موقع النيلين:
2025-03-18@01:31:35 GMT

عادل الباز: اقتصاديات الحرب (2/2)

تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT

1 في الحلقة الأولى من هذا المقال، قلت إننا نادراً ما نتحدث عن اقتصاديات الحرب، مع أن جوهر هذه الحرب اقتصادي بامتياز. فهي حربٌ من يفوز بها سيفوز بالكنز، وهو موارد السودان غير المحدودة. وهل أشعلوا الحرب إلا من أجل نهبها؟!
انتهينا في الحلقة السابقة من فحص الموقف الاقتصادي للمليشيات المتمردة. اليوم، سنرى كيف أُدير الاقتصاد السوداني في خضم حربٍ مفاجئة شلّت وأهدرت أغلب مقدرات الدولة وكل مؤسساتها الاقتصادية، فتوقفت 80% من إيرادات الدولة.


2
اعتمد الاقتصاد خلال العام وسبعة أشهر الماضية، وهي عمر الحرب، على ثلاثة موارد رئيسية لتعويض فاقد الإيرادات الذي خسرته الدولة مع اندلاع الحرب.
المورد الأول هو الذهب. ولحسن الحظ، أن أغلب مناطق مناجم الذهب التابعة للشركات الكبيرة، ومناطق التعدين الأهلي، تقع في الشمال (70%)، وهي مناطق خالية من التمرد. ومع ذلك، وبفعل صدمة الحرب والمخاوف العديدة، توقفت بعض الشركات الكبرى بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة تصاعد أسعار الوقود. أدى كل ذلك إلى تراجع إنتاج الذهب. وتشير البيانات الرسمية إلى انخفاض إنتاج الذهب في عام 2023 إلى 6.4 طن مقارنة بعام 2022، حيث بلغ الإنتاج 41.8 طن.
مواقع التعدين التقليدي والأهلي لإنتاج الذهب تقلّصت من 14 ولاية إلى 6 ولايات، وتراجعت أسواق بيع الذهب من 72 سوقاً إلى 52 سوقاً بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان 2023. كما توقفت الشركات الكبرى ذات الامتيازات، ومعظمها أجنبية.
3
المفاجأة حدثت مع بداية عام 2024، حين قفز إنتاج الذهب منذ بداية العام وحتى أغسطس إلى 29.2 طنًا، بعائد فعلي بلغ 1.86 مليار دولار. وتُشير التوقعات إلى أن الإنتاج قد يصل بنهاية العام إلى 60 طنًا، خاصة بعد عودة 6 شركات أجنبية كبيرة إلى العمل في مربعات امتيازها. كما شهد القطاع دخول رجال أعمال كانوا قد توقفوا عن نشاطهم التجاري، فيما اتجهت العمالة التي فقدت مصادر رزقها نحو مواقع التعدين.
كان قطاع الذهب قد حقق أعلى مردود له في عام 2022، حيث بلغت إيراداته 3.6 مليار دولار.
4
شكلت إيرادات الذهب المذكورة أعلاه أعلى نسبة من إيرادات الدولة، وهي التي ساهمت حتى الآن في تفادي انهيار اقتصادي شامل كان متوقعًا. كما وفّرت تلك الإيرادات مصدرًا مهمًا لتمويل متطلبات الحرب الكبيرة من أسلحة وذخائر ورواتب الجنود.
حدث هذا في ظل غياب الدعم الخارجي أو حلفاء قادرين على تغطية تكاليف الحرب باستمرار، باستثناء ثلاث دول قدمت دعمًا كبيرًا للسودان، ستكشف الأيام عن تفاصيله.
5
كان للمغتربين دوراً بارزاً في دعم صمود الدولة، حيث تكفلوا بمصاريف وتكاليف كانت تقدَّم من الدولة للموظفين. ومع توقف دولاب الدولة، تحمّل المغتربون تكاليف التعليم والمرتبات والصحة ومصروفات الإعاشة، فباتوا يقومون بمهام الدولة تجاه أسرهم الممتدة، سواء في الداخل أو في الخارج كلاجئين.
6
ساهم بعض رجال الأعمال بسخاء كبير في دعم الدولة ووقفوا معها في لحظات حاسمة، عندما كانت بحاجة إلى كل شيء وخزائنها فارغة. دفعوا من مواردهم الخاصة، بل استدان بعضهم من بنوك خارجية لتلبية الاحتياجات العاجلة للدولة. ساهموا كذلك في شراء الأسلحة وتسهيل عقد اتفاقيات مهمة.
7
تحمل المجتمع الأهلي عبئًا كبيرًا في المجهود الحربي، حيث ساهم في تشوين أغلب المتحركات العسكرية التي ارتكزت في بعض الولايات لفترات طويلة. كما قدمت القبائل موجات كبيرة من التبرعات العينية، دعمت بها الجيش في معسكراته المختلفة. امتد عطاء بعض المناطق والقبائل ليشمل شراء الأسلحة، بما في ذلك أسلحة ثقيلة ومتقدمة تكنولوجيًا.
8
رغم أن الدولة استطاعت الصمود وتجاوز صدمة الحرب في أيامها الأولى، بل خلال العام وسبعة أشهر، مع فقدانها 80% من إيراداتها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي خططها للمستقبل؟ خاصة أن الحرب لا تزال مستمرة ويبدو أنها ستطول، مما يتطلب صرفًا مستمرًا وهائلًا على كافة الأصعدة والجبهات.
ستواصل الدولة الاعتماد على الذهب كمورد رئيسي لتمويل الحرب وأنشطتها المحدودة. كما ستسعى إلى تعظيم الاستفادة من التحالفات التي أنشأتها مؤخرًا، خاصة مع قطر وروسيا وإيران والصين والجزائر. يمكنها الحصول على تمويلات عبر رهن بعض مربعات ومناجم الذهب لتلك الدول، مع انتهاج سياسات جاذبة للشركات العالمية العاملة في مجال التعدين، في ظل تصاعد الاهتمام بالذهب عالميًا.
قد تدخل الدولة أيضًا في شراكات في مجالات أخرى، تحقق عوائد سريعة، مثل المشروعات الزراعية الكبرى (كمشروع زادنا). كذلك، سيستمر الدعم الأهلي والمجتمعي للقوات المسلحة، بالإضافة إلى دعم المغتربين للأسر، مما يخفف من مسؤوليات الدولة تجاه المواطنين.
9
قد يستغرق استعادة الاقتصاد السوداني لعافيته عدة سنوات. ولكن مع استمرار الجيش في دحر التمرد، ستعود الحياة تدريجيًا إلى المناطق المحررة، مما سينعش التجارة المحلية. في المقابل، سترتفع فاتورة السلع المستوردة لفترة طويلة، إلى حين عودة الصناعات المحلية إلى إنتاج السلع الأساسية.
سيكون على الدولة توفير مدخلات الإنتاج للقطاعات المهمة، مثل القطاع الزراعي وقطاع الثروة الحيوانية. وعلى الرغم من أن هذه القطاعات قد لا تحقق عوائد مادية كبيرة، فإنها ستوفر الغذاء، وهو عنصر أساسي لاستقرار المواطنين في الداخل، خاصة مع توقع عودة المزيد من السودانيين من الخارج.
أخيرًا، تحتاج الدولة إلى مرونة في اتخاذ سياسات تستوعب الصدمات وتخفف من تصاعد الدولار في السوق الموازي، مع تعزيز الإنتاج في القطاعات ذات العوائد الكبيرة، لتوفير فرص عمل للعاطلين الذين فقدوا مصادر رزقهم بسبب الحرب.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: إنتاج الذهب

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • كيف كانت طبيعة ووظائف الدولة في فترة الحكم التركي؟
  • "مطلوبة" تحلق بلقب الشوط الأول في المهرجان الختامي لسباقات الهجن
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • لماذا يقبل المصريون على السيارات المجمعة محليًا؟
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • كبيرة ومتنوعة.. عون يكشف عن التحديات التي يواجهها لبنان
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • ارتفاع الطلب على الذهب كملاذ آمن مع تزايد مخاطر الحرب التجارية
  • ستارمر: الحل الوحيد لإنهاء الحرب في أوكرانيا هو سلام عادل يصون سيادة البلاد