مجدُ الاستشهاد في الميدان .. أُسطورةُ السنوار
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
يمانيون – متابعات
كان الشهيدُ القائدُ يحيى السنوار، هدفاً للاغتيال، بل في أعلى لائحة الأسماء المطلوب تصفيتها وتحييدها من ساحة الصراع؛ بهَدفِ النَّيْلِ من إرادَة المقاومة وسلبها عقليةً أمنيةً وعسكريةً فَذَّةً اعتمدت تكتيكاتٍ قتاليةً وقدرات فارقة في تكبيد الصهاينة خسائرَ كبيرة.
لكن العدوّ لم يبلغه وعجز أمام براعته وتدابيره الأمنية، وَسيظل نموذجاً لقُدرةِ أبناء الإسلام على هزيمة كُـلّ أجهزة وتقنيات المخابرات المُعادية، ونموذجاً للمقاتل من المسافة صفر من موقع القيادة لا الجُندية، وهذه سردية تُفصل أكثرَ عن هذه الميزات لأُسطورة الطوفان.
لم يكن شبحًا:
لم يكن السنوار مجهولًا بالنسبة لأجهزة مخابرات العدوّ، لقد عرفت عنه كُـلّ شيء بعد اعتقال دام ربع قرن وَحتى بعد كسر صفقة وفاء الأحرار قيود المعتقل عنه لم يكن متواريًا عن الأنظار، جال في شوارع غزة وَحضر فعاليات مختلفة وألقى خطابات نارية وَأَيْـضاً شارك في مسيرات العودة في العام 2018 وهكذا فملفه ضخم بالنسبة للموساد والشاباك، لكنه بعد كُـلّ شيء مُعلن يغيب فلا يُعلم أين ومتى وكيف سيظهر ولا يترك أثراً يقود إلى أين سيمضي.
لقد حيّر السنوار كُـلّ أجهزة المخابرات وَأجبرها على استثمار مواردَ هائلة لتعقبه دون نتيجة رغم استمرارها لسنوات، وفي ذلك شكل من أشكال مراكمة خسائر العدوّ وَصورة لفشل أحدث تقنيات التجسس وشبكات الجواسيس على الأرض، والعبرة للمحور هنا أَو من هذه النقطة هو أن الرجل مع أنشطة علنية لم يترك ثغرة أَو خيطاً يُمكِنُ أن يقود إليه؛ بما يعني ذلك من تدابيرَ أمنيةً ناجعةً ومثاليةً؛ لضمان عدم العُرضة لما يمكن وصفه بمزيج الاستخبارات البشرية وسلاح الإشارة وتقنيات التنصت وَالاختراق لأنظمة الاتصالات المختلفة وعلى قاعدة “بذل الأسباب” أَو “اعقِلْها وتوكَّلْ”..
مقاتل المسافة صفر:
هذه السرية والاحترازات الناجعة اتصلت وعبَّرت عن نفسها بقوة صبيحة يوم سبت يهودي عندما عَبَرَت كتائب القسام غلاف غزة وهاجمت القواعد العسكرية للعدو في عملية مُباغتة فاجأت الأصدقاء، بل حتى رفاق الجهاد والسلاح مع أن طبيعة الاستعداد لعملية معقدة وتشمل الآلاف من المشاركين كانت أكبر من أن تتوارى لكن ذلك حصل مع الحفاظ على السرية التامة.
وحتى بعد عام كامل من حرب الاستخبارات الغربية ما تزال العملية خارج دائرتها وليس لديها أية صورة واضحة للتخطيط العملياتي لكتائب القسام وكيف وَمن أين حصلت على الوسائل اللازمة لتنفيذ العملية، وكيف جهَّزت ترسانةَ أسلحتها المختلفة بعد سنوات من الحصار، وكيف تواصل المقاومة بصورة منتظمة بدقة وبخطط مُصممة لصمود مذهل يحبط خطط كُـلّ الجيوش الموصوفة بالكفاءة عالميًّا.
إن هذه العملية هي أعظم إنجاز فلسطيني على امتداد تاريخ المقاومة الفلسطينية، لعام ونيّف سيواصل السنوار إدارة المعركة وستكثّـف الأجهزة المخابراتية المُعادية أنشطتها؛ بغية النيل منه، لكنها أخفقت ولم تصل لأي خيط يقود إليه مع إعلان متكرّر عن اغتياله بعد أن توهمته خيالًا يحتمي تارة بالأسرى وتارة بالنازحين وثالثة بالمشافي؛ فيما كان أبو إبراهيم يُطارد مُجرمي الحرب وَيتحسس رؤوس عناصرهم في خطوط المواجهة الأولى، ومن أقرب نقطة يستطلع جحافلهم ودباباتهم وَيرصدهم بدقة، يراهم من حَيثُ لا يرونه، يتربصُ بهم الدوائر ويلتحم رفقة جنوده من المسافة صفر، لا بل وكان بوسعه أن يُبرق لهذا القائد أَو ذاك كما كشفت مراسلته لقائد جبهة الإسناد في اليمن، وفي ذلك إشارات عن عمى العدوّ الاستخباراتي وبراعة السنوار، وعندما ضرب الموعد مع الشهادة وجَّهَ صفعتَه الأخيرةَ للموساد والشاباك وَأجهزة دول كثيرة دائماً ما صرَّحت أنها تقدم العَونَ الاستخباراتي للكيان.
نموذجُ المرحلة:
على مدى عام ونحن نتابع المعركة المُحتدمة ونراقب تطوراتها وتفاصيلها، وقد سجلت ملاحظاتنا كيف أن العدوّ غير مرة نفذ عمليات عسكرية شرسة واسعة ضد الكثير من المحافظات، بل المناطق والنطاقات الجغرافية المحدّدة، وأعلن بشكل نهائي تصفية آخر مقاوم فيها، مع ذلك ثبت أن براعة الكتائب فوق الصورة التقليدية المرسومة عنها ليس لناحية قدرتها على إعادة تشكيل نفسها بل لناحية جهل العدوّ بأهم تكتيكاتها وتأمين ذخيرتها وحراستها وتعبئة صفوفها بالمقاتلين وإمدَاداتهم.
إن في صفوف مجاهديها اليوم مجندين من العام الراهن! كيف حدث ذلك تحت سماء تحتلها كُـلّ أنواع طائرات التجسس وعلى أرض مرّ عليها الغزاة متراً متراً من أقصى نقطة شمالي شمال قطاع غزة حتى بوابة القطاع الجنوبية معبر رفح.
لا نبالغُ إنْ قلنا إنَّ كُـلّ ذلك صور تعكس نفسها عن السنوار، روحيته وثبته وثوريته وعبقريته وحنكته وَثقته وإيمانه وعنفوانه، لقد شكَّلَ علامةً فارقةً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وإن كان هذا التاريخ سجل معاركَ يختار فيها القائد أن يشتبك مع العدوّ في معركةٍ غير متكافئة من كُـلّ الوجوه على أن يرفع الراية البيضاء، لكن السنوار يحجز موقعَه ليس بوصفه نموذج المرحلة الراهنة فحسب، بل نموذج النماذج لكل المراحل، وإن لم يكن الأخير فهو المُلهِمُ الأبرزُ لكيفية جديدة ونمطٍ مُغايرٍ للقيادة وحمل راية المقاومة وَالعبور بها قدماً ومواجهة الغزاة حتى تحرير الأرض المقدسة.
– عبدالحميد الغرباني
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: لم یکن
إقرأ أيضاً:
“انتصار الدم على السيف” في أجواء وداع شهيد الإسلام والإنسانية
يمانيون../
ودعت الأمة وأحرار العالم، الأحد، شهيد الإسلام والإنسانية سماحة السيد حسن نصر الله، وخليفته الأمين العام لحزب الله السيد هاشم صفي الدين، في يوم تأريخي اختلطت فيه مظاهر العزاء بعهود مواصلة المشوار، جهادا، وتضحية.
وبذلا، في معركة أغلق فيها الشهيد العظيم زمن الهزائم، وفتح زمن الانتصارات، بما في ذلك انتصار الدم على السيف، والذي تجسد بوضوح من خلال مشهد الغارات العدوانية على لبنان ومحاولات الترهيب الاسرائيلية التي تزامنت مع فعالية التشييع بغرض إعاقتها، خوفا من صورة ذلك الانتصار
المشاركة الواسعة في التشييع، من جانب الجماهير اللبنانية والوفود الإقليمية والدولية الرسمية وغير الرسمية، رسمت صورة جديدة من صور معادلة “انتصار الدم على السيف” وهي المعادلة التي مثلت عنوانا رئيسيا لخط المقاومة الذي أسسه سماحة السيد حسن نصر الله ورفاقه في قيادة حزب الله، على مدى عقود من العمل الجهادي، والذي أصبح عنوانا لمنهج المقاومة في المنطقة بأكملها، ويعتبر “عقدة” استراتيجية كبرى لا تستطيع جبهة العدو تجاوزها أبدا، ذلك أن هذه المعادلة تنسف فاعلية كل الوسائل والأدوات المادية والمفاهيم التي يستند إليها الأعداء والتي تتمحور بشكل أساسي حول القتل والوحشية والتدمير كطريق للردع والانتصار والهيمنة، وهو ما يتبخر تماما في مواجهة خط تشكل فيه التضحية عاملا أساسيا من عوامل النصر، فتصبح كل وسائل العدو ومفاهيمه عبارة عن أسباب لهزيمته.
هذا ما عكسه الاحتشاد اللبناني والمشاركة الإقليمية والعالمية الواسعة في التشييع الذي تحول من مناسبة “عزاء” كان يتوقع العدو أن يشعر إزاءها بالشماتة والنشوة إلى ما وصفته وسائل الإعلام العبرية بـ”عرض قوة” أكد من جهة تماسك حزب الله والتفاف الجماهير اللبنانية حوله وحول مشروع السيد الشهيد، وبالتالي سقوط كل الآمال التي علقها العدو على الاستفادة من جريمة اغتيال قيادة المقاومة في حصار الحزب وتفكيكه وتهميش حضور بيئته في الساحة اللبنانية.
ومن جهة أخرى، عكس الاحتشاد أيضا استمرار حضور حزب الله وتأثير سماحة السيد حسن نصر الله على الساحة الإقليمية والعالمية، ليس فقط كرمز قومي وإنساني لمرحلة انتهت، وإنما كقائد مشروع عملي مستمر يتضمن تنسيقا فعالا بين جبهات عسكرية وأمنية وتعبوية وثقافية عابرة للحدود، هدفها الأسمى الموحد هو هزيمة الكيان الصهيوني وتدمير كل أساسات نظام الهيمنة والاستكبار الذي يقوم عليه.
هستيريا العدو الصهيوني قبل وأثناء التشييع عكست هي أيضا تحقق معادلة “انتصار الدم”، حيث شن جيش الاحتلال عدة غارات على جنوب لبنان وأرسل مقاتلاته للتحليق فوق منطقة التشييع، وحاولت وسائل الإعلام العبرية ترهيب الحشود المشاركة في التشييع من خلال نشر أخبار عن مراقبة المراسم، وعدم السماح بتحولها إلى استعراض للقوة، وهو ما أثبت بوضوح خشية العدو من دلالات الصورة الاستثنائية للتشييع، والتي على عكس كل حسابات العدو، لم تجسد “الخسارة” المتمثلة بفقدان سماحة السيد بقدر ما جسدت انسجام تضحيته العظيمة مع استمرارية التهديد الاستراتيجي لجبهة المقاومة والذي كان يفترض أن ينتهي باغتياله وفقا لحسابات العدو.
ولم تقتصر خشية العدو المعبرة بوضوح عن هزيمته على حدود الإطار العام لصورة التشييع، بل كانت حاضرة حتى في تفاصيل الصورة، حيث عبر الإعلام العبري عن مخاوف واضحة من مشاركة الوفود الإقليمية والعالمية في التشييع، بما في ذلك الوفود الإيرانية واليمنية، باعتبار أن تلك المشاركة تترجم استمرار التنسيق بين جبهات استراتيجية كانت حسابات العدو تعول على انهيار التنسيق والتلاحم بينها بعد اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله الذي كان “محور” تكوين وتطور هذا التنسيق المشترك.
وبالتالي فإن محاولات العدو لإعاقة مراسم التشييع ومخاوفه الواضح من المشاركة الواسعة فيه، تترجم سقوط كل “المكاسب” التي كان يأمل حصدها من خلال اغتيال سماحة السيد الشهيد ورفاقه في قيادة حزب الله، بل تترجم تحول تلك “المكاسب” إلى نتائج عكسية، فالتحدي الذي عبر عنه الاحتشاد الجماهيري والمشاركة الخارجية الواسعة في مراسم التشييع، برغم التهديدات ومحاولات الترهيب، يعني أن شهادة السيد حسن نصر الله قد تحولت إلى محرك إضافي لتعزيز قوة جبهة المقاومة في لبنان والمنطقة على كل المستويات، وهو ما يعتبر ضربة قاتلة للهدف الأساسي من وراء جريمة اغتيال السيد.
وفيما تسيطر دلائل وشواهد انتصار المقاومة وهزيمة العدو، على أجواء وداع القائد الذي يعترف الجميع بأنه لا يُعوض، فإن جميع حسابات مستقبل الصراع لا زالت تشير إلى أن زمن الانتصارات الذي فتحه سماحة السيد حسن نصر الله لن ينتهي برحيله، وأن الفراغ الذي تركه في موقع القيادة سواء على مستوى حزب الله أو على مستوى محور القدس، سيمتلئ بامتداد ونتائج عمله المبارك والذي بات الجميع يحملونه على عاتقهم كأمانة مقدسة.
ومثلما كانت التضحيات الكبيرة محطات أساسية في تطوير خط ومسار العمل الجهادي والمقاومة على امتداد عقود مضت في مختلف جبهات المقاومة، فإن شهاد السيد حسن نصر الله لا تحمل في طياتها فقط دلالات استمرار وتماسك مسار المقاومة، بل تحمل أيضا دلالات تحولات كبيرة ستصنعها الرغبة المشترك لدى الجميع في الوفاء لدماء وعهد السيد الشهيد، وأيضا الدروس المستفادة من المعركة الكبرى التي قُدمت فيها هذه التضحية الاستثنائية على كل المستويات، بما في ذلك المستوى الأمني والعسكري والسياسي، فهذه التضحية بقدر ما مثلت “صدمة” لا يمكن إنكارها فقد وضعت الجميع أمام ضرورات كبرى وحساسة لتطوير أداء جبهة المقاومة وسد ثغرات مهمة والحاجة إلى تأمين مكاسب المراحل الماضية بمعادلات جديدة تدفع العدو باستمرار نحو هزيمته النهائية الموعودة.