‏تعثر نهضة أفريقيا…السودان نموذجا

د.الشفيع خضر سعيد

نواصل حديثنا عن ملتقى الحوار الأفريقي للسلام والأمن الذي نظمته مؤسسة تامو أمبيكي بتاريخ الرابع إلى السادس من أكتوبر الجاري في جنوب أفريقيا. في كل جلسات ومداخلات الملتقى كان الشباب والمجتمع المدني، تواجدا وقضايا، حاضرين بكثافة وفعالية مميزة، بينما شكّل موضوع نهضة أفريقيا جوهر كل المداخلات والنقاشات.

لذلك، بدءا من مقال اليوم، سنتناول ما عنّ لنا من تأملات حول هذه القضايا الثلاث.

 

ظل الجدل يدور طويلا بين الجيل الأول من المفكرين الأفارقة والعرب حول النهضة أو البعث الحضاري، وهم يسعون لمعرفة أسباب تخلف مجتمعاتنا، وكيف نكتسب القدرة للحاق بركب الحضارة البشرية. وأعتقد أن فاتحة الإجابة عن هذا السؤال، تفترض القول بأن قدرة الشعوب على تحقيق “مفخرة” اقتصادية اجتماعية فكرية تتجلى فيها عظمة تراثها الثقافي والحضاري، تبدو لنا محددة بمدى صدق والتزام وقدرة النظام السياسي على التصدي لقضية البعث النهضوي. لكن، ليس النظام السياسي وحده هو العامل الوحيد الحاسم هنا، وإنما هو جزء من مؤثرات كثيرة في حركة الوعي والتاريخ والثقافة لهذا الشعب أو ذاك.

ولقد واجهت أفريقيا التحدي التاريخي المرتبط بإشكالية التخلف والتقدم من خلال عدة محطات، أهمها، في نظري، محطتا الاستنزاف والتبعية. الاستنزاف في القارة بدأ منذ خمسة قرون بالإنسان، بتجارة تصدير العبيد إلى الدنيا الجديدة. ثم أعقب ذلك استنزاف الثروة، أي سرقة الموارد الطبيعية للقارة الأغنى في العالم، وهو استنزاف مستمر حتى اللحظة.

ومنذ أكثر من نصف قرن، تتعرض أفريقيا لاستنزاف من نوع جديد، هو استنزاف الأدمغة أو العقول، أي تفريغ أفريقيا من أفضل كفاءاتها وأكثرهم تعليما وموهبة، في علوم الطب والالكترونيات والهندسة والفنون والأدب…الخ، يجذبهم الغرب بتوفير ظروف معيشية واعدة وفرص ذهبية لتطوير الذات، تاركين وراءهم فراغا يصعب تعويضه. وعلى الرغم من بدايات نهوض أفريقيا بعد انتصارات حركة التحرر الوطني في ستينيات القرن الماضي، فإنه كان نهوضا مؤقتا، إذ سرعان ما سيطر الاستعمار الجديد على القارة، وتعثر مشروع النهضة بتمكن أنظمة التبعية عبر الاستبداد والطغيان وما أفرزته من صراعات عرقية دموية، وتجاهل لأولويات التنمية، وتفشي الفقر والجوع والمرض والفساد، والتواطؤ مع سارقي ثروات القارة، وتغذية البيئة الطاردة لشباب أفريقيا وأدمغتها، وللأسف السودان نموذج ساطع.

 

الشعوب العربية جابهت ذاك التحدي التاريخي في لحظتين حاسمتين: لحظة المواجهة بين التخلف والتقدم إبان الغزو الاستعماري للعالم العربي في القرن التاسع عشر، ولحظة الصدام العنيف مع الغرب بعد قيام دولة إسرائيل. وقد حاول المفكرون العرب، كل حسب ميوله الإيديولوجية وتصوراته الفكرية وانتماءاته الاجتماعية والسياسية، الإجابة عن الاسئلة المتولدة من ذلك التحدي التاريخي، والتي أوجزها المفكر المغربي عبد الله العروي في أربع مشكلات رئيسية، هي: مشكلة الأصالة، أي تحديد الهوية أو تعريف الذات. ومشكلة الاستمرار، أي علاقة العرب بماضيهم. ومشكلة المنهج الفكري العام، أي الوسائل التي سيتبعها العرب لكي يكتسبوا المعرفة، ويمارسوا الفعل.

ومشكلة أدوات التعبير، أي ما هي أنسب أدوات التعبير التي تتيح للعرب أن يعبروا بواسطتها عن مرحلة تطورهم الراهنة. وأعتقد أن الفكر العربي طرح أيضا ثلاثة قضايا أساسية خاصة بتطوير المجتمع العربي ذاته، تمثلت في السعي إلى الأصالة من خلال الحديث عن الإسلام وقدرته على التجدد لكي يتلاءم مع الفكر الحديث. والسعي إلى الحرية من خلال الحديث عن أهمية تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يكفل المساواة بين المواطنين في ظل سيادة القانون. والسعي إلى التحديث من خلال تأكيد الدور الحاسم لاقتباس التكنولوجيا الغربية وإقامة حركة شاملة للتصنيع.

 

يحاول البعض التعليل لفشل النهضة الأفريقية بأن التراث المعرفي لشعوبها لا يؤهلها لتبني الديمقراطية، ولا يمتلك مفاتيح بوابات التحديث. لكن هذه النظرة، في تقديري، خاطئة لأنها تنطلق من فرضية وكأن هذه الشعوب قد خرجت لتوها من مرحلة الجمع والالتقاط وليس لديها ما تتمثله لتربية الأبناء أو لابتداع وسائل للمعيشة اليومية. يقول الروائي السنغالي شيخ حميدو “الجهل بالثقافة الإفريقية له سببان: الأول تاريخي يرتبط مسألة العبودية، والآخر بنيوي يتمثل في كون الثقافة الإفريقية شفهية غير مكتوبة، وهذا لا يعني عدم وجود ثقافة، فالإفريقي يعرف كيف يتعامل مع أهله وأبنائه وله قيمه ومبادئه وموروثاته، لكن بما أنها ثقافة وحضارة غير مكتوبة، لا يستطيع الآخر أن يعرفها”.

كما أن تلك النظرة الاستعلائية تتناسى الأثر الكبير للحضارة العربية في إعادة بعث النهضة الأوروبية من خلال حركة الترجمة والتأليف في علوم الجبر والهندسة والفلك…الخ، وتتجاهل حقيقة أن الدين الإسلامي نفسه أتي بنقلة حضارية رفعت راية التعايش السلمي بين القبائل تمهيدا لتوحيدها في شعوب وأمم. إن سقوط مشروع النهضة العربية والافريقية بعد أفول نجم ثورات التحرر الوطني لم يكن بأي حال نتيجة حتمية للسمات الخاصة بالموروث الثقافي، أو المكون البيئي والجغرافي، أو التركيبة الجينية الوراثية لشعوب هذه البلدان، كما يدعي البعض. بل كان بسبب سياسات وبرامج أنظمة الاستبداد والطغيان التي حكمت أفريقيا والعالم العربي بعد انتصارات حركة التحرر الوطني.

فسيف هذه الأنظمة طال صناع النهضة الحقيقيين من مفكرين وعلماء ومثقفين ورجال دين مستنيرين، لتمتلئ مساحتهم الشاغرة بالتيارات الماضوية، وبأنصاف المثقفين الذين سيطروا على وسائل الإعلام وأدوات التوجيه الثقافي والتربوي، ففرضوا نموذجا معرفيا بائسا يقوم على التلقين دونا عن التفكير الناقد، وينحط بالفنون إلى درك سحيق، ويتحمس للتجهيل ومعاداة العلم، بدرجة أقرب إلى الملهاة المأساوية. فلنسترجع فقط ما قاله أحد قادة نظام الإنقاذ البائد وهو يأمر بتعذيب العالم البروفسيور فاروق محمد إبراهيم، أستاذه ولاحقا زميله في هيئة التدريس في الجامعة: “نحن نعذبك لأنك تدرس نظرية دارون “أصل الانواع” لطلاب الجامعة”! ولاحقا سنستكمل حديثنا حول النهضة الأفريقية، ونتناول الشباب والمجتمع المدني.

نقلا عن القدس اللندنية

الوسومافريقيا الحرب السودان الشفيع خضر

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: افريقيا الحرب السودان الشفيع خضر

إقرأ أيضاً:

قيادي بمستقبل وطن: مصر قدمت نموذجا غير مسبوق في ملف حقوق الإنسان

قال الدكتور عماد نجيب، القيادي بحزب مستقبل وطن، إن مصر قدمت نموذجا متكاملا في حقوق الإنسان واستعراضها بجنيف أثبت التزامها بالإصلاح والتطوير، وأن الحوار الوطني ساهم بصورة كبيرة في مشاركة مختلف القوى السياسية والمجتمعية في رسم سياسات الدولة خلال الفترة الأخيرة، ومن ثم كان له دور بارز في إثراء الحياة السياسية والحزبية والمناخ السياسي العام.

وأكد القيادي بحزب مستقبل وطن، أن الدولة المصرية استطاعت أن تحقق التوازن بين الأمن والاستقرار واحترام حقوق الإنسان، وذلك على الرغم من التحديات الكبيرة التي تمر بها المنطقة بالكامل، متابعا: "مشاركة مصر في جلسة استعراض التقرير الدوري الشامل UPR لملف حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، عكست للجميع التزام مصر بتقديم صورة دقيقة عن أوضاع حقوق الإنسان وما شهده الملف من إنجازات غير مسبوقة".

وأشار الدكتور عماد نجيب، إلى أن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2021، كانت بمثابة كلمة السر في الطفرة الكبيرة التي شهدها الملف على مدار السنوات الأخيرة، بداية من تمكين المرأة، تعزيز حقوق ذوي الهمم، مكافحة الفقر، ودعم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب الجهود المبذولة في تعزيز سيادة القانون ومكافحة الإرهاب للحفاظ على الأمن القومي، وتوفير حياة كريمة للمواطنين في مختلف القطاعات.

وأكد القيادي بحزب مستقبل وطن، أن الدولة استطاعت أن تحقق التوازن بين الأمن وحقوق الإنسان، وأن الحوار الوطني ساهم في تعزيز التوافق السياسي والاجتماعي وكان له دور كبير في إثراء الحياة السياسية والحزبية ودعم جهود حقوق الإنسان.

مقالات مشابهة

  • بالفيديو .. عائلة فلسطينية تعثر على بقايا رجل مفقود تحت أنقاض أحد المنازل في غزة
  • قيادي بمستقبل وطن: مصر قدمت نموذجا غير مسبوق في ملف حقوق الإنسان
  • تعثر محادثات الموازنة في فرنسا يثير شكوكا حول بقاء الحكومة
  • جيهان مديح: مصر قدمت نموذجا متكاملا في حقوق الإنسان
  • هل يُفقد سد النهضة مصر ثلث مساحتها الزراعية سنويا؟
  • رابطة مجالس الشيوخ والشورى والمجالس المماثلة في أفريقيا والعالم العربي تدين بيان البرلمان الأوروبي
  • مدرب المنتخب السوداني يتحدى: «صقور الجديان» قادرون على المنافسة في أمم أفريقيا 2025
  • مُقوِّم أساسي للنهضة
  • السلمية: قوة المستقبل.. ثورة ديسمبر السودانية نموذجاً
  • السودان في مجموعة الجزائر وغينيا الاستوائية وبوركينا فاسو في بطولة أمم أفريقيا 2025