في خضم واحد من أكثر الصراعات وحشية وانحيازا في العالم، تجد الولايات المتحدة نفسها معزولة بشكل متزايد على المسرح العالمي. لقد وضعت حرب الإبادة الجماعية في غزة، حيث تواصل إسرائيل استخدام القوة العسكرية الساحقة ضد السكان الفلسطينيين العزل إلى حد كبير، السياسة الخارجية الأمريكية تحت المراقبة غير المسبوقة.

ومع ذلك، اختارت واشنطن الرد ليس بتعديل موقفها ولكن بالانخراط في حرب نفسية وإعلامية لقمع الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن هذه الجهود محكوم عليها بالفشل لسبب بسيط واحد، وهو أن النضال الفلسطيني يمثل آخر حركة تحرير عظيمة من الاستعمار والاحتلال في العالم الحديث.

إن الوضع المتكشف في غزة ليس مجرد صراع إسرائيلي فلسطيني، إنه انعكاس لتحول عالمي في كيفية نظر القوى الاستعمارية والشعوب المضطهدة إلى الإمبريالية والاحتلال. إن الفلسطينيين يُنظَر إليهم باعتبارهم الصامدين الأخيرين ضد نظام الهيمنة الذي اعتقد كثيرون أنه انتهى بسقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وعلى هذا فإن قضيتهم تلقى صدى عميقا في مختلف أنحاء العالم، وتثير التضامن بين مجموعات متنوعة من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط، بل وحتى في بعض الأوساط غير المتوقعة مثل حركة طالبان في أفغانستان.

الوضع المتكشف في غزة ليس مجرد صراع إسرائيلي فلسطيني، إنه انعكاس لتحول عالمي في كيفية نظر القوى الاستعمارية والشعوب المضطهدة إلى الإمبريالية والاحتلال. إن الفلسطينيين يُنظَر إليهم باعتبارهم الصامدين الأخيرين ضد نظام الهيمنة الذي اعتقد كثيرون أنه انتهى بسقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا
الدور الأمريكي في زعزعة الاستقرار العالمي

لفهم السبب وراء شعور الولايات المتحدة بالعزلة على نحو متزايد في دعمها الصريح لإسرائيل، يتعين علينا أن ننظر إلى سياستها الخارجية الأوسع نطاقا، وخاصة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. فقد كشفت الحروب في العراق وأفغانستان عن استعداد أمريكا لتجاهل القانون الدولي وحقوق الإنسان وسيادة الدول الأخرى عندما تكون مصالحها على المحك. إن غزو العراق بحجج كاذبة وتدمير ذلك البلد في وقت لاحق يشكل وصمة عار على السياسة الخارجية الأمريكية لم ينسها العالم، وعلى نحو مماثل، أصبحت أفغانستان، حيث أدت حرب دامت عقدين من الزمان إلى مقتل الآلاف من المدنيين وعدم الاستقرار على نطاق واسع، رمزا آخر للتوسع الإمبريالي الأمريكي.

في كل من العراق وأفغانستان، كانت جرائم الحكومة الأمركية متوافقة بشكل وثيق مع جرائم إسرائيل. فقد انخرطت القوتان في حرب عشوائية، واعتقال وتعذيب المدنيين، ودوس حقوق الإنسان في ملاحقة أهدافهما السياسية، وقد كشف هذا التوافق عن الوجه الحقيقي للإمبريالية الأمريكية وتجاهلها التام لمحنة الشعب تحت الاحتلال أو الحكم العسكري. واليوم، ومع قصف إسرائيل لغزة على مدار عام كامل، تقف الولايات المتحدة جنبا إلى جنب مع نظام يعكس نهجها الخاص في التعامل مع الحرب والاحتلال، وخاصة في الشرق الأوسط.

ومع ذلك، أصبح الإفلاس الأخلاقي لهذه الشراكة واضحا بشكل متزايد، وخاصة مع ارتفاع الأصوات من زوايا غير متوقعة من العالم لتحدي السرد. ويأتي أحد هذه الأصوات من طالبان، وهي الجماعة التي شوهتها الولايات المتحدة ذات يوم ولكنها الآن تضع نفسها كحليف للقضية الفلسطينية.

دعم طالبان لفلسطين: حليف غير محتمل؟

في الأشهر الأخيرة، أوضحت طالبان أنها تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن هذا الموقف مجرد موقف خطابي؛ فقد أعلن وزير خارجية طالبان، أمير خان متقي، صراحة استعداد الحركة لإرسال آلاف المقاتلين لمساعدة الفلسطينيين إذا لزم الأمر. وأكدت مقاطع الفيديو المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي هذه الرغبة، حيث دعا مقاتلو طالبان بحماس قادتهم للسماح لهم بالذهاب إلى غزة.

يؤكد هذا العرض غير المتوقع للتضامن على تحول كبير في الموقف الأيديولوجي لطالبان، فبعد أن كانت الحركة تركز في السابق على الداخل، وتهتم في المقام الأول بحكم أفغانستان، أصبحت الآن تتماشى مع القضايا الإسلامية والمعادية للإمبريالية على نطاق أوسع. وتتوافق القضية الفلسطينية، باعتبارها رمزا للمقاومة ضد الاستعمار والقمع، بشكل عميق مع رواية طالبان الخاصة بمحاربة الاحتلال الأجنبي. وقد يمثل هذا الارتباط الأيديولوجي فصلا جديدا في الديناميكيات الإقليمية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

ولكن على خلفية هذا التضامن الأيديولوجي، تكمن مقاربة أكثر براجماتية واستراتيجية تتبناها قوى إقليمية مثل الإمارات. ففي حين تعرب حركة طالبان عن التزامها بالقضية الفلسطينية، تتحرك الإمارات خلف الكواليس للاستفادة من المشهد الجيوسياسي المتطور في أفغانستان. وفي خطوة محسوبة، قبلت الإمارات العربية المتحدة مؤخرا سراج الدين حقاني، وهو شخصية رئيسية في حركة طالبان، سفيرا لها في أبو ظبي. ويشير هذا القرار، الذي اتخذ بعد اعتراف الصين بحكومة طالبان، إلى لعبة أعمق وأكثر تعقيدا.

وراء هذه البادرة الدبلوماسية تكمن شبكة من الدوافع، حيث تسعى إلى توسيع نفوذها في أفغانستان، وهي دولة غنية بالموارد المعدنية غير المستغلة وتقع عند مفترق طرق جيوسياسي حرج. ومن خلال دخول المجالات الاقتصادية والسياسية في أفغانستان، تهدف الإمارات إلى تأمين موطئ قدم لها في حقبة ما بعد أمريكا، خاصة وأن القوات الأمريكية انسحبت الآن من المنطقة. ولكن هذه الخطوة لا تتعلق بالمكاسب الاقتصادية فحسب، بل تحاول الإمارات أيضا وضع نفسها كوسيط رئيسي بين إسرائيل وأفغانستان، ووضع الأساس للتطبيع النهائي بين طالبان وإسرائيل، وهذا بالطبع ما ترفضه طالبان.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، قامت العديد من دول آسيا الوسطى المستقلة حديثا، بما في ذلك أذربيجان وتركمانستان، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومع ذلك، ظلت أفغانستان حالة شاذة حتى الآن.

القوى المتنافسة
قد تواصل الولايات المتحدة محاولاتها لتهميش الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، لكن المعارضة الدولية والعالمية المتزايدة تشير إلى أن هذه الاستراتيجية محكوم عليها بالفشل. لقد اكتسبت القضية الفلسطينية، التي تتجذر بعمق في مبادئ العدالة ومناهضة الاستعمار، حلفاء أقوياء في أماكن غير متوقعة
يجب أيضا النظر إلى تحركات الإمارات العربية المتحدة في أفغانستان في السياق الأوسع للمنافسة العالمية، وخاصة مع الصين. كانت الحكومة الصينية، من خلال مبادرة الحزام والطريق، تعمل على توسيع نفوذها بشكل كبير عبر آسيا والشرق الأوسط، وإنشاء طرق تجارية وتأمين شراكات اقتصادية. لقد عملت الإمارات، التي استشعرت الفرصة، على موازنة الوجود الصيني المتنامي في أفغانستان، وخاصة في مجال مشاريع البنية الأساسية، مثل إدارة المطارات. كما ضغطت الحكومة الأمريكية على الإمارات للعب دور أكثر نشاطا في أفغانستان لكبح طموحات الصين، كل ذلك في حين تحد من علاقاتها التجارية مع بكين.

إن هذا التفاعل المعقد بين الطموحات الإقليمية وصراعات القوة العالمية يوضح الطبيعة السائلة للتحالفات في عالم اليوم. إن الإمارات، التي كانت تقليديا حليفة وثيقة للولايات المتحدة، تسير الآن على خط رفيع، وتوازن بين مصالحها الاقتصادية مع الصين والتزاماتها الأمنية تجاه الغرب وعلاقاتها الناشئة مع كيان الاحتلال.

في التحليل النهائي، فإن الحرب في غزة، والسياسة الخارجية الأمريكية، والتضامن الأيديولوجي الجديد لطالبان مع فلسطين، وطموحات الإمارات في أفغانستان؛ كلها خيوط في سرد أكبر لنظام عالمي سريع التغير. قد تواصل الولايات المتحدة محاولاتها لتهميش الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، لكن المعارضة الدولية والعالمية المتزايدة تشير إلى أن هذه الاستراتيجية محكوم عليها بالفشل. لقد اكتسبت القضية الفلسطينية، التي تتجذر بعمق في مبادئ العدالة ومناهضة الاستعمار، حلفاء أقوياء في أماكن غير متوقعة.

وبينما تتلاعب القوى الإقليمية وعمالقة العالم مثل الصين بالنفوذ في هذا العالم الجديد، يظل مصير النضال الفلسطيني والمشهد السياسي الأوسع في الشرق الأوسط يسير في كسب حلفاء جدد، ومن الواضح أن القوى المعارضة للإمبريالية الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي في تزايد يوما بعد يوم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل الفلسطينيين الشرق الأوسط الإمارات إسرائيل الشرق الأوسط امريكا فلسطين الإمارات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط فی أفغانستان ومع ذلک فی غزة

إقرأ أيضاً:

التنكيل بالغنوشي رمز الوسطية والنضال

شهور طويلة مرت على اعتقال العلامة الشيخ راشد الغنوشي، في تونس، بعد انقلاب قيس سعيد، والذي كان من أوائل ما قام به تلفيق قضية للغنوشي، وعلى مدار هذه الأشهر رأى الناس أعجب ما يمكن أن يروه من سخريات التاريخ والحياة في التعامل القضائي، مع شخص أهان معه مقعد الرئاسة التونسي.

ثم صدر مؤخرا حكم أشبه بما كانت تحكيه كتب السخرية والفكاهة عن قراقوش ذلك الحاكم المصري العادل، الذي تخيل الشاعر المصري ابن مماتي أحداثا لم تحدث، ليصور كيف يكون الحاكم التافه، الذي لا عقل له، ولا اتزان، فكان يصدر الأحكام جزافا، وبقضايا خيالية، واشتهرت عن قراقوش وهو منها براء، ولو كان يعلم ابن مماتي أن حاكما كقيس سعيد سيأتي في زمن بعد ذلك، ليصدر أحكاما على الغنوشي بالسجن (22) عاما، بتهم سياسية، لادخر ما لديه من كتابة، ليترك ذلك لأهل زمان قيس سعيد.

الغنوشي شخصية لسيت مجهولة، بل هي شخصية لها تاريخ محفور في ذاكرة العالم العربي والإسلامي والإنساني، يعرفه القاصي والداني من أهل الفكر الإنساني والإسلامي في الشرق والغرب، واشتهر بتاريخ عريق، جملة واحدة منه، تزن تاريخ قيس سعيد كله.

فالغنوشي على المستوى الفكري شخصية فريدة وفذة بين الإسلاميين، فقد كانت معظم كتابات الإسلاميين عندما يقبعون في سجون الظلمة، تنصب اهتماماتهم وكتاباتهم على فقه وثقافة المحنة، والاستغراق في هذا الجانب، وبخاصة إسلاميي المشرق، كمصر والشام والعراق، وغيرهم، ومن يطلع على أدب السجون في هذه البلدان سيجد جلها منصبا على هذه الجوانب، وهو تفكير يمكن تصنيفه بأنه مشغول بالماضي.

الغنوشي شخصية لسيت مجهولة، بل هي شخصية لها تاريخ محفور في ذاكرة العالم العربي والإسلامي والإنساني، يعرفه القاصي والداني من أهل الفكر الإنساني والإسلامي في الشرق والغرب، واشتهر بتاريخ عريق، جملة واحدة منه، تزن تاريخ قيس سعيد كله.بينما كان الغنوشي مشغولا في محبسه بالمستقبل الإسلامي، فأصدر في محبسه كتابا كان عبارة عن خطب جمعة في السجن، عن: (المواطنة)، فقد كان معنيا بالتنظير لحقوق المواطنة، وكيف يتم بناء مجتمع يحصل فيه المواطن على حقوقه، بل إن كتابه الأشهر: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)، وقد حدثني الشيخ راشد حفظه الله، أنه كتب مسودة الكتاب، وخطته، وهو في السجن، وقد تصور البعض أنه قام بذلك في لندن بعد خروجه من تونس، ولكنه فاجأني بأن الفكرة والتخطيط لها، والإعداد الكامل لها كانت في السجن أيضا.

وحين خرج من السجن، انصب جهده في بناء المجتمع القوي، فنشط في عدة اتجاهات، ورأينا دوره الأبرز في الحوار القومي الإسلامي، والأوراق التي كان يقدمها، كانت تدل على عقلية فكرية نادرة وفذة، فضلا عن مواقفه التي لا يجهلها أحد، وهذا ما جعل التوافق بعد الثورة التونسية، على رئاسة الدكتور المنصف المرزوقي، ليس مستغربا منه، أو من حزب النهضة، فقد كان مؤمنا بأن المرحلة لا تتحمل أن يتولى الحكم الإسلاميون.

كانت توجهاته في هذه المرحلة تميل إلى توافق الإسلاميين مع شركائهم في ثورات الربيع العربي، وقد اتجه إلى مصر أكثر من مرة لزيارة الإخوان، لنصحهم بهذا التوجه، وبخاصة عند صدور دستور 2012م في عهد الدكتور مرسي، وقابل عددا من المختلفين معهم، وبخاصة التيارات اليسارية والقومية، محاولا إزالة فتيل الأزمة والشقاق.

رغم مواقف الغنوشي المتوافقة، والمائلة إلى الاعتدال والتوسط في الفكر، والتوافق في السياسة، وعدم التصدر، ومع ذلك فقد تم التنكيل بالرجل، وترك وحيدا أمام تغول ثورة مضادة في تونس، وقد كان المخالفون للإخوان في مصر، في النقاشات الفكرية والسياسية، يذكرونهم بحكمة الغنوشي في توافقه، ومع ذلك كانت النتيجة واحدة: الانقلاب على من غالب ومن شارك، لأن الرفض كان للثورة أيا كان من يقوم عليها، وهو الدرس الذي ينبغي على الجميع فهمه، ليست المسألة مسألة إخواني متطور الفكر، أو إخواني متكلس الفكر.

والآن يصدر حكم قاس على الغنوشي في سنه الكبير، بسنوات طويلة، لو كان قاتلا ما حكم عليه القضاء التونسي بهذه المدة، فهو حكم غريب، لكن ليس من العقل أن نزنه بالعقل، فنحن أمام حالة لا عقلانية فيها، ولا قانون، ولا منطق، فمن العبث البحث أو السؤال: ماذا جنى الغنوشي حتى يحكم عليه بهذا الحكم القاسي؟ فجريمة الغنوشي معروفة، وهي جريمة لا يغفرها المستبدون لكل صاحب عقل ذكي، وقلب نقي، وسعي دؤوب للحرية والعدالة.

وهذا الحكم الجائر يقينا لن يفت في عضده، فقد مر عليه ما هو أقسى وأشد من ذلك، فقد حوكم في عهد بو رقيبة، وفي عهد ابن علي، فلن يكون قيس سعيد أشد بأسا عليه من هؤلاء، بل ستمر أحكامه كما مرت أحكام غيره، وسيظل الغنوشي رمزا إسلاميا، ووطنيا، وصاحب نضال يشهد له به القاصي والداني، إسلاميون وغير إسلاميين.

[email protected]

مقالات مشابهة

  • ترامب وطالبان ومعضلة الأسلحة الأميركية في أفغانستان
  • هذيان ترامب يهز النظام العالمي (كاريكاتير)
  • خطة ترامب لإعادة تشكيل النظام العالمي
  • التنكيل بالغنوشي رمز الوسطية والنضال
  • فيديو.. ترامب لصحفية أفغانية: لا أفهم كلمة مما تقولين
  • بسبب ترامب..مخاوف من ترحيل باكستان لاجئين إلى أفغانستان
  • تحليل CNN.. مقترح ترامب بشأن غزة يخلق وضعًا مرعبًا من شأنه هز النظام العالمي
  • تحذير من زيادة وفيات الحوامل في أفغانستان بعد توقف التمويل الأميركي
  • الأمم المتحدة تحذر من ازدياد وفيات الأمهات في أفغانستان بسبب قطع المساعدات الأمريكية
  • بسبب قرار ترامب.. توقف المساعدات الأمريكية يهدد نساء أفغانستان بالموت