استشهاد يوسف أبو ربيع.. قاوم الاحتلال بالزراعة وأطعم شمال غزة خلال المجاعة
تاريخ النشر: 22nd, October 2024 GMT
لم يكد الشاب الغزاوي يوسف صقر أبو ربيع ينعى اثنين من أصدقائه اللذين استشهدا صباح اليوم الاثنين في بيت لاهيا، حتى بدأ الناس في نعي يوسف نفسه عقب 4 ساعات فقط من منشوره على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
وقد اشتهر يوسف في فترة التجويع في شمال غزة بمحاولاته المستمرة للزراعة رغم كل الظروف الصعبة، وشح المياه والأدوات، واصل عمله في مبادرته "هنزرعها"، مشجعا الناس على الزراعة في كل مكان يمكن زراعته، الأسطح والأراضي والشرفات، وحتى المنازل المهدمة، معلنا أنه سوف يساعد في استنبات البذور، ومنح الفسائل، وتعليم الناس مجانا كيف يمكنهم غرس المزيد من النباتات ورعايتها، وهي المبادرة التي استمرت لشهور قبل أن يُعلن نبأ استشهاده وسط حالة من الصدمة خيمت على كل من عرف يوسف صقر أبو ربيع.
وسط المباني المهدمة، وأرضه التي تعرضت للتجريف، اعتاد يوسف أن يجلس ليغرس البذور والفسائل الصغيرة كي يستنبتها قبل أن يغرسها في الأرض لتصير زرعا مختلفا ألوانه.
وفي حديث سابق له مع الجزيرة حول مبادرته، وصف ما اعتاد فعله بأنه "فعل مقاومة" وقال: "أحكي بكل صراحة، أنا لا أتوقع أن أعيش طويلا، لأني أقوم بأكثر شيء يثير جنون المحتل، إنني أعود لما يرغبون في منعنا عنه، هم يقتلوننا ويخنقوننا بكل الطرق، كي لا ننهض، لهذا فالأفكار التي تأتيني جميعها تصب في اتجاه واحد، أن أنعش قطاعنا وأحقق اكتفاء ذاتيا، لقد عشنا لوقت طويل في شمال غزة على نبتة الخبيزة وسط المجاعة، حتى أصبحت مع الوقت شحيحة لانتهاء موسمها، لم يكن هناك أي طريقة للحصول على طعام من الأرض سوى بالعودة إلى الأرض، لهذا عدت وأعدت معي عددا من المزارعين رغم الخطورة الكبيرة جدا، لأن هذا الشيء ليس سهلا، زرعنا محاصيل سريعة كالجرجير والكوسة والملوخية".
يوسف صقر أبو ربيع وصف ما اعتاد فعله بأنه "فعل مقاومة" (الجزيرة)وأضاف "كانت هذه خطتي، رغم شح المياه وعدم توفر الوقود لتشغيل مواتير الري وغيرها من الاحتياجات الأساسية المهمة، ولكني لم أكتف بهذا فدشنت مبادرة (هنزرعها) على أمل أن ينضم لها كل من يستطيع حتى ولو لم يكن لديه خبرة، قررت أن أساعد الجميع في أن يزرعوا كل شيء لديهم، سواء أسطح أو بيوت مدمرة أو غير ذلك، أن أساعد في توفير أوعية، تربة مع سماد، أن نستغل أي موارد متاحة لنزرع بعضا من الكوسة والملوخية والفاصوليا".
وتابع أبو ربيع "المياه شحيحة لكني أردت تقديم البذور والأشتال على أن يجتهد من يحصلون عليها للحصول على مياه من أجل استمرارها، علينا أن نعزز بصمودنا البقاء والأمل في تغيير الوضع، إذا بقينا في انتظار المساعدات من إنزالات أو معابر فلن نصل إلى شيء، علينا أن ننتج ونصنع غذاءنا بأنفسنا، أنا ابن هذه البلد وهذه رسالتي".
يوسف صقر أبو ربيع ابن مدينة بيت لاهيا، كان يدرس الزراعة، بعامه الأخير حيث أوشك أن يصبح مهندسا زراعيا متخصصا في وقاية النباتات، مهنة ورثها أبا عن جد، اعتاد أن يفتخر بها كثيرا، معتبرا أنها الأمل الحقيقي في النجاة، يقول: "والدي مزارع وأعيش في بيئة زراعية وأنا أيضا مزارع، وأختص بزراعة الفراولة، بالإضافة إلى الخضروات التي تشتهر بها مدينة بيت لاهيا على مستوى العالم من حيث الجودة والإنتاج والتنوع".
محاولات للزراعة في شمال غزة (الجزيرة) وصيته الأخيرةفي حديثه السابق مع الجزيرة أعرب الشهيد يوسف أبو ربيع عن مجموعة من الأمنيات والوصايا، وقال: "أريد أن تعود بيت لاهيا كما كانت، أرغب في أن ننهض رغم ما يصير بحقنا، أن ننسى الحرب وكل شيء فات، وأن نبدأ من جديد، رغم كل الصعوبات، الظروف المحيطة صعبة لكن علينا أن نتحدى الواقع والظروف الصعبة التي تمر بنا، متفائل كثيرا بأننا سننجح وأننا سوف نوصل لكل شعوب العالم أن شعب غزة منتج وقادر على تخطي أثار الحرب".
وأضاف: "أملي أن تكون صورتنا أمام العالم أجمع أننا شعب يبحث عن سبل الحياة، ويستمر في العطاء والبقاء والصمود رغم كل ما يجري بحقه، وأننا مهما صار بحقنا سوف نعود، بمجرد أن تنتهي الحرب سوف نعود كما كنا وأفضل، فقط نرغب في أن يقف الناس والعالم معنا، من لا يستطيع أن يدعم بالمال، فليدعم بالنشر وتوصيل صوتنا ومعاناتنا للناس بالنسبة لي هذا يكفي".
محاولات للزراعة فوق أسطح المنازل المدمرة في شمال غزة (الجزيرة) أنقذ الكثيرين في المجاعةازدحمت الصفحة الشخصية ليوسف أبو ربيع على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بمنشورات الرثاء والثناء على جهده خلال عمره القصير، فكتب خالد راسم: "يوسف أول واحد زرع من بداية المجاعة، ولولاه في شمال غزة ما لقينا شيئا ناكله، يوسف استشهد اليوم خلص مش ضايل حكي"، أما عيد مصطفى فكتب: "توفي عصر اليوم الشهيد البطل يوسف صاحب مبادرة هنزرعها، أول من اجتهد في زراعة الأرض البور في بيت لاهيا شمال فلسطين والقضاء على المجاعة".
وقال يوسف نبيل رجب: "ابن الأرض يوسف، ارتقى عصر هذا اليوم مخلصا لمواقفه وأفكاره، زرع الأرض القحل، وأحيا الروح البور، حرث وبذر وسقى وثمر وعمر وحين جاء وقت الاختبار خضب بدمه خصيب الأرض التي لا تشيح، سلاما يا يوسف الجميل، يا كحيل العين وجميل القلب والمبسم، ستبقى في قلوبنا زهرة حنون لا تذبل".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجامعات فی شمال غزة بیت لاهیا أبو ربیع
إقرأ أيضاً:
هبوط مؤقت وديمومة خلود الأسرى الذين قضوا في زنازين الاحتلال
أحبال متدلية من سقف المسرح، تنتهي بجاكيتات وشال وبسطار ونظارات، مثلت مواد يتم استخدامها، حين تتغير الشخصية التي حوارها أو مونولوجها على خشبة المسرح. لكن واحدة ما إن تظهر حتى يواريها ياسر، إنها بدلة عسكرية للمحقق الاحتلالي، ليرمي بشخص المحقق وما يمثله من احتلال الى مزبلة التاريخ، في حين يخلد ذكر الأسير الذي قضى شهيدا في سجون الاحتلال البغيض.
يمكن أن تمثل مونودراما "هبوط مؤقت"، المسرحية لفرقة "كاريزما" القادمة من نادي ثقافي طولكرم، توثيقا عن كثير من الأسرى الفلسطيني، والتي تم تقديمها ضمن هذا المقترح الجمالي لفرقة شابة شغوفة بالمسرح والدور الوطني معا.
عرض الفنان ثائر ظاهر حالة الأسير ياسر، منذ طفولته، ومدرسته، وعمله بالأرض الزراعية مع والدته، واضطراره لترك المدرسة ثم زواجه وإنجابه، وتطوعه في مخيم جنين للاجئين، ومن ثم التحاقه بالمقاومة في الانتفاضة الثانية والتي على إثرها تم قصف مخيم جنين واجتياحه، حيث تكون النتيجة إصابته ثم تعرضه للأسر بعد تحقيق صاحبه عذاب تفنن الاحتلال به.
خلال سرد قصة ياسر، قام الفنان ثائر طاهر بتمثيل الشخصية الرئيسية الأسير ياسر، وعدة شخصيات: الأب، والأم، ومعلم التاريخ، والمناضل. وفي كل حالة كان يلجأ الفنان الى إحدى "العلاقات" ليرتدي شيئا منها جاكيت ونظارة وبسطار، إضافة للبندقية التي ظهرت من خلال تمثيلها لا حملها. كذلك كان الحال مع اختيار محاكاة المولودين من خلال الإيماء.
واستطاع الفنان الشاب الى حد جيد من التعبير عن تلك الشخصيات، لكن المميز في التمثيل كان تأدية دور المعتقل ياسر في زنازين التحقيق، حيث أدخل المشاهد في أجواء التعذيب لانتزاع الاعترافات.
أدى الفنان عدة أساليب للتعذيب كالشبح، مختارا صندوقا يحاكي الزنزانة، كذلك أسلوب غطس الرأس في الماء من خلال الإيماء. ميزنا للفنان عدة حركات جسدية تنبئ عن ميلاد فنان فلسطيني يجتهد في التعبير.
مشاهد مؤثرة تعرضنا لها، من خلال معاناة الأسرى، المرضى منهم، وما يصاحب التعذيب من حرمان من الاغتسال، وما يتعرض له المعتقل من أمراض جلدية. كان لتمثيل "حك الجلد مؤلما، لكنه ذهب به منحى كوميديا كان من الممكن التعمق فيه وزيادة الجرعات الكوميدية للتخفيف على المشاهدين الذين تعرضوا لمشاهد قاسية خلال معاناة الأسير من مرض القلب واستشهاده.
كان لتمثيل مشاهد التعذيب من جهة ومشاهد المعاناة من المرض من جهة أخرى، والاستغراق فيه، ما شدنا تجاه هذا الممثل الشاب، الذي أرانا ليس مشهدا مسرحيا، بل مشهدا سينمائيا مؤثرا.
اختار المخرج مقطوعات موسيقية وأغاني من التراث الغنائي الوطني، والتي تحيل المشاهد الى مضامين تلك الأغاني، فقد كان من الأولى اختيار موسيقى خاصة معبرة، حتى يظل المشاهد في جور الدراما المسرحية.
لعبت الإضاءة دورا مهما في إبراز الشخصيات، وموجودات المسرح، التي تم توظيفها للسرد عن الشخصيات التي أداها بحيوية الممثل الشاب ثائر ظاهر. كذلك لم نشعر بفراغات خلال المشاهد، ما أبعد العرض عن التراخي.
أخرج العرض وكتبه قدري كبسة، معلم تاريخ، ومحب للمسرح، حيث يعد الفنان كبسة أحد التربويين المهتمين بالمسرح المدرسي، حيث كان لذلك الاهتمام وتطوير الذات من خلال تدريبات في عالم الدراما دور في امتلاكه مهارات فنية ساعدته في إخراج مونودراما "هبوط مؤقت".
وكما يبدو التزم الكاتب بسيرة أحد الأسرى الشهداء، ياسر الحمدوني، وبالرغم أن العرض لم يذكره بالاسم، إلا أنه عبر عنه.
في الوقت نفسه، فإن العرض لم يكن متعلقا فقط بشخصية محددة، بل يمكن اعتباره معبرا عن عشرات آلاف المعتقلين الفلسطينيين، الذين تعد الأرض والارتباط بها والتعليم والنضال نواظم مشتركة في الحياة.
وهنا، نجح العرض في تصوير حياة الفلسطينيين، كيف تتحول مصائرهم، فهم كأي شعب لديهم طموحات فردية ذاتية أسرية، في تطوير النفس، والارتقاء علميا واقتصاديا، كذلك التضامن معا من أجل إنجاز أفضل للفرد والأسرة التي تعاني اقتصاديا في بلد يتعرض للاحتلال، وتقل فيه فرص الحياة. تتحول مسارات هؤلاء المواطنون من أفراد يهتمون بالخلاص الفردي والأسري من خلال العمل الجماعي في الأرض الزراعية التي تحتاج سواعدهم، الى الخلاص العام والوطني، حين يتطور الوعي بأن الخلاص الفردي الشخصي لن يكتمل إلا بجعله ضمن الخلاص العام، كون الأرض-الوطن هنا، هي الملاذ الذي لا ملاذ آخر غيره للعيش.
ولعل "هبوط مؤقت"، وهي تلقي الضوء على آلام الأسرى الفلسطينيين، تفتح النقاش حول اختيارات النضال الوطني لشريحة كبيرة من الأسرى، اختارت العمل الوطني للخلاص العام، وهي تعرف ضريبة ذلك إن كان استشهادا أو أسرا.
كذلك كان لتقنيات خالد الغول دور في تسهيل تعامل مسرحية الممثل الواحد مع الفضاء المسرحي، حيث منحت الممثل قدرة التعبير والحركة وحيوية الأداء، ما جعله يرتقي بالعرض المعتمد على كتابة تحتاج الى المزيد من التعمق في رسم الشخصيات واختيار لغة مسرحية لا إنشائية، فقد عانى النص من هذا الجانب.
استخدم السلمين المتقابلين، في العرض لأكثر من غرض؛ فهو شجرة وهو مرتفع للجلوس عليه والحوار، وهو طاولة في غرفة الصف، ما يعني أنه من المهم توظيف الموجود على الخشبة لاستخدامات متنوعة.
العرض يبشر بعروض قادمة، يدلل على ذلك شغف ظاهر لدى الطاقم الصغير، وهو من جهة أخرى يبشر بتطور الحركة المسرحية في مدن أخرى خارج رام الله والقدس؛ فوجد حركة مسرحية في مدينة طولكرم تعني أن هناك فرصة للتعبير عن الحياة المحلية من خلال فنانين وكتاب من البيئة نفسها.
"هبوط مؤقت"!
ثمة رمزية هنا، فقد يكون الهبوط من أعلى هبوطا للخلاص بالوصول الى الأرض، كما هو الوصول من الماء الى البرّ، وقد يكون هبوطا اضطراريا خشية من عدم القدرة على مواصلة التحليق. إنه "هبوط مؤقت" للمناضل، الذي من خلال استشهاده على الأرض، إنما يهبط كي يعلو ويخلد ذكره.