سالي علي

في كلمات تحيطها الإبداع والتعمُّق، تتجلّى رُوح الكاتب العظيم غسَّان كنفاني وفنه الأدبي المتميز، الذي ينبض أسلوبه بتدرجٍ فنّي يمزجُ بين الواقعية البسيطة والرمزية العميقة ببراعة فائقة، يبني كنفاني قصصهُ بشغفٍ يسعى دائمًا إلى الوصول إلى الواقع بنسبة مئة في كلمات تلقي أضواءً جديدة على معاني الحياة والموت.


 

من خلال تطور أسلوبه، يُبدي كنفاني استعدادًا لاستكشاف الحدود بين الواقع والخيال بطرق مبتكرة وملهمة، تتجلى هذه الرحلة الأدبية في قصة "ما تبقى لكم"؛ حيث يتناغم التوافق الزمني مع تداخل الشخصيات والأحداث بأسلوب ينبض بالحياة واللاواقعية.

غسَّان كنفاني يحاول من خلال قصصه وتصويره المميز، استحضار عوالم مختلفة تتلاقى بين الواقعية والرمزية؛ مما يخلق تجربة أدبية فريدة ومثيرة تترك بصمة عميقة في نفوس القراء. ليس من الصعب على من يقرأ قصص غسَّان كنفاني أن يلمح صورة التدرج الواعي المتعمد نحو واقعية صلبة محددة الحوافي جاسية المظهر مشمولة بمزيد من البساطة ومزيد من الوضوح، كأنما كان دائمًا يحاول أن يقترب من حدود الهدف الذي وضعه لنفسه في دور مبكر، وهو أن تكون القصة واقعية مئة بالمئة وبنفس الوقت تعطي شعورًا هو غير موجود.

في قصة "ما تبقى لكم" التي يعدها بعض النقاد غامضة، تكاد لا تشد كثيرًا عن تلك القاعدة؛ إذ حاول كنفاني فيها أن يُطوِّع طريقة التداعي وانعدام الفواصل بين مونولوجات شخصياته فيها ويجعلها في أوضحِ مستوى ممكن، قائمة على نظام مُحدد السِمات، مع أن هذه التقنية الفنية لدى غيرهِ من الكتّاب تنحو نحو الحلمِ المبهم، الموشَح بالإيماء المؤيّد بالتضليلِ، والتأرجح مع التداخل وعدم الانضباط الكثير في حركة النفسِ الداخلية.

ورغم بلوغِ غسَّان في التزام الواقعية درجة يتعذّر فيها الفصل أحيانًا بين الواقع الحضاري والواقع الفني، فإننا لا نستطيع أن نُعدهُ وثائقيًا في فنِّه؛ لأنه لم يكن يكتفي بترتيبِ عناصر الواقع الحضاري على نحو تاريخي مُتصاعد أو مُتكامل؛ بل كان يُعيد ترتيب تلك العناصر ويمنحها التكثيف والتوجيه ويستغل فيها الصور والمقارنات والمفارقات بحيث تجيء خلقًا جديدًا هو الواقع وليس به، هو الواقع الذي يراه أو يريد أن يراه قاص متفنن ملتزم وليس هو الواقع الحرفي طبيعيًا كان أم حضاريًا.

تدرّج غسَّان كنفاني في طريقه نحو تلك الواقعية الصلبة، وتدرج أيضًا في طريقة الإفادة من الوسائل الفنية التي كان يظنها كفيلة بتحقيق تلك الغاية. فنجده مرةً يعتمد رسم المفارقات والمناظرات، ومرة نجده يلجأ إلى ايثار البساطة الموحية في طبيعة الحوار ومرة ثالثة يستغل عنصر "الإمكان" الضروري ومرة يجمع بين هذه الوسائل جميعًا.

غير أنه من البداية إلى النهاية، ظلّ مُصِرًا على أنّ خير ما يُبلِغُه هدفه هو طبيعة الشخصيات التي لا مناصَ لها من العيش ضمن إطارِ واقعيته المبتغاة.

فحين كتبَ "أم سعد"، كان قد تنازل عن كل فذلكةٍ فنيةٍ في سبيل أن لا يدع هناك أيّة مسافة بينَ الواقع الحضاري والواقع الفني.

إنّ القصة حين تتركُ أثرًا عميقًا في نفوسنا فهي لأنها كذلك، أعني بأننا نراها واقعية واضحة بسيطة كأنها  تعمل كَلون من ألوان الحكاية، من غير أن تتذرع للوصول إلينا بذرائع من فلسفة فكرية أو من إثارة عاطفية أو من تقنية مركبة أو غير ذلك من وسائل وعناصر.

لكن لا ريب في أنّ جَعل القصة واقعية بالقدر الذي أراده غسَّان كنفاني يعني التضحية بأمور كثيرة، قد كانت تحيطُ الفن القصصي بمزيدٍ من القدرة على التأثير، وفي مقدمة تلك الأمور قيامُ القصة على الرمز.

إنَّ قيام القصة على مبنيين؛ ظاهري وداخلي، يمنح القصة عُمقًا خاصًا ويجعلها مليئة بالايحاءات، قابلة للفروض والاحتمالات، وبقوة الرمز وتجدد ضروب التفسير، تحتفظ القصة بالديمومة، وتتجدد فيها الطاقات رغم تغير الظروف.

فإذا شاءت القصة التي تتشبّث بالواقعية المُطلَقة أو شبه المُطلَقة أن تعوضُ عن قوة الرمز، كان لا بُد لها أن تحتفل بزخمٍ فني عجيب.

وكُل من يقرأ "عائد الى حيفا" أو "أم سعد" أو "برقوق نيسان"، حتى في شكلها الأوليّ، يحس حقًا أن الرمز لم يعد ضروريًا.

وعندما أصبحت مواجهة الحقيقة هي الشيء المهم، فهل يظل هذا الشعور حيًا في نفوس قرائها بمرور الزمن؟

أيًّا كان الأمر، فإنّ غسَّان كنفاني لم يستطع أن يبلغ تلك المرحلة من الواقعية طفرةً أو على نحو تعسفي، وإنَّما حاول استغلال المُزاوَجة بين بنائين ظاهري وباطني، وجرَّب طريقة الاعتماد على الرمز في الإيحاء والتأثير.

لستُ أظن أن كنفاني حاول بالمبنى الرمزي مرة أخرى في قصصه، إلّا أنْ يكون ذلك في "ما تبقى لكم"، ولعله أدرك أن درجة "المائة بالمائة" من الواقعية لا تتلاءم مع البناء الرمزي؛ بل ربما لم تكن بحاجة إليه؛ لأن واقعًا يحتوي كلّ القدر الكافي من الثقل الفني، يستطيع أن يكون من جميع جهاته بناء مستقل قائم بنفسه.

تعتمد قصة "ما تبقى لكم" على التوافق الزمني في حبكتها العامة؛ أيّ إن الأحداث والشخصيات ترتبط في زمن واحد، رغم التباعد المكاني، وبتلاعبٍ من القاص في إبراز معنى الزمن بالنسبة لكل منها. وهذا هو الذي حدا به إلى أن يجعل حضور كل شخصية قائمة على التداعي  وكأنّ أحاديثها النفسية وأفعالها متداخلة لارتباطها بعنصر الزمن.

وهي قصة تُكمل "رجال في الشمس" من بعض نواحيها، فكلتاهما تُصوِّر محاولة الفلسطيني للهرب من واقعه وسعيه نحو الاستقرار وتشبثه بالحياة على نحو فردي.

لكن الإرادة المسلوبة في الأولى أخذت تتضح وتتطور نحو التشكل في الثانية. ففي القصة الأولى كانت الولادة ميتة حتى الدَّق على جدار الخزان لم يحدث. أما في القصة الثانية فكل شيء يدُق وينبض، وهو مؤشر الزمن؛ سواء كانت الساعة في بيت مريم أو الساعة التي ألقى بها حامد في حضن الأرض، والخطوات التي تدُق على صدر الصحراء والجنين ينبض أيضًا، الشهوات تدق، مجاذيف القوارب  التي نقلت المهاجرين أيضا تدق، حتى الصمت نفسه ظن غسَّان بأنه يدق له صوت. كل شيء يتهيأ للولادة، وذلك لأن الموت المُبكِّر الذي أصاب سالم الفدائي قد حرَّك شرارة الانبعاث في كل نفس.

إذا لم تكن الولادة في "ما تبقى لكم" كالولادة في "رجال في الشمس" وإن كان الموت لا يزال هو المسيطر على مصاير الأشخاص، ولكنه موت من نوع جديد لأن إرادة الموت لدى "سالم" سرت على الآخرين.

غير أن "ما تبقى لكم" تؤكّد الحقيقة الكبرى التي أكدتها القصة السابقة لها وهي أن كل طريق بعيدة عن الوطن مرصَّدة بموت مجاني، ومن ثم شهدت الأرض كيف أن "حامد" انحرف في طريقه عمّا يرده إلى الماضي، إلى أمِّه، وإذا بهذا الانحراف الذي يقربهُ من غايته الصحيحة يُوقفه أمام خصمه، وقد يصطدم الزمن بالفعل؛ فيصبح غير ذي قيمة.

"ما تبقى لكم" تُمثّل تجرُّد النفس الفلسطينية من كل السلبيات الثقيلة التي كانت ترزح تحتها، وهي صلة جديدة بالواقع وبالأرض، حتى ولو كانت ولادة بطيئة عسيرة؛ فهي نظرة وداعٍ غير آسفة نحو ماضٍ يتوارى ويغيب.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بعد بداية تصوير سفاح التجمع| أعمال فنية قدمت قصصًا من الواقع المجتمعي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تنوعت بين "السلبي" كنموذج يرفضه المجتمع و"الإيجابي" كقصص ملهمة للقيم

كثير من القضايا المجتمعية، تطفو على السطح وتتحول إلى قضايا رأي عام، ويثار حولها الاهتمام ما بين السلبي منها كنموذج يرفضه المجتمع، والإيجابي من قصص ملهمة للقيم والعادات والأفكار المجتمعية.

ويسلط الفن الضوء على الكثير من قصص حقيقية نتاج الواقع المجتمعي، وتحويلها إلى عمل فني، كجزء أصيل من دور الفن تجاه المجتمع، وترسيخ لقيم مجتمعية، بطرح تلك الأحداث والظواهر والقضايا المجتمعية، والتى تساهم في تشكيل الوعي الجمعي لدى الشعوب والجماهير.

وكذا مقاومة السلوك السلبي من الظاهرة السيئة، وإبراز النموذج الناجح والمميز من الظاهرة الإيجابية، وبعد البدء في تصوير وتحضيرات أحداث مسلسل "سفاح التجمع"، نرصد لكم أبرز أعمال فنية قدمت قصص الواقع المجتمعي.

سفاح التجمع "جريمة هزت المجتمع"

أثارت قضية سفاح التجمع الكثير من الجدل والغضب المجتمعي، خلال الفترة الماضية، بعد القبض على شاب قام بعمليات قتل متتالية، لثلاث سيدات وإلقاء الجثث بأماكن متفرقة.

وبالتحريات الأمنية لرجال المباحث تم ضبط المتهم، والذي كان يحتفظ بفيديوهات لأفعال بشعة وانتقامية وسلوك غير سوي نفسيًا، مما أحدث صدى مجتمعي وتحولت إلى قضية رأي عام.

وتم الإعلان عن مسلسل يطرح تلك القضية، من بطولة الفنان أحمد الفيشاوي، والذي بدأ في التحضيرات الأولية وبدايات التصوير للعمل، وذلك لعرضه بعد الانتهاء خلال الفترة المقبلة.

فيلم السفاح "سفاح المهندسين"

قدم الفنان هاني سلامة فيلما سينمائيا، يجسد فيه شخصية حقيقية من أرض الواقع، لأحد الجناة والذي اشتهر بسفاح المهندسين.

تعود تفاصيل الواقعة الحقيقية لشاب قام بالسطو على شقة سكنية بمنطقة المهندسين، وأثناء سرقته، قام بقتل كل من في المنزل بما فيهم الخادمة، وهو ما أثار ذعر الجميع، خاصةً أن القتل تم بدم بارد.

وقدم الفيلم الواقعة بسرد لبعض التفاصيل الخاصة بالنشأة، والعنصر الإجرامي وبدايته خلال بدايات الصغر.

الفيلم بطولة هاني سلامة، نيكول سابا، أشرف مصيلحي، خالد الصاوي، والإخراج سعيد هنداوي.

 

المرأة والساطور "سيدة تقطع زوجها إلي أجزاء"

جريمة بمثابة صفعة على جبين المجتمع في ذلك الوقت، بدأت الواقعة بعد الكشف بعثور رجال الأمن على كف يد رجل، وبأخذ البصمات من اليد، تبين هوية القتيل، وعلى الفور بمواجهة الزوجة التي اشتهرت بالخلافات الزوجية طوال الوقت معه، تمت مواجهتها برجال المباحث، واعترفت بالواقعة كاملة.

ترجع الواقعة إلى زوجة في شجار مستمر مع زوجها بسبب الماديات، وبعد أن التحق الزوج بعمل جديد، ظن أن كل المشكلات قد تم حلها، إلا أن الزوجة ظلت في شجار بسبب إهمال زوجها لها وعودته إلى منزله بعد العمل في حالة تعب وسبات.

قررت الزوجة التخلص من زوجها وتقطيعه إلي أجزاء صغيرة، وتوزيعها في أماكن مختلفة، كي تخفي الشبهات عنها.

وقدمت الفنانة نبيلة عبيد نفس النسق في إطار درامي، من خلال فيلم "المرأة والساطور"، مع تغييرات في الاختلاف بين دوافع الجريمة خلال الفيلم، وبين القصة الواقعية.

الفيلم بطولة نبيلة عبيد، أبو بكر عزت، عبد المنعم مدبولي، ماجد المصري، دنيا عبدالعزيز، والإخراج سعيد مرزوق.

 

فيلم الجزيرة "إمبراطور الصعيد الجديد"

قدم فيلم الجزيرة طرحا فنيا لواقع جديد من قضايا أثارت الرأي العام، لأحد أباطرة الصعيد ويدعى عزت حنفي.

بخليط من الأفعال الإجرامية، بني عزت حنفي إمبراطورية كبرى في الصعيد، وسيطر بشكل كبير على أهالي البلد، وبتجارة المخدرات والسلاح وكل ما يجرمه القانون، استطاع عزت حنفي أن يصل إلي الثروة والسلاح والتشكيل العصابي بأعداد كبيرة.

جمعت كل أجهزة الدولة التحريات المطلوبة عن إمبراطور الصعيد، وقام رجال الأمن باقتحام ومداهمة البؤر الإجرامية وإنهاء أسطورة خط الصعيد الجديد.

قدم فيلم الجزيرة نموذجا لشخصية عزت حنفي، من خلال شخصية منصور الحفني، والتي قدمها الفنان أحمد السقا، ونجح الفيلم بتقديم كل الرسائل الفنية الخاصة ببداية الطريق الممهد من الإجرام، إلي جانب العقاب المنتظر من خلال نهاية الجاني.

الفيلم بطولة أحمد السقا، خالد الصاوي، آسر يس، محمود يس، هند صبري، باسم سمرة، نضال الشافعى، والإخراج شريف عرفة.

 

النمر الأسود "نموذج ملهم"

قدم الفنان أحمد زكي فيلم "النمر الأسود"، وجسد من خلاله أحداثا حقيقية لقصة شاب سافر إلى ألمانيا، ليعمل خراط في المصانع الألمانية، ولكن حبه للملاكمة غلب عليه في رحلته، وتساعده فتاة أجنبية خلال رحلته، إلي أن يصبح بطلا، وفي نفس الوقت يحقق نجاحات كبيرة في مجاله العملي.

سلط الفيلم الضوء على نموذج إيجابي، ليعطي للشباب الأمل، ويرسم لهم نماذج تسير في طرق الكفاح، وتحصد ثمار الرحلة.

اختلف الفيلم في السياق الدرامي في بعض الأحداث، ونجح الفيلم نجاحًا كبيرًا وحقق أصداء واسعة إلي الآن.

الفيلم بطولة أحمد زكي، أحمد مظهر، وفاء سالم، يوسف فوزي، والإخراج عاطف سالم.

مقالات مشابهة

  • بعد بداية تصوير سفاح التجمع| أعمال فنية قدمت قصصًا من الواقع المجتمعي
  • زاوية حادة
  • القصة الكاملة لصاحب جواز السفر الذي وجد مع السنوار: يعمل مدرس وليس الحارس الشخصي
  • القدوة في واقع التخلف.. القدوة والحقيقة (1)
  • مختص بالشأن الإسرائيلي: نتنياهو ينفذ خطة «الجنرالات» على أرض الواقع في غزة
  • باحث في الشأن الإسرائيلي: نتنياهو ينفذ خطة الجنرالات على أرض الواقع في غزة
  • السويحلي: الشعب الليبي حُرم من ممارسة حقه في الاختيار السياسي
  • ترسانة إيران العسكرية.. هل تعكس الأرقام الواقع؟
  • أبرز تصريحات المشاهير حول الهروب من الواقع (تقرير)