وصف يحيى السنوار مقاتلي غزة بـ«مجانين غزة»، وهذا اللقب لم يأتِ من فراغ؛ فهؤلاء الذين وهبهم الله قوة البأس والشكيمة، الرجال الأشاوس، تظل جذوة نضالهم ومقاومتهم مشتعلة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله كما ورد في الحديث الشريف. وفي قصيدة للشاعر نزار قباني يصف أبناء غزة بـ«مجانين غزة» عندما يقول: يا مجانين غزة ألف أهلا بالمجانين إن هم حررونا.
إنّ عصر العقل السياسي ولىّ من زمان.. فعلمونا الجنون. في مساء الخميس الماضي 17 من أكتوبر 2024م وقد بدأت ساعات المساء تتمدد، بدأ معها خبر بسيط ظهر على شاشات الفضائيات عن احتمالية استشهاد السنوار وبدأ في التداول، كانت الصدمة كبيرة على الكثير من المشاهدين. في هذه الساعات رفعت فيها الدعوات ولهجت الحناجر تضرعًا ودعاء لله ألا يكون ذلك الخبر صحيحًا. لكن السنوار أبى إلا أن ينجز مهمته الأخيرة ويرتقي شهيدًا كما تمنى. عندما رأيت الشهيد يحيى السنوار ملثمًا جالسًا على الأريكة، ويلقي بعمود خشبي على الطائرة (الدرون) وهو على مشارف الاستشهاد وكأنه يلقيها في عيون أعدائه الصهاينة ومن لفّ لفهم. مشهد مترع وباذخ بالسوريالية والرمزية، خُيّل لي بأن الرجل وبتلك العصا الأيقونة وكأنه متسابق وصل إلى آخر نقطة يقطعها العداء في سباق التتابع، ويستعد ليسلم عصا التتابع للمتسابق القادم ليواصل الركض، وهكذا عندما يرحل مجاهد يستلم الراية غيره ليواصل المسيرة في سباق الجهاد الذي لا ينقطع، ويظل يتوالى ويتناسل إلى أن يصل إلى النهاية والتحرير. في مشهد رمزي يذكرنا بالقادة المسلمين العظام الذين لم تسقط رايتهم فظلت تلك الراية خفاقة عالية في وجوه الأعداء فمن زيد إلى جعفر ومنه إلى عبدالله بن رواحة إلى أن أخذها خالد بن الوليد. لم تكن في الحقيقة إلا راية يلقيها ليتلقفها أشبال فلسطين ومقاوموها لتظل جذوة المقاومة مشتعلة إلى أن يقيض الله لها من يفتح بها فلسطين وبيت المقدس. السنوار الذي قال في مقابلة له مع صحيفة إيطالية: «أنا مش عاوز حصار ولا طالب حرب بس هاد مش معناته أني مش راح أقاتل، بس تمشي وقت الغروب على البحر بتشوف الشباب والصبايا قاعدين يتحدثوا بتساءلوا كيف شكل العالم وراء هالبحر أنا بدي أحررهم». يحيى السنوار الرجل الذي تصفه إسرائيل (بالحي الميت) اعتقادًا منها بأنه ميت لا محالة وستقضي عليه مهما طال الوقت لذلك تعرض منزله للقصف مرتين في عام 1998 و2004م. يقول السنوار في مقابلة مع إحدى القنوات: «أقول لك ولأمتنا أن مجانين غزة لديهم من المخزون الثوري ما سيوقف كل المؤامرات، وسيوقف كل المتآمرين ولدينا من الاستعداد والتضحية ما لا يمكن لأحد تصوره». عندما نستقرئ سيرة الرجل يتبدّى الكثير من الغموض لنا ويتبين أن الخروج عن السطر كان يعني الكثير في حياة المناضل. كان لشهر أكتوبر معنى في حياته، ولد في 29 أكتوبر 1962م في مخيم خان يونس، وأفرج عنه في أكتوبر 2011م وأطلق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م واستشهد في 16 من أكتوبر 2024م. محكوم عليه بأربعة مؤبدات بالإضافة إلى 25 عاما أخرى. خرج عن السطر وهو الرجل والقائد السياسي والعسكري ورئيس حركة حماس وبحكم منصبه كان الأولى له أن يقود المعركة، كما يفعل غيره من السياسيين والعسكريين من قمرة القيادة في غرفة عمليات محصنة تحرسها جيوش جرارة، لكن الرجل خرج عن السطر فتواجد في الميدان يقاتل في قلب المعركة حتى آخر رمق من حياته. الرجل قضى فترة اعتقاله في السجون الإسرائيلية التي زادت عن (24) سنة فخرج عن السطر بتعلمه اللغة العبرية ومتابعة الدراسات والتقارير المكتوبة بالعبرية عن الوضع الإسرائيلي بالداخل وتعلم ثقافتهم وقرأ كثيرًا عن تركيبة الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية والمخابراتية»، كان مدمنا على القنوات الإسرائيلية» كما يصف ذلك مسؤول كبير في السجن. السنوار فهم العقلية الإسرائيلية حتى آمن له الإسرائيليون، يذكر أحد سجانيه قوله: «لقد قرأ كتبًا عن شخصيات إسرائيلية مثل فلاديمير جابوتنسكي، ومناحيم بيجن، وإسحاق رابين، لقد قام بدراستنا من الأسفل إلى الأعلى». خرج عن السطر إذ استثمر وجوده في السجن عندما استطاع أن يدرس رفاقه النحو والصرف. مثل خروجه عن السطر فلم يستكن في السجن إذ قاد إضرابات ومفاوضات مع الإسرائيليين ربح فيها وخسر أيضًا. خرج عن السطر فلم يكن سجينًا عاديًا عندما عمل على الترجمة والتأليف فترجم كتاب (الشاباك بين الأشلاء) لكرامي جيلون، وكتاب (الأحزاب الإسرائيلية) عام ١٩٩٢. ألف كتاب (المجد) يرصد فيه عمل جهاز الشاباك. وكتاب (حماس التجربة والخطأ) يتناول تجربة حماس وتطورها، وفي عام 2004 أصدر رواية (الشوك والقرنفل) تحكي تجربة النضال الفلسطيني منذ عام 1967. خرج عن السطر عندما كان المفاوض الأول في السجون قيّض الله له أعداءه الإسرائيليين وخوفًا على حياته تسارعوا لعلاجه من وضع صحي صعب ألمّ به عندما حطت مروحية في مهبط السجن لتنقله إلى المستشفى للعلاج، كاد أن يفقد حياته قبل أن ينقذه أعداؤه. خرج عن السطر بصفاته الاستثنائية، فالرجل براجماتي صاحب قرار، لا يتكلم كثيرًا ولا يظهر إلا نادرًا يملك مهارات قيادية عالية، وله تأثير على من حوله، لكنه كان حاد الطباع، وشديدا وقاسيا في الجوانب الأمنية والتنظيمية، وحذرا جدا. منتصب القامة كان يمشي مرفوع الهامة. أسس جهاز (مجد) المعني بتتبع العملاء ثم تحول الجهاز إلى تتبع ضباط المخابرات والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وشارك في تأسيس الجناح العسكري لحماس. يقول عنه سجّانوه هو دائم النشاط والحركة لا تراه جالسًا في السجن رياضي، يفكر دائمًا ومشغول. وتقول عنه جريدة فاينانشيال تايمز: «إن القراءة الخاطئة لشخصية السنوار شكلت مقدمة لأكبر فشل استخباراتي لإسرائيل، مشيرة إلى أن زعيم حماس أصبح شخصية أسطورية داخل قطاع غزة». التقى في سجن (هداريم) الإسرائيلي مع المناضل أحمد سعدات والقائد المناضل مروان البرغوثي فعملوا معًا على تقريب وجهات النظر والمصالحة بين الفصائل الفلسطينية. خرج عن السطر؛ لأنه حاول مرتين الهروب من السجن، مرة حين كان معتقلا في سجن المجدل بعسقلان والثانية في سجن الرملة، في سجن المجدل تمكن من حفر ثقب في جدار زنزانته بواسطة سلك ومنشار حديدي صغير، وعندما لم يتبق سوى القشرة الخارجية للجدار انهارت وكشف أمره فعوقب بالسجن الانفرادي، وفي الثانية في سجن الرملة استطاع أن يقص القضبان الحديدية من الشباك ويجهز حبلًا طويلًا، لكنه كشف أمره وفشلت المحاولة. خرج عن السطر في استشهاده، وكذّب الأساطير الإسرائيلية التي تنسج حوله، وكذب بذلك الصهاينة وآلتهم الخبيثة إذ لم يكن كما روجوا له مختبئا في نفق ولا متواريًا بعيدًا ولم يحط نفسه بالأسرى الإسرائيليين، ولم يكن في أحد الفنادق يدير المعركة من بعيد، كان الرجل فوق الأرض يتحرك بكل حرية. تمنى أن يقدم له هدية أن يغتاله، وأن يفضي إلى الله شهيدًا، يُفضل أن يستشهد بطائرة (إف 16) على أن يموت بكورونا أو جلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس. هو إذن كما أراد وتمنى يغادر مرتديًا بدلته العسكرية حاملًا بندقيته، مشتبكًا مع العدو. خرج عن السطر لشكل مقتنياته الخاصة التي وجدت معه؛ فهي بحق تليق بقائد مناضل وهي لا تتعدى أذكارًا نبوية يومية ومسبحة وساعة يد وحلوى بسيطة يسد بها رمقه، وشريط لاصق ومبلغ بسيط جدًا. إضافة إلى سلاحه كلاشينكوف ومخزني رصاص وجعبة عسكرية وأدوات عسكرية. يرحل مهندس طوفان الأقصى، ويخط السطر الأخير في صفحة من كتاب النضال، ويرحل كما رحل قادة مناضلون عظام قبله تاركًا وراءه جذوة مشتعلة لا تهدأ ولا تخفت. رحيله لم يزد (مجانين غزة) إلا قوة وثباتا وإقداما. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی السجن إلى أن فی سجن
إقرأ أيضاً:
تقسيم مصر.. وسيم السيسي يكشف مخططات الرجل الأشر بعد 3 سنين من وفاته
كشف الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، أن برنارد لويس الذي ولد عام 1916 رجل أشر ويكره العرب وتحريرهم هو بريطاني المولد ولكنه حصل على الجنسية الأمريكية وعاش 105 أعوام حيث ولد في 1916 وتوفي في 2021.
فخ التعادل.. أول تعليق من الغندور على نتيجة مباراة الزمالك وطلائع الجيشبرلماني: العفو الرئاسي عن أبناء سيناء تأكيد لسيادة القانونبرنارد لويس الذي ولد عام 1916 رجل أشر ويكره العربوتابع الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، خلال لقائه مع الإعلامي أحمد موسى، مقدم برنامج على مسئوليتي، المذاع على قناة صدى البلد، أنه كان يدرس في الجامعات الأمريكية وقرأ عن المنطقة كثيرا وخاصة تركيا وفتحوا له المكتبات هناك.
ولفت الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، إلى أن برنارد لويس كان يتحدث عن مخططات تقسيم المنطقة مثل العراق إلى 3 دويلات ومصر إلى 4 دويلات.
وأشار الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، إلى أن الدويلات التي تحدث عنها لويس لتقسيم مصر هي مسيحية في الشمال عاصمتها الإسكندرية، ودولة سنية ودولة فلسطينية تحت الهيمنة الإسرائيلية تكون منزوعة السلاح ودولة نوبية عاصمتها أسوان.
وشدد الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، على أن قوة المصريين وتماسكم هي المناعة أمام فيروسات المخططات الخارجية الساعية لتقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة.