تعايش الذاكرة الأدبية اليوم ذكرى أليمة لرحيل "فيلسوف الصحافة" ، والذي أطلق عليه لقب "عدو المرأة"، "الأيقونة" الكاتب والأديب أنيس منصور.

ومنصور من الكتاب الخالدين الذين أثروا الساحة الثقافية بأعمالهم الأدبية المميزة والسينمائية والدرامية التي ما زالت محفورة في الذاكرة، إذ توفي في 21 أكتوبر 2011، بعدما ترك بصمة كبيرة في الأدب والفن المصري.

نشأة ثرية بالإطلاع

وُلد في محافظة الدقهلية في الثامن عشر من أغسطس عام 1924 وبدأ مشواره العلمي بحفظ القرآن الكريم في كتاب القرية، وكان لهذا الأمر أثرا كبيرا على تكوين شخصيته، وكان ملما بعدد كبير من اللغات مثل الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والروسية والألمانية، ما فتح لها بابا واسعا للاطلاع على ثقافات متنوعة انعكست في كتاباته.

فيما أثرى نجيب محفوظ الأدب العربي بالعديد من الأعمال ادرامية ، فمن أشهر أعماله الدرامية التي حققت نجاحا كبيرا "مين اللي ميحبش فاطمة"، "غاضبون وغاضبات"، و"الماضي يعود"، بجانب أكثر من 13 مسرحية عُرض عدد كبير منهم على المسرح القومي.

الرحالة أنيس منصور

وكان الأديب والصحفي المصري أنيس منصور يحب أن يصف نفسه قائلا: "أنا رحالة على سفر دائم بين الأفكار والنظريات والأحداث التاريخية".

وعن بداية ارتباطه بأدب الرحلات قال أنيس منصور: "ولدت والكتاب في يدي، ونشأت في أسرة القراءة من أهم معالم أفرادها، وهنا بدأت رحلاتي الأدبية والفكرية".

وأضاف قائلا: "كنت وأنا طفل صغير أقرأ وأنا جالس في مكانى، ولما أتيحت لي الفرصة للسفر  عبر القارات لم أتوقف عن رحلتى الفكرية والأدبية، وكل كتاب هو نوع من الرحلة العقلية أو الوجدانية".

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أنيس منصور الأيقونة الساحة الثقافية أنیس منصور

إقرأ أيضاً:

نكهة اللبان

كان مازن يبحث عن كتابٍ يؤنسه في رحلته المقبلة إلى صلالة. لا يريد شيئًا عابرًا يقضي به الطريق الطويل في حافلة المسافرين من مسقط إلى ظفار، بل رفيقًا يعيد إليه الشغف الأول بالقراءة؛ كتابًا يفتح له بابًا إلى عوالم لا تُرى، كما فعل زقاق المدقّ يومًا، حين سحره نجيب محفوظ بكلماته الأولى:

«الإنسان إذ يفقد جوهرة الحب اللامعة لا يتصور أنه سيسعد بالعثور عليها مرةً أخرى.»

أو كما حدث حين سمع مظفّر النواب يصدح في المنفى:

«أنتَ كما الإسفنجة، تمتصّ الحانات ولا تسكر»

كان يبحث عن ذلك الرجف الخفيّ، عن قشعريرة البداية. لا شيء أقلّ من ذلك.

لكن، ويا للأسف، حتى في أوسع مكتبات المدينة، لم يجد ضالّته. تصفّح الجديد والقديم، العربي والمترجَم، الشعر والرواية، ومع ذلك بقي الشعور بالظمأ كما هو. كأن كل ما هو مطروح قد مرّ بروحه من قبل، فلم يعد شيءٌ يدهشه.

سأل نفسه: أهو الملل؟ فقدان الشغف؟ أبلغ به الركود الروحي هذا الحد؟

أم أن من قرأ المعرّي، وطه حسين، وحنّا مينه، ولوركا، وماركيز، وبلزاك... لم يعد شيءٌ يُدهشه؟

ترى، هل يخدعه الأدب من جديد؟

وماذا عن الشراع والعاصفة؟

هل كانت عظيمة فعلًا أم مجرد بوابة لذاكرته الناشئة، حين كان كلُّ كتابٍ اكتشافًا للذات؟

قرأ عن البحر والصحراء، عن الزمن المفقود والعشّاق التائهين، عن الجبال وسكّانها، عن كلّ شيءٍ تقريبًا... لكنه شعر أن معين الأدب قد نضب، أو أن الدهشة فرّت منه، ولم تعد تعرف الطريق إليه.

ساعةٌ ونصف الساعة قضاها بين أرفف الشعر والرواية وكتب الرحلات والمذكّرات والسيّر، وذلك النوع من الكتب الذي يسميه صديقه الناقد «الأدب النخبوي».

قال له يومًا:

«يا لها من تسميةٍ متغطرسة! أنتم، يا صديقي، تُشبهون علماء تصنيف النبات... و يا للعجب، لا تزال الطماطم من الفواكه، والتفاح ثمرة كاذبة!»

فكّر: من أين خرجت تلك الأقلام التي كتبت لنا الأدب العظيم؟

أليسوا أبناء الحقول والحارات والمقاهي الشعبية؟

ظلّ يقلب العناوين، متجنبًا رفوف التنمية البشرية و«الأكثر مبيعًا».

حتى الأدباء الذين أحبّهم - جبران، توفيق الحكيم، منيف - لم يعودوا يشعلون فيه شرارة الدهشة.

راودته فكرة: ماذا لو جرّب نوعًا جديدًا من الكتب؟ شيئًا لم يقرأه من قبل؟

ربما يجد فيه نكهة لم يألفها.

وفي زاوية معزولة من المكتبة، استوقفه غلافٌ أسود، تتوسّطه دوّامة حمراء كأنّها ثقبٌ زمني. ذكّرته بمسلسلٍ قديم: آلة الزمن.

كانوا يديرون العجلة ويهبطون في أعماق التاريخ. بسيط، لكنه طافح بالدهشة.

مدّ يده والتقط الكتاب.

لا اسم للمؤلف، لا عنوان.

شعر للحظة أن الدوّامة تتحرك بين يديه، كأنها تنبض... كأنها تتنفس.

اضطرب قلبه قليلًا، وأحسّ بانجذابٍ غريب، يشبه ذلك الذي شعر به حين قرأ أول قصة أفزعته، أو أول رواية غيّرت شيئًا في نظرته للعالم.

على الغلاف الخلفي، عبارةٌ واحدة:

«اقرأ بقلبك، تجد المتعة والدهشة.»

كم سمعها! وكم خذلته!

لكن شيئًا ما، دفينًا وعصيًّا على التفسير، دفعه ليفتح الكتاب.

لا مقدّمة، لا إهداء، لا فصول.

فقط دوّامات - بيضاء وسوداء وحمراء - واحدة في كل صفحة، تدور ببطء، ثم تتسارع كلما أطال النظر.

همّ بإعادته إلى مكانه... لكنه لم يستطع.

تسمّرت عيناه على الصفحة الأولى، وفي مركز الدوّامة، دائرة بيضاء، تنبض هي الأخرى.

وحين حدّق فيها، لم يرَ رسومات أو كلمات.

رأى ومضات من طفولته انبثقت كوميض برق:

بيت الطفولة.

رائحة البحر في مطرح.

يد أبيه المنمّشة.

ملامح أمّه الوادعة وهي تحكي له عن سندباد البحّار.

وصوتٌ قديم يهمس في أذنه:

«في البدء كانت الحكاية...»

قلب الصفحة.

كلماتٌ قليلة، كأنها تخرج من تلافيف الذاكرة:

«كان يا ما كان...»

«أيها السائل عن وطني، إنه الكلمات...»

«من يبدّد هذا الظلام؟ من يشعل جمرة المعنى؟»

«كلّما ازددتُ معرفة، ازددتُ وجعًا.»

ثم صُوَّر متقطعة:

ظلّ امرأة.

طفلٌ يلوّح لمركبٍ يغادر.

شجرة ليمون.

جدار طينيّ كُتبت عليه ذكريات وأحرف عربية.

ملعب ترابيّ في الحارة.

ثم سمع تهويدة أمّه:

«لومية يا لومية

مزروعة في الشمال

وعروقها في مسقط

ومظللة على عُمان...»

ثم - فجأة - انتهى كلّ شيء.

لا يدري كم مضى من الوقت.

الصفحات التالية كانت فارغة، والسابقة كذلك.

كأنّ ما رآه لم يكن موجودًا أصلًا، أو أن هذا الكتاب - بطريقة ما - قد نفض التراب عن كل ما سقط في بئر الذاكرة.

تنهد، وأعاد الكتاب إلى الرفّ المعزول.

لعلّ من سبقه تركه هناك عمدًا، كما سيفعل هو الآن.

لعلّه، مثله، أراد لغيره أن يقع في الدهشة.

وما زال مازن بحاجة إلى كتابٍ للرحلة.

مشى بين الأرفف بلا هدف، حتى قادته قدماه إلى قسم المجموعات القصصية.

لم يحبّها من قبل، لكنه بحاجة إلى شيء مختلف: أعمال قصيرة، مكثّفة، وقد تشدُّ القارئ - وهذا ما يحتاجه الآن.

سحب أول كتاب من الرف.

العنوان: العابرون فوق شظاياهم

الكاتب: عبد العزيز الفارسي

قلب الصفحات سريعًا، وقعت عيناه على هذه الجملة:

«وتختفين يا نكهة اللبان..»

استوقفته القصة، أجبرته على قلب الصفحة التالية، فقرأ:

«يا أيها القلب المدجج بالخواء: وطني المسافات التي نفت الغريب إلى أقاصي العاصفة»

أحس بقشعريرة خفيفة.

ابتسم، وهمس لنفسه:

ها قد عاد ذلك الرجف القديم.

سعد السامرائي قاص عراقي

مقالات مشابهة

  • بلاغ البرهان رقم صفر: ضد اللساتك وضد الذاكرة
  • خطوات مهمة لتحفيز العقل وتحسين الذاكرة
  • الإخوان المسلمون.. إشكالية الذاكرة المثقوبة!
  • الرموز الأدبية ودورها في أدب المقاومة.. مناقشات مؤتمر أدباء القناة وسيناء بدورته الـ 25
  • أنيس بيرو: الأحرار كسب ثقة المواطنين بالجدية و المنجزات
  • نكهة اللبان
  • وداعًا لآخر كُتّاب «الطفرة الأدبية» في أمريكا اللاتينية
  • بين الفن والإعلام.. محطات لا تُنسى في حياة نجوى إبراهيم ورسالة مؤثرة للمنتقدين
  • في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.. أسامة المسلم: القصص فسحة حياة ولا خوف من الذكاء الاصطناعي
  • ذكرى ميلاد نور الشريف.. محطات في حياة الأستاذ «صائد الجوائز»