هل ينهي استشهاد السنوار الحرب؟ الفرضيات الثلاث
تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT
كان استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار ملحميا ساهم في ترسيخ اسمه كأسطورة وأيقونة للنضال الفلسطيني من جهة، ومثّل بالتأكيد مرحلة جديدة في معركة طوفان الأقصى، لكن السؤال الأهم الذي طرح نفسه هو ما إذا كان غيابه عن المشهد قد يساهم في وقف الحرب على غزة قريبا.
هذا الادعاء أو هذه القراءة، أي توقف الحرب بسبب غياب "مهندس الطوفان" كما أطلق عليه، بُني على إحدى ثلاث فرضيات؛ الأولى، أن السنوار كان يرأس التيار المتشدد في حركة حماس بخصوص التفاوض وشروط وقف إطلاق النار، وبالتالي فغيابه عن قيادتها قد يمهد الطريق لقيادة أكثر مرونة قد تستطيع الوصول لاتفاق لوقف الحرب.
تتجاهل هذه الفرضية، عن عمد، أن السنوار كان جزءا من القيادة التي فاوضت الاحتلال بشكل غير مباشر عبر الوسطاء منذ بداية العدوان على غزة، وأنه كان جزءا رئيسا فيها كقائد للقطاع أولا ثم للحركة لاحقا، وأن القيادة التي هو جزء منها أعلنت في المرحلتين موافقتها على مبادرات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بينما رفضها الاحتلال. وتتجاهل هذه الفرضية، عن عمد كذلك، أنه لم يطرأ تغير في موقف حماس بعد اغتيال إسماعيل هنية واختيار السنوار لرئاسة مكتبها السياسي فيما يتعلق بالشروط التي تطالب بها للتوصل لاتفاق، وهي مطالب الحد الأدنى المتضمنة وقفا لإطلاق النار والخروج من القطاع وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار وتبادل الأسرى.
السنوار كان جزءا من القيادة التي فاوضت الاحتلال بشكل غير مباشر عبر الوسطاء منذ بداية العدوان على غزة، وأنه كان جزءا رئيسا فيها كقائد للقطاع أولا ثم للحركة لاحقا، وأن القيادة التي هو جزء منها أعلنت في المرحلتين موافقتها على مبادرات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بينما رفضها الاحتلال
ولذلك فمن اللافت أن هذا الادعاء ورد على ألسنة المسؤولين الأمريكيين (والأوروبيين) الداعمين لحكومة الاحتلال في حرب الإبادة التي تشنها على القطاع، وهم في تحميلهم مسؤولية الإخفاق في التوصل لاتفاق لحماس والسنوار تحديدا وإنكارهم رفض الاحتلال لها؛ إنما يستمرون في منح الأخير الغطاء السياسي للمضي في جرائمه، فضلا عن كونها رسائل للداخل الأمريكي توحي بإمكانية التوصل لاتفاق- إنجاز قبيل الانتخابات الرئاسية. وفي العموم، فتصريحات نتنياهو وباقي مسؤولي الاحتلال لا تدعم هذه الفرضية ولا تتحدث عن مسار تفاوض من الأصل.
وأما الفرضية الثانية المرتبطة بالأولى، فتدعي أن رحيل الرجل سيأتي بقيادة أوطأ سقفا منه وأقرب لتقديم تنازلات للاحتلال؛ ليس فقط في مسار التفاوض ولكن حتى ميدانيا. بكلمات أخرى، يرى أصحاب هذه الفرضية أن القائد الجديد لحماس سينظر لمقتل السنوار على أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة اغتيال القيادات السياسية والعسكرية للمقاومة، إضافة للضربات والخسائر التي تعرضت لها الأخيرة على مدى عام من الحرب غير المتكافئة، فضلا عن الوضع الإنساني الكارثي للمدنيين في القطاع، فيتجه لقرار "عقلاني" بوقف الحرب من طرف المقاومة، أي الاستسلام ورفع الراية البيضاء بغض النظر عن كيفية تسويق قرار من هذا النوع.
يغيب عن هذه الفرضية أن موقف السنوار ليس مختلفا عن موقف القيادة الحالية لحركة حماس، وأن الأخيرة اختارته بالإجماع رئيسا لها بعد اغتيال هنية؛ ما فُهم على أنه غطاء سياسي للمعركة وتخندق كامل خلفه وخلفها. كما أنها تغفل الصعوبة البالغة في التراجع والاستسلام بعد كل التضحيات التي قدمها الشعب والمقاومة في غزة بما قد يجعلها -أي التضحيات- سدى وبلا ثمن أو مكسب، فضلا عن أن الموقف الميداني للمقاومة أبعد ما يكون عن الفشل والعدمية رغم ما تعرضت له من ضربات.
تتجه التيارات الثورية وحركات المقاومة عموما للثبات والصمود أكثر لدى تغييب قياداتها، فما بالك بالمشهد الأيقوني الأخير للسنوار الذي قد يستحيل معه التراجع عن مواقف الأخير وسقفه في المعركة، فكيف والسقف واحد أصلا كما سبق تفصيله؟! تكون القيادات الجديدة عادة أمام استحقاق إثبات الذات الذي يأتي بالثبات والإنجاز وليس التراجع والاستسلام، وأمانة الثبات على الموقف، ومسؤولية الثأر والانتقام للقائد السابق وكل الضحايا من شعبهم، وهذا ما أكدت عليه كلمات قيادات حماس في تأبين قائدها.
وأما الفرضية الثالثة، التي تستشرف إمكانية وقف الحرب بعد استشهاد السنوار، فهي أن تغييب الرجل هدف كبير يمكن لنتنياهو تقديمه كصورة نصر تمكنه من النزول عن شجرة الحرب، والتوجه لوقفها بادعاء تحقيق الأهداف وفي مقدمتها كسر قوة حركة حماس عبر سلسلة من "الإنجازات"؛ كان آخرها قتل السنوار الذي ارتبط الطوفان باسمه.
هذه الفرضية كانت تكررت أصلا مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري، ثم مع اغتيال رئيسه إسماعيل هنية، ثم مع اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفي كل مرة أثبت الاحتلال أنه لن يكتفي بهذا "الصيد الثمين" وفق تعبيره لوقف الحرب.
صحيح أن ثمة اختلافا في حالة السنوار، لما يمثله رمزيا ومعنويا وفعليا كقائد لعملية الطوفان فكرة وتنفيذا، ورأس لحركة حماس في غزة ثم عموما، إضافة لقتله بعد عمليات الاغتيال المذكورة بما يمكن عدُّهُ ختما لسلسلة اغتيالات القيادة، إلا أن تصريحات الاحتلال لا تقول بذلك. إذ لم تشر التصريحات التي صدرت بعد إعلان مقتله إلى معنى تحقيق الهدف أو اقتراب نهاية الحرب، وإنما إلى نجاعة نهج القوة والقتل في تغييب قيادات حماس "ما يجعلنا أقرب لتحرير الأسرى" على ما ادعى نتنياهو.
لا يبدو أن استشهاد السنوار يعني قرب نهاية الحرب على غزة وفي المنطقة عموما، وإن شكل محطة مهمة وانعطافة كبيرة فيها، إذ المرجح أن تتجه الحرب للتوسع في هذه الفترة بانتظار قدوم إدارة أمريكية جديدة
من جهة ثانية، ما زال الاحتلال يهدد بضربة كبيرة لإيران، بل أعلن أن قرارها قد اتخذ بانتظار تحديد ساعة الصفر، وما زال غارقا في الجبهة اللبنانية دون القدرة على التقدم الواسع أو إعادة المستوطنين للشمال. وعليه، فإن الحرب مرجحة للتصعيد لا النهاية في الأفق المنظور، وفق تصريحات الاحتلال وإجراءاته والمعطيات الميدانية والسياسية.
وإذن، ختاما، لا يبدو أن استشهاد السنوار يعني قرب نهاية الحرب على غزة وفي المنطقة عموما، وإن شكل محطة مهمة وانعطافة كبيرة فيها، إذ المرجح أن تتجه الحرب للتوسع في هذه الفترة بانتظار قدوم إدارة أمريكية جديدة. فالغالب أن نتنياهو سيستغل ضعف قدرة بايدن -المغادر يقينا للمكتب البيضاوي- للضغط عليه، وكذلك تجنب هاريس أو ترامب مغامرة انتقاده مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وهو إلى ذلك يرى أن التصعيد في المنطقة يعزز من فرص ترامب الذي يفضّله رئيسا.
ولذا، فسيصر نتنياهو على استمرار الحرب وتوسيعها قدر الإمكان، إذ لا يرى أن وقفها في المرحلة الحالية يمكّنه من ادعاء النصر وتحقيق الأهداف وتأمين "دولة إسرائيل" من الأخطار رغم غياب/تغييب عدوّه الأبرز وقائد المعركة، أي يحيى السنوار.
x.com/saidelhaj
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حماس السنوار غزة نتنياهو حماس غزة نتنياهو السنوار طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة استشهاد السنوار القیادة التی کان جزءا على غزة
إقرأ أيضاً:
هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟
لطالما ملأت هوليود رؤوسنا بحكاياتها عن أبطال الغرب؛ فترى أحدهم منقذا للعالم من غَزو فضائي في إحدى الحكايات، وفي أخرى، نشاهد بسالة البطل وقدراته الخارقة في مواجهة هجمات الأشرار (من الشيوعيين أو النازيين أو غيرهم)، التي كادت تُهلك العالم لولا حضور المنقذ الأبيض. ودائمًا ما يواجه هذا البطل صراعًا مريرًا، يتأرجح خلاله بين النصر والانكسار، ويكون الصمود مفتاحا لغلبته في الأخير، بما يأذن بمشهد ختامي مؤثر تتقن هوليود إخراجه.
يحدث ذلك في الأفلام وفق سيناريو محسوب ومحدد مسبقًا على الورق، وليس مقبولًا بأي حال أن يحيد طاقم العمل عن خطوطه الأساسية، فمن شأن ذلك أن يفسد ذروة الختام. ولكن في مقابل تلك الصورة السينمائية المحبوكة والمغلفة بالبروباغندا، غالبا ما تكون مشاهد البطولة الحقيقية على الأرض أكثر بساطة وواقعية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القسام في شوارع غزة من جديد.. ما دلالات عروض النصر؟list 2 of 2أبو عبيدة في خطاب النصر.. البلاغة من فوهة البندقيةend of listأحد تلك المشاهد بلا شك هو ما رأيناه في قطاع غزة، في الساعات الأولى لسريان وقف النار من جانب المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، وهو مشهد على واقعيته لم يخل من ملحمية واضحة. خرج مقاتلو كتائب القسام بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر الشهير، نظيفا ومرتبا وزاهيا، وكأنهم متوجهون إلى مهرجان أو احتفالية، وسرعان ما انتشر هؤلاء المقاتلون في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائقَين، وظهرت معهم سيارات الدفع الرباعي البيضاء ناصعة.
إعلانبالنظر إلى أن ذلك كله حدث مباشرة بعد 470 يوما من حرب الإبادة التي لم تتورع فيها إسرائيل عن استخدام طريقة مهما كانت لإخضاع شعب غزة ومقاومتها، يبدو ذلك المشهد سينمائيا بامتياز. وللحقيقة، من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهاره بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين، رسائل حول قوة وصلابة مقاتليها بعد هذه الجولة من القتال المطول، وحول حجم التفاف الشعب الغزي حولها رغم إمعان إسرائيل في التنكيل به لدفعه لنبذ المقاومة، وأخيرا حول حيوية وكفاءة تنظيمها الذي أدار المشهد بحرفية بالغة، وعناية مثيرة للانتباه بأدق التفاصيل وأصغرها.
كما هي العادة.. التخطيط والاهتمام بأدق التفاصيلفي الحقيقة كان الاهتمام بالتفاصيل دائما أحد السمات المميزة لحركة حماس، وفي القلب منها جناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. ويرجع ذلك إلى إدراكها أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكما أنه صراع حول الأهداف والقضايا الكبرى، فهو أيضا صراع حول السردية والرواية وحتى التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل، التي تظهر في الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الموجهة وغيرها، غالبا ما تكون قادرة على مخاطبة مخاوف الإسرائيليين وغرائزهم واللعب على أوتار انقساماتهم، مما يعكس فهما "مزعجا" من قبل الفلسطينيين لطبيعة خصمهم ودوافعه ومحركاته الأساسية.
وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، بإمكاننا أن نعثر على شواهد عدة على ذلك الاهتمام بالتفاصيل ليس فقط في المشاهد والرسائل الإعلامية ولكن في تنظيم الفعل المقاوم نفسه. من ذلك على سبيل المثال، اللمسات النهائية التي وضعتها المقاومة على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في وقت كانت فيه إسرائيل تتخبط داخليا على خلفية توترات وانقسامات سياسية طويلة، بسبب مجموعة التشريعات التي دفع بها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو ضمن خطته "للإصلاح القضائي" التي قابلت رفضا واسعا من قبل الكثير من الإسرائيليين.
إعلانوكان من شأن هذه الاضطرابات الداخلية أن توفر ما يشبه "الضوضاء الخلفية"، التي عملت على تشتيت انتباه الاستخبارات وأجهزة الأمن الإسرائيلية عن نية حماس وتحركاتها.
سبق ذلك استثمار حماس في البنية التحتية للأنفاق عبر إنشاء شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض، تمكّنها من شنّ هجمات مفاجئة، ومن المؤكد أن هذه المرافق ساهمت في إخفاء الاستعدادات وتعزيز عنصر المباغتة، سواء خلال هجوم طوفان الأقصى أو فيما تلاه من المعارك الحضرية داخل القطاع.
كما اتضحت قدرة المقاومة، خلال شهور الحرب، على استغلال بيئة المعركة وتعقيداتها على النحو الأمثل، رغم فارق القدرات بين الطرفين، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال الاستعداد الدقيق بعيد المدى، وفق ما يشرح زميل معهد واشنطن، مايكل نايتس، مشيرا أن حماس أعدت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها، فضلًا عن تجهيز حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المرتجلة والألغام المضادة للدروع والمباني المفخخة، كما نجحت في تعقيد بيئة العمليات بصورة أكبر بعد احتجازها لأسرى إسرائيليين، مما دفع الداخل الإسرائيلي إلى حالة انقسام بشأن مصير هؤلاء الأسرى طوال مدة الحرب.
حماس أعدّت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها (الجزيرة) الحرب كوجه للسياسةوعلاوة على الشق العملياتي، أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اليوم الأول أن الاحتلال سوف يرد بشراسة على هجوم طوفان الأقصى، وتجهزت للصمود أمامه دون نسيان تحقيق أكبر استفادة سياسية ممكنة لقضيتها حتى وهي تخوض الحرب الأكثر شراسة في تاريخها.
وفي هذا الصدد، تمكنت المقاومة والمتعاطفون معها في الخارج من تحقيق إنجازات على محاور عدة، منها النجاح في ضرب سياج من العزلة الدولية حول إسرائيل، واكتساب التعاطف الشعبي خاصة بين الفئات الأصغر عمرا في الغرب، والتي سوف تشكّل الكتلة الانتخابية الأكبر في بلدانها في غضون السنوات القادمة، ومن المرجح أن يكون لها دور في الحد من الدعم الغربي غير المشروط لدولة الاحتلال في المستقبل في حال تحول هذا التعاطف الشعبي إلى قرار انتخابي يوجّه قرار الناخب.
إعلانكما يمكن ملاحظة أثر الطوفان في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المناقشات العربية والدولية.
لقد كان كل يوم، بل كل ساعة، من الصمود للمقاومة وشعبها في غزة يسقط المزيد من الأصباغ عن وجه إسرائيل ويكشف المزيد من الحقائق على معاناة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. وهو ما يشير إليه "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، منوهًا أن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو 5 أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال، الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل.
وبتعبير آخر، يمكن القول إن ما قامت به المقاومة، يتقاطع مع مفاهيم المنظّر البروسي الشهير "كلاوزفيتز"، الذي رأى في الحرب وجها آخر للسياسة أو شكلا من أشكال العمل السياسي (ونعني هنا العمل السياسي بمفهومه الشامل وليس بمفهومه الحزبي الضيق)، وتمكنت بذلك من إعادة توجيه القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة كي تعمل ضده، مستغلة تخبط القيادات الإسرائيلية وافتقارها إلى الرؤية بشأن هدفها من الحرب، وافتقادها القدرة على تحقيق ما تريد.
ورغم امتلاك إسرائيل اليد العليا من حيث التقنيات والأسلحة والدعم الغربي غير المشروط، فإنها كانت تتحرك في الأخير على الرقعة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية وصممتها بنفسها. وكأن ما دار هو لعبة شطرنج بين خصمين، تمكّن خلالها أحدهما من توجيه الآخر نحو نقلات إجبارية ودفعه إلى التحرك وفق ما يريد.
وكان الختام لذلك، هو قبول إسرائيل بوقف الحرب وتبادل الأسرى مرغمة لا طائعة بعد أشهر من رفضها الصفقة نفسها، تلك الصفقة التي وُصفت بـ"صفقة الاستسلام" من قبل بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية وقادتها الذين اعتبروها إعلان هزيمة لإسرائيل، فاستقال على أثرها الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة والكنيست الإسرائيلي، فيما اعتبرها وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش صفقة "كارثية".
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (وسط) ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي (وكالات) رسائل حماسنخلص من ذلك إلى أن قوة حماس تمثلت بشكل أساسي في تقديرها وحسابها لكل خطوة، واعتبارها أن ما هو فرعي يقع على الدرجة نفسها من الأهمية التي يحظى بها الرئيسي، وكان ذلك سبيلها لتحقيق التوازن (بل والتفوق النسبي) بشكلٍ ما أمام فارق القوة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مما يدفعنا بالضرورة إلى إعادة النظر في المشاهد التي أعقبت وقف إطلاق النار في غزة، واعتبارها أيضًا جزءًا ضمن أهداف حماس وإستراتيجيتها طويلة النفس لمجابهة دولة الاحتلال.
إعلانوفيما يبدو، أرادت المقاومة -في المقام الأول- أن تثبت لإسرائيل، أن ما أعلنه نتنياهو في وقت سابق، حول القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، باعتباره هدفا لحربه الضارية على القطاع ومسوغا لتدميره، هو أمر لم يتحقق، والدليل، تمكّن أفراد حماس من استعادة السيطرة على القطاع في غضون دقائق من إعلان وقف إطلاق النار، وظهورهم بالزي الموحد البرّاق والمركبات العسكرية والنشاط الجمّ، وكأنهم لم يتأثروا بخوض هذه الحرب الطويلة بتاتا، وفي ذلك رسالة إلى عدوهم بأنهم على استعداد لتحمل حرب أطول إذا ما اقتضت الظروف.
كما حملت هذه المشاهد نوعا من استعراض القوة، الذي يحطم أي ادعاء نصر يزعمه نتنياهو أمام شعبه، كما يساهم في تدني الروح المعنوية لعدوهم الإسرائيلي، الذي استُهلك ماديا وبشريا ونفسيا على مدار هذه الشهور، دون تحقيق أي من أهدافه الرئيسية. وفي السياق ذاته، ينفي ظهور أفراد القسام في وسط غزة واستقبالهم بهذه الحفاوة من قبل الأهالي، الشائعات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام الغربية، والتي زعمت خلالها أن أهالي القطاع يحمّلون المقاومة وزر تعرضهم للقصف الإسرائيلي على مدار هذه الشهور، كما يُبطل ذلك أي محاولات للوقيعة بين القسام وبين حاضنتها الشعبية في غزة.
أكثر من ذلك ينطوي مشهد غزة الموحدة -على ذلك النحو- على رسالة أخرى للاحتلال، مفادها أن قوة القسام البشرية قابلة للتجدد والتعويض بل وللزيادة مما يبدد اعتقاد الاحتلال في إمكانية القضاء على المقاومة، عبر إسقاطه أكبر عدد من الشهداء وسط صفوفها. وأكثر من ذلك تُظهر الترتيبات والتحركات المنظمة من أفراد الحركة داخل القطاع، أن المقاومة الفلسطينية نجحت ولو نسبيا في تجديد هيكلها القيادي بعد اغتيال الاحتلال لعدد من قادتها البارزين وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهو ما يهدم نظرية تقويض الحركة من خلال استهداف قادتها.
إعلانوفي الختام، جاء تسليم الأسرى، ليتوج رسائل حماس السياسية في مشهد النصر. ظهرت الأسيرات الإسرائيليات الثلاث في أفضل هيئة ممكنة، بثياب نظيفة وضفائر معقودة بعناية ووجوه مطمئنة لا توحي إطلاقا بقضائهن 15 شهرا كاملة في الأسر تحت وطأة القصف والحصار والتجويع. ناهيك بالهدايا التي وزعّها عليهن رجالُ القسّام وشملت خريطة لقطاع غزة وشهادة إفراج وصورا تذكارية من فترة الأسر.
يشير ذلك المشهد أن الأسيرات حظين بأفضل معاملة ممكنة وفق الظروف المتاحة، تماما كما تأمر الشريعة الإسلامية الغراء. تتناقض تلك الصورة تماما مع صورة الأسيرة الفلسطينية المفرج عنها من سجون الاحتلال خالدة جرار، إذ بدت مذهولة ومنهكة بشكل واضح وبحاجة إلى من يتناول يدها ويسندها خلال سيرها. وتكفي هذه المقارنة كي تبرهن للعالم على الفارق الإنساني والأخلاقي بين الطرفين، لمن أراد أن ينتبه أو يعتبر.