لجريدة عمان:
2025-03-04@11:57:17 GMT

الهوية الاجتماعية.. مقياس معياري بامتياز

تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT

يسعى المشتغلون بالشأن الاجتماعي إلى أهمية تكريس الهوية الاجتماعية باعتبارها الأساس الذي تنطلق منه مجموعة من الرؤى، والاستنتاجات، والتوقعات، والحكم على حقيقة مآل الهويات على المدى البعيد، وبدون هذه الهوية الاجتماعية تظل الرؤية عائمة، ليس لها عنوان، ولا منطلق «مكان ميلاد» ولا منتهى للجزم بما سوف تؤول إليه هوية هذا الجيل أو ذاك، والمهم هنا من كل ذلك الأهمية التي تشكلها الهوية الاجتماعية؛ سواء في محيطها الخاص جدا جغرافيا، أو عندما تلتحم مع هويات اجتماعية كثيرة على امتداد الكرة الأرضية، وتبدأ عمليات الفرز الانتمائي إلى الشرق أو الغرب، إلى الفقر أو الغنى، إلى مجتمع الرفاه، أو الكفاف، إلى مجتمع المعرفة أو الأمية، إلى مجتمع القوة أو الضعف، إلى مجتمع سلطة القرار، أو الاستسلام لما عليه الحال، إلى التجذّر الموغل في الحضارة، أو حيث حداثة النشأة، فكل هذه الصور، هناك تقييم، ومعرفة مآلات – نتائج شبه أكيدة – ومنها قد تبدأ حالات التحزب، وحالة الكيل بمكيالين، وحالات هذا من شيعتي وهذا من عدوي، وقس على ذلك أمثلة أخرى، حيث يفرز كل ذلك هو المقياس المعياري الذي يتوافق أو يتصادم مع كفتي المقارنة، سواء أكانت هذه المقارنة جغرافيا «المكان» أو زمنيا «الأجيال» حيث تتيح المستويات التي وصلت إليها الهوية الاجتماعية الفرصة الكبيرة للمقارنة، وللوقوف على مستوى التأثير والتأثر التي تحدث بين الشعوب عادة، وهي الحالة التي لا يمكن وضع حدود مطلقة لمستوياتها التأثيرية على كلا الطرفين، أو الأطراف، لحقيقة مهمة، وهي: أن الإنسان كائن اجتماعي بامتياز يؤثر ويتأثر، ولنا في نص الآية الكريمة مبلغ الأثر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ– الآية (13) الحجرات، فالتداخل بين الشعوب حاصل بحكم الطبيعة البشرية التي تأتلف مع صنوها، مهما حلت فروقات بينية بينهما: اللغة، الجنس، اللون، المعتقد الديني، العرق، الثقافة، العادات، فهذه كلها صور للتباين بين الشعوب، ولكنها تظل أدوات مهمة للمقياس المعياري، ومع ذلك تحرص الشعوب -في مجملها- على أن تتجاوز هذه المظانّ بغية الالتحام مع الطرف الآخر، وإيجاد هوية اجتماعية جديدة، أو تطعيم الهوية ذاتها بصور جديدة، وهل تتنازل الأجيال عن هوياتها الاجتماعية بكل سهولة؟ الجواب: طبعا لا؛ حيث يظل المخزون الهوياتي باقيًا في حاضنة الذات، وخاصة عندما يكون المجتمع المحيط أكبر، وأكثر تأثيرًا على القلة، كأن تكون هذه القلة تعيش في وطن بديل، إقامة مؤقتة، أما عندما تكون الإقامة دائمة – أي لا رجعة مأمولة للوطن الأم – فإن الأجيال التالية لذات السلالة هي التي يمكن أن تنفصم انفصامًا مطلقًا عن مرجعية آبائها الاجتماعية، وهذا أيضا يتطلب عمرًا زمنيا يقدّر بجيل، وعمر الجيل وفق التقدير الزمني لا يقل عن أربعين عاما، أما إن ظل الفرد في بيئته الأم فإن الهوية الاجتماعية سوف تتأصل أكثر وأكثر، وتسوقها الأجيال جيلا بعد الجيل، مع تغذية مستمرة بالمستجدات التي تعيشها الأجيال في كل فترة زمنية.

تنطلق الهوية الاجتماعية من مجموعة الفعل الاجتماعي، وهذا الفعل تقوم به المجموعات كما يقوم به الأفراد، سواء بسواء، وإن نظر إلى الأفراد على أنهم نسخ من المجموعات الاجتماعية، وبالتالي -فوفق هذا التقييم- يكررون الأفعال الاجتماعية المختلفة التي يكتسبونها من محيطهم الاجتماعي، ويستلهمونها ممن سبقهم من الكبار، فالطفل تبدأ تفاعلاته مع محيطه من خلال ما يراه من سلوكيات الكبار، وتكبر هذه السلوكيات وتتوسع، حتى يصل إلى العمر وتجربة الحياة اللتين يتيحان له التفريق بين ما يقوم بتقليده، وما يخالف قناعاته الشخصية فيبحث عن جديد، فهنا تبدأ مرحلة الفرز: «هذا أقبله وأتفق معه، وهذا لا يمكن قبوله» وليس هنا من معيبة في هذا الأمر، والأجيال تعيش هذه السيناريوهات طول سنين حياتها، وهو أمر مقبول اجتماعيًا، وغير معيب إطلاقًا، وإنما ما قد يحسب على الأفراد عندما يستسلمون استسلاما مطلقا للفعل الاجتماعي العام، ولا تكن لهم مواقف مغايرة، تنبئ عن مستوى القناعات التي يؤمنون بها، والتي -ربما- قد لا تتفق مع المسار العام للجماعة ككل؛ لأن في ذلك مثلبة في مستوى الوعي الذي يصل إليه الأفراد في مرحلة زمنية من مراحل تجربة الحياة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من تحت عباءة «هذا ما كان عليه من سبقنا» مع أن الخروج ليس مقصودًا منه الخروج عن القيم السامية، والمرتكزات المهمة في حياة المجتمع، ولا تعمل على ارتباك الحسابات في بيئة الهوية الاجتماعية، وإنما هو خروج يتقارب فيه الفرد مع متطلبات حياته اليومية الحاضرة، وبما لا يفصله فصلًا معيبًا عن الواقع، وقد تلعب الأدوات الحديثة أو المستجدات على سلوكيات الناس، دورًا مهمًا في إجراء نوع من التغييرات التي تحدث بين أفراد المجتمع. ولتقريب المعنى؛ أضرب مثالًا بسيطًا من واقع حياتنا اليوم، ولتكن السبلة «مجلس الرجال في المنزل» بدأت تفقد حضورها كأهم مكان لاستقبال الضيوف، كما كان الحال -على سبيل التقريب- قبل عشر سنوات مثلا، ومن أفقدها هذا الدور هو الجيل الحالي الذي لا يرى فيها أمرا ملزما لتكون الحاضنة الوحيدة لضيوفه، فقد يستقبل ضيوفه في أي مطعم كان، أو في مكان آخر، كساحل البحر، أو خارج القرية، ولذلك من يلاحظ اليوم يجد أن تشكيلات المنازل الحديثة بدأت تخلو من تخصيص مكان «سبلة» للرجال فقط، وقد تجد قاعات مفتوحة على بعضها، وربما قد تجد سواتر مؤقتة للضرورة القصوى فقط، وهذا تغير مهم، والأهمية هنا أن المجلس العام، وفق التقدير الاجتماعي/ الشعبي، هو جزء من هوية المجتمع.

أتصور غاية ما في الأمر أن الهوية الاجتماعية عنوان مهم لبقاء الأجيال محافظة على كينونياتها الاجتماعية الخاصة، وحتى لا تتماهى تماهيًا يفقدها خصوصياتها الاجتماعية، فهذه الخصوصيات لها دور كبير في إيجاد الشعور بالعزة والاستقلالية والتميز، وهذه كلها محفزات معنوية تجعل من الفرد ذا شخصية اعتبارية خاصة وسط شخصيات كثيرة تحمل عناوين هوياتها الاجتماعية في مختلف المحافل، ومن يدقق في التماهي التام، فانعكاساته قاتلة، حيث يصبح الفرد كأنه مقطوع من شجرة، وهذه مسألة مؤذية إلى حد كبير، ولا تستسيغها النفس الطبيعية إطلاقًا، مهما كانت المبررات، وأفراد الهويات الاجتماعية المتباينين جغرافيًا، لا يقدرون الفرد المنسلخ عن هويته، ويعيبون فيه خروجه المارق عن حاضنته الاجتماعية، يحدث هذا حتى في وسط المجتمعات التي ضربها التغريب في العمق، وتقيم اليوم على أنها مجتمعات منحلّة، ومنفصلة عن سياقاتها الاجتماعية المتجذّرة، حتى في هذه المجتمعات هناك من يعمل حساب البقاء للهوية الاجتماعية، ويرى فيها حقيقته الإنسانية، ولذلك كثيرًا ما نسمع عن مواقف بعض أفراد هذه المجتمعات والتي تدهشنا تعكس حرصها الجازم على المثابرة في البقاء على هوياتها، وهذا بدوره يذهب بنا كأفراد في مجتمعات أكثر تقليدية، أن تؤصل فينا ضرورة التجذر، وعدم الانفلات من كثير من مكتسبات مجتمعنا الذي نعيش فيه، ويقينا، المسألة لا تقاس بتصرفات بعض الشباب الذين يتلمسون هوياتهم، فهم في طور النمو، وتجربة الخطأ والصواب، ومع ذلك لن يكونوا خالي الوفاض مما تختزنه ذواتهم خلال فترة النمو الأولى؛ فترة التقليد والمحاكاة التي مروا بها وهم بين أحضان أسرتهم الصغيرة.

وأختم هنا بضرورة النظر في مستويات الفعل الاجتماعي، سواء على المستوى الفردي، أو الجمعي، وهو الفعل الذي يعبر عن مكونات الهوية، وهو مجموع الممارسات السلوكيات، وتوظيف القيم، والعادات والتقاليد، والنظر هنا يذهب إلى أهمية التوجيه وتصويب الأخطاء دون الإجبار الذي -عادة- تكون له ردات فعل عكسية، ولعل للأسرة هنا أن تلعب دورًا محوريًا خاصة في مراحل السن الأولى لتنشئة الأطفال، بالإضافة إلى قدرة المناهج الدراسية على تضمين كثير من الأفعال الاجتماعية، وتسهيل وعيها وفهمها لدى الناشئة عبر حصص عملية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الهویة الاجتماعیة إلى مجتمع

إقرأ أيضاً:

استحقاق مرحلي.. غاية أم وسيلة؟

لا ينظر إلى الاستحقاق المرحلي على أنه غاية، ولا على أنه وسيلة، بقدر ما ينظر إليه على أنه مرحلة زمنية، استكفت كل المراحل التي كان من المفترض أن تمر بها، لتصل إلى هذا الاستحقاق، ومعنى ذلك أن نيل الاستحقاق بهذه الصورة يصبح أمرا طبيعيا لنتائج أي جهد إنساني يبذل، مع الحرص على أن تكون هناك نتيجة ملموسة، معبرة عن هذا الجهد أو ذاك، كما يجب التأكيد، أو الأخذ في الاعتبار أن تكون النتيجة المتحققة دون أية تكلفة إضافية غير تلك الموضوعة عند بدء المرحلة، وإلا خرج الفهم عن حقيقة الاستحقاق المرحلي، فبإضافة أي تكلفة إضافية معناه الدخول في مرحلة استحقاق أخرى، وهذا ينفي مفهوم الاستحقاق المرحلي، كما يذهب المعنى في ذات المفهوم على أن الوصول إلى هذا الاستحقاق هو حقيقة موضوعية بالضرورة، وليست منة، أو تفضل، وإنما هكذا ما يجب أن يكون عليه الأمر، وبالتالي فإن لم تكن النتيجة كما يشير إليه معنى الاستحقاق فإنه؛ في المقابل؛ أن هناك خللا ما حدث، ولم يوف الاستحقاق حقه من التحقق على أرض الواقع.

هل هناك عقبات يمكن أن تعطل وصول النتائج إلى مستويات الاستحقاق المرحلي؟ وإن حصل ذلك؛ كيف يمكن معالجتها؟ ومن هم الفاعلون الحقيقيون سواء بالسلب أو بالإيجاب للوصول أو دون الاستحقاق المرحلي لأي مشروع؟ ولماذا لا ينتبه دائما إلى هذا النوع من الاستحقاق؛ ويعامل على أنه تحصيل حاصل؟ أو يعاد النظر للبدء من جديد للوصول إلى هذا الاستحقاق دون العودة إلى تقييم ما تم إنجازه، ومعايرته إن كان ذلك يتوافق مع الجهد المبذول والفترة الزمنية التي قطعت، ومستوى الإنفاق الذي خصص؟ كل هذه الأسئلة؛ تبقى جوهرية الطرح لإعادة النظر في تحقق هذا الأمر، وبلورته على أنه جزء لا يتجزأ من الجهد الإنساني المبذول في مختلف أنشطة الحياة اليومية.

والمناقشة هنا؛ لا تفرق في مفهوم الاستحقاق المرحلي بين فرد، أو مؤسسة، أو جهد حكومة بكل مؤسساتها؛ لأن هذا النوع من القراءات لا يتخصص في واحدة من هذه فقط، وإنما هي حالة عامة تخص الفرد في المساحة المتاحة له للاشتغال، كما تخص المجموع في المساحة الأكبر للاشتغال، فالجميع في النهاية مطالبون أن يكون هناك استحقاق مرحلي لأي جهد مبذول، ويظل هذا الاستحقاق قابلا للقياس عليه في مختلف الخطط والبرامج القادمة، وإلا لضاعت الجهود سدى، وخرج الجميع بخفي حنين، وضاع كل ما بذل حيث ذرته الرياح، وهذا ما لا يمكن قبوله إطلاقا من الجميع، فليس من المنطق إطلاقا أن يعمل الفرد أو المجموعة في فراغ لا متناه، والذي يقلص من مساحة هذا الفراغ هو المنجز المرحلي لمختلف المشاريع - فردية كانت أو جماعية - فلا بد أن تكون هناك وسيلة موصلة إلى غاية، والغاية هي ما يطلق عليه «الاستحقاق المرحلي» بمعنى أنه لا يمكن الانتقال إلى المرحلة التالية دون اكتمال استحقاقات المرحلة السابقة، وهذا هو منطق الأشياء.

فالطالب لا يمكن أن يصل إلى المرحلة الجامعية دون أن ينجز استحقاقات المرحلة الدراسية السابقة لما قبل الجامعة، وكذلك لا يمكن أن يعتمد الطبيب لتطبيب الناس، قبل أن ينجز كما نوعيا وكميا من المعرفة في كلية الطب، ورجل الشرطة لا يمكن أن يسمح له بأن يتعامل مع قطاع عريض من الناس في مختلف المواقف القانونية الخاصة بالمرور أو غيرها من فروع التخصص دون أن يحقق ذات الكم والنوع المعرفي في المجالات الشرطية المختلفة، ويقاس ذلك كله على مختلف الأنشطة الفنية والإدارية، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، ولذلك فعندما يحدث هناك إخفاق في أداء مجال ما من مجالات التعاطي مع الآخرين، عندها تشعر أن هناك خللا ما في عدم اكتمال الاستحقاق المرحلي في ذات الأمر، سواء من جانبه البشري، أو التقني، كما يشعرك ذلك أن المسألة تعامل معاملة عدم الاهتمام، وإنها مجرد تحصيل حاصل، أو كيفما اتفق، وهذا لا يؤرخ عملا منجزا محكما يراعي كل جوانب الاستحقاق، فيؤدي دوره على أكمل وجه.

يحدث أن يكون هناك الكثير من الشد والجذب حول مختلف الموضوعات، وذلك ناتج عن مجموعة من التقييمات التي يجريها الناس على ما يتلقونه، سواء ما يتلقونه من فرد، أو مؤسسة، وهذا التقييم يعكس الكثير من القصور عن ما كان يتوقع، ويعد هؤلاء المُقَيِّمُونْ أن هذا القصور ناتج عن عدم الإخلاص، أو عدم تحمل الأمانة، أو عدم القدرة على تحمل المسؤولية، أو عن عدم وضوح الرؤية والأهداف، أو عدم الإعداد الجيد للذين يقومون بأداء خدمة ما، أو عدم مواءمة الظروف الزمنية أو البشرية، أو الجغرافية لذات الموضوع، وفي كل ذلك هناك أمر خفي؛ ربما؛ لا يستحضره هؤلاء جميعهم، أو أغلبهم، وهو عدم الوصول إلى الاستحقاق المرحلي الذي يفترض أن تعكسه النتائج لكي تؤتي هذه الخدمة أو تلك أكلها، وتستوفي حقها من رضى الناس، وهذا ما يلمس في قصور الخدمات التي لا تزال تثير حفيظة المستخدمين لها، وتوجد بيئة متصادمة بين الجمهور العام، وبين الجهات المعنية بها، وهنا يفترض أن يعاد النظر بجدية إلى مواطن الخلل المتسببة في الاحتقان المستمر من قبل الجمهور العريض؛ لأن الاستحقاق المرحلي لا يتوقف فقط عند المنتج النهائي الذي يقدم للجمهور، وإنما يسبقه الكثير من الأدوات المعززة للإنتاج، بدءا من القوى البشرية العاملة، مرورا بمجموعة الوسائل الفنية من الأجهزة والتدريب الجيد، وصولا إلى مستويات الإدارات العلياء، حيث اتخاذ القرار السليم، والمحكم، وذلك عبر الخطط المدروسة ذات تراتبية التنفيذ، بعيدا كل البعد عن اتخاذ القرارات الارتجالية أو العشوائية، ومن هنا قد يلحظ البعض نجاح مؤسسة دون أخرى في تقديم خدماتها إلى الجمهور، أو نجاح مميز من فرد في المجتمع دون غيره، وهذا التقييم ليس مرده الذكاء الخارق عند هؤلاء وهؤلاء دون آخرين يشاركونهم ذات الظروف، وإنما مرد ذلك إلى تحقق الاستحقاق المرحلي عند هؤلاء دون غيرهم، وهو - كما جاء أعلاه - إعطاء كل مرحلة من مراحل النشأة استحقاقاتها من الإعداد والتدريب، وتوظيف القدرات الذهنية، فالمسألة لن تخرج عن تراكمياتها الطبيعية، والمؤدية في النهاية إلى النتائج المتميزة التي يشيد بها الجميع.

هناك من يتحدث عن حرق المراحل أو القفز عليها، ولذلك يكثر ترديد عبارة: «بدأنا من ما انتهى إليه الآخرون» وهذا فهم خاطئ بالمطلق، لأن الجهد الإنساني المقبول منطقيا هو ذلك الجهد الذي يمر عبر مراحل تراكمية متسلسلة منطقيا، وقفز المراحل معناه أن تؤسس مرحلة وتتجاوز المرحلة الثانية، وتضع رجلك على المرحلة الثالثة، وهكذا حيث تكون هناك فراغات بين مرحلة وأخرى، وهذا من أخطر ما يكون في بناء القدرات، فالمراحل الفارغة سوف تحدث تكسيرا وتحطيما ضرره أكبر من نفعه، بل يعطل المشروع بأكمله، ولذلك يلاحظ أن بعض المشروعات تتكئ على عكاز، لوجود مثل هذه الخلل المصنوع مع سبق الإصرار والترصد، مثل ما يمد شارع أسفلتي عبر مسارات أودية، دون أن تقام جسور على ذات المسارات، فهنا لا يتحقق الاستحقاق المرحلي لهذه الخدمة للناس، فإذا كانت الغاية فقط هي وصول هذا الشارع إلى آخر نقطة للمستخدمين، فإن الوسيلة المسخرة لذلك غير مستحقة لشروطها الفنية، وبالتالي فالنتيجة المتوقعة الفشل الذريع لهذه الخدمة فما الفائدة من توصيل هذا الشارع في ستة أشهر بمواصفاته غير المكتملة، والمتوقع له سنة كاملة بتحقق استحقاق مرحلته الحقيقية؟ فالمسألة لا ترتبط بمجارات الزمن؛ بقدر ارتباطها بالجودة الماكنة، وهذه الجودة لن تتحقق إلا باستحقاقاتها المرحلية، وحرق المراحل من أسوأ ما يتصادم مع هذا الاستحقاق لأي مشروع، ومن يتمعن في التطور التقني يدرك هذه الحقيقة بكامل تجلياتها، فالمسألة ليست «خوارزميات» تحتاج إلى «شيفريات» لتفكيكها، وإنما قائمة على حسبة مادية بحتة مفادها أن (1+1=2).

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

مقالات مشابهة

  • زلزال بقوة 5.1 درجة على مقياس ريختر يضرب جزر جوادلوب في فرنسا
  • طالبة تتخرج في مدرسة ثانوية أميركية بامتياز ولا تستطيع القراءة أو الكتابة
  • وزير الداخلية الكويتي: بلادنا كانت مختطفة.. واستعادة الهوية واجب وطني
  • عرقاب: الجزائر اليوم وجهة استثمارية بامتياز وهي همزة وصل بين إفريقيا وأوروبا
  • تنورة وعرقسوس وياميش.. حرف رمضانية تتجذر في الهوية المصرية وتسرد موروثا ثقافيا مميزا
  • بمشاركة طلابية واسعة.. جامعة حلوان تنظم كرنفال المحافظات لتعزيز الهوية الوطنية
  • جامعة حلوان تنظم كرنفال المحافظات لتعزيز الهوية الوطنية والأنشطة الطلابية
  • استحقاق مرحلي.. غاية أم وسيلة؟
  • الهوية الثقافية في ظل المتغيرات
  • «الهوية وشؤون الأجانب بدبي» تُعلن مواعيد العمل في رمضان