أسرار النجوم الكامنة في حضارة الأجداد
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
قبل أن يشير الإنسان إلى عقارب الساعة لمعرفة الوقت، كان العمانيون ينظرون إلى السماء. كانت النجوم هي ساعتهم، والقمر تقويمهم. في أعماق الصحراء العمانية، وعلى سواحلها الشاسعة، بنى الأجداد حضارة استندت إلى فهم عميق لأسرار الكون.
ويتوسع الإبداع الفلكي العماني بتكامل واضح مع العلوم الأخرى كالعمارة والهندسة وغيرها لتجسد واقعا يقف شاهدا إلى يوم الناس هذا، فنجد القلاع والحصون والتي راعى العمانيون في هندستها الاتصال الواضح مع علم الفلك والذي يتضح في اتجاهات فتحات التهوية وزاوية دخول ضوء الشمس والقمر في مواقيت محددة وبزوايا مختلفة كما راعوا فيها أيضا الحسابات الفلكية الأخرى المتعلقة بالمواسم المختلفة عند بناء هذه الصروح المعمارية، وامتدت معرفتهم الفلكية إلى الجانب الزراعي فنجد على سبيل المثال مدرجات الجبل الأخضر خير شاهد على ذلك فهذه المدرجات تعتمد بشكل كبير على ضوء زاوية سقوط ضوء الشمس وتدرجها وبالتالي الاستفادة منها زراعيا.
الشمس والنجوم تقسمان حصص المياه بين الناس
ولم تكن هندسة الأفلاج ببعيدة عن هذا التكامل الواضح بين العلوم فالفلج يعد ركيزة مهمة من الركائز التي قامت عليها القرى والتجمعات السكانية في سلطنة عمان، وتعتبر أحد الشواهد على إبداعات العمانيين الهندسية، فقد سخر العمانيون معرفتهم العلمية بصورة تكاملية لجعل الفلج مشروعا ناجحا في كل جوانبه وتفاصيله، وتعتبر عملية تقسيم الفلج أحد هذه الجوانب إذ تمازجت فيها الخبرات المعرفية في الهندسية بالفلك مع التوافق الاجتماعي لتشكل منهجا حسابيا اتبعه المزارعون لعقود من الزمن وأضحى رمزا ومعلما مرتبطا ارتباطا وثيقا بالأفلاج، حيث أوجدوا نظام المزولة الشمسية والمعروفة محليا باسم «اللمد» وهو نظام قائم على حركة ظل شاخص (من الحديد أو الخشب أو الصخور) من طلوع الشمس إلى غروبها وجعلوه مؤقتا لحصص المزارعين من ماء الفلج في النهار وأطلق عليه «محاضرة النهار» تمييزا عن «محاضرة الليل» والتي تشير دائما إلى استخدام النجوم لاستكمال عملية توزيع الحصص في الفترة المسائية أو بعبارة أدق بعد مغيب الشمس.
ورغم أن اللمد كان شائعا ومنتشرا في كل القرى العمانية التي تستخدم مياه الأفلاج لري المزروعات لا أن أعدادها بدأت بالتناقص منذ أن انتقل المزارعون إلى الساعة الرقمية لحساب حصص الأفلاج حتى وصل عدد ما هو موجود فعليا لا يتجاوز أصابع اليد في المحافظة، وهو ما جعل من الحفاظ عليها تحديا يستدعي تدخلا رسميا للإبقاء على هذا الإرث المعرفي المادي الذي سخر له العمانيون معرفتهم العلمية لمئات السنين، ويمكن تقسيم اللمد المستخدم في الأفلاج العمانية إلى أربعة أنواع رئيسية:
• النوع الأول: وهو النوع الشائع في معظم الولايات ويتكون من عمود مصنوع من المعدن (عادة ما يكون الحديد) أو من الخشب (في فترات سابقة) ويتراوح طوله بين المتر ونصف المتر والمترين ونصف المتر.
• النوع الثاني: وهو بنفس مواصفات النوع الأول، ولكن لا يتجاوز طوله 80 سنتيمترا وهذا النوع تنفرد به بعض ولايات محافظة جنوب الباطنة وخاصة ولايتي نخل ووادي المعاول.
• النوع الثالث: وهو عبارة عن عمودين من الحديد يصل بينهما عمود ثالث وهو أيضا من الأنواع النادرة إذا لا يتعدى استخدامه أفلاجا محددة كفلج أبو من الموجود في قرية كبداء بولاية صور.
• النوع الرابع: وهو أيضا من النوع النادر وهو عبارة عن عمود من الحجر يبلغ طوله المتر ولم نجده إلا قرية الهبوبية بولاية قريات.
وكما ذكرنا سابقا فإن توزيع المياه في الفترة المسائية اعتمد بشكل كبير على النجوم وهذا يعطي صورة واضحة لمدى الإلمام بعلم الفلك عند العمانيين إذ لم يكن اختيار النجوم عبثا ولا مصادفة وإنما جاء نتيجة حسابات دقيقة أخذت بعين الاعتبار فترات شروق وغروب النجم ومدى وضوحه وتلألؤه، والغريب في الأمر أن هناك تشابهًا إلى حد التطابق أحيانًا بين هذه النجوم المستخدمة في معظم الولايات التي تتخذ من نظام الأفلاج سبيلا لري المزروعات، ولكن قد تزيد أو تنقص في ولايات أخرى، ومن أشهر النجوم المستخدمة لتوزيع مياه الفلج الدبران والثريا والصارة الأولى والصارة الثانية والغراب والكوي وغيرها من النجوم والتي تحمل إلى جانب المسمى المحلي أسماء علمية معروفة في كويكبات مختلفة تنم عن دراية واسعة لدى العمانيين عند اختيار هذه النجوم، فلم يكن اختيارها صدفة أو عشوائيا بل كان بدراسة مستفيضة.
السماء.. مفاتيح البحر
ويمتد الإرث الفلكي العماني إلى الجانب البحري فلم تكن هذه المعرفة فيه بأقل عن نظيرتها الزراعية، فقد حدد الصيادون مواسم الصيد من خلال مطالع بعض النجوم واتخذوها علامة على بداية هذه المواسم إذ لم تكن النجوم سوى علامة لبدء المواسم وليس سببا لذلك، فموسم «الربعاني» أو «الربع» مثلا يبدأ مع ظهور نجم سهيل وهو موسم تميل فيه درجة الحرارة للانكسار، ويعد موسما مهما لصيد أسماك الشعري والكنعد والجيذر والخباط وغيرها من الأنواع الأخرى، أما في بزوغ نجم الكوي وحينها يكون الطقس أكثر برودة فيكون موسما لصيد القد والعندق والجرور، وقِس على ذلك مواسم الصيد المختلفة طوال العام والتي حدد بدايتها ونهايتها بنجوم معروفة لدى الصياد العماني، كما أنهم -ومن خبرتهم الطويلة في البحر- عرفوا مواسم ضربات البحر وتجنبوا فيها الخروج للصيد أو التجارة؛ لما تحمله من مخاطر على حياتهم، وتعد ضربة الشلي (نجم الشعرى والبعض يعتبر الشلي هو نجم العيوق) والتي تكون عادة في شهر يونيو هي الأقوى بين الضربات المعروفة عند أهل البحر وقد جاء ذكر هذه الضربة في العديد من كتب النواخذة العمانيين. وليست ضربة الشلي هي الوحيدة التي حددها البحّارة، بل إنهم ذكروا ما يفوق العشر ضربات مثل ضربة اللكيذب وتكون في أواخر شهر أكتوبر، واللكيذب هو نجم المفرد الرامح في كوكبة العواء، وضربة اللحيمر (السماك الرامح) في نهاية شهر أكتوبر، وضربة الشولة (في كوكبة العقرب) في بداية شهر يناير.
إن هذه الخبرات العلمية في علوم البحر وفنونه إلى جانب معرفتهم بأساليب السفر والترحال بين الموانئ المختلفة واعتمادهم على النجوم لمعرفة الطرق والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر جعلت من الإرث الفلكي الذي خلّده الأجداد منهجا يحتذى به في تسخير العلم لتسيير أمور الحياة، كما أسست لمنهج بحثي طور من هذه الأساليب سواء زراعية كانت أم بحرية للتوافق مع التغير الذي عاشه الإنسان العماني لقرون عديدة.
إن توثيق هذا الإرث المادي وحفظه أصبح أهمية لا يمكن تأجيلها لأن الحضارة والمدنية الحديثة تسلب من هذا الرمز المعرفي مكانته العلمية وتجعل منه نوعا من الترف المعرفي الذي لا يُلقى له بال ولا يحسب له حساب مما يؤدي إلى اندثاره مع تعاقب الأجيال.
وقد ساهم الموقع الجغرافي لسلطنة عمان ومرورها بفترات طويلة من الاستقرار في نشوء حركة علمية واسعة وبروز الكثير من العلماء في شتى مجالات العلوم، وعلى عكس ما هو شائع لم يكن البحث العلمي لدى العمانيين مهتما فقط بالنتاج المعرفي في الجانب الديني واللغوي والعلوم الإنسانية الأخرى بل تجاوزه إلى العلوم الطبيعية كعلوم الفلك والرياضيات والطب والهندسة وغيرها من جوانب العلوم المختلفة، ففي علم الفلك (على سبيل المثال لا الحصر) نجد العديد من أسماء العلماء العمانيين الذين صاغوا معرفتهم الفلكية شعرا ونثرا في هذا المجال منهم الشيخ عمر بن مسعود المنذري صاحب كتاب (كشف الأسرار المخفيّة، في علوم الأجرام السَّماويّة، والرُّقوم الحَرْفيّة) وهو كتابٌ في علم الفلك؛ ومن المؤلفات النظمية القصيدة اللامية السليمانية في المنازل القمرية الشامية واليمانية لأحمد بن مانع الناعبي، ومن المؤلفات المشهورة في علم الفلك والبحار كتاب (الفوائد في علم البحر والقواعد) للبحارة العماني أحمد بن ماجد السعدي الملقب بأسد البحار الذي ابتدأه بأهمية علم الفلك وما ينبغي على البحّارة معرفته من النجوم ومطالعها واتجاهاتها، كما أنه وصف الاتجاهات بناء على مطالع ومغارب النجوم، وله مؤلفات نظمية شرح فيها خبرته الفلكية وسخّرها لمعرفة الطرق والموانئ في شتى أصقاع الأرض.
د. إسحاق بن يحيى الشعيلي رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلكية العمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: علم الفلک فی علم
إقرأ أيضاً:
أمل لمرضى السكري.. مصر تطلق الأنسولين المحلي بقدرة إنتاج 50 مليون خرطوشة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في ظل جهود الدولة لتعزيز الرعاية الصحية وتوفير الأدوية الأساسية بأسعار مناسبة، أعلنت هيئة الدواء المصرية مؤخرا موافقتها على إطلاق الأنسولين البشري الذي تم تصنيعه محليًا بالتعاون مع شركة أمريكية بنفس المواد الخام الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف توفير إمدادات مستدامة من الأنسولين لما لا يقل عن مليون مريض بالسكري سنويًا.
ويأتي هذا المشروع بعد تعاون بدأ في ديسمبر 2022 بين الشركتين، حيث توفر الشركة العالمية المادة الفعالة بأسعار مخفضة، وتنقل التكنولوجيا اللازمة للتصنيع والتعبئة.
تجهيزات متقدمة ومواصفات عالميةفي أقل من عامين، أنشأت الشركة المصرية مصنعًا حديثًا لتصنيع المستحضرات البيولوجية، وأجرت اختبارات الجودة والثبات للأنسولين المنتج محليًا، وتم تقديم طلبات للحصول على الموافقات التنظيمية محليًا ودوليًا، بما في ذلك التأهيل المسبق من منظمة الصحة العالمية لضمان الالتزام بأعلى معايير الجودة.
تأثير عالمي واهتمام محلييهدف المشروع لإنتاج أقلام الأنسولين بقدرة تصل لـ50 مليون خرطوشة لتلبية احتياجات مرضى السكري محليا، وتصدير الفائض الى ما يقرب 56 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل، خاصة في إفريقيا.
أنواع السكري والانسولينيوضح الدكتور محمد صدقي استشاري الباطنة والغدد الصماء لـ(البوابة نيوز)، أن الانسولين هو المفتاح الذي يسمح للجسم باستخدام الجلوكوز كمصدر للطاقة، وعند غيابه أو عدم انتظام جرعاته، ترتفع مستويات السكر بشكل خطير، مما يهدد حياة المريض، وينقسم مرض السكري إلى عدة أنواع، تختلف في أسبابها وطرق علاجها، فالنوع الأول يحدث نتيجة خلل في الجهاز المناعي يؤدي إلى تدمير خلايا بيتا المنتجة للأنسولين في البنكرياس، ويُشخص غالبًا في الأطفال والشباب، ويحتاج المرضى إلى حقن الأنسولين يوميًا للبقاء على قيد الحياة، اما النوع الثاني فيتميز بمقاومة الجسم لتأثيرات الأنسولين أو عدم إنتاج كمية كافية منه، ويتم تشخيصه عادةً في البالغين، خاصة مع وجود عوامل خطر مثل السمنة والتاريخ العائلي، قد يحتاج بعض المرضى من هذا النوع إلى الأنسولين إذا لم تكن الأدوية الفموية والتغييرات في نمط الحياة كافية للتحكم في مستويات السكر.
مضاعفات عدم الالتزام بالانسولينكما أن عدم الالتزام بأخذ جرعات الأنسولين اللازمة يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، مثل ارتفاع مستويات السكر في الدم، الحماض الكيتوني، وتلف الأعضاء الحيوية كالكلى والقلب.
كما أوضح صدقي ان سكر الحمل يحدث أثناء الحمل عندما لا يستطيع الجسم استخدام الأنسولين بشكل فعال و قد يتطلب العلاج بالأنسولين لضمان صحة الأم والجنين.