فهم الرواية لحسين دعسة.. نظرية علمية نقدية في فهم ماهية الكتابة الإبداعية
تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT
عمّان "العُمانية": يسعى كتاب "فهم الرواية" للكاتب الأردني حسين دعسة، إلى بلورة نظرية علمية نقدية في فهم ماهية الكتابة الإبداعية، لهذا يضع المؤلف مصطلح "الصورة النقدية" التي تتبع كل ما يخص قضايا النص السردي المعاصر، ساعيًا إلى فهم الأدوار المعرفية الجديدة للسرد الأدبي وارتباطه بأشكال السرديات الشعبية أو الاجتماعية المتوارثة.
يحاول دعسة في كتابه الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فهم جدل الكتابة وأسبابها من خلال شواهد متناقَلة فيما حولنا، عارضًا بعض الأفكار حول مصطلح "نقد النقد"، ومشيرًا إلى أن الانطلاق من هذا المصطلح يواجه طرقًا شتى للإحاطة به، فعلى الرغم من تعدد الدراسات التي كُتبت حوله إلا أننا بالكاد نعثر على إطار مستقر يحيط بهذا المفهوم إحاطة كاملة، حتى في محاولة تحديد النشأة الحقيقية له.
ويشير المؤلف إلى أن سؤال القراءة نفسه يرتبط جدليًّا بسؤال آخر عن الوعي بماهية الكتابة، فلا يمكن الإتيان بزوايا نظر نقدية غير مسبوقة ما لم يمتلك "القارئ المتفوق" وعيًا بماهية الكتابة نفسها.
وفي سياق متصل، يتناول دعسة تحليل رواية "البيريتا يكسب دائمًا" للروائي التونسي كمال الرياحي، ويرى أنها مثيرة للجدل وتنحاز إلى متغيرات السرد الجديد، حيث يجمع الرياحي فيها بين القص والتخييل البوليسي، ويواصل ثورته على المضامين والأشكال ولغة السرد والحبكات التقليدية للرواية.
ويتناول دعسة رواية "كلب الحراسة الحزين" للكاتبة الفلسطينية صونيا خضر، والتي تدور في ثلاثة أزمنة متتالية، وتؤشر إلى شخصية نسائية مؤثرة تملك دار أزياء عالمية، بدأت صعود سلّم المجد بعد نقطة التحول التي حاولت من خلالها مواجهة ذاتها والمضي نحو تحقيق حلمها مقابل أن تتخفف من ذاكرتها وجذورها، وهي بذلك تطرح جوانب فلسفية تدور حول الشك والخوف ونهاية العالم.
أما رواية "فلنصرع الفقراء" للكاتبة البنغالية شيمونا سينها، فيرى دعسة أنها تؤشر على موضوع استبدال الهوية بأخرى، ما دام أن الأعراف والتقاليد مترسبة في شخصية المغترب. والمتأمل لصورة المغترب في الروايات الغربية يدرك تصاعد المخاوف لدى الوافدين، حيث تتناول الرواية تجربة طالبي اللجوء وما يصبو إليه هؤلاء من الحصول على صفة المواطنة، إلى جانب معاناتهم الحياتية.
أفرد المؤلف في الفصل الأول من الكتاب مساحة عرضَ فيها نماذج نقدية حول أعمال سردية عدة، لتصبح هذه النماذج النقدية منصة انطلاق لمحاورتها وتحليلها ونقدها، واختار دعسة كتابات نقدية حول روايات "أوراق هارون" للكاتب الأردني عامر طهبوب، و"حارسة الموتى" للكاتبة المصرية عزة ذياب، و"حكايات طرح النهر" للكاتب المصري سيد نجم، ملقيًا الضوء على أهمية الزمن الذي يعد مكونًا رئيسًا من مكونات السرد؛ إذ ينهض بتنظيم السرد تنظيمًا محكيًّا ليكسب الروائي القدرة على تشييد الشخصيات الواقعية والمتخيلة وصناعتها، تلك التي تتحرك في الفضاء وفي حلقات زمنية تتسم بوجود قوانين وتقنيات تؤثر في مجرى الأحداث.
وفي الفصل الثاني "جدلية السرد والسارد"، يرى دعسة أن البنية الدلالية للخطاب السردي تتشكل من نسيج الرؤى التي تصدر عن الشخصيات بوصفها فواعل في بنية الخطاب، أما تركيب الخطاب فهو نسيج العلاقات بين عناصره الفنية.
ويوضح أنّ أيّ نص سردي لا بد أن يتألف نسيجه من مستويين: مستوى الأقوال، وهو نظام الكلمات المكتوبة التي تؤلف سطح النص؛ ومستوى الأفعال، وهو نظام العالم المترشح عن مستوى الأقوال، وهو هنا باطن النص المتألف من نظام أفعال الشخصيات والإطار الزماني والمكاني.
وتناول الفصل الثالث تجربة نجيب محفوظ التي استمرت زهاء سبعين عامًا من الإنجاز، حيث كتب محفوظ عشرات الروايات التي يدور أغلبها حول الحياة في أحياء القاهرة الشعبية، وعكست مؤلفاته الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ومنها خرجت روائع الأعمال السينمائية والتلفزيونية مثل: "اللص والكلاب"، و"زقاق المدق"، و"بين القصرين".
ويتتبع الباحث عبر هذا الفصل تحولات وأشكالًا أدبية لا يمكن وضعها أو فهم مكنوناتها بعيدًا عما قادنا إليه عالم الفن والأدب البشري للّعب مع الكائنات التي تعيش في رواية، وتعيش أولًا في ذات المبدع وتنفصل تدريجيًّا لتأخذ أمكنتها في سياق حياتنا.
أما الفصل الرابع فيركز على "فهم تاريخية الأثر لسرديات الخليج العربي"، ويرى الباحث فيه أنه على الرغم من أن التجربة الخليجية حديثة المولد إلّا أنها أفرزت عددًا من الروائيين الذين تركوا بصماتهم ومثلوا إضافة نوعية بأساليبها ومضامينها، فظهرت العديد من الأسماء التي يشار إليها بالبنان منهم: عبد الرحمن منيف، وتركي الحمد، ورجاء العالم، وفهد إسماعيل، وليلى عثمان.
ويوضح دعسة أن الروائية العُمانية جوخة الحارثية قدمت سردًا نابضًا خليجيًّا في الحكاية وفي مكنون السرد، وهي تحمل ملامح الابتكار والتطور والحداثة وتؤكد أن المرأة حملت الرواية بوعي إلى آفاق جديدة.
وخُصص الفصل الخامس لتحولات الكتابة في العالم الرقمي، ويرى دعسة فيه أن مصطلحات عدة شاعت في الأدبيات الحديثة تحيل إلى نمط جديد من الكتابة التي تولدت نتيجة التطور الذي حدث في مجال التكنولوجيا، إلا أنها لا تزال تعاني الكثير من الخلط والاضطراب بسبب عدم اهتمام المنظّرين العرب بالكتابة الرقمية وتحديد دلالة المصطلحات الجديدة وضبط حدودها، مستثنيًا من ذلك عددًا من الباحثين منهم: فاطمة البريكي، وزهور كرام، وسعيد يقطين الذي يمكن عدّه أبرز منظري الكتابة الرقمية والنص المترابط في العالم العربي.
وفي الفصل السادس يتناول دعسة مجموعة من الروايات التي قاربت التاريخ والأسطورة، مثل روايتي "هاتف من الأندلس" لعلي الجارم و"موجيتوس" لمنير عتيبة، ويرى أنّ هذه الروايات رسمت شخصيات مهمة في عالم الرواية متعدد الطبقات، أما الفصل السابع فيعرج على تجربة الروائية الأردنية فادية الفقير.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أهمية اللسان في تبليغ رسالة الخالق إلى الإنسان.. دراسة علمية
إن لكل كائن حي في هذا الوجود صفات وخصائص بنيوية ومميزات في الخلق والتكوين جوهرية، ووظيفة أساسية أعد لها في هذه الحياة، ووهبت له من أجلها قدرات نوعية تختلف عما لدى غيره من المخلوقات، وتتكامل معها في دورة الحياة. ومن خصائص هذا المخلوق الإنساني الفريد من نوعه في العالمين هو تكوينه الثنائي من المادة الترابية العضوية والروح النورانية الأبدية.. ومن مميزاته الجوهرية ما فوق الحيوانية والنباتية، هو خاصية العقل لديه والنطق والحرية في الاختيار بين البدائل والأغيار، في تقبل الرسالة وتحمل الأمانة والمسؤولية على ما يجترحه من أفعال وما يلفظه من أقوال!!
ومن هنا كان لخاصية النطق والعقل لديه وظيفة مزدوجة جسدية مادية وروحية معنوية، حياتية تعبدية دنيوية من جهة، وأخروية من جهة أخرى، متساوية معها في ميزان الجزاء عن العمل خيرا كان أو شرا قولا كان أو فعلا "وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .."، وأن ارتباط القول والخطاب والمسؤولية عنهما، والحساب عليهما بالتبليغ والتذكير والتعبير، يتجلى كله في كلمة الله التي ألقاها في الكون بقوله: "كن"، فكان آدم الإنسان عليه السلام، وبدأ بتكليفه (كمستخلف) برسالة الحق، بعد ضبط قواعد المهمة الاستخلافية في الأرض، بموهبة النطق والكلام، وتعليمه الأسماء كلها من الجماد والنبات والحيوان، وتحديد شروط العبادة ومنهج السماء للإنسان، بتوضيح معالمه بالأوامرالمتمثلة في "افعل ولا تفعل"، فبدأت من ساعتئذ مهمة النبي الرسول، وآدم البشر المسؤول، وبدأت العبادة والطاعة، وبدأ التحكم والنسيان، والتمرد والعصيان، وبدأت من ذلك الحين عملية التعاون والتنافر بين الحق والخير، والظلم والشر، وتواصلت منذئذ رسالة الحق والصدق والمنهج الواضح لكل عاقل ناطق بالغ مسؤول مخير من الله بين النجدين، من آدم وابنيه المتعارضين، مرورا بكل الأنبياء والمرسلين المبعوثين إلى أقوامهم المنذرين في العالمين ابتداء من آدم في الأولين إلى خاتمهم أجمعين محمد بن عبد الله النبي الأمي المكلف بالقرآن الناطق بالفصاحة، المبعوث بالرسالة الجامعة المانعة المستوعبة لكل الرسالات السماوية الشاملة لكل العبادات السابقة واللاحقة المسطرة لكل العقلاء من خلق الله الأولين والآخرين إلى يوم الدين!!
وجب التواصل باستمرار بين السماء وأهل الأرض بدون انقطاع ووجب توضيح المنهج وتبليغه بحكمة وقوة وإصرار، ووجب استمرار الدعوة إلى سبيل الحق والخير والصلاح، ولهذا كانت الدعوة إلى دين التوحيد دائما مرتبطة بالعزم والفكر وبالخطاب والذكر، ولونعرض هذه الوظيفة الاستخلافية للإنسان لا نكاد تحصيها في القرآن، لما جاء فيه عن كتب الأولين وسير الأنبياء والمرسلين..ولهذه المهمة العبادية والتعبدية المستمرة في الحياة من البداية إلى النهاية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56 ) خص الله الإنسان بموهبة العقل والنطق، مناط التكليف والتشريف والإدراك والقيم والتمييز في الخطاب بين الخطأ والصواب، وتحمل المسؤولية في التلقي عن السماء، ونقل منهج السماء إلى الأغيار بحسن الخطاب بعد حسن التفكير والتدبير، ولهذا كان الحساب والعقاب، وكان الثواب على قدر المشقة والعزيمة في التبليغ والدفاع عن الحق والصواب، وإجادة التفكير والتعبير، للتأثير في نفوس المبلغين بطلاقة اللسان وحجة البيان، لإقناع هذا الإنسان الضعيف بالجسد القوي بالعقل والارادة الحرة في عبادة ربه، علة وجوده من يوم ولادته إلى ساعة قبره، ومن ذلك تحمل مسؤولية الأمانة، ما دون سائر المخلوقات في هذا الوجود، بكل جرأة وجهالة وغرور، وظلم للنفس أحيانا بتحميلها فوق طاقتها جهلا أو غرورا واستكبارا..
ومن ثم وجب التواصل باستمرار بين السماء وأهل الأرض بدون انقطاع ووجب توضيح المنهج وتبليغه بحكمة وقوة وإصرار، ووجب استمرار الدعوة إلى سبيل الحق والخير والصلاح، ولهذا كانت الدعوة إلى دين التوحيد دائما مرتبطة بالعزم والفكر وبالخطاب والذكر، ولونعرض هذه الوظيفة الاستخلافية للإنسان لا نكاد تحصيها في القرآن، لما جاء فيه عن كتب الأولين وسير الأنبياء والمرسلين، ويكفي الاستشهاد هنا على سبيل المثال فقط بما ورد في الكتاب المبين من ذكر لآيات السمع المذكورة بعد الخلق في الترتيب وقبل العلم والبصر واللسان والبيان:
{وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، (النحل/78) و {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍۢ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا} (الإنسان (2) و{ٱلرَّحۡمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} (الرحمن) و{أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ (8) وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ (9) وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ (10)} (البلد).
فالسمع هو الأول دائما، كما يلاحظ، وهذا لتلقي الرسالة وسماع أوامر التكليف المقروءة والمسطورة، {وَٱلطُّورِ (1) وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُورٖ (2) فِي رَقّٖ مَّنشُورٖ (3)} (الطور) والعلم بها، ثم البصر، لمشاهدة آيات الله، ومعجزاته الملموسة والمحسوسة لتثبيت نبوة المرسلين من عباده الصالحين والمصلحين في كل عصر ومصر، للعلم بها قبل الايمان و الاعتقاد أو الكفر و الابتعاد!!؟ وحتى لا تكون لتلك الأقوام حجة على الله بعد الرسل ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ ( فاطر 24) {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء /165)، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15).
وقد وهب الله الإنسان بعد ذلك لسانا وشفتين ليسأل أهل الذكر عن دين الله ومنهجه ليهتدي ويهدي بعد وعي الكلمات وإدراك الآيات ولا شك أن ذلك لا يتأتى لأي إنسان بغير أدوات الخطاب المتمثلة في السمع والنطق والتفكير والتعبير عن مكنونات الضمير.. وإذا أمكن للأكمه أن يسمع في الغسق والأصم أن يبصر في الشفق، فإن الأصم لا يتفوه بالحكمة، والأبكم لا ينطق في النور ولا في الظلمة، وهو ما جعل السمع مرتبطا بالنطق في الخلق ارتباط الكلام بالسمع، وارتباط القول بالفعل!!
وإن ارتباط الكلام بالسمع وارتباط القول بالفعل كما هو ملاحظ في سنة الخلق يجعل دور الخطاب في حياة الإنسان أهم، والحساب والعقاب على الخطأ والصواب أشمل وأعم، ويجعل التحرز من ارتكاب الخطأ وتجاوز الحدود في آداب الكلام جزءا أساسيا من الأخلاق والنظام العام، في القوانين الوضعية وفي الإسلام، وإن اضطلاع الإنسان (هذا الحيوان الناطق) بمهمة الاستخلاف في الأرض والمتمثلة أساسا كما قلنا، في عبادة الخالق الأوحد الرازق، يجعل من الكلام والخطاب وسيلة أساسية للتلقي عن الخالق وتبليغ أوامره لأهل الأرض في كل زمان ومكان، وعندما تنتهي مهمة الرسول الإنسان يبقى الرسول القائم والدائم وهو القرآن: (انظر مقالنا في "عربي21" ليوم 19 يوليو 2024 عن لماذا كان هذا الكتاب القائم هو الرسول الجامع والخاتم!!؟ ...) وجعل اللسان صنو الإنسان، وأداة فاصلة في تميز الثقافات والديانات للشعوب والأمم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم 4) وذلك لكون خصيصة النطق والتفكير والتعبير صفة جوهرية في الإنسان، كما أسلفنا ومرتبطة لديه بالمنطق الذي يعتبره العلماء مقياسا لمعرفة الخطأ والصواب في التفكير والخطاب، وهو يجمع في تركيب معناه الاشتقاقي من فعل نطق ينطق بين التفكير والنطق والتعبير، أي مطابقة ما في ذهن الإنسان الناطق المفكر والمتكلم بما يلفظه اللسان السليم من كلام قويم، ويكشف به عما في الضمير، لما يوجد من علاقة عضوية بين اللغة والفكر، كما يبينها العلماء، فيذكرون أن للغة وظائف وللفكر وظائف، ويظهرون العلاقة الوظيفية التكاملية بين ملكة الكلام وملكة التفكير في حياة الإنسان، فيجمعون على وجود هذه العلاقة في ذاتها، ولا يختلفون إلا في الدرجة التي يؤثر بها كل قطب أو طرف في الآخر (أي الفكر واللغة) فبعضهم يرى أن اللغة هي التي تحدد الفكر وبالتالي تؤثر فيه، والبعض الآخر يرى أن الفكر هو الذي يحدد اللغة، على اعتبار أنه هو أسبق منها في الوجود، ويرى آخرون بأن كلا من اللغة والفكر مترادفان ويتبادلان التأثير بينهما بمقادير متكافئة متفاعلة مترابطة، وهناك من يذهب إلى وجود هذه العلاقات الترابطية كلها في الوقت ذاته منذ البداية، ويقر بتداخلها بعضها في بعض إلى درجة يصعب معها الفرز والفصل.
هذا هو الأمر الذي يهمنا إثباته في حديثنا عن الخطاب الدعوى الرسالي، مع الإقرار بأن الفكر هو أسبق من اللغة لإمكان وجوده مستقلا عنها لدى الأشخاص الصم البكم الذين لا ينقصهم الذكاء والقدرة على التفكير الذي يعتبر موهبة وملكة مستقلة بذاتها بصرف النظر عن قدرة الإنسان على التعبير عنها باللسان والبيان.
وخلاصة ما يراه قسم كبير من علماء النفس، هو أن لكل من اللغة والفكر جذورا مستقلة عن بعضها، إلا أنها تلتقي في نقطة ما أثناء النمو. فالعلاقة بينهما اذن هي علاقة تكاملية، أي أن كل واحد منهما يخدم الآخر ويكمله، والنتيجة هي أن الفكر يصبح شيئا فشيئا لغة كما أن اللغة تصبح أكثر عقلانية بالفكر الذي يقيس العلماء مدى صوابه وخطئه في العمل بالمنطق السالف الذكر (...).
ورغم اقتناع قسم آخر من العلماء بأن التفكير يمكن أن يحدث بدون استعمال كلمات (كما أسلفنا)، إلا أنه مقتنع بأن التفكير هو عبارة عن كلام خفي غير مسموع، مثلما أن اللغة والكلام وبالتالي الخطاب الذي يعنينا هنا هو فكر مسموع وإن حاسة السمع هي الوسيلة الأولى للإدراك والعلم الأكثر استيعابا والأوسع تلقيا في حياة الإنسان، بدليل أن الأذن هي الحاسة الوحيدة التي تعمل في النور والظلام، وفي اليقظة والمنام، وفي الليل والنهار، وهي المصاحبة للإنسان في كل مكان طوال وجوده منذ ما قبل خروجه من رحم أمه، إلى آخر لحظة من حياته قبل قبره، والله دائما يذكر وظيفتها، قبل الحواس الأخرى، فيقول: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ (الملك / 23)، ويربط السمع بالكلام فيقول: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} (البقرة / 18)، والدليل على ذلك من الناحية العلمية هو ضرب الله على آذان أهل الكهف حتى لا يوقظهم سماع أي صوت من حولهم طوال مدة رقادهم، بينما لا يرى الطفل الأشياء إلا بعد أيام من ولادته، ولا يميز فوارقها وألوانها إلا بعد شهور من عمره، ولعل سنة الاآذان الشرعي في أذن الوليد لدليل على أنه يسمع ويخزن ما يسمع في ذاكرته مثلما يخزن صوت أمه وأبيه قبل ولادته..
ما يراه قسم كبير من علماء النفس، هو أن لكل من اللغة والفكر جذورا مستقلة عن بعضها، إلا أنها تلتقي في نقطة ما أثناء النمو. فالعلاقة بينهما اذن هي علاقة تكاملية، أي أن كل واحد منهما يخدم الآخر ويكمله، والنتيجة هي أن الفكر يصبح شيئا فشيئا لغة كما أن اللغة تصبح أكثر عقلانية بالفكر الذي يقيس العلماء مدى صوابه وخطئه في العمل بالمنطق السالف الذكر (...).وإذا كان السمع ميزة تجمع بين الإنسان والحيوان، كما هو معلوم فإن النطق والكلام والعقل والإدراك الذهني لما يسمع وما يلفظ من قول هو ميزة فريدة خاصة بالإنسان وحده في الكون، ولها علاقة وثيقة بالخطاب والاتصال، وهما من أقوى الوسائل الإنسانية التي تدعم الروابط بين الأفراد، ذلك أن الاتصال هو أساس التفاعل الذي يؤدي إلى نشوء علاقات متنوعة ومتعددة بين الأفراد في مختلف المواقف ابتداء من وجود شخصين على الأقل، إلى ما لا نهاية من الأفراد في المجتمع الواحد، وفي العالم كله، مع تطور وسائل الخطاب والإعلام والاتصال.
وإن الذي يهمنا هنا هو التركيز على أهمية وحيوية هذا التخاطب والتواصل الذي يتم بين متكلمين ومخاطبين، متداولين لهذه الوظيفة الإنسانية الاجتماعية الحيوية بينهما، إرسالا واستقبالا، بتلك الرموز الأساسية ذات الدلالات الفكرية كما قلنا، سواء كانت هذه الرموز شفاهية أو كتابية لفظية أو حركية كإشارات وحركات الصم والبكم في أبسط الحالات والتي لا تخرج كلها عن كونها خطابا ذا مضمون فكري دلالي إنساني اجتماعي ثقافي، قد لا يختلف عن المضمون الخطابي العادي إلا في الدرجة والفعالية، قياسا بما يحدده العلماء من شروط الخطاب الجيد الكامل العناصر والوسائل التي يحصرونها في ثلاثة أمور هي: الاتصال الجيد (الاستقبال) والتبليغ الجيد (الإرسال) والفهم الجيد (الإدراك)، وهي وسائل وشروط ثلاثة لا تكون فعالة إلا إذا كانت متكاملة أثناء العملية الخطابية أو الاتصالية، ومن ضمنها أعضاء السمع والنطق الأساسية بالنسبة للخطاب الشفهي، الذي يعتبر سيد الخطابات جميعها، وأصلها وأسبقها في الوجود، من آدم عليه السلام، الذي علم الأسماء كلها (شفهيا بطبيعة الحال) ومارس الخطاب استقبالا وإرسالا وإدراكا وتبليغا قبل أن تخترع الحروف ويعرف الخطاب والاتصال بالقراءة والكتابة، مع تقدم الإنسان وتطور حضارته ابتداء باختراع الحروف المسمارية في الحضارة السومرية عند حوالي 5200 سنة بالتقريب (...).
ولذلك فإن الحديث عن السمع هنا مهم في حياة الإنسان بقدر علاقته بوظيفة الإنسان الأساسية في الحياة، وهي العبادة والإصلاح كما قلنا، وتلقي الرسالة بالسمع وتبليغها بالكلام، فكان القول المسؤول عند الله دوما جزءا من العبادة المجازى عليها سلبا أو إيجابا ثوابا أو عقابا !!؟؟
وإذا تركنا مسؤولية الجزاء على فعل الحواس في عبادة الله جانبا، وركزنا هنا على ما يهمنا في هذه المناسبة المتعلقة بالدعوة والتبليغ في شهر التعبد والاعتكاف والتهجد في الليل والصيام في النهار الذي كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا، ونعني هنا أهمية الخطاب وعلاقته بحياة الإنسان في كل مظاهرها، ومسؤولية الإنسان وجزائه على عمل العقل باللفظ والقول المستغرق والمتضمن بالضرورة في مفهوم ودلالة العمل في العبادة، التي تتكون كما هو معلوم شرعا من فعل الجوارح وقول اللسان المعبر عن النية، وإظهار ما في الطوية بالخطاب المسؤول والمتميز بفحوى معناه ومستوى ومحتوى مبناه، تأثرا وتأثيرا حديثا وسماعا، تقبلا وبلاغا، فإن من أبرز ما يتمثل فيه هذا النوع من الخطاب الإنساني ودوره في حياةالناس أفرادا ومجتمعات عبر مختلف الأمم والقارات، هو حاجة الإنسان إليه في كل حين دون استثناء أو استغناء من أجل اتصال أهل الأرض بالأرض، أو اتصال أهل الأرض بالسماء، أو تلقي خطاب الله إلى أهل الأرض عن طريق الأنبياء والأولياء﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى 51) تبليغا، وتوصيلا، وتواصلا، بين البشر في كل شؤون الحياة، اجتماعا ودعوة وعلما وسياسة وحضارة ورسالة وعبادة وطاعة واستغفارا واستجابة!!