تركيا: تدافع أيديولوجي وعلي أرباش في صدارة المشهد

إعادة ربط الأتراك بتاريخهم العثماني، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإسلام، ولكن في إطار التحرك تحت غطاء صيانة الحريات والتعددية.

يلاحظ جرأة علي أرباش رئيس الشؤون الدينية في تصريحات تتعلق بالداخل التركي، وانتقاد واقع المناهج التعليمية التي أبعدت الشباب عن نطاق التديّن.

لم يلغ المناهج العلمانية، لكنه أنشأ المدارس الدينية فأعطى لجيل نشأ على المبادئ العلمانية حقوقه السياسية والاجتماعية، وأسس لجيل يتربى على المبادئ الإسلامية.

أردوغان لم يقيد العلمانيين، بل أطلق ما قيدته العلمانية من مظاهر التدين، مانحا مساحة كبيرة ليعرب المجتمع على المدى البعيد عن صبغته ومرجعيته النهائية

تدافع قائم بين التيارين الإسلامي والعلماني، فبينما لا يتعرض بسوء لصرخات العلمانيين ومطالباتهم بوقف المد الإسلامي، أطلق يد علي أرباش في ربط الأتراك بدينهم واستعادة مبادئه.

* * *

«لم يُقيد العلمانية، وأطلق يدَ التديّن»، لعل هذا هو أوفى وصف لمسلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في التعامل مع العلمانية التي ترسخت في الجمهورية منذ نشأتها على يد مصطفى كمال.

أردوغان ذو الخلفية الإسلامية المحافظة، لم يقيد العلمانيين، بل أطلق ما قيدته العلمانية من مظاهر التدين، مانحا مساحة كبيرة للتفاعل المجتمعي، ليعرب المجتمع على المدى البعيد عن صبغته ومرجعيته النهائية.

وهو بذلك المسلك ينتصر لرؤيته في إعادة ربط الأتراك بتاريخهم العثماني، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإسلام، ولكن في إطار التحرك تحت غطاء صيانة الحريات والتعددية. لم يلغ المناهج العلمانية، لكنه أنشأ المدارس الدينية. أعطى هذا الجيل الذي نشأ على المبادئ العلمانية حقوقه السياسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه أسس لجيل يتربى على المبادئ الإسلامية.

ترك تيار الدراما العلماني لإنتاج أعماله المُحملة بالمبادئ الكمالية ومضامين مخالفة للهوية الثقافية الأساسية للمجتمع التركي، ورعى في الوقت نفسه تيارا دراميا محافظا هادفا.

ترك محلات الخمور من دون أن يغلقها، وفي الوقت نفسه قام بتقنين مواقيت عملها بما يتناسب مع متطلبات الحفاظ على إنتاجية وفاعلية الشعب التركي. لم يفرض الحجاب لكنه في الوقت نفسه فرض أوضاعا قانونية لحماية حق النساء في ارتداء الحجاب.

والقول بأن أردوغان لم يقيد العلمانية وأطلق يد التدين، يدل عليه واقع الجمهورية التركية اليوم من التدافع بين التيارين الإسلامي والعلماني، ففي الوقت الذي لا يتعرض بسوء لصرخات العلمانيين ومطالباتهم بوقف المد الإسلامي، ومحاولة أسلمة تركيا، والقفز على المبادئ العلمانية التي جاء بها الدستور، أطلق في المقابل يد رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، في العمل على ربط الأتراك بدينهم وتغيير مظاهر العلمانية في تركيا والاتجاه صوب المبادئ الإسلامية.

يعد علي أرباش رأس الحربة في هذا التوجّه، باعتباره رئيس المؤسسة الدينية الرسمية في الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وهو الشخصية التي يصدّرها أردوغان في المحافل والمشاهد المتضمنة للشعائر والمظاهر الدينية، أو المتعلقة بالإرث العثماني.

وكان هو الخطيب الذي اعتلى منبر مسجد آيا صوفيا، الذي كان استعادة الصلاة فيه، أحد الأحداث المزلزلة على الصعيد المحلي والدولي، ولم ينس أرباش في ذلك المقام، الإشارة إلى التاريخ العثماني الذي تسعى حكومة العدالة والتنمية لاستعادة أصدائه.

وذلك عندما اعتلى المنبر بسيف على طريقة الخطباء العثمانيين، وهو الأمر الذي أخرجه خصومه عن سياقه التاريخي وصبغته التراثية، بالقول إنه نهج إرهابي داعشي.

الملاحظ على رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، جرأته في التصريحات المتعلقة بالداخل التركي، وانتقاد واقع المناهج التعليمية التي أبعدت الشباب عن نطاق التديّن.

وهو تصريح جريء بالنظر إلى المعارضة العلمانية الشرسة، التي لم تنفك عن مواجهة مثل هذه النبرة بالصراخ ورفع الدعاوى القضائية، لأنها تهدد علمانية الدولة والمبادئ العلمانية التي قامت عليها.

كما اشتهر أرباش بتعاطيه مع الواقع السياسي على المستويين المحلي والدولي، فهو دائب على إطلاق التصريحات المتعلقة بالأحداث الساخنة، منها على سبيل المثال ما يحدث في فلسطين من انتهاكات صهيونية بحق الفلسطينيين كان آخرها أحداث جنين.

ولن نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة، قد شدّ ظهر أرباش للإمعان في خطابه الدعوي، الذي يثير سخط العلمانيين ويؤجج مخاوفهم على المبادئ العلمانية.

مؤخرا أثار علي أرباش قضيتين ترتبطان بالشعائر الإسلامية، ما أثار جدلا واسعا في الداخل التركي، بين ترحاب وابتهاج من قبل الإسلاميين والمحافظين، وسخط وهجوم واسعي النطاق شنه العلمانيون على المؤسسة الدينية.

القضية الأولى كانت تلك الخطبة الموحدة التي أعدتها الهيئة التي يترأسها أرباش، والتي تطرقت إلى ضرورة تعديل ساعات العمل في المدارس والأسواق وفقا لتوقيت صلاة الجمعة، والتأكيد على حرمة الأموال التي يتم تحصيلها واكتسابها من خلال العمل أثناء صلاة الجمعة.

وهو ما رآه العلمانيون توطئة لاعتماد يوم الجمعة عطلة رسمية، وهو بلا شك يثير مخاوفهم من أسلمة وجه الحياة في تركيا، لذلك سارع حزب التحرير الشعبي (الشيوعي) بتقديم شكوى ضد أرباش، بدعوى انتهاك عدد من مواد الدستور وسوء استخدام منصبه.

القضية الثانية، كانت دعوة علي أرباش لاستخدام تحية الإسلام (قول السلام عليكم) بدل تحية صباح الخير أو مساء الخير، وهو الأمر الذي أثار سخط النائب جمال إنجينورت عن الحزب الديمقراطي في البرلمان، ورفضه الشديد لدعوة أرباش، معبرا عن ذلك بقوله «أنا تركي ابن تركي ولست عربيا».

في إشارة منه إلى رفض تحية السلام عليكم، التي تعود إلى اللغة العربية، إلا أن فئات عديدة قد استنكرت رفضه هذا معتبرة أنه عدم احترام للثقافات الأخرى، خاصة أنها تحية الإسلام الذي تدين به الأغلبية التركية.

يعول أرباش في توجهه هذا على موافقته لمزاج القيادة السياسية، ثم على إيمانه بأن العلمانية لم تؤثر في الشعب التركي بشكل كامل، وأنها تجذرت أكثر ما تجذرت في مؤسسات الدولة، وهذا ما أكد عليه ولفرد كانتويل سميث، أحد أساطين علم مقارنة الأديان في القرن العشرين، من خلال كتابه «الإسلام في العصر الحديث»، حيث قال:

«إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تخلوا عن الإسلام، لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب، وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى، والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة».

أعتقد أن دعوة أرباش في القضيتين ليست مقصودة لذاتها، ولا يُرجى ترجمتها في الواقع بالوقت الراهن، بقدر ما هي إبراز لصوت التديّن الذي تعالى في تركيا في العقدين الماضيين، والذي يحقق المزيد من الازدحام والالتفاف حول الفكرة الإسلامية.

ينأى أردوغان بنفسه عن هذا التدافع بين الإسلاميين والعلمانيين، فهو في النهاية زعيم يسعى لرفعة بلاده وتطورها وازدهارها، لذلك لا مجال للقول بأن أردوغان يفرض مظاهر التدين قسرا على الأتراك.

فهو كما أسلفنا أطلق الحريات لمظاهر التدين أسوة بالعلمانية، ليختار الشعب مرجعيته ومنطلقاته، لذلك يقع أردوغان في المنطقة الرمادية بين الجذور الإسلامية والواقع العلماني، وفقا للتصنيف العربي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*إحسان الفقيه كاتبة أردنية

المصدر | القدس العربي

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: الإسلام التدين العلمانية تركيا الجمهورية التركية الشؤون الدينية المناهج التعليمية صلاة الجمعة السلام عليكم

إقرأ أيضاً:

ابن كيران: القضايا التي دافع عنها "البيجيدي" تظهر حاجة البلاد إلى حزب وطني مستقل معتز بمرجعيته الإسلامية

قال حزب العدالة والتنمية، إن القضايا التي تصدى لها والمواقف التي عبر عنها، تظهر حاجة البلاد إلى حزب وطني مستقل معتز بمرجعيته الإسلامية ووفي لثوابت الأمة الجامعة، ومدافع عن قضايا الوطن والمواطنين بقوة وإنصاف واعتدال واستقلالية.

وأشار الحزب في ثنايا التقرير السياسي الذي قدمه عبد الإله ابن كيران أمينه العام، اليوم السبت في مدينة بوزنيقة، عقب افتتاح مؤتمره الوطني التاسع، إلى أنه وقف في وجه ضرب القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار.

وقال ابن كيران، إن الولاية الحكومية اقتربت من الانتهاء وما يزال عنوانها الأبرز هو تفاقم موجة الغلاء التي تشمل معظم المواد، والغذائية منها على وجه الخصوص.

وهو حسب ابن كيران، غلاء يعبر عن فشل الحكومة الذريع وقصور أدوات التدخل الحكومي في الحد من الارتفاع المهول والمستمر للأسعار، ويظهر حالة الاستسلام الحكومي أمام جماعات المصالح، وخاصة العاملة في قطاع المحروقات وسلاسل الوساطة والتصدير.

مما جعل الخيار الوحيد أمام المواطنين يضيف زعيم « البيجيدي »، هو تقليص نفقاتهم والحد من الحاجيات الأساسية، بعد أن تُرِكُوا فريسةً للوضعيات الاحتكارية والجشع.

وهو وضع نتج عنه وفقا للمسؤول الحزبي، أدنى مستوى للثقة عند الأسر منذ سنة 2008، وبروز آثار عكسية لإجراءات الدعم والإعفاء من رسوم الاستيراد والضريبة على القيمة المضافة في قطاع اللحوم، وأيضا الدعم الموجه إلى النقل الطرقي والعمومي.

ويرى الحزب في تقريره السياسي، أنه على خلاف الوعود التي تضمنها البرنامج الحكومي، فإن الفشل الأكبر الذي يحسب للحكومة، هو تفاقم معدل البطالة الذي تجاوز 13%، وهي نسبة لم يسجلها المغرب منذ 2000، وعجز الحكومة عن الوفاء بإحداث مليون منصب شغل صافي على الأقل خلال ولايتها، وتراجع نسبة مساهمة النساء في سوق الشغل إلى أقل من 19% مقابل تعهد الحكومة برفعه إلى أكثر من 30%، وتزايد عدد الشركات المفلسة، والتي بلغت 12.397 سنة 2022 و14.245 سنة 2023، ومن المتوقع أن تبلغ أزيد من 14.600 سنة 2024.

واعتبر التقرير السياسي، أن هذه  النتائج المقلقة، هي نتائج طبيعية لما وصفه بـ »آفة الريع والجمع بين المال والسلطة، وجعل هذه الأخيرة في خدمة جماعات المصالح المحدودة، والاستئثار بفرص الاستثمار والإنتاج والصفقات العمومية والمشاريع الكبرى ضدا على عموم المقاولات الوطنية، وما ينجم عن كل هذا من تبديد الثقة وخلق أجواء من الانتظارية والإحجام والإحباط لدى الفاعلين الاقتصاديين والمقاولين.

وهي أيضا يضيف التقرير، نتيجة طبيعية لما أسماه بـ »سياسة الحكومة الحالية المعاكسة للاستثمار وللنمو وللتشغيل، ولضعف استباقيتها وتأخرها الكبير في إرساء « التعاقد الوطني للاستثمار »، الذي نادى به جلالة الملك منذ أكتوبر 2022، والتأخر الكبير في تفعيل نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، ونظام الدعم الخاص بتشجيع تواجد المقاولات المغربية على الصعيد الدولي ».

وهي نتيجة أخرى، يؤكد « البيجيدي »،  لما اعتبره « استهدافا لبرنامج المقاول الذاتي بإجراءات ضريبية جديدة تراجعت عن المكتسبات المسجلة بعد أن تجاوز عدد المسجلين 300 ألف مستفيد مع الحكومتين السابقتين ».

وهو نتيجة طبيعية أيضا لما قال إنه « إرباك ومزاحمة الحكومة لبرنامج « انطلاقة » الذي سبق وأعطى انطلاقته جلالة الملك في 2020، والذي خلق دينامية في صفوف الشباب وحقق نتائج مهمة، حيث بادرت الحكومة لتطلق في 12 أبريل 2022 برنامجا جديدا شبيها ببرنامج « انطلاقة » سمته « فرصة » وخصصت له ميزانية بمبلغ 1.25 مليار درهم، وأسندت الإشراف عليه لوزيرة السياحة ومهمة تدبيره للشركة المغربية للاستثمار السياحي وهما وزارة ومؤسسة لا اختصاص لهما ولا علاقة لهما بمثل هذه البرامج، حيث ومنذ انطلاقه، تم اختيار 12.500 مستفيد وإلى حدود الآن مازال هناك تأخر في صرف الدعم والتمويل بالرغم من أن المستفيدين أجبروا على الإدلاء بعقود الكراء وإحداث المقاول الذاتي ».

كما أطلقت برنامج « أنا مقاول »، وقبله أطلقت الحكومة برنامج أوراش على سنتين، وخصصت له ميزانية قدرها 2.25 مليار درهم، وكل هذه البرامج وبالإضافة إلى كونها لا تأخذ بعين الاعتبار البرامج الناجحة القائمة وتدعمها بل تربكها وتزاحمها، فإنها تطرح أيضا سؤال الهشاشة والاستمرارية وشبهات الزبونية التي تخيم على تنزيل هذه البرامج عبر جمعيات معينة أو على مستوى الجماعات الترابية.

وسجل الحزب أنه بعد تأخر كبير وانتظار طويل أفرجت الحكومة مؤخرا عن خارطة طريق فارغة للتشغيل، متراجعة بذلك عن التزامها بإحداث مليون منصب شغل خلال هذه الولاية الحكومية، ورفع مستوى نسبة نشاط النساء إلى 30 في المائة، حيث حددت أهدافا جديدة تتجاوز الولاية الحكومية الحالية وتلغي التزامات البرنامج الحكومي، كما نسجل الضعف الشديد لمضامين هذه الخارطة بالرغم مما سبقها من حملات التبشير والترويج، حيث لم تأت هذه الخارطة يضيف « البيجيدي » بجديد بقدر ما أنها تعتمد أساسا على برامج ومؤسسات دعم وتنشيط التشغيل التي أنشأتها الحكومات السابقة.

وكانت هذه النتائج في التشغيل تكرس التأخر الكبير، في نظر حزب العدالة والتنمية، الذي يعرفه تفعيل برنامج دعم المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة لأزيد من سنتين على صدور القانون الإطار بمثابة ميثاق الاستثمار.

وشدد الحزب على أن خارطة التشغيل تعتمد المزيد من البيروقراطية على مستوى حكامتها وتضخم المتدخلين وكثرة اللجان، وهو ما سيؤدي حتما إلى مزيد من التعقيد والتأخير، عوض التبسيط والتيسير، كما أنها تكشف ما وصفه بـ »هاجس الاستغلال والتنافس الانتخابي بين مكونات الأغلبية الحكومية »، وهو ما عبرت عنه، يوضح الحزب، « مواقفها وبلاغاتها التي أكدت انزعاجها وتخوفها بخصوص الوزراء الذين أسندت إليهم مهمة تنفيذ هذه الخارطة وتوزيع الدعم العمومي على المستفيدين منها، وذلك بسبب تغليب وزراء من حزب رئيس الحكومة وتغييب آخرين ».

مقالات مشابهة

  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • المشهد اليمني الذي يشبه غزة
  • أردوغان: عودة 200 ألف سوري من تركيا بعد سقوط الأسد
  • عودة 200 ألف سوري من تركيا إلى وطنهم منذ سقوط النظام
  • أردوغان يكشف عدد اللاجئين في تركيا
  • أردوغان يكشف عن عدد المهاجرين في تركيا
  • نيويرك تايمز: تركيا تقاوم الاستبداد في ظل صمت عالمي
  • تركيا.. إنفاق “الشؤون الدينية” يفوق ميزانية 6 وزارات!
  • ابن كيران: القضايا التي دافع عنها "البيجيدي" تظهر حاجة البلاد إلى حزب وطني مستقل معتز بمرجعيته الإسلامية
  • وزارة الخارجية: المملكة تعرب عن صادق تعازيها ومواساتها للجمهورية الإسلامية الإيرانية جراء الانفجار الذي وقع في ميناء بمدينة بندر عباس في جنوب إيران