لجريدة عمان:
2025-01-05@07:45:49 GMT

عذوبة الكلمات وعذاباتها

تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT

تُبشر بعض الكتب بكُتبٍ أخرى تُسلمك بدورها إلى مؤلفات أخرى؛ لتمنح المتعة فـي التنقل بين أفكار تتشابه أو تتضاد فـيما بينها، إضافة إلى لذة استطعام الكلمات والمعاني والتعرف على معاناة أصحابها ومشقة التدوين والنشر وانعكاس الرأي الصريح وفصاحة التعبير عن خلجات النفس وبوح كُتّابها. فمنذ أيام وقع بين يدي كتاب «خزانة الكتب الجميلة: كيف نقرأ ولماذا؟» للكاتب أحمد الزناتي، ومع أن الكتاب لا يتجاوز عدد صفحاته (136) صفحة، إلا أن موضوعاته باذخة بالمعرفة والمعلومة المُغرية على التنازل عن القراءة قليلا، والبحث عن المصادر ثم العودة مجددا لخزانة الكتب الجميلة.

فعلى سبيل المثال يختم الكاتب مؤلفه بموضوع «عن الكتابة والغُربة والاحتراق» يذكر فـيه تحقيق الفـيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي (1917-2002) لكتاب «الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية» للفـيلسوف أبي حيان التوحيدي (توفـي 1023م)، وفـي المقدمة التي ذيّلها بدوي بتاريخ (18 أبريل 1949) يقارن بين أبي حيان التوحيدي والكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924)، «وبذلك يُعدّ عبد الرحمن بدوي أول من عرّف كافكا إلى العالم العربي» وفق تعبير أحمد الزناتي.

فـي الكتاب المُحقق يستند بدوي على المخطوطة رقم (8) تصوف 1334 المكتبة الظاهرية بدمشق، والمطبوع فـي مطبعة جامعة فؤاد الأول 1950، يقول بدوي «التشابه بين كافكا المسلول الشريد فـي دنيا اللامعقول وبين صاحبنا العربي الغريب فـي وطنه لمشابه، وأي مشابه».

ويستعرض بعد ذلك أوجه التشابه فـي وصف كل كاتب لنفسه فكافكا يقول: «أنا من حجر، بل حجر لقبر نفسي، لا منفذ فـيه للشك أو للإيمان، للحب أو للنفور، للشجاعة أو القلق، على وجه التخصيص أو وجه التعميم: كلا بل ثم أمل واحد غامض يحيا، لكنه من نوع شواهد القبول».

أما أبي حيان فـيقول: «أما حالي فسيئة كيفما قلّبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فـيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، وأما ظاهري وباطني فما أشد اشتباههما! لأني فـي أحدهما متلطخ تلطخا لا يقربني من أجله أحد، وفـي الآخرة مُتبذخ تبذخًا لا يُهتدى فـيه إلى رشد، وأما سرِّي وعلانيتي فممقوتان بعين الحق لخلوّهما من علامات الصدق، ودُنوهما من عوائق الرق، وأما سكوني وحركتي فآفتان محيطتان بي، لأني لا أجد فـي أحدهما حلاوة النجوى، ولا أعرى فـي الآخرة من مرارة الشكوى».

بعد ذلك يتطرق بدوي إلى الجذور العرقية للكاتبين اللذين يفصل بينهما تسعة قرون، وكأن النسب أو العرق محفز على التمايز ومُحرض على الكتابة والتعبير، فـيقول مثلا عن كافكا: «ينتسب إلى شعب مستأصل شارد، عليه اللعنة والنقمة أينما حل وحينما سار، وإن ادّعى لنفسه أنه «شعب الله المختار» إلا أن يكون مختارا للشقاء وإشاعة الشر بين الناس وإهدار القيم النبيلة عند الآخرين، وصاحبنا -أي التوحيدي- لا نعرف له أصلا، إنما هو من أولئك الموالي الذين اختلطت فـيهم الدماء والعناصر فكونت مركبًا غريبًا على أنه يشعر بواشجة قربى مع الغرباء والأفاقين حين كان لا يخالط إلا الغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء».

إن كان للعرق ذلك الأثر فـي حياة الكاتبين فإن التنشئة تعلب الدور الأهم فـي التأثير على اتجاه الكتابة لدى صاحبها، إذ ترعرع كافكا والتوحيدي فـي كنف أسر تمارس التجارة، و«طبيعة التجارة أشد ما تكون تنافرًا مع الثقافة بالمعنى الرفـيع، لأن التاجر لا يشارك فـي الثقافة إلا بالقدر الذي يستعين به على التجارة، وما تجاوزه يُعدّهُ خيانة لرسالته». مثلما كتب بدوي.

أما التشابه الأبرز بين الاثنين فهو أسلوب التخلص من كتاباتهما، فالتوحيدي غسل كتبه بالماء وكافكا أوصى صديقه ماكس برود بحرق كتبه، وحسنا فعلا الأخير الذي أخل بالوصية ولم ينفذها، وترك للعالم تجربة إنسانية تستحق القراءة.

يختم بدوي مقدمة الكتاب المحقق بعبارات مهمة عن فعل الكتابة ومسؤوليتها عن الإفصاح بالقول: إن «الكتابة هي «لا» تخشى أن تقول نعم، فتسجيلها يخشى معه إن تحجر أن تستحيل معه «لا» إلى نعم. نعم الكتابة ضرب من الصلاة «مقولة كافكا»، وخير الصلاة ما أتجه إلى المجهول أبدا، وصار سرًا أبدا».

هكذا نجد المتعة فـي مشاركة الكتب التي عانى كتابها جراء التدوين وجرّت عليهم الاتهامات والتشنيع بهم، وكالعادة تنتصر الكلمة الصادقة وتنال حظها من البقاء والصمود وتسجل لقائلها الخلود.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

رائد الإبداع والجرأة في الكتابة الدرامية .. صباح الخير يا مصر يحيي ذكرى وفاته

استعرض برنامج "صباح الخير يا مصر" الذكرى الخامسة لرحيل الكاتب الكبير والسيناريست وحيد حامد، الذي يعتبر من أبرز صناع السينما والفن المصري والعربي. 

فقد قدم حامد أعمالًا درامية مميزة أثرت في وجدان الملايين، حيث نجح في تصوير الواقع بكل جرأته وواقعيته، دون تزييف أو تجميل.

 كانت أعماله مرآة حقيقية للمجتمع المصري والعربي، تقدم رؤى تنبؤية للأحداث السياسية والاجتماعية التي شكلت جزءًا حيويًا من تاريخ مصر.

بداية مشواره الأدبي والدرامي

بدأ وحيد حامد مشواره الأدبي في أواخر الستينيات، حين كان الشاب الذي يطارد أحلامه الأدبية. 

تنقل في العديد من المجالات الأدبية، من القصة القصيرة إلى المسرحيات، قبل أن يتوجه إلى الكتابة الدرامية. أصدر أول مجموعة قصصية بعنوان "القمر يقتل عاشقه"، لكنها لم تكن سوى بداية لرحلة طويلة في عالم الكتابة. وفي خطوة حاسمة، تلقى نصيحة من الكاتب الكبير يوسف إدريس، الذي شجعه على التوجه للكتابة الدرامية، وهو المجال الذي أبدع فيه حامد وأثرى به تاريخ السينما والتلفزيون.

الريادة في كتابة السيناريو والدراما

بفضل موهبته الاستثنائية، ترك وحيد حامد بصمة لا تُمحى في عالم الدراما والسينما. كتب عشرات الأفلام والمسلسلات التي حملت طابعه الخاص من الجرأة والإبداع. كما لم يقتصر على الكتابة فقط، بل كتب المقالات السياسية والاجتماعية التي تعكس فهمه العميق للأحداث الجارية.

 إلى جانب ذلك، أشرف على ورشة السيناريو بالمعهد العالي للسينما، التي خرجت عددًا من أهم كتاب السيناريو في الساحة الفنية اليوم.

أعماله البارزة مع عادل إمام

ارتبط اسم وحيد حامد ارتباطًا وثيقًا بالفنان عادل إمام، حيث تعاون الاثنان في العديد من الأعمال التي تعتبر من أهم وأبرز الأفلام في تاريخ السينما المصرية. من أبرز هذه الأعمال:

فيلم "الإرهاب والكباب" (1992): الذي ناقش قضايا اجتماعية وسياسية بجرأة غير مسبوقة، لاقى نجاحًا كبيرًا وأثار جدلاً واسعًا.

فيلم "النوم في العسل": الذي تنبأ بأحداث اجتماعية وسياسية مهمة، حيث ألقى الضوء على التغيرات التي كانت ستحدث في المجتمع المصري.
فيلم "طيور الظلام": الذي قدمه وحيد حامد مع عادل إمام والمخرج شريف عرفة، وهو من الأفلام التي تعتبر علامة فارقة في السينما المصرية.

أفلام ومسلسلات خالدة

شملت أعماله السينمائية العديد من الأفلام الشهيرة التي أثرت في تاريخ السينما المصرية والعربية مثل:

طائر الليل الحزين
البريء
الراقصة والسياسي
الغول
معالي الوزير
كما قدم عددًا من المسلسلات المميزة مثل:

العائلة والجماعة بجزئيه
أحلام الفتى الطائر
الجوائز والتكريمات
لم يكن نجاح وحيد حامد مقتصرًا على الإبداع الفني فقط، بل حصل على العديد من الجوائز المرموقة، التي أبرزت تقدير الدولة والمجتمع لجهوده الفنية، مثل:

جائزة النيل عام 2012

جائزة الدولة التقديرية
جائزة الدولة للتفوق في الفنون
جائزة مهرجان القاهرة السينمائي
جائزة الفارس الذهبي من إذاعة الشرق الأوسط
 
وفي الثاني من يناير 2020، رحل وحيد حامد عن عالمنا عن عمر ناهز 76 عامًا، لكن إرثه الفني والثقافي سيظل حيًا في ذاكرة الأجيال القادمة. ترك وراءه أعمالًا مبدعة، سواء في السينما أو التلفزيون، ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، وسيتذكره الجميع باعتباره أحد أعمدة الفكر والابداع في تاريخ الفن العربي.

مقالات مشابهة

  • أحمد الشهاوي: الشعر كتاب للروح.. والمكان في نسيج الكتابة
  • مسعف يكشف الكلمات الأخيرة المرعبة لأغلب ضحايا حوادث المرور
  • اقرأ غدًا في «البوابة».. أنشودة البساطة.. «البوابة» تحتفى بـ «عازف الكلمات» يحيي حقي
  • "حفل زفاف مي فاروق ومحمد العمروسي يتصدر الترند: تامر حسين يهنئهما بأجمل الكلمات في ليلة العمر"
  • في مجموعتها القصصية أمهليني صيفا آخر للفلسطينية شيخة حليوي: فن الكتابة
  • رائد الإبداع والجرأة في الكتابة الدرامية .. صباح الخير يا مصر يحيي ذكرى وفاته
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. قرّرتُ الكتابة إليك
  • بدوي: فرض ضريبة على الهواتف المحمولة المستوردة يقضي على التهريب ويضمن حقوق الدولة