هل عاد العصر الذهبي للتخطيط الإستراتيجي؟
تاريخ النشر: 22nd, October 2024 GMT
اكتسب التخطيط الاستراتيجي أهمية كبيرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وذلك بعد أن غادرت علوم التكتيك والاستراتيجية مجالها الأول في العسكرية وبدأت تزحف للقطاعات الأخرى التي استنسخت مفاهيمها وممارساتها في العمليات المؤسسية، وشهدت فترة الثمانينات أوج انتشارها مع الطفرة الشاسعة لتبني المعرفة والابتكار، وقد كانت تلك الحقبة مميزة؛ فهي الفترة الزمنية التي بدأت فيها الاقتصاديات المتقدمة بحصاد ثمار الاستثمار في البحث العلمي والابتكار، ومع تسارع التقدم العلمي والتكنولوجي تراجعت مركزية التخطيط الإستراتيجي، وليس ذلك لأن العناصر الإستراتيجية أقل أهمية في الوقت الراهن، ولكنها أصبحت متأصلة في العمليات المؤسسية والقطاعية بحيث لم تعد كافية للتميز، ولكن هناك نقطة فاصلة وهي تكمن في مهارات وقدرات الفكر الإستراتيجي، والتي يمكنها أن تصبح حاسمة ومميزة وتنافسية لعودة أهمية التخطيط الاستراتيجي في المستقبل الرقمي.
تعالوا نعود لسنوات قليلة مضت، ونتذكر كيف عصف وباء «كوفيد-19» بمنظومات العمل، وأحدث ارتباكًا في الخطط الاستراتيجية ذات المدى الطويل، حتى أن الخطط السنوية كانت تُعد غير مجدية مع تصاعد المستجدات بشكل متواصل، وبرغم أن تداعيات هذه الجائحة قد بدأت فعليًا في الانحسار التدريجي منذ بدأت عملية توزيع اللقاحات إلا أن العودة الكاملة لمرحلة ما قبل الوباء هي في حكم المستحيل، فقد تغيرت معالم الحياة ومتطلبات سوق العمل، وكذلك تغير مفهوم التخطيط المستقبلي، ومعيار الإطار الزمني للخطط، ومن المرجح أن تحتاج الإستراتيجيات المؤسسية والوطنية إلى التركيز ليس فقط على العناصر التقليدية، مثل رسم الرؤى الطموحة والأهداف والمبادرات، بل وأيضًا على بناء مهارات وقدرات وفلسفة تتماشى مع واقع العصر مثل القدرات المتعلقة بالبيانات والرقمنة والابتكار، وبذلك فإن الحاجة ملحة إلى احتضان عناصر جديدة للتخطيط الإستراتيجي من أجل إيجاد الميزة التنافسية المنشودة، وإعادة رسم الأهداف مقابل تعريف أوسع وأشمل للنجاح والفشل، وإدراك الأبعاد الكاملة للفرص والتهديدات التي تواجه هذه الخطط على ضوء التقنيات المتطورة، وما يصاحبها من ظهور المنافسة غير التقليدية التي تفرضها انضمام الآلة والذكاء الاصطناعي إلى سوق العمل، واتساع نطاق المستفيدين والشركاء مع العولمة. إذن لم يعد التخطيط الاستراتيجي التقليدي بأدواته الكلاسيكية قادرًا على اللحاق بالتقدم المتسارع، وخصوصًا بعد أن امتدت الأتمتة لتشمل جميع نظم التفكير الاستراتيجي وصناعة القرار، وهذا يقودنا إلى النقطة المحورية هنا، وهي مدى إدراك قادة العمل بأن عالم ما بعد الجائحة يحتاج إلى التركيز على ثلاثة محاور أساسية لدعم التخطيط والتنفيذ السليم وهي تتضمن الإجابة عن ثلاثة أسئلة بطريقة موضوعية واستشرافية وهي: هل يوجد معيار واضح وقائم على الحقائق لتقييم القدرات الرقمية؟ وهل قوة البيانات والتحليلات متوفرة لدعم عملية صناعة القرارات المستنيرة؟ وما مدى قوة سلسلة القيمة في الابتكار مقابل النماذج المعيارية؟ وهذه الجوانب هي التي تحدد قدرة المؤسسات على البقاء، واتخاذ القرارات بشكل صحيح وملائم للوصول الاستدامة، لأن التخطيط الاستراتيجي الجيد هو في الأصل مُمكن أساسي في محور إكساب المؤسسات سمة الاستباقية بدلًا من أن تكون تفاعلية في تشكيل مستقبلها؛ لأنه يسمح برسم الأحداث وتوقعها والتأثير عليها، وليس مجرد الاستجابة للتأثيرات والتداعيات التي تفرضها، وبالتالي، تمنحها القدرة على تشكيل اتجاهاتها المستقبلية والتقليل من المخاطر التي تصاحب قراراتها الحاسمة، وهي نقطة مهمة في إعادة الأهمية للتخطيط الإستراتيجي. وهذا يعني أن التخطيط الإستراتيجي بحاجة إلى إعادة تشكيل ليتلاءم مع بيئة الأعمال اليوم، لأن الحاجة إلى رسم مسارات العمل النموذجي هي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، والأساليب التقليدية في وضع الخطط والإستراتيجيات لم يُعد لها مكان، فقد فرض عالم اليوم أهمية تحقيق الملاءة والرشاقة لمواكبة متطلبات السرعة والجودة، ولتسهيل البقاء على المسار الصحيح في العمل في الوضع الراهن وفي المستقبل، وهذا يستوجب الالتفات إلى تطوير جيل جديد من المخططين الإستراتيجيين الذين يمتلكون الرؤية المستقبلية الواثقة، ويمسكون بزمام التكنولوجيا، ولديهم الإلمام الكافي بالمهارات العلمية والإدارية، ولا تنقصهم ثقافة العمل بالانفتاح على التطور وتقبل الأفكار، ولا نبالغ إذا قلنا بأن صناعة هذا الفكر وهذه الثقافة المعاصرة للتخطيط هي بمثابة الفارق الحقيقي في حفظ واستدامة الميزة التنافسية في عصر أصبحت فيه الأعمال والثقافات تتجه نحو الانغماس العالمي، وأصبحت القدرة على بناء الخطط الأصيلة التي لا تستنسخ تجارب أخرى مماثلة من أهم نقاط القوة الاستراتيجية. إن رسم الخرائط الاستراتيجية، ومقارنة الأداء مقابل المعايير المرجعية، وإجراء التحليل التنافسي، وتقييم القوة النسبية هي جميعها محاور وظيفية للتخطيط الإستراتيجي، وتقوم بها المؤسسات بغض النظر عما إذا كانت تمتلك قوة الاستشراف المستقبلي، أو إنها تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف على المدى القصير، وتكمن النقطة المِفْصَلية هنا في الانتقال إلى ما هو أبعد من مجرد تصميم خارطة الطريق، فهي تسعى لجلب المواهب والمهارات والقدرات لدعم الأدوار الجديدة للتخطيط الإستراتيجي، وكسر الصوامع والقوالب التي رسمت الكثير من الحدود بين قادة الإستراتيجيات والفرق التنفيذية، مما أدى إلى تحويل المهام التخطيطية إلى مجرد نماذج متماثلة للتشغيل وقياس الأداء، ويجب على المخططين ومتخذي القرارات توسيع نطاق اختصاصهم إلى ما هو أبعد من مجالهم التقليدي، وتمكين البعد الاستباقي للوصول للرشاقة في التكيف مع المتغيرات، وتقليل الاستجابة والبقاء في الحالة التفاعلية، وهي مرحلة متقدمة من الإجادة في التخطيط الإستراتيجي وتتطلب إضافة قدرات جديدة على مستوى التقنيات المتقدمة، وتوظيف البيانات، واستقراء مختلف السيناريوهات الطارئة أو غير المتوقعة مثل الأوبئة وغيرها، لأن معرفة ما يجب التركيز عليه في الحاضر وما يمكن تأجيله للمستقبل القريب قد يكون أمرًا صعبًا، ولكنه من المتاح توجيه أدوات التخطيط الإستراتيجي لتعريف الاتجاهات الناشئة، والانتفاع منها مثل تقنيات الذكاء الاصطناعي، فالأمر كله يتعلق بالبقاء في صدارة الاتجاهات، والاستفادة من القيمة المستقبلية اليوم، فالمستقبل قد أصبح أقرب ما يكون إلينا، ويمكن صناعته من خلال التوأمة بين التخطيط النموذجي، وبين تمكين الأنشطة التشغيلية، والتكتيكية، والاستراتيجية. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التخطیط الاستراتیجی التخطیط الإستراتیجی للتخطیط الإستراتیجی
إقرأ أيضاً:
عيد الفطر في مصر عبر العصور.. منذ الفتح الإسلامي حتى اليوم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
عيد الفطر في مصر مناسبة دينية واجتماعية وثقافية وطقس شعبي يتجدد في كل عصر، يحمل في طياته مظاهر الفرح والتقاليد الفريدة التي تعكس روح المصريين، ومنذ دخول الإسلام إلى مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، تطورت احتفالات العيد عبر العصور، حيث كان لكل فترة تاريخية طابعها الخاص، ومظاهرها المميزة التي شكلت الموروث الشعبي والرسمي لهذا اليوم المبارك،
ورغم مرور القرون، بقي عيد الفطر في مصر مناسبةً تمزج بين الروحانية والفرح، حيث حافظ المصريون على طقوسه الدينية، وأضافوا إليه لمساتهم الخاصة، ليبقى يومًا ينتظره الجميع بكل حب وسعادة، فهو يوم الفرح بعد الصيام، ويوم اللمة العائلية والبهجة التي تملأ القلوب والشوارع.
عيد الفطر في الخلافة الراشدة (فتح مصر سنة ٢٠ هـ / ٦٤١ م)
دخل الإسلام مصر على يد القائد عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان المصريون آنذاك حديثي العهد بالإسلام، لذا كانت احتفالاتهم بالعيد بسيطة وقريبة من روح الصحابة والتابعين.
شملت مظاهر الاحتفال في هذه الفترة، إقامة صلاة العيد في الساحات المفتوحة، خاصة في فسطاط مصر، وهي العاصمة الأولى للإسلام في البلاد، وكذلك التكبير والتهليل بعد صلاة الفجر وحتى أداء الصلاة، وإخراج زكاة الفطر للفقراء والمحتاجين، وهو ما عزز روح التكافل الاجتماعي بين المسلمين الجدد، وتبادل التهاني بين المسلمين وارتداء الملابس النظيفة والجديدة، وإقامة ولائم للفقراء والمساكين، حيث كان عمرو بن العاص يحرص على توزيع الطعام بنفسه.
عيد الفطر في العصر الأموي (٤١ - ١٣٢ هـ / ٦٦١ - ٧٥٠ م)
مع تولي الأمويين حكم مصر، بدأت الاحتفالات تأخذ طابعًا أكثر تنظيمًا، حيث حرص الولاة على إبراز العيد كمناسبة رسمية، ومن أبرز مظاهر العيد في العصر الأموي، إقامة صلاة العيد في الساحات الكبرى، مثل جامع عمرو بن العاص، وإعلان العيد رسميًا من دار الإمارة، حيث يجتمع الناس أمام مقر الحاكم لسماع التهنئة الرسمية، وارتداء الملابس الجديدة، وكانت الأسواق تمتلئ بثياب العيد المخصصة للأطفال والكبار، وكذلك إقامة الأسواق الموسمية،حيث تباع الحلوى والفواكه والسلع النادرة، وإقامة حلقات الإنشاد الديني والطرب العربي، حيث بدأ بعض المصريين في إدخال عناصر احتفالية جديدة إلى العيد.
عيد الفطر في العصر العباسي (١٣٢ - ٣٥٨ هـ / ٧٥٠ - ٩٦٩ م)
شهد العصر العباسي اهتمامًا بالمظاهر الرسمية في العيد، وكانت الدولة العباسية تولي اهتمامًا خاصًا بالمناسبات الدينية، ومن مظاهر الاحتفال في العصر العباسي، إقامة مواكب رسمية للولاة بعد صلاة العيد، حيث يخرج الحاكم على رأس موكب من الفرسان والعلماء، وإقامة أسواق العيد، حيث تباع الحلويات الخاصة مثل المعجنات المحشوة بالعسل والتمر، وإقامة ولائم ضخمة في قصور الولاة، تُدعى إليها شخصيات بارزة من التجار والعلماء، وكذلك الاهتمام بتوزيع الصدقات، وكانت الدولة توزع أموالًا للفقراء، إضافة إلى زكاة الفطر.
عيد الفطر في العصر الفاطمي (٣٥٨ - ٥٦٧ هـ / ٩٦٩ - ١١٧١ م)
الفاطميون هم الأكثر تأثيرًا في تشكيل تقاليد العيد في مصر، حيث تحولت المناسبة إلى احتفال شعبي ضخم، وابتكروا تقاليد لا تزال قائمة حتى اليوم، ومن مظاهر الاحتفال في العصر الفاطمي، موكب العيد الرسمي حيث كان الخليفة الفاطمي يخرج بموكب ضخم إلى المصلى، تحيط به الأعلام والجنود، وكذلك صناعة كعك العيد، حيث كانت الدولة توزع آلاف المعجنات المحشوة بالسكر والمكسرات، وإقامة مهرجانات العيد في الشوارع، والتي كانت تشمل العروض الفنية، والحكواتي، والمهرجين، وتوزيع ملابس العيد، حيث كانت الدولة تصرف كسوة جديدة للفقراء في هذه المناسبة.
عيد الفطر في العصر الأيوبي (٥٦٧ - ٦٤٨ هـ / ١١٧١ - ١٢٥٠ م)
بعد انتهاء الحكم الفاطمي، حرص “صلاح الدين الأيوبي” على إضفاء طابع ديني وروحاني أكثر على العيد، ومن مظاهر الاحتفال في العصر الأيوبي، الاهتمام بالخطبة الدينية في العيد، حيث كان العلماء يلقون خطبًا تحث الناس على التقوى والشكر، وإقامة موائد الرحمن في القلاع،حيث تُقدم الأطعمة للمحتاجين، مع الاحتفاظ بعادة كعك العيد، لكنها أصبحت تصنع في المنازل أكثر من القصور.
عيد الفطر في العصر المملوكي (٦٤٨ - ٩٢٣ هـ / ١٢٥٠ - ١٥١٧ م)
حول المماليك العيد إلى مناسبة استعراضية ضخمة، وتميزت احتفالاتهم بالبذخ، ومن مظاهر الاحتفال في العصر المملوكي، إقامة سباقات الخيول في ساحات القاهرة،حيث يتبارى الفرسان في عروض قتالية، وإقامة ولائم كبرى للفقراء، وكانت تشمل اللحوم والخضروات والحلوياتـ وكان أبرز تلك المظاهر خروج السلطان في موكب فاخر، ترافقه الطبول والموسيقى العسكرية.
عيد الفطر في العصر العثماني (٩٢٣ - ١٢١٣ هـ / ١٥١٧ - ١٧٩٨ م)
لم يضيف العثمانيون الكثير إلى احتفالات العيد، لكنها ظلت بطابع رسمي تقليدي، ومن مظاهر الاحتفال في العصر العثماني، حضور الوالي صلاة العيد، ثم استقبال المهنئين في القلعة، واستمرار تقاليد كعك العيد وزيارة الأضرحة، وكذلك ظهور فرق المولوية الصوفية، التي كانت تؤدي عروض الذكر في المساجد.
عيد الفطر في العصر الحديث (١٨٠٥ - حتى اليوم)
مع تطور العصر، دخلت وسائل جديدة في الاحتفال بالعيد، خاصة مع دخول التكنولوجيا ووسائل الإعلام، ومن مظاهر الاحتفال في العصر الحديث، إذاعة تكبيرات العيد عبر مكبرات الصوت، وإعلان رؤية الهلال رسميًا، وانتشار عادة "العيدية"، حيث يمنح الكبار للأطفال نقودًا للاحتفال، وخروج العائلات إلى الحدائق والمتنزهات، وتحضير الأطعمة التقليدية مثل الفسيخ والكعك، وظهور وسائل الإعلام في الاحتفالات، حيث تبث الإذاعة والتلفزيون برامج ترفيهية خاصة بالعيد.