موقع النيلين:
2025-02-01@18:33:45 GMT

عادل الباز: اقتصاديات الحرب (2/2)

تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT

1 في الحلقة الأولى من هذا المقال، قلت إننا نادراً ما نتحدث عن اقتصاديات الحرب، مع أن جوهر هذه الحرب اقتصادي بامتياز. فهي حربٌ من يفوز بها سيفوز بالكنز، وهو موارد السودان غير المحدودة. وهل أشعلوا الحرب إلا من أجل نهبها؟!
انتهينا في الحلقة السابقة من فحص الموقف الاقتصادي للمليشيات المتمردة. اليوم، سنرى كيف أُدير الاقتصاد السوداني في خضم حربٍ مفاجئة شلّت وأهدرت أغلب مقدرات الدولة وكل مؤسساتها الاقتصادية، فتوقفت 80% من إيرادات الدولة.


2
اعتمد الاقتصاد خلال العام وسبعة أشهر الماضية، وهي عمر الحرب، على ثلاثة موارد رئيسية لتعويض فاقد الإيرادات الذي خسرته الدولة مع اندلاع الحرب.
المورد الأول هو الذهب. ولحسن الحظ، أن أغلب مناطق مناجم الذهب التابعة للشركات الكبيرة، ومناطق التعدين الأهلي، تقع في الشمال (70%)، وهي مناطق خالية من التمرد. ومع ذلك، وبفعل صدمة الحرب والمخاوف العديدة، توقفت بعض الشركات الكبرى بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة تصاعد أسعار الوقود. أدى كل ذلك إلى تراجع إنتاج الذهب. وتشير البيانات الرسمية إلى انخفاض إنتاج الذهب في عام 2023 إلى 6.4 طن مقارنة بعام 2022، حيث بلغ الإنتاج 41.8 طن.
مواقع التعدين التقليدي والأهلي لإنتاج الذهب تقلّصت من 14 ولاية إلى 6 ولايات، وتراجعت أسواق بيع الذهب من 72 سوقاً إلى 52 سوقاً بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان 2023. كما توقفت الشركات الكبرى ذات الامتيازات، ومعظمها أجنبية.
3
المفاجأة حدثت مع بداية عام 2024، حين قفز إنتاج الذهب منذ بداية العام وحتى أغسطس إلى 29.2 طنًا، بعائد فعلي بلغ 1.86 مليار دولار. وتُشير التوقعات إلى أن الإنتاج قد يصل بنهاية العام إلى 60 طنًا، خاصة بعد عودة 6 شركات أجنبية كبيرة إلى العمل في مربعات امتيازها. كما شهد القطاع دخول رجال أعمال كانوا قد توقفوا عن نشاطهم التجاري، فيما اتجهت العمالة التي فقدت مصادر رزقها نحو مواقع التعدين.
كان قطاع الذهب قد حقق أعلى مردود له في عام 2022، حيث بلغت إيراداته 3.6 مليار دولار.
4
شكلت إيرادات الذهب المذكورة أعلاه أعلى نسبة من إيرادات الدولة، وهي التي ساهمت حتى الآن في تفادي انهيار اقتصادي شامل كان متوقعًا. كما وفّرت تلك الإيرادات مصدرًا مهمًا لتمويل متطلبات الحرب الكبيرة من أسلحة وذخائر ورواتب الجنود.
حدث هذا في ظل غياب الدعم الخارجي أو حلفاء قادرين على تغطية تكاليف الحرب باستمرار، باستثناء ثلاث دول قدمت دعمًا كبيرًا للسودان، ستكشف الأيام عن تفاصيله.
5
كان للمغتربين دوراً بارزاً في دعم صمود الدولة، حيث تكفلوا بمصاريف وتكاليف كانت تقدَّم من الدولة للموظفين. ومع توقف دولاب الدولة، تحمّل المغتربون تكاليف التعليم والمرتبات والصحة ومصروفات الإعاشة، فباتوا يقومون بمهام الدولة تجاه أسرهم الممتدة، سواء في الداخل أو في الخارج كلاجئين.
6
ساهم بعض رجال الأعمال بسخاء كبير في دعم الدولة ووقفوا معها في لحظات حاسمة، عندما كانت بحاجة إلى كل شيء وخزائنها فارغة. دفعوا من مواردهم الخاصة، بل استدان بعضهم من بنوك خارجية لتلبية الاحتياجات العاجلة للدولة. ساهموا كذلك في شراء الأسلحة وتسهيل عقد اتفاقيات مهمة.
7
تحمل المجتمع الأهلي عبئًا كبيرًا في المجهود الحربي، حيث ساهم في تشوين أغلب المتحركات العسكرية التي ارتكزت في بعض الولايات لفترات طويلة. كما قدمت القبائل موجات كبيرة من التبرعات العينية، دعمت بها الجيش في معسكراته المختلفة. امتد عطاء بعض المناطق والقبائل ليشمل شراء الأسلحة، بما في ذلك أسلحة ثقيلة ومتقدمة تكنولوجيًا.
8
رغم أن الدولة استطاعت الصمود وتجاوز صدمة الحرب في أيامها الأولى، بل خلال العام وسبعة أشهر، مع فقدانها 80% من إيراداتها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي خططها للمستقبل؟ خاصة أن الحرب لا تزال مستمرة ويبدو أنها ستطول، مما يتطلب صرفًا مستمرًا وهائلًا على كافة الأصعدة والجبهات.
ستواصل الدولة الاعتماد على الذهب كمورد رئيسي لتمويل الحرب وأنشطتها المحدودة. كما ستسعى إلى تعظيم الاستفادة من التحالفات التي أنشأتها مؤخرًا، خاصة مع قطر وروسيا وإيران والصين والجزائر. يمكنها الحصول على تمويلات عبر رهن بعض مربعات ومناجم الذهب لتلك الدول، مع انتهاج سياسات جاذبة للشركات العالمية العاملة في مجال التعدين، في ظل تصاعد الاهتمام بالذهب عالميًا.
قد تدخل الدولة أيضًا في شراكات في مجالات أخرى، تحقق عوائد سريعة، مثل المشروعات الزراعية الكبرى (كمشروع زادنا). كذلك، سيستمر الدعم الأهلي والمجتمعي للقوات المسلحة، بالإضافة إلى دعم المغتربين للأسر، مما يخفف من مسؤوليات الدولة تجاه المواطنين.
9
قد يستغرق استعادة الاقتصاد السوداني لعافيته عدة سنوات. ولكن مع استمرار الجيش في دحر التمرد، ستعود الحياة تدريجيًا إلى المناطق المحررة، مما سينعش التجارة المحلية. في المقابل، سترتفع فاتورة السلع المستوردة لفترة طويلة، إلى حين عودة الصناعات المحلية إلى إنتاج السلع الأساسية.
سيكون على الدولة توفير مدخلات الإنتاج للقطاعات المهمة، مثل القطاع الزراعي وقطاع الثروة الحيوانية. وعلى الرغم من أن هذه القطاعات قد لا تحقق عوائد مادية كبيرة، فإنها ستوفر الغذاء، وهو عنصر أساسي لاستقرار المواطنين في الداخل، خاصة مع توقع عودة المزيد من السودانيين من الخارج.
أخيرًا، تحتاج الدولة إلى مرونة في اتخاذ سياسات تستوعب الصدمات وتخفف من تصاعد الدولار في السوق الموازي، مع تعزيز الإنتاج في القطاعات ذات العوائد الكبيرة، لتوفير فرص عمل للعاطلين الذين فقدوا مصادر رزقهم بسبب الحرب.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: إنتاج الذهب

إقرأ أيضاً:

الحرب في السودان: بعض تحديات الاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار

بروفيسور حسن بشير محمد نور

بعد تقدم الجيش السوداني وحلفائه في جبهات الحرب وقرب احكام السيطرة علي المركز في العاصمة القومية وولاية الجزيرة، يراود كثير من المواطنين السودانيين العودة الي منازلهم التي هجروا منها قسرا، علي امل معاودة الحياة بشكل طبيعي. لكن واقع الحال والدمار الكبير للبنية التحتية المتواضعة اصلا يضع كثير من التحديات، من حيث توفر الخدمات الاساسية ومقومات الحياة في حدها المقبول. لذلك هناك متطلبات وتحديات عديدة تواجه تحقيق تلك الامال المرتبطة بشكل اساسي بتوفر الاستقرار السياسي والامني الضروري للتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، التي تعتبر شروطا اولية نحو تحقيق مقومات العيش الانساني الطبيعي من سكن ومأكل ومشرب، علاج وتعليم، مواصلات سالكة وتوفر الماء والكهرباء، باعتبار ان هذه احتياجات اولية لا غناء عنها.
اول المتطلبات هي تحقيق السلام المستدام كخطوة حاسمة نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار. من منظور اقتصادي، يتطلب هذا السلام معالجة جذرية للأسباب الهيكلية التي أدت إلى الحروب والنزاعات، مع التركيز على الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حزم سياسية متكاملة ومتسلسلة.
من اهم تلك الأصلاحات او بالاصح المتطلبات، تحقيق العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب، اذ ان تاريخ السودان مليء بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم المنظمة، خاصة خلال فترة حكم نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير وما اضافته الحرب الحالية من تعميق لتلك الانتهاكات وتصعيدها لمستويات بالغة الخطورة علي الامن والاستقرار الاجتماعي. استمرار الإفلات من العقاب يقوض أسس الدولة ويؤدي إلى استمرار دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية. لذا، فإن تعزيز سيادة القانون وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية يُعَدَّان من الأولويات الاساسية لضمان مستقبل مستقر.
جانب اخر في غاية الاهمية هو معالجة الأزمة الهيكلية للدولة، فمن المعروف ان الدولة السودانية نشأت في ظل سلطة استعمارية وديكتاتوريات متسلطة، تعمقت أزماتها خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات والرشد الاداري أو غيابها. هذا أدى إلى ضعف قدرة الدولة على أنجاز التنمية وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية بشكل متراكم. لذا، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية وتعزيز سيادة القانون عبر اصلاح مؤسسي شامل يعتبر من الخطوات الضرورية لتحقيق الاستقرار الضروري للتعافي واعادة الاعمار.
كذلك الامر فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية، اذ تسببت الحرب في أضرار كبيرة ودمار واسع النطاق للبنية التحتية والمرافق الحيوية يقدر بمئات مليارات الدولارات، مما أثر سلبًا على الاقتصاد السوداني. بالإضافة إلى ذلك، أدت السياسات الاقتصادية غير الفعالة إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن ايجاد حكم مقبول وحكومة تتبني وقادرة علي تنفيذ سياسات اقتصادية تعزز التنمية المستدامة وتوفر فرصًا اقتصادية للمواطنين، يُعَدُّ أمرًا حيويًا للتعافي الاقتصادي. هذا يحتاج لمقومات القبول الداخلي والخارجي للحكم الذي يفتح الطريق نحو وصول الاعانات الخارجية وجذب الاستثمار الاجنبي والوصول الي مؤسسات التمويل، وتيسير التجارة اقليميا ودوليا وامكانية الوصول دون عوائق للاسواق العالمية تصديرا واستيرادا.
من المهم اداراك ان مصير الاستقرار السياسي والأمني ومعالجة المشاكل الاجتماعية، اللازمة لتحقيق استقرار سياسي وأمني يعالج المشاكل الاجتماعية والتناقضات العميقة بين المكونات المجتمعية في السودان، يتطلب اتباع نهج شامل يتضمن:
- تعزيز العدالة والعدالة الانتقالية: اذ يجب تحقيق العدالة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات السابقة، لضمان عدم تكرارها وبناء ثقة المجتمع في النظام العدلي والقضائي. قد يعتبر البعض ان هذا امرا صعب التحقيق، وهو كذلك، لكن رغم صعوبته فهو شرط لا مناص من تحقيقه كشرط للتعافي الاجتماعي والاستقرار.
- الإصلاح المؤسسي الضروري لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، تضمن المشاركة الشعبية والشفافية والمساءلة واجتثاث الفساد الهيكلي المتوطن في مفاصل الدولة السودانية بجميع مؤسساتها.
- تبني سياسات اقتصادية موجهة نحو التنمية وتعزيز النمو المستدام وتوفر فرص عمل، مع التركيز على تنمية المناطق المهمشة والمتضررة من النزاعات.
- إدارة التنوع: الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان واعتماده كعامل قوة، من خلال سياسات تضمن التمثيل العادل والمساواة بين جميع المكونات الاجتماعية ووضع هذا الهدف ضمن المناهج التعليمية والتربية الوطنية.
- ضرورة تبني سياسات قطاعية مؤسسة باستراتيجات شاملة تستخرج منها خطط وبرامج ومشاريع تنموية مخططة بشكل واقعي ومنظم، يتفق مع المنهجيات المتبعة لاهداف التنمية المستدامة المعتمدة عالميا، ويشمل ذلك بالطبع السياسات التجارية والوفاء بشروط عضوية منظمة التجارة العالمية (WTO) للاندماج في النظام التجاري العالمي وامكانية الوصول لعضوية المنظمات الاقليمية والدولية بشكل فعال مفيد وليس عضوية شكلية.
- اطلاق الحريات العامة وسيادة حكم القانون واتباع سياسة اعلامية حرة ومنفتحة علي التطورات الكونية للاعلام المهني المتخصص، كعامل اساسي لتحقيق جميع ما تم ذكره.
- تبقي بعد ذلك اهمية الاصلاح العسكري والامني واتفاقيات السلام التي يجب مناقشتها ضمن حزم متكاملة للسلام المستدام وتحقيق الاستقرار المنشود واستدامته ولضمان عدم تكرار الحروب والنزاعات عبر عقائد مستحدثة.
في الختام، ما احدثته الحرب من دمار وتصدعات شاملة في الدولة السودانية يعتبر مهمة بالغة التعقيد، ويعتبر انجازها شرطا للاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، وهي مهمة لا يمكن ان يقوم بها طرف واحد او حتى عدة اطراف، دون توافق بثقل كبير ومشروع وطني يستوعب الغالبية المطلقة للمكونات السودانية. بذلك يتطلب تحقيق السلام المستدام في السودان، الذي يعتبر شرطا اوليا للاستقرار والتعافي، يتطلب نهجًا شاملاً يعالج الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على بناء دولة ديمقراطية تعزز سيادة حكم القانون، وتوفر فرصًا متساوية لجميع مواطنيها. بدون تحقيق تلك المطالب والجوانب المكملة لها، لن تمضي الامور الي الامام، ولا يتوهم البعض ان انحسار الصراع او تراجع مستويات القتال او احكام السيطرة علي مواقع استراتيجية، يمكن ان تؤدي وحدها بسلاسة لتوفير مقومات الحياة الطبيعية، ولا حديث الان بالطبع عن الازدهار والرفاهية علي شاكلة شعوب الامم المستقرة المتطورة.

mnhassanb8@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • زي النهارده.. توقيع معاهدة سلام تورون التي أنهت الحرب البولندية الليتوانية التوتونية
  • عادل الباز يكتب: سياسة ترمب تجاه السودان
  • «المفتي»: الأمن في الأوطان هو المظلة التي تحفظ المقاصد الشرعية
  • تعرّف على المنظمة التي تلاحق مجرمي الحرب الإسرائيليين بجميع أنحاء العالم
  • الحرب في السودان: بعض تحديات الاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار
  • في لقاء مع صابري.. صناع النسيج والألبسة ينخرطون في ورش المنصة الرقمية التي تعدها كتابة الدولة المكلفة بالشغل
  • المنتدى السعودي للإعلام يطلق مبادرة “جسور الإعلام” التي تجمع Netflix وSony وShondaland بالمواهب السعودية
  • برلمانية: دعم الاستثمار في الصناعة يعزز الإنتاج المحلي ويقلل الاستيراد
  • وزير الإنتاج الحربي: التوسع في الإنتاج العسكري والمدني والمساهمة بتنفيذ المشروعات التنموية
  • “هآرتس”: الحشود التي تعبر نِتساريم حطّمت وهم النصر المطلق‎