًا في زيادة خطر الإصابة بهذه المتلازمة.
الفرق بين «الميسوفونيا» والتوحدويرى الباحثون أن هذه الاكتشافات تفتح الباب أمام تطوير علاجات جديدة لمتلازمة «الميسوفونيا» مستوحاة من العلاجات المستخدمة حاليًا لاضطراب ما بعد الصدمة، لافتين إلى أنه على الرغم من أن «الميسوفونيا» واضطراب طيف التوحد يتضمنان حساسية مفرطة للأصوات، فإن الدراسة أظهرت أنهما مختلفان من الناحية الجينية.