هل أخطأ الفلسطينيون لأنّهم قاوموا مستعمريهم؟!
تاريخ النشر: 22nd, October 2024 GMT
تذكر بعض المصادر الفلسطينية، أنّ الفلسطينيين خسروا في الشهور الستة الأولى من الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، قبل توقفها المؤقت، 3 آلاف شهيد من المجاهدين، و8 آلاف بين جريح وشهيد من المدنيين. المصادر ذاتها، تذكر أنّ خسائر الفلسطينيين بلغت مع انتهاء الثورة، 8 آلاف شهيد من المجاهدين، و18 ألف جريح منهم، و15 ألف شهيد وجريح من المدنيين.
وقد شمل قمع الانتداب البريطاني للثورة نسف أحياء كاملة في المدن مثل اللد وجنين، والقرى (كان هناك قرار بريطاني بنسف مدينة يافا بالكامل بذريعة الرغبة في إعادة بنائها)، ومن القرى التي نسفت أحياء منها: كوكب الهوا وشعب والبروة وطمرة في شمالي فلسطين، وبلعا وفولة وعصيرة الشمالية وطلوزة وزيتا وبرقة وبيت دجن ودير شرف في وسط فلسطين، والقباب في القدس، والدوايمة والشيوخ وحلحول في الخليل، وذلك علاوة على اعتقال الآلاف، وإحراق المزارع، وقطع الأشجار، وإتلاف المؤن، وإهلاك الماشية والدواجن، ونهب البيوت والمحال وممتلكات الفلسطينيين. وبلغ الأمر بالإنجليز إعدام من يجدون في حوزته ولو طلقة رصاص واحدة، وبالفعل أُعدم ثلاثة شبان في طولكرم لمجرد امتلاكهم بضع طلقات من الرصاص.
يمكن تخيّل الإنهاك الذي أصاب المجتمع الفلسطيني (والذي هو مجتمع صغير أصلا قليل العدد) مع نهاية الثورة؛ وبحيث يمكن القول، وبقطع النظر عن الأرقام الدقيقة بخصوص خسائر الفلسطينيين، إنّ بريطانيا أوقعت نكبة هائلة بالفلسطينيين مع العام 1939 مهّدت للنكبة الكبرى عام 1948. ولا يمكن القول إنّ هذه الثورة انتصرت، أو أفضت إلى انتهاء الانتداب البريطاني، أو قطعت الطريق على الاستعمار الصهيوني، ومع أنّنا نملك اليوم الترف الكامل لإعادة التقييم التاريخيّ لثورة الفلسطينيين تلك، بعض من يبدي شفقة زائفة على الثمن الفادح المدفوع في قطاع غزّة اليوم، كان هو ذاته من يعيّر الفلسطينيين أنّ ما دفعوه أقلّ مما دفعته أمم وشعوب أخرىونقد الكثير ممّا رافقها من ممارسات وخطابات، فلا يمكن القول إنّ الفلسطينيين أخطؤوا في ثورتهم، أو كان عليهم الامتناع عنها، أو كان عليهم ألا يكونوا شعبا حيّا، وأن يختلفوا عن كلّ أمّة قاومت مستعمريها؛ بألا يقاوموا هم مستعمريهم.
ومن نافلة القولّ إنّ بعض من يبدي شفقة زائفة على الثمن الفادح المدفوع في قطاع غزّة اليوم، كان هو ذاته من يعيّر الفلسطينيين أنّ ما دفعوه أقلّ مما دفعته أمم وشعوب أخرى. (لا نقول إنّ كل من يحصر خطابه في الثمن المدفوع اليوم هو كذلك، ولذلك قلنا "بعض").
كان للفلسطينيين العديد من المحطّات الكفاحية المسلّحة والشعبية الأقرب للطابع السلمي أو للعصيان المدني، وقاتلوا من داخل بلادهم ومن خارجها، ولكنهم لم يحرّروا بلادهم ولم يحقّقوا انتصارهم ولم يحرزوا إنجازا سياسيّا واضحا لا يحتمل الالتباس، لكن هل يمكن القول إنّ الشعب الفلسطيني كان مخطئا في نضالاته تلك، لأنّ نتيجتها كانت دائما قدرة العدوّ على احتوائها، وكسرها؟ وهل مقاومات الشعوب سوى سلسلة من حلقات الإرادة المتجددة وصولا للحظة الانتصار، التي لا بدّ وأن تُسبَق دائما بالعديد من الانكسارات؟! هل ثمّة مقاومة استعمار في التاريخ شذّت عن هذه الحقيقة؟!
سيُقال بالتأكيد من بعض من لا يكاد يقول شيئا في هذا الوقت سوى نقد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ إنّ الموقف ليس من مبدأ النضال ولا من مبدأ المقاومة المسلحة حتى، ولكن من الحسابات الخاطئة التي تقف خلف تلك العملية، لا سيما وأنّ الثمن المدفوع بعدها من الشعب الفلسطيني المظلوم في غزّة خسارة ضخمة لها مفاعيل عميقة لصالح العدوّ، ولكن بعض من يتذرّع بذلك، هو يقيّم الأمر من جهة النصر والهزيمة، فما دمنا قد هُزمنا فلا بدّ وأنّ القرار كان خاطئا، وذلك لأنّ نتيجة العملية، لو كانت بنحو مختلف، أي لو استدعت تداعيات أكثر خلخلة للعدو وأكثر إفادة للمقاومة والشعب الفلسطيني، لربما نفس ذلك البعض لم يمنح الخسائر الفلسطينية ما تستحقه من الاعتبار! ومثل هذا التصوّر حتما يعود على النضالات كلّها بالإدانة لأنّها لم تُنجِز انتصارا للفلسطينيين (هذا والحرب ما تزال قائمة!).
ليست قضيتنا هي رفض الوقوف النقدي مع عملية السابع من أكتوبر، مع أنّ العملية صارت في ذمّة التاريخ، وسؤال الوقت الآن هو "ما العمل؟"، إذ نقد عملية السابع من أكتوبر بالإلحاح الذي يبدو من بعضهم في هذا التوقيت بالذات، لا يفعل شيئا أكثر من التشويش على إمكانات الإجابة على "ما العمل؟"، دون أن يطرح أيّ مثقف منشغل فقط بنقد عملية السابع من أكتوبر وأصحابها؛ على نفسه سؤالا ناقدا حول عجزه عن مقاربة الحدث القائم الآن ببعديه (الملحمي من جهة المقاومة الأسطورية، والمأساوي من جهة الكارثة الواقعة على الشعب الفلسطيني في غزّة)، من أيّ زاوية أخرى، ودون أن يبيّن الفائدة المرجوّة من دورانه حول الفكرة ذاتها، التي حُفِظت عنه.
بالتأكيد نحن لا نناقش هنا من ينتقد السابع من أكتوبر من موقع العداء للشعب الفلسطيني أو العداء لحركة حماس أو الانحياز للعدوّ، وإنّما ذلك الذي تتحكّم فيه مشاعر صادقة تجاه الكارثة الكبرى التي وقعت بالفلسطينيين في غزّة وما يمكن أن ينبني عليها من إنجاز إسرائيليّ لاحق، ولكنّه والحالة هذه لا يقول شيئا أكثر ممّا هو معروف، سوى مبالغته في اتهام مخالفيه أنّهم لا يقيمون وزنا للكارثة الإنسانية الحاصلة. وهذا اتهام أخلاقيّ ظالم، لأنّه بدوره يتجاهل زوايا النظر المتعددة للحرب، ويتجاهل أنّ التقدير الحقيقي للخسارة العظيمة في غزّة لا يكون فقط بمجرد وصفها أو تحميل عملية السابع من أكتوبر المسؤولية عنها، بل من صور تقدير تلك الخسارة هي نصرة كلّ من وقعت عليه الإبادة والحرب الإسرائيلية بما في ذلك أصحاب السابع من أكتوبر، فبالنظر الأخلاقي الصرف، هل تكون نصرة الفلسطينيين بشتم بعض من تقع عليهم الإبادة، وعزل ذلك البعض عن بقية الشعب المظلوم؟!
بقطع عن النظر عن سؤال التوقيت وقيمة النقد الراهن لحدث صار في ذمّة التاريخ وباتت المسؤولية الواجبة الآن في محاولة المساهمة في تحسين الموقف لصالح الفلسطينيين، هي في كون النقد يتحوّل إلى إدانة، فنقد الحسابات السياسية التي وقفت خلف السابع من أكتوبر شيء، وإدانة أصحاب السابع من أكتوبر شيء آخر، لا سيما مع تحوّل الإدانة إلى موقف ضمنيّ يحرم هؤلاء من حقهم في التعاطف
المشكلة هنا، وبقطع عن النظر عن سؤال التوقيت وقيمة النقد الراهن لحدث صار في ذمّة التاريخ وباتت المسؤولية الواجبة الآن في محاولة المساهمة في تحسين الموقف لصالح الفلسطينيين، هي في كون النقد يتحوّل إلى إدانة، فنقد الحسابات السياسية التي وقفت خلف السابع من أكتوبر شيء، وإدانة أصحاب السابع من أكتوبر شيء آخر، لا سيما مع تحوّل الإدانة إلى موقف ضمنيّ يحرم هؤلاء من حقهم في التعاطف؛ وهم الذين يقاومون الإبادة الواقعة عليهم وعلى بقية أبناء شعبهم.
البعض يفعل ذلك بنحو صريح حينما يجعل بعض من تقع عليه الإبادة مسؤولا عن الإبادة الواقعة على البقية من شعبه من الساخطين المكلومين، وهو فعل تحريضيّ رخيص، مارسه نتنياهو وغالانت صراحة، ومن غير المفهوم أن تكون نصرة الملاحقين بالإبادة بالاتفاق مع نتنياهو وغالانت في تحريضهم أهل غزّة على المقاومين من بينهم!
وينبغي أن تكون هذه المسألة واضحة (أي عدم تحويل النقد إلى إدانة)، وبما يغني عن تكرار الكثير ممّا قلناه عن كون الإبادة عقيدة إسرائيلية لا يتحمّل المسؤولية عنها إلا الإسرائيليون، وكذلك ينبغي أن تكون الأمثلة التاريخية من الممارسة الإسرائيلية نفسها كافية لتبيان أن مستويات العنف الاستعماري متعلقة بإرادة المستعمِر لا بمن يقاومه، وإلا لما قاوم أحد مستعمره، لأنّ المستعمر، أيّ مستعمر، يعمل دائما على جعل كلفة مقاومته أثقل على الشعب الذي يقاومه من كلفة وجود الاستعمار واستمراره.
القضية هنا أنّ النقد الذي يدين المقاوم، لا الذي يراجع حساباته (وبقطع النظر عن مسألة التوقيت)، ويربط عنف العدوّ حتميّا بفعل المقاوم؛ هو يفترض حقيقة أخرى للعدوّ غير عقيدة الإبادة، وغير سياسة رفع كلفة المقاومة، وكما أنّه يبرّئ العدو من هذه العقيدة، فإنّ مآل تصوّره هذا هو الكفّ عن مقاومة العدوّ.
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة النقدي غزة الاحتلال المقاومة النقد طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عملیة السابع من أکتوبر الشعب الفلسطینی ر الفلسطینیین یمکن القول ة التاریخ النظر عن فی غز ة بعض من
إقرأ أيضاً:
كيف إذا صار العجز فضيلة والشرف خِسة؟!
يتسم الدفاع القائم الآن عن موقف الدول العربية إزاء حرب الإبادة الجماعية المستمرّة على غزّة؛ بثلاث سمات أساسية: الأولى تحويل العجز إلى فضيلة، وذلك على التسليم بأنّ هذا الموقف ناجم عن العجز لا عن التواطؤ، والثاني: اتهام الضحية بأنّها المسؤولة مسؤولية حصرية عمّا يجري لها ولبقية الشعب الفلسطيني في غزّة، والثالث: التغافل التامّ عن الفعل الإسرائيلي، أي وكأنّ الضحية تبيد نفسها!
وهذا الخطاب يكاد يكون جديدا في تاريخ القضية الفلسطينية، ولكنه بالضرورة نتيجة حتمية لمسار طويل، بدأ منذ هزيمة العام 1967، وأخذ يعبّر عن نفسه بقوّة منذ ولاية ترامب السابقة، حينما بدا أنّ هناك مشروعا تطبيعيّا يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة، وتعويض إسرائيل عن افتقادها للعمق الاستراتيجي بتذييل المنطقة العربية لها، وقد كان واضحا من ساعتها، أي منذ العام 2017، الاشتغال على بثّ خطاب لا يسوّق للتطبيع بذرائع سياسية بقدر ما يهدف إلى خلخلة أصول القضية الفلسطينية، وتنفير المجتمعات العربية منها ومن أهلها. وقد تصاعدت في تلك الفترة دعايات شيطنة الفلسطينيين، ولم تستند تلك الدعايات إلى كثافة منشورات اللجان الإلكترونية فحسب، ولكن أيضا إلى مثقفين ليبراليين عرب مشهورين، ومؤسسات صحفية وإعلامية ضخمة، وبداهة فإنّ الأوساط المشيخية جاهزة للتشغيل، لتستكمل دور العلمانيين الليبراليين الدنيوي من الزاوية الدينية الأخروية، وهكذا تأكدت القدرة الجبارة لأنظمتنا العربية على جمع الدين المقدس والدنيا المدنسة على قاعدة الحطّ من فلسطين وأهلها!
إذا كان التأسيس للتطبيع بدأ بالتشكيك بعدالة القضية الفلسطينية وحقانية أهلها، فهل يُستغرب بعد ذلك، وفي لحظة كهذه اللحظة، أن يتصلّب هذا الخطاب في نفي مسؤولية المجرم الفعلي عن الإبادة وتحميل المسؤولية للضحية، سواء أكان هذا النفي ضمنيّا أم صريحا؟!
فإذا كان التأسيس للتطبيع بدأ بالتشكيك بعدالة القضية الفلسطينية وحقانية أهلها، فهل يُستغرب بعد ذلك، وفي لحظة كهذه اللحظة، أن يتصلّب هذا الخطاب في نفي مسؤولية المجرم الفعلي عن الإبادة وتحميل المسؤولية للضحية، سواء أكان هذا النفي ضمنيّا أم صريحا؟! إلا أنّه، وبالرغم من وضوح المسار الذي بلغ بهذه المنطقة إلى هذا المستوى من الانحطاط، فإنّ الانحطاط يبقى انحطاطا، ولا يمكن تفهمه مهما كان واضح الأسباب، وإلا لما بقي معنى لا للأخلاق ولا للسياسة، إذ ما المعنى السياسي من الدفاع عن العجز، أو تحويل العجز إلى فضيلة وحكمة؟! وإذا كان مفهوما ألا تتساءل الدعاية الموجهة عن السبب الذي يبقي دول المنطقة عاجزة، ومُلحقة بالسياسات الغربية، بعد كلّ هذه العقود مما يقال إنه استقلال، فإنّه من غير المفهوم ألا تسأل هذا السؤال جهات يفترض أن تكون مشغولة بالإصلاح والتغيير، وإلا فما مبرر وجودها أصلا؟!
وإذا كانت الدول عاجزة، وتمنع شعوبها من فعل أيّ شيء، ولو على صعيد التضامن المرئي، كالمظاهرات، يصير عندئذ أيّ فعل يسعى فيه فرد أو مجموعة إلى تجاوز عجز دولته مدانا، ثمّ تتفاحش الإدانة، لتصل الضحية نفسها، "فما دمنا غير قادرين على إنقاذكم أو التضامن الجادّ معكم، فأنتم مدانون. لماذا تحرجوننا؟! وهل نسيتم أنكم جلبتم لأنفسكم الموت والدمار؟! ما ذنبنا؟!"، اشتم المظلوم لأنك غير قادر على الانتصار له، ثمّ عدّ إلى شيطنته وهو يباد!
هذا الدفاع عن العجز العربي الذي آل إلى تحطيم الضحية والتغافل عن المقترف الفعلي للإبادة، لا تتحمل مسؤوليته الدعاية الرسمية وحدها، بل والعديد من الفاعلين والنشطاء والمثقفين، الذين يفترض أنّهم أقرب إلى الهموم الإصلاحية والتغييرية، واهتموّا بالكتابة عن الحدث، وعجزوا من اللحظة الأولى عن الفصل الواضح بين النقد السياسي لحسابات الضحية، وبين اتهامها بالمسؤولية عن فعل العدوّ مقترف الإبادة الجماعية، وبالرغم مما كان يقال لهم من أنّ هذا الخلط هو تبرئة ضمنية لمقترف الإبادة، وأنّ هذا المجرم قادر على تحويل أدنى أفعال الضحية مهما كانت محدودة ومحسوبة إلى لعنة عليها، فإنّه كان يصعب عليهم فهم ذلك، وهو أمر جعل من هؤلاء، قصدوا أو لم يقصدوا، حلفاء للدعاية الرسمية ولجانها الإلكترونية ومثقفيها المرتزقة ومشايخها العاملين بزر التشغيل.
حينما نقول إنّ الحدث تجاوز السابع من أكتوبر إلى فعل إبادة مستمرّ ومفتوح، وإنّ استمرار هذه الإبادة يندفع بانعدام أيّ فاعلية للدول العربية، فإنّنا لا نعني بذلك رفض نقد حسابات منفذي السابع من أكتوبر، وقد قلتُ في العديد من المقالات إنّ هذا النقد شيء، وإدانة منفذيه شيء آخر، وإنّ هذا النقد شيء والتغافل عن العدوّ طبيعة وبنية وقدرة شيء آخر
وثمّة نقطة توضيحية هنا، فإنّه حينما نقول إنّ الحدث تجاوز السابع من أكتوبر إلى فعل إبادة مستمرّ ومفتوح، وإنّ استمرار هذه الإبادة يندفع بانعدام أيّ فاعلية للدول العربية، فإنّنا لا نعني بذلك رفض نقد حسابات منفذي السابع من أكتوبر، وقد قلتُ في العديد من المقالات إنّ هذا النقد شيء، وإدانة منفذيه شيء آخر، وإنّ هذا النقد شيء والتغافل عن العدوّ طبيعة وبنية وقدرة شيء آخر، إذ إنّه قادر على رفع مستويات توحشه ليفرض زوايا نظر وتقييم على أعدائه تخدم مشروعه وأغراضه، ومن ثمّ من الواجب عدم الاستسلام لإرادة العدوّ الرامية إلى دفع الضحية لإدانة نفسها. كان العدوّ دائما يهدف إلى البلوغ بالضحية إلى أقصى درجات اليأس من جدوى أيّ مقاومة أو فعل تحرري، وقد نجح اليوم في البلوغ بالكثيرين إلى ما يتجاوز ذلك نحو إدانة الذات وتبرئّته.
(كتب أخيرا أحد الفلسطينيين الموصوفين بالعلم الشرعي بأنّ حصار غزّة وتجويعها سببه تحالف مقاومتها مع إيران، وأنّ إسرائيل لا تسعى لاستئصال الفلسطينيين، مستدلا ببقائهم في أرضهم في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 وسماحها من قَبْل للعمال من الضفة الغربية بالعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، متناسيا أنّه يعيش في أكبر معسكر لاجئين في الأرض بسبب حملات الاستئصال والتطهير العرقي عام 1948، قبل أن توجد حماس أو "نظام الملالي في إيران". ولا يمكن للمرء أن يتخيل إمكان الهبوط بالاستعدادات الذهنية لأحدهم بحيث يرفع العداء لمن لم يطلق عليه رصاصة واحدة، بما يفوق العداء لمن يعمل على إبادته بالفعل، بل يبرئ هذا الأخير الذي يبيده. الأمر في الحقيقة يتجاوز الخيال مهما كان جامحا).
والحاصل، أنّ المراد قوله من هذه النقطة التوضيحية، أنّ من تصدّى لهذه الخطابات، أو التفت إلى جوانب أخرى من الحدث، لا يرفض بالضرورة مراجعة حسابات منفذي السابع من أكتوبر، وليس بالضرورة أن يكون ممن يدّعي أنّنا في لحظة انتصار، والأمر ينبغي أن يكون أظهر من أن يستدعي توضيحا، ولكنّ تعمّد الخلط، والهوس بحشر المخالفين في سلة واحدة، والتمركز حول وساوس الذات، في حدث مهول كهذا، يتوقف بصاحبه عند إدانة الضحية، بدعوى لها رداءتها الخاصة، مفادها: "ما دمتم لم تنتقدوا أنفسكم، ولم تعترفوا بخطئكم، وفوق ذلك تزعمون الانتصار، فدعونا نفنّد دعواكم ونبين ما لم تعترفوا به". ولكن حاصل هذه الدعوى الفاسدة مضمونا ودافعا عقليّا وأخلاقيّا هو: "ما دمتم لم تنتقدوا أنفسكم، ولم تعترفوا بخطئكم، وفوق ذلك تزعمون الانتصار، فدعونا نبرئ عدوّكم، ونخلي من يسمح باستمرار إبادتكم ويمنع التضامن معكم من مسؤوليته"!
هكذا يتحول الفعل الشريف النبيل في وعي البعض إلى فعل خسيس، وهكذا يصبح حرمان الضحية من التعاطف إلى موقف غاية في الحكمة والصواب، ويصير العجز فضيلة تستوجب البيان والمديح!
x.com/sariorabi