الهوية الاجتماعية.. مقياس معياري بامتياز
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
يسعى المشتغلون بالشأن الاجتماعي إلى أهمية تكريس الهوية الاجتماعية باعتبارها الأساس الذي تنطلق منه مجموعة من الرؤى، والاستنتاجات، والتوقعات، والحكم على حقيقة مآل الهويات على المدى البعيد، وبدون هذه الهوية الاجتماعية تظل الرؤية عائمة، ليس لها عنوان، ولا منطلق «مكان ميلاد» ولا منتهى للجزم بما سوف تؤول إليه هوية هذا الجيل أو ذاك، والمهم هنا من كل ذلك الأهمية التي تشكلها الهوية الاجتماعية؛ سواء في محيطها الخاص جدا جغرافيا، أو عندما تلتحم مع هويات اجتماعية كثيرة على امتداد الكرة الأرضية، وتبدأ عمليات الفرز الانتمائي إلى الشرق أو الغرب، إلى الفقر أو الغنى، إلى مجتمع الرفاه، أو الكفاف، إلى مجتمع المعرفة أو الأمية، إلى مجتمع القوة أو الضعف، إلى مجتمع سلطة القرار، أو الاستسلام لما عليه الحال، إلى التجذّر الموغل في الحضارة، أو حيث حداثة النشأة، فكل هذه الصور، هناك تقييم، ومعرفة مآلات – نتائج شبه أكيدة – ومنها قد تبدأ حالات التحزب، وحالة الكيل بمكيالين، وحالات هذا من شيعتي وهذا من عدوي، وقس على ذلك أمثلة أخرى، حيث يفرز كل ذلك هو المقياس المعياري الذي يتوافق أو يتصادم مع كفتي المقارنة، سواء أكانت هذه المقارنة جغرافيا «المكان» أو زمنيا «الأجيال» حيث تتيح المستويات التي وصلت إليها الهوية الاجتماعية الفرصة الكبيرة للمقارنة، وللوقوف على مستوى التأثير والتأثر التي تحدث بين الشعوب عادة، وهي الحالة التي لا يمكن وضع حدود مطلقة لمستوياتها التأثيرية على كلا الطرفين، أو الأطراف، لحقيقة مهمة، وهي: أن الإنسان كائن اجتماعي بامتياز يؤثر ويتأثر، ولنا في نص الآية الكريمة مبلغ الأثر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ– الآية (13) الحجرات، فالتداخل بين الشعوب حاصل بحكم الطبيعة البشرية التي تأتلف مع صنوها، مهما حلت فروقات بينية بينهما: اللغة، الجنس، اللون، المعتقد الديني، العرق، الثقافة، العادات، فهذه كلها صور للتباين بين الشعوب، ولكنها تظل أدوات مهمة للمقياس المعياري، ومع ذلك تحرص الشعوب -في مجملها- على أن تتجاوز هذه المظانّ بغية الالتحام مع الطرف الآخر، وإيجاد هوية اجتماعية جديدة، أو تطعيم الهوية ذاتها بصور جديدة، وهل تتنازل الأجيال عن هوياتها الاجتماعية بكل سهولة؟ الجواب: طبعا لا؛ حيث يظل المخزون الهوياتي باقيًا في حاضنة الذات، وخاصة عندما يكون المجتمع المحيط أكبر، وأكثر تأثيرًا على القلة، كأن تكون هذه القلة تعيش في وطن بديل، إقامة مؤقتة، أما عندما تكون الإقامة دائمة – أي لا رجعة مأمولة للوطن الأم – فإن الأجيال التالية لذات السلالة هي التي يمكن أن تنفصم انفصامًا مطلقًا عن مرجعية آبائها الاجتماعية، وهذا أيضا يتطلب عمرًا زمنيا يقدّر بجيل، وعمر الجيل وفق التقدير الزمني لا يقل عن أربعين عاما، أما إن ظل الفرد في بيئته الأم فإن الهوية الاجتماعية سوف تتأصل أكثر وأكثر، وتسوقها الأجيال جيلا بعد الجيل، مع تغذية مستمرة بالمستجدات التي تعيشها الأجيال في كل فترة زمنية.
تنطلق الهوية الاجتماعية من مجموعة الفعل الاجتماعي، وهذا الفعل تقوم به المجموعات كما يقوم به الأفراد، سواء بسواء، وإن نظر إلى الأفراد على أنهم نسخ من المجموعات الاجتماعية، وبالتالي -فوفق هذا التقييم- يكررون الأفعال الاجتماعية المختلفة التي يكتسبونها من محيطهم الاجتماعي، ويستلهمونها ممن سبقهم من الكبار، فالطفل تبدأ تفاعلاته مع محيطه من خلال ما يراه من سلوكيات الكبار، وتكبر هذه السلوكيات وتتوسع، حتى يصل إلى العمر وتجربة الحياة اللتين يتيحان له التفريق بين ما يقوم بتقليده، وما يخالف قناعاته الشخصية فيبحث عن جديد، فهنا تبدأ مرحلة الفرز: «هذا أقبله وأتفق معه، وهذا لا يمكن قبوله» وليس هنا من معيبة في هذا الأمر، والأجيال تعيش هذه السيناريوهات طول سنين حياتها، وهو أمر مقبول اجتماعيًا، وغير معيب إطلاقًا، وإنما ما قد يحسب على الأفراد عندما يستسلمون استسلاما مطلقا للفعل الاجتماعي العام، ولا تكن لهم مواقف مغايرة، تنبئ عن مستوى القناعات التي يؤمنون بها، والتي -ربما- قد لا تتفق مع المسار العام للجماعة ككل؛ لأن في ذلك مثلبة في مستوى الوعي الذي يصل إليه الأفراد في مرحلة زمنية من مراحل تجربة الحياة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من تحت عباءة «هذا ما كان عليه من سبقنا» مع أن الخروج ليس مقصودًا منه الخروج عن القيم السامية، والمرتكزات المهمة في حياة المجتمع، ولا تعمل على ارتباك الحسابات في بيئة الهوية الاجتماعية، وإنما هو خروج يتقارب فيه الفرد مع متطلبات حياته اليومية الحاضرة، وبما لا يفصله فصلًا معيبًا عن الواقع، وقد تلعب الأدوات الحديثة أو المستجدات على سلوكيات الناس، دورًا مهمًا في إجراء نوع من التغييرات التي تحدث بين أفراد المجتمع. ولتقريب المعنى؛ أضرب مثالًا بسيطًا من واقع حياتنا اليوم، ولتكن السبلة «مجلس الرجال في المنزل» بدأت تفقد حضورها كأهم مكان لاستقبال الضيوف، كما كان الحال -على سبيل التقريب- قبل عشر سنوات مثلا، ومن أفقدها هذا الدور هو الجيل الحالي الذي لا يرى فيها أمرا ملزما لتكون الحاضنة الوحيدة لضيوفه، فقد يستقبل ضيوفه في أي مطعم كان، أو في مكان آخر، كساحل البحر، أو خارج القرية، ولذلك من يلاحظ اليوم يجد أن تشكيلات المنازل الحديثة بدأت تخلو من تخصيص مكان «سبلة» للرجال فقط، وقد تجد قاعات مفتوحة على بعضها، وربما قد تجد سواتر مؤقتة للضرورة القصوى فقط، وهذا تغير مهم، والأهمية هنا أن المجلس العام، وفق التقدير الاجتماعي/ الشعبي، هو جزء من هوية المجتمع.
أتصور غاية ما في الأمر أن الهوية الاجتماعية عنوان مهم لبقاء الأجيال محافظة على كينونياتها الاجتماعية الخاصة، وحتى لا تتماهى تماهيًا يفقدها خصوصياتها الاجتماعية، فهذه الخصوصيات لها دور كبير في إيجاد الشعور بالعزة والاستقلالية والتميز، وهذه كلها محفزات معنوية تجعل من الفرد ذا شخصية اعتبارية خاصة وسط شخصيات كثيرة تحمل عناوين هوياتها الاجتماعية في مختلف المحافل، ومن يدقق في التماهي التام، فانعكاساته قاتلة، حيث يصبح الفرد كأنه مقطوع من شجرة، وهذه مسألة مؤذية إلى حد كبير، ولا تستسيغها النفس الطبيعية إطلاقًا، مهما كانت المبررات، وأفراد الهويات الاجتماعية المتباينين جغرافيًا، لا يقدرون الفرد المنسلخ عن هويته، ويعيبون فيه خروجه المارق عن حاضنته الاجتماعية، يحدث هذا حتى في وسط المجتمعات التي ضربها التغريب في العمق، وتقيم اليوم على أنها مجتمعات منحلّة، ومنفصلة عن سياقاتها الاجتماعية المتجذّرة، حتى في هذه المجتمعات هناك من يعمل حساب البقاء للهوية الاجتماعية، ويرى فيها حقيقته الإنسانية، ولذلك كثيرًا ما نسمع عن مواقف بعض أفراد هذه المجتمعات والتي تدهشنا تعكس حرصها الجازم على المثابرة في البقاء على هوياتها، وهذا بدوره يذهب بنا كأفراد في مجتمعات أكثر تقليدية، أن تؤصل فينا ضرورة التجذر، وعدم الانفلات من كثير من مكتسبات مجتمعنا الذي نعيش فيه، ويقينا، المسألة لا تقاس بتصرفات بعض الشباب الذين يتلمسون هوياتهم، فهم في طور النمو، وتجربة الخطأ والصواب، ومع ذلك لن يكونوا خالي الوفاض مما تختزنه ذواتهم خلال فترة النمو الأولى؛ فترة التقليد والمحاكاة التي مروا بها وهم بين أحضان أسرتهم الصغيرة.
وأختم هنا بضرورة النظر في مستويات الفعل الاجتماعي، سواء على المستوى الفردي، أو الجمعي، وهو الفعل الذي يعبر عن مكونات الهوية، وهو مجموع الممارسات السلوكيات، وتوظيف القيم، والعادات والتقاليد، والنظر هنا يذهب إلى أهمية التوجيه وتصويب الأخطاء دون الإجبار الذي -عادة- تكون له ردات فعل عكسية، ولعل للأسرة هنا أن تلعب دورًا محوريًا خاصة في مراحل السن الأولى لتنشئة الأطفال، بالإضافة إلى قدرة المناهج الدراسية على تضمين كثير من الأفعال الاجتماعية، وتسهيل وعيها وفهمها لدى الناشئة عبر حصص عملية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الهویة الاجتماعیة إلى مجتمع
إقرأ أيضاً:
وزير العمل: أكثر من 4 ملايين طفل مشمولين بنظام الحماية الاجتماعية
بغداد اليوم- بغداد
أعلن وزير العمل والشؤون الاجتماعية، أحمد الأسدي، اليوم الثلاثاء، (19 تشرين الثاني 2024)، عن وصول عدد الأطفال المشمولين بنظام الحماية الاجتماعية الى اكثر من أربعة ملايين و(85) ألف طفل.
من جانبه أوضح رئيس هيئة الحماية الاجتماعية احمد الموسوي في مؤتمر صحافي حضره مراسل "بغداد اليوم"، ان: "الهيئة قامت بشمول 91766 طفلا يتيما و من مرضى السكري و ذوي الاحتياجات الخاصة والمودعين في الدور الإيوائية".
وأضاف ان "عدد ابناء المشمولين بالإعانة الاجتماعية بلغ أكثر من 3 ملايين طفل منهم مليونين و300 ألف طفل مشمول بالمنحة المالية للطلبة فضلاً عن 212 ألف طفل شملوا بالضمان الصحي".