| | | توقف الكاتب الكويتي سعود السنعوسي عن النشر منذ ما يقارب التسع سنوات، انهمكَ خلالها فـي كتابة ملحمة «أسفار مدينة الطين» فـي ثلاثة أجزاء، وهي تلك التي تقف على خلفـية التاريخ الكويتي، فـي مزج سحري مع الخيال والميثولوجيا؛ إذ إن الرواية تتطرق لمراحل عديدة من تاريخ الكويت قبل بناء السور وبعده، معركة الجهراء مع إخوان من طاع الله، الإرسالية الأمريكية ودورها التبشيري فـي الكويت، التنوع والتعدد داخل مجتمع هذه الديرة الصغيرة، من حضور لليهود والمسيحيين والمسلمين، والتفاوتات الطبقية داخل هذا المجتمع الصغير، ورحلات الغوص وتجار المدينة ومن يدين بالمال لهم.
يستثمر السنعوسي القص والخيال من أجل إحياء أساطير شعبية، لطالما حضرت فـي المخيال الشعبي الكويتي، لكن لم يُعرف عنها امتدادها والظروف التي نشأت فـيها، يراهن السنعوسي على أن الأدب هو من يخلق الواقع، لذلك إن ظننت أثناء قراءة العمل الروائي بأنك تقرأ حقائقَ تاريخية فحسب، فهذه قراءة تبسيطية للغاية، ثم وما التاريخ إن لم يكن ما يقرأه الناظر إليه من هذه اللحظة، ما التاريخ إن لم يكن سردًا محكمًا فحسب! ويستند السنعوسي فـي أدواته هذه إلى السحر والفنتازيا، يصبح هذا المكان الصغير، محكومًا بنبوءة «الصاجة» وهي المرأة التي يُكشف لها الطالع، فترى هذه المرأة ما سيحدث للكويت من تحولات، وما سيجتثُ منها لتكون كويت المستقبل. وبذلك تلقي تعاويذ ملغزة، على شخصيات العمل، أن تدأب على حلها وذلك عبر انخراطها فـي واقعها المعيش. فـي الجزء الثالث الذي صدر حديثًا عن دار مولاف ووكالة كلمات فـي الكويت، تصبحُ المواجهة مع الماضي والمستقبل أكثر احتدامًا، عندما تسافر بعض شخصيات العمل عبر الزمن من الديرة عام 1920 إلى عام 1990 وتضع قدمها للمرأة الأولى على نهر الأسفلت المديني فـي مدينة ما بعد النفط «وسليمان يتحسس الأسفلت والرصيف بقدميه الحافـيتين، كأنما يقف على ضفة نهر من قطران يابس». ومن ذلك التاريخ مرورًا للمدينة التي تحكمها البيروقراطية، والمواصلات التي لا يستخدمها سوى الوافدين من الطبقات العاملة، ومنع الكحول فـي كويت الستينيات وعواقبه، والنظر فـي تاريخ امتهان الحِرف لدى أهل الجزيرة العربية، فـي حفر أنثربولوجي يتورط بالسرد ولا يُقالُ دونه. ما يثير الاهتمام بشكل خاص، هو أن آلة الزمن فـي سرد السنعوسي هي «البحر» فعبر «التبة» فـيه يتغيّر الوقت والزمان، والمعروف أن التبة، هي «فـي اصطلاح الغواصين تعني الغطسة الواحدة أو النزول إلى قاع البحر للبحث عن اللؤلؤ وقطفه مرة واحدة» وبهذا تصبح مفردات الكويت الأولى هي مستقبلها القادم، ونقطة ارتكازها وامتدادها، فـي سرد ذكي ومحكم وحساس للغاية. ففـي الصفحة 102 يكتب السنعوسي على لسان صادق بو حدب «يخرج الرجل من موجة» لنرى كيف أن كل الثلاثية هي احتفال ومساءلة للبحر، الخليج العربي على وجه التحديد، حيث يحدث كل شيء؛ العبور فـي الزمن، السفن التي تنقل العبيد من زنجبار، الموت لسداد الديون فـي رحلات الغوص، كل شيء يبدأ من البحر وينتهي إليه. يجرب السنعوسي على صعيد الشكل؛ عندما يقرر طمس الكثير من العبارات بالسواد فـي الجزأين الأول والثاني اللذين صدرا فعلاً، ولم توافق الرقابة فـي وزارة الإعلام على نشرها -فـي الرواية لا الواقع-، فتظهر الجملة المطموسة مع هامش فـي أسفل الصفحة من تعليق موظف الرقابة. هذه اللعبة التي تفسح لنا المجال كقراء لاستنباط المحذوف أولاً، وتسمح لسعود السنعوسي وجيل كامل فـي الكويت من مناهضة الرقابة على الكتب التي دفعت مجموعة من المثقفـين لتبنيها خلال السنوات الماضية، والترافع حولها أمام المحاكم قبل أن تحكم لهم المحكمة بالرقابة اللاحقة على الكتب فـي تطور تجاوز رفضها السابق على نشرها وتداولها. ينقد السنعوسي إذن هذه الممارسات ببراعة. أما الجزء الثالث فنحن نعيش لحظة كتابته، مشهدًا فمشهد، وتوقف الكاتب الكويتي صادق بو حدب عن الكتابة، وبالتالي توقف شخصيات 1920 عن الوجود، كأن الكتابة هي من تحييهم فحسب. يصبح صادق بو حدب فـي هذا الجزء ممسوسًا بالكتابة، فما الذي تعنيه؟ وما الذي يدفعنا للكتابة؟ ما الذي يمكن أن يمنعنا عنها؟ وتُرى عمَّ نكتب بالضبط؟ وهل يعرف الكاتب عن عالمه الذي يخترعه شيئًا خارج الكتابة؟ هل تعيش كائنات الكاتب فـي الخارج؟ هل يمكن له أن يتعثر بها؟ |
|
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. الحلم أكسجين الحياة
#الحلم #أكسجين_الحياة
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ ٢٣ – ٢ – ٢٠٢١
أحمدُ الله كثيراً أن الدماغ هو الجغرافيا الوحيدة التي لا تخضع لتحديثات “جوجل”، والذكريات القديمة هي الحارات الغائبة عن “جي بي أس” الأحداث الآنية…
في الحلم تأتيني الطفولة بكل تفاصيلها ، برائحتها،بعفويتها، ببساطة همومها، ترسم لنا دارنا، عندما كانت شجرة التوت طفلة مثلي ،وبيتنا الطيني له رائحة خُمرة العجين ، في الحلم أرى أخوتي جميعاً قُربي ، أرى ابريق الكاز الحديدي،وصوبة البواري والشبّاك الشمالي ،و”منسفة الخبز” والبنّورة البيضاء ، أرى وجه أمي الصافي كماء البئر ،شعرها الموشّح بالشيب الطفيف ،وأسمع صوتها وهي تقرأ المعوذات قبل النوم ،أرى أمي المقاتلة التي لا تمرض ،ولا تضعف،ولا تتعب، ولا تستسلم، ولا تموت …في الحلم أرى مرآة أبي الصغيرة “وعدّة الحلاقة”، أرى فروته “بنيّة اللون” ذات البطانة الممزقة ، أرى مصحفه الأخضر وحروفه الكبيرة المخصص لــ”بُعد النظر”، أرى برواز لمدينة بيروت بالأبيض والأسود ، وبرواز آخر لشجرة أرز عالية تحتها سيّارة قديمة ،لا أعرف من أهدانا هذين البروازين لكنهما كانا بمثابة “ناسا فضائنا وخيالنا” قبل النوم…
في الحلم ما زال جيراننا القدامى أحياء يرزقون ،بيوتهم الدافئة تحيط بنا، مداخن صوباتهم ، تبغ طوابينهم ، حتى أقنية الماء التي كانت تشق الطرق فوق بيتنا أذكرها جيداً، في الحلم لا وجود للبيوت الجديدة ،ولا للإسمنت الذي قطع شريان الأرض ،ولا لضجيج الحياة ونزق الناس..
مقالات ذات صلة الأمن: مطلق العيارات النارية لديه سجل جرمي ومطلوب على قضايا عدة أبرزها المخدرات 2024/11/24
في الحلم أرى ساحة دارنا، ودجاجات البيت المرقّطات ،أرى الديوك الحمراء الملوّنة،وهديل الحمام فوق الغرف ، أين اختفت سلالات كل هذه الكائنات لا أعرف؟؟…في الحلم أرى العشب الطويل في الحاكورة، سطح الغرف المشرّب بالماء ، اللوزة المغرورة ، في الحلم أسمع اهتزاز “الخويّخة” ، وحفيف شجرة الليمون على زجاج الغرفة الشمالية ، أرى دفاتر النسخ التي كانت في حقيبتي وخطّي الغليظ المقطّع بين الكلمات ،وأشتمّ دفاتري ،وأشتم خشب أقلم الرصاص..
في الحلم ، لا يتعكّر صفوي أبداً، لا أذكر أني بكيت في حلم ، لكني في الواقع أبكي كل يوم ، في الحلم أعيش حياتي مرّة أخرى ، وسادتي شهادة ولادتي ،هي أملي الأوحد، فهي التي تجمعني بكل الذين رحلوا بالصوت والصورة والرائحة والعمر البعيد، وسادتي هي النافذة الوحيدة التي لا تأخذ مني تذكرة لفرحي..تمنحني أكسجين الحياة ،مجرّد أن أغمض عيني على بقايا الرضا…
أيها الحلم الأصيل ، يا ذاكرة الماضي ، ابق كما أنت..كي لا نموت مرتين!.
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#146يوما
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي
#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي