لجريدة عمان:
2025-02-16@21:17:58 GMT

أسرار النجوم الكامنة في حضارة الأجداد

تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT

أسرار النجوم الكامنة في حضارة الأجداد

قبل أن يشير الإنسان إلى عقارب الساعة لمعرفة الوقت، كان العمانيون ينظرون إلى السماء. كانت النجوم هي ساعتهم، والقمر تقويمهم. في أعماق الصحراء العمانية، وعلى سواحلها الشاسعة، بنى الأجداد حضارة استندت إلى فهم عميق لأسرار الكون.

ويتوسع الإبداع الفلكي العماني بتكامل واضح مع العلوم الأخرى كالعمارة والهندسة وغيرها لتجسد واقعا يقف شاهدا إلى يوم الناس هذا، فنجد القلاع والحصون والتي راعى العمانيون في هندستها الاتصال الواضح مع علم الفلك والذي يتضح في اتجاهات فتحات التهوية وزاوية دخول ضوء الشمس والقمر في مواقيت محددة وبزوايا مختلفة كما راعوا فيها أيضا الحسابات الفلكية الأخرى المتعلقة بالمواسم المختلفة عند بناء هذه الصروح المعمارية، وامتدت معرفتهم الفلكية إلى الجانب الزراعي فنجد على سبيل المثال مدرجات الجبل الأخضر خير شاهد على ذلك فهذه المدرجات تعتمد بشكل كبير على ضوء زاوية سقوط ضوء الشمس وتدرجها وبالتالي الاستفادة منها زراعيا.

الشمس والنجوم تقسمان حصص المياه بين الناس

ولم تكن هندسة الأفلاج ببعيدة عن هذا التكامل الواضح بين العلوم فالفلج يعد ركيزة مهمة من الركائز التي قامت عليها القرى والتجمعات السكانية في سلطنة عمان، وتعتبر أحد الشواهد على إبداعات العمانيين الهندسية، فقد سخر العمانيون معرفتهم العلمية بصورة تكاملية لجعل الفلج مشروعا ناجحا في كل جوانبه وتفاصيله، وتعتبر عملية تقسيم الفلج أحد هذه الجوانب إذ تمازجت فيها الخبرات المعرفية في الهندسية بالفلك مع التوافق الاجتماعي لتشكل منهجا حسابيا اتبعه المزارعون لعقود من الزمن وأضحى رمزا ومعلما مرتبطا ارتباطا وثيقا بالأفلاج، حيث أوجدوا نظام المزولة الشمسية والمعروفة محليا باسم «اللمد» وهو نظام قائم على حركة ظل شاخص (من الحديد أو الخشب أو الصخور) من طلوع الشمس إلى غروبها وجعلوه مؤقتا لحصص المزارعين من ماء الفلج في النهار وأطلق عليه «محاضرة النهار» تمييزا عن «محاضرة الليل» والتي تشير دائما إلى استخدام النجوم لاستكمال عملية توزيع الحصص في الفترة المسائية أو بعبارة أدق بعد مغيب الشمس.

ورغم أن اللمد كان شائعا ومنتشرا في كل القرى العمانية التي تستخدم مياه الأفلاج لري المزروعات لا أن أعدادها بدأت بالتناقص منذ أن انتقل المزارعون إلى الساعة الرقمية لحساب حصص الأفلاج حتى وصل عدد ما هو موجود فعليا لا يتجاوز أصابع اليد في المحافظة، وهو ما جعل من الحفاظ عليها تحديا يستدعي تدخلا رسميا للإبقاء على هذا الإرث المعرفي المادي الذي سخر له العمانيون معرفتهم العلمية لمئات السنين، ويمكن تقسيم اللمد المستخدم في الأفلاج العمانية إلى أربعة أنواع رئيسية:

النوع الأول: وهو النوع الشائع في معظم الولايات ويتكون من عمود مصنوع من المعدن (عادة ما يكون الحديد) أو من الخشب (في فترات سابقة) ويتراوح طوله بين المتر ونصف المتر والمترين ونصف المتر.

• النوع الثاني: وهو بنفس مواصفات النوع الأول، ولكن لا يتجاوز طوله 80 سنتيمترا وهذا النوع تنفرد به بعض ولايات محافظة جنوب الباطنة وخاصة ولايتي نخل ووادي المعاول.

• النوع الثالث: وهو عبارة عن عمودين من الحديد يصل بينهما عمود ثالث وهو أيضا من الأنواع النادرة إذا لا يتعدى استخدامه أفلاجا محددة كفلج أبو من الموجود في قرية كبداء بولاية صور.

• النوع الرابع: وهو أيضا من النوع النادر وهو عبارة عن عمود من الحجر يبلغ طوله المتر ولم نجده إلا قرية الهبوبية بولاية قريات.

وكما ذكرنا سابقا فإن توزيع المياه في الفترة المسائية اعتمد بشكل كبير على النجوم وهذا يعطي صورة واضحة لمدى الإلمام بعلم الفلك عند العمانيين إذ لم يكن اختيار النجوم عبثا ولا مصادفة وإنما جاء نتيجة حسابات دقيقة أخذت بعين الاعتبار فترات شروق وغروب النجم ومدى وضوحه وتلألؤه، والغريب في الأمر أن هناك تشابهًا إلى حد التطابق أحيانًا بين هذه النجوم المستخدمة في معظم الولايات التي تتخذ من نظام الأفلاج سبيلا لري المزروعات، ولكن قد تزيد أو تنقص في ولايات أخرى، ومن أشهر النجوم المستخدمة لتوزيع مياه الفلج الدبران والثريا والصارة الأولى والصارة الثانية والغراب والكوي وغيرها من النجوم والتي تحمل إلى جانب المسمى المحلي أسماء علمية معروفة في كويكبات مختلفة تنم عن دراية واسعة لدى العمانيين عند اختيار هذه النجوم، فلم يكن اختيارها صدفة أو عشوائيا بل كان بدراسة مستفيضة.

السماء.. مفاتيح البحر

ويمتد الإرث الفلكي العماني إلى الجانب البحري فلم تكن هذه المعرفة فيه بأقل عن نظيرتها الزراعية، فقد حدد الصيادون مواسم الصيد من خلال مطالع بعض النجوم واتخذوها علامة على بداية هذه المواسم إذ لم تكن النجوم سوى علامة لبدء المواسم وليس سببا لذلك، فموسم «الربعاني» أو «الربع» مثلا يبدأ مع ظهور نجم سهيل وهو موسم تميل فيه درجة الحرارة للانكسار، ويعد موسما مهما لصيد أسماك الشعري والكنعد والجيذر والخباط وغيرها من الأنواع الأخرى، أما في بزوغ نجم الكوي وحينها يكون الطقس أكثر برودة فيكون موسما لصيد القد والعندق والجرور، وقِس على ذلك مواسم الصيد المختلفة طوال العام والتي حدد بدايتها ونهايتها بنجوم معروفة لدى الصياد العماني، كما أنهم -ومن خبرتهم الطويلة في البحر- عرفوا مواسم ضربات البحر وتجنبوا فيها الخروج للصيد أو التجارة؛ لما تحمله من مخاطر على حياتهم، وتعد ضربة الشلي (نجم الشعرى والبعض يعتبر الشلي هو نجم العيوق) والتي تكون عادة في شهر يونيو هي الأقوى بين الضربات المعروفة عند أهل البحر وقد جاء ذكر هذه الضربة في العديد من كتب النواخذة العمانيين. وليست ضربة الشلي هي الوحيدة التي حددها البحّارة، بل إنهم ذكروا ما يفوق العشر ضربات مثل ضربة اللكيذب وتكون في أواخر شهر أكتوبر، واللكيذب هو نجم المفرد الرامح في كوكبة العواء، وضربة اللحيمر (السماك الرامح) في نهاية شهر أكتوبر، وضربة الشولة (في كوكبة العقرب) في بداية شهر يناير.

إن هذه الخبرات العلمية في علوم البحر وفنونه إلى جانب معرفتهم بأساليب السفر والترحال بين الموانئ المختلفة واعتمادهم على النجوم لمعرفة الطرق والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر جعلت من الإرث الفلكي الذي خلّده الأجداد منهجا يحتذى به في تسخير العلم لتسيير أمور الحياة، كما أسست لمنهج بحثي طور من هذه الأساليب سواء زراعية كانت أم بحرية للتوافق مع التغير الذي عاشه الإنسان العماني لقرون عديدة.

إن توثيق هذا الإرث المادي وحفظه أصبح أهمية لا يمكن تأجيلها لأن الحضارة والمدنية الحديثة تسلب من هذا الرمز المعرفي مكانته العلمية وتجعل منه نوعا من الترف المعرفي الذي لا يُلقى له بال ولا يحسب له حساب مما يؤدي إلى اندثاره مع تعاقب الأجيال.

وقد ساهم الموقع الجغرافي لسلطنة عمان ومرورها بفترات طويلة من الاستقرار في نشوء حركة علمية واسعة وبروز الكثير من العلماء في شتى مجالات العلوم، وعلى عكس ما هو شائع لم يكن البحث العلمي لدى العمانيين مهتما فقط بالنتاج المعرفي في الجانب الديني واللغوي والعلوم الإنسانية الأخرى بل تجاوزه إلى العلوم الطبيعية كعلوم الفلك والرياضيات والطب والهندسة وغيرها من جوانب العلوم المختلفة، ففي علم الفلك (على سبيل المثال لا الحصر) نجد العديد من أسماء العلماء العمانيين الذين صاغوا معرفتهم الفلكية شعرا ونثرا في هذا المجال منهم الشيخ عمر بن مسعود المنذري صاحب كتاب (كشف الأسرار المخفيّة، في علوم الأجرام السَّماويّة، والرُّقوم الحَرْفيّة) وهو كتابٌ في علم الفلك؛ ومن المؤلفات النظمية القصيدة اللامية السليمانية في المنازل القمرية الشامية واليمانية لأحمد بن مانع الناعبي، ومن المؤلفات المشهورة في علم الفلك والبحار كتاب (الفوائد في علم البحر والقواعد) للبحارة العماني أحمد بن ماجد السعدي الملقب بأسد البحار الذي ابتدأه بأهمية علم الفلك وما ينبغي على البحّارة معرفته من النجوم ومطالعها واتجاهاتها، كما أنه وصف الاتجاهات بناء على مطالع ومغارب النجوم، وله مؤلفات نظمية شرح فيها خبرته الفلكية وسخّرها لمعرفة الطرق والموانئ في شتى أصقاع الأرض.

د. إسحاق بن يحيى الشعيلي رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلكية العمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علم الفلک فی علم

إقرأ أيضاً:

مركز الفلك الدولي يتوقع بداية شهر رمضان فلكيا في 1 آذار

سرايا - توقع مركز الفلك الدولي أن يكون يوم السبت 1 آذار المقبل، هو غرة شهر رمضان المبارك في معظم دول العالم الإسلامي، بناءً على الحسابات الفلكية المتعلقة برؤية هلال رمضان 1446 ه

ووفقًا لما صرح به مدير مركز الفلك الدولي محمد شوكت عودة، فإن دول العالم الإسلامي ستتحرى الهلال مساء يوم الجمعة 28 شباط 2025، حيث ستكون رؤيته ممكنة باستخدام التلسكوب في مناطق غرب آسيا، ومعظم إفريقيا، وجنوب أوروبا، بينما سيكون بالإمكان رؤيته بالعين المجردة في أجزاء واسعة من القارتين الأميركيتين.
وأشار عودة إلى أنه نظرًا لحدوث الاقتران قبل غروب الشمس، وغروب القمر بعد غروب الشمس في جميع مناطق العالم الإسلامي، فإنه من المتوقع أن تعلن غالبية الدول الإسلامية يوم السبت 1 آذار غرة لشهر رمضان المبارك، كما جرت العادة في مثل هذه الظروف الفلكية.





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 1543  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 14-02-2025 10:52 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
قتيل و20 مصابا بحادث دهس في ميونخ الألمانية بريطانيا .. اكتشاف "مرعب" لـ 170 قنبلة تحت ملعب أطفال سَعْد بَلع ( إبلع ) في الموروث الجمعي بالمشرق العربي تطوير حبوب خاصة بالأغنياء لإطالة العمر شاهد بالفيديو والصور .. الملك يصل عمان والأردنيون... الملك يصل ارض الوطن وسط استقبال شعبي حاشد الملك يشكر الأردنيين: "أستمد طاقتي وقوتي... خطوبة زين الشرف ناصر جودة كريمة الأميرة سمية بنت... "مركز الفلك الدولي": غرة شهر رمضان في هذا... اليمن .. مقتل قيادي سعودي بارز في...مصادر لـ رويترز: السفارات الأميركية تستعد لخفض عدد...الحكومة الأميركية تبدأ موجة فصل جماعيغارات على جنوب لبنان وخطة فرنسية لتسريع انسحاب إسرائيلسلطات الاحتلال تترقب الإفراج عن ثلاثة محتجزين لدى...لبنان يحيي الذكرى الـ 20 لاغتيال رفيق الحريري على...ماكرون: سنقدم 50 مليون يورو لجهود الاستقرار في سورياحماس تطالب ببدء مفاوضات المرحلة الثانية وترفض...سفارات الولايات المتحدة تستعد لخفض عدد الموظفين ضمن... نجاة الفنان المصري كمال أبو رية من "حادث... بعد التهديد .. ياسمين عبد العزيز تحيّر الجمهور... ريم البارودي تتحدث للمرة الأولى عن أزمتها مع هذا النجم بعد خروجها من السجن .. مفاجأة غير متوقعة من دنيا بطمة حقيقة زواج مايا شيحة من رجل أعمال شهير تنس .. أنس جابر تودع بطولة قطر المفتوحة من الدور ربع النهائي بالفيديو .. الحوامدة في لقاء مع "سرايا": لن اعود لرئاسة الوحدات الا بمجلس نصفه من رجال الاعمال منتخب الشباب لكرة القدم يخسر أمام السعودية بكأس آسيا "اطردوا إسرائيل" .. رسالة جماهير سيلتك في ليلة الأبطال وفد اتحاد المبارزة الأردني يغادر للمشاركة في معسكر تدريبي دولي في أنطاليا عملية تجميل فاشلة تحول وجه امرأة إلى "كابوس مرعب" محامي يقتل سيدتين ويدفنهما داخل منزله في مصر تعرف على قصة رجل واجه أكثر وفاة مؤلمة في التاريخ لماذا تتجنب الطائرات التحليق فوق المحيط الهادئ؟ مع اقتراب عيد الحب .. تحذير من عمليات احتيال رومانسي على فيسبوك لعب فوق الخطر .. اكتشاف قنابل تعود للحرب العالمية في حديقة أطفال دراسة: تغير المناخ يضعف موجات البرد القارس 3 قتلى في "هجوم مسلح" داخل متجر لبيع المستلزمات الطبية في تركيا جريمة مروعة .. امرأة تقتل زوجها بمساعدة عشاقها السبعة في العراق زلزال بقوة 5.2 درجات شمالي المغرب

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • نائب التنسيقية: دول كبرى بنت نهضتها بشكل شبه كامل على ريادة الأعمال
  • كمية الطعام أم توقيت تناوله؟.. ما الأفضل في التحكم بمرض السكري؟
  • الراعي: "نحن بحاجة إلى نشر حضارة المحبة في لبنان"
  • وزير الزراعة الإيطالي : مصر صاحبة حضارة عظيمة قدمت للعالم الكثير
  • وزير الزراعة الإيطالي: مصر صاحبة حضارة عظيمة قدمت للعالم الكثير
  • حظك اليوم وتوقعات الفلك الأحد 16 فبراير 2025.. أرباح لـ4 أبراج
  • مضاد للأكسدة والسرطان.. ماذا يحدث للجسم عند تناول الرمان يوميًا؟
  • هل يجب غسل التونة قبل تناولها ؟ احذر من هذا النوع
  • جمعية الفلك السودانية تحدد أول أيام رمضان
  • مركز الفلك الدولي يتوقع بداية شهر رمضان فلكيا في 1 آذار