لجريدة عمان:
2025-01-31@01:38:39 GMT

هل العالم مستعد لعودة الدين؟

تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT

ترجمة: أحمد شافعي

لم يرج الإلحاد في الحياة الغربية حينما تصدرت الكتابات المناهضة للرب بأقلام أمثال ريتشارد دوكنز وكرستوفر هيتشنز قوائم أكثر الكتب مبيعا بسبب ظهور مباغت لحجج جديدة وعبقرية على عدم وجود الرب، ولكن العالم شهد ذلك الرواج لأن أحداثا معينة وقعت ولأن قوى أعمق هيأت العصر لعدم الإيمان، ولأن الإنترنت في بواكيره كان بمقام وسيلة جديدة لنقل الشك، ولأن الحادي عشر من سبتمبر روج مخاطر الأصولية الدينية، ولأن أزمة الانتهاكات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية قوضت أحصن حصون المسيحية النظامية في الغرب، ولأن تراجع العصر الرقمي عن السلطة والمؤسسات ضرب المؤسسات الدينية أول ما ضرب.

وليس الغرض من سرد هذه القوى وأمثالها هو التقليل من تأثير دوكنز ومن شابهه. فمن خلال انتهاز الفرصة، دفع القائلون بعدم وجود الرب العلمنة وإبطال حضور المسيحية إلى أبعد مما كانوا ليبلغوه لولا تلك الفرصة. إنما الغرض هو تأكيد أن النجاح في معركة الأفكار غالبا ما يتحقق حينما يكون العالم مهيأ للمضي في طريقك، وحينما تكون الجماهير فجأة مستعدة لإيلاء أفكارك آذانها على نحو أكبر وأكمل من ذي قبل.

ومثل هذه الفرصة سانحة اليوم للكتاب الدينيين. لأن فكرة الملاحدة الجدد القائلة بأن إضعاف الدين المنظم كفيل بأن يجعل العالم أكثر عقلانية وأقل قَبَلية تبدو أشد عبثية في عام 2024 مما كانت عليه في عام 2006، ولأن القلق الوجودي والسأم الحضاري -وليس التفاؤلية العقلانية والطموح الإنسانوي- هما المزاج المهيمن على الليبرالية العلمانية في أيامنا هذه، ولأن تراجع الانضمام إلى المؤسسات الدينية وتضاؤل الممارسة الدينية باتا يعدان على نحو متزايد مشكلة اجتماعية لا وثبة عظيمة إلى الأمام، ولأن من نشأوا بلا إيمان يبحثون الآن عن المعنى في المخدرات والتنجيم والأطباق الطائرة، ولأن صعود اللائيين the Nones -أي الأمريكيين غير التابعين لأي دين- قد توقف في الآونة الأخيرة.

لكل ذلك يبدو العالم اليوم مهيأ لحجج الدين مثلما كان مهيأ للملاحدة الجدد قبل عشرين عاما. لكن السؤال هو هل يستطيع المتدينون أن يستعيدوا أرضية ثقافية حققية -وخاصة في قلب العلمانية أي في أوساط الإنتلجنسيا الغربية- بدلا من الاكتفاء بإثارة حنين مبهم إلى الإيمان.

إنه لأمر مختلف تماما عن حمل غير المؤمنين على قول كلمات طيبة في حق المسيحية «الثقافية» أو الإقرار بمنفعة اجتماعية لارتياد الكنائس. لأن التحدي يتمثل في المضي إلى أبعد من ذلك، وهو إقناع المعاصرين القلقين بأن الدين أكثر من محض منفعة برجماتية، ومن محض أمل بائس، وبأن الإطار الديني في حقيقة الأمر يساعد على فهم الواقع أكثر من البديل الديني القح.

وإنني أخاطر بخوض هذه اللعبة، لأنني سوف أطرح محاولتي في الإقناع خلال العام القادم [إذ يصدر له كتاب بعنوان «آمِنوا» أو «BELIEVE» - المترجم]. لكن الأشهر الثلاثة الماضية شهدت صدور ثلاثة كتب دينية تخوض غمار هذا النقاش منادية فلسفيا وعلميا وتجريبيا بتبني منظور ديني لرؤية العالم.

تأتي الرؤية الفلسفية من الفيلسوف واللاهوتي واسع الاطلاع ديفيد بنتلي هارت الذي قد يتجاوز ما نسيه من الكتابات الدينية الهندية الغامضة أكثر ما أعرفه أنا عن أسرتي. وكتابه الجديد «كل الأشياء مليئة بالآلهة: غوامض العقل والحياة» يمثل تتويجا لعقود من مجادلة الملاحدة الجدد وجميع الروايات الاختزالية للوعي الإنساني.

ولكونه تتويجا، فقد لا يكون هذا الكتاب بالضرورة أفضل بداية لقارئ مبتدئ، وتبقى ميزة البداية المناسبة منسوبة لكتاب صدر له سنة 2013 بعنوان «تجربة الرب» الذي يمثل مقدمة أوضح لفهم الواقع فهما دينيا. أما «كل الأشياء مليئة بالآلهة» فمكتوب على هيئة حوار أفلاطوني (!) يدور بين جماعة من الآلهة اليونانيين المتقاعدين (!!) يتسكعون في ضيعة إيروس وسايكي (!!!) ويتجادلون بعضهم مع بعض في نقاشات البشر المعاصرين حول فلسفة العقل وعلم الأعصاب ونظرية المعلومات.

لو أن هذا هو ما تفضله، فهو لك، لكن حجج الملاحدة الجدد تستوجب الشدة، وهذا الكتاب يخلو من ذلك.

غير أن للقالب الحواري ميزة عظيمة، وهي أنه يستوجب من هارت أن يفرد مساحة كبيرة لأفكار اشتهر بتعامله معها بما يمكن أن نسميه «الازدراء الأولمبي». فمن خلال الإله هيفايستوس الذي يوعز إليه الكاتب الجانب التشكيكي المناهض للخرافة، تنالون شرحا موسعا للحجج القائلة بأن بالإمكان اختزال العقل والذات والفكر في مادة عديمة العقل. وهذا الشرح هو الذي يزيد الإقناع عندما تمنى هذه الحجج بالهزيمة (وهي هزيمة واضحة في تقديري) أمام حجة هارت بأن العقل والروح لا بد أن يكونا أسبق من العالم المادي لكي يكون لاختبارنا الكون أي معنى.

لو أنكم تتصورون هذا لعبا فلسفيا ولكنه في الوقت نفسه معاد للعالم بشكل أساسي، فيمكنكم أن تنصرفوا عنه إلى الكتاب الثاني في هذه الثلاثية، وهو كتاب سبنسر كلافان «نور العقل، نور العالم»، وهو حجة بأن تطور العلم الحديث يوفر أدلة معملية على أسبقية العقل.

ليس الأمر هنا هو الحجة المألوفة التي تقول: إن دقة الكون برهان على وجود ذكاء إلهي هو الذي رتَّب كل شيء. إنما هو حجة على أن النموذج المادي للكون بوصفه نظاما ماديا مغلقا تتقافز فيه وحدات المادة تقافز كرات البلياردو قد أطيح به على يد ثورة الكوانتم التي أظهرت -أمام حيرة كثير من العلماء- أن الاحتمالات لا تنهار في الواقع نفسه إلا حينما يوجد عقل واع يقيس ويراقب.

يذهب كلافان إلى أن التأمل الحقيقي لهذا الاكتشاف يجب أن يرغم على اختيار حاسم. من ناحية، يمكننا أن نتبنى شكلا من خدعة «الكون التعددي» (الشائع اليوم في الثقافة الرائجة لأسباب مفهومة) الذي لا يوجد فيه واقع مفرد إنما تتعايش فيه بطريقة ما جميع الاحتمالات. لكن هذا يؤدي إلى تفكك وعدمية وموت للمشروع العلمي ذاته الذي يحاول الحفاظ عليه.

ولهذا فإن الخيار الآخر هو المفضل، لو أنكم تثقون حقا في العلم، وهو القبول بوجود واقع واحد فقط -«ينشأ حينما يقوم وعي بإعطاء شكل للزمان والمكان»- وينشأ بمعنى ما كلما وقعت عليه أعيننا، وينشأ أساسا على يد (القوة) التي قالت في المقام الأول «ليكن النور».

وهذا أمر جلل من وجهة النظر المادية، ولكن من واقع تجربتي مع المتشككين ذوي العقول المنفتحة، ليست هذه هي النقطة التي يصلون فيها إلى أقصى درجات الاحتمال. إنما الأرجح هو أن يبلغوا ذلك عندما نتقدم خطوة أبعد إلى نطاق الدين القديم الحقيقي، فنبدأ في الحديث عن سبل أكثر تخصيصا واستعصاء على التنبؤ بها يشكل بها عقل ما وراء طبيعي الواقع المادي، أي عالم المعجزات والكشوف والرؤى والبشائر والملائكة النورانيين والشياطين.

وهذا العالم هو موضوع الكتاب الأخير في ثلاثيتي وهو كتاب «العيش في الأعجوبة: العثور على الغموض والمعنى في عصر علماني» لرود دريهر. وهو جزئيا دليل عملي للساعين إلى علاقة أكثر روحانية مع الواقع كالتي كانت أغلب المجتمعات البشرية تنعم بها ثم جاء مجتمعنا نحن فبترها في حماقة. لكن الكتاب أيضا يمثل مجموعة بيانات عن دوام العجب حتى في ظل أوضاع تتنكر للعجيب، وعن وقائع خارقة تزدهر حتى في عالمنا العلماني المفترض.

يعني هذا أن كتاب دريهر -من الكتب الثلاثة- هو الأكثر طرافة، فهو الذي يحكي لنا أفضل القصص، ويغطي جوانب من الحياة الإنسانية هي الأهم لبقاء الدين من أي حجة أو نظرية، ويطرح علينا في المقام الأكبر حقيقة أنه حتى في المجتمعات التي تقصي أي ملمح للخوارق من أنظمة معرفتها الرسمية، تظل تجارب غريبة تخترق هذه الأنظمة.

لكن من منظور حراس المعرفة الرسمية، فالخوارق هي غالبا المجال الذي تتوقف فيه القدرة على «التقبل الحذر» ويبدأ العجز التام عن التقبل. فإله الفلاسفة والفيزيائيين شيء، وإله الخرافيين من طاردي الأرواح الشريرة وأصحاب المعجزات وتجارب المشارفة على الموت شيء آخر سيئ السمعة إلى حد ما، أو هو كذلك إلى أن تمر شخصيا بتجربة من هذا القبيل على الأقل.

ولكن الإلهين إله واحد من المنظور الديني بالطبع -وليس منظور هارت أو كلافان بأقل دينية من منظور دريهر. وإذن فمحك كل هذه الحجج هو ما لو أن من الممكن دفع عالمنا التعيس بعدم إيمانه إلى هذه النتيجة البعيدة، وما لو أن انكشاف حقيقة العلمانية أخيرا كاف لجذب مزيد من الناس إلى أعتاب الدين لولا أن اجتذابهم يقتضي ما هو أكثر من الحجج.

روس دوثات من كتّاب الرأي في نيويورك تايمز منذ 2009

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

أفكار تولستوي .. مفترق طرق

«كل شيء فيه منصهر انصهارًا، وجميل جمالًا رائعًا، لم أُصدِّق أنه ملحد، رغم أني أحسست بذلك، أما الآن، بعد أن سمعته وهو يتحدث عن المسيح، وشاهدت عينيه -اللتين تشيان بذكاء أكبر من أن يكون في مؤمن- فإني أعلم بأنه ملحد إلحادًا عميقًا، أليس كذاك؟».

مكسيم جوركي متحدِّثًا عن تولستوي في رسالة إلى تشيخزف كانون الثاني 1900.

إن هذه الجملة تجعلنا نتوقف مليًّا أمام سؤال كبير: ما الفرق بين الإلحاد الظَّاهري والإلحاد العميق؟ أهو سؤال أخلاقي أم فكري؟!

ظاهر التسمية الأولى من السؤال -الإلحاد الظَّاهري- يذكِّرنا بالقول المأثور: (لا إله والحياة مادة)، فإني أراه بات قولًا عبثيًّا بالدرجة الأولى، فحوادث الكون فيها الدليل على أن هذا الكون له إله واحد.

وإزاء هذا الفهم نتفاجأ من وصف جوركي لتولستوي: «وشاهدت عينيه، اللتين تشيان بذكاء أكبر من أن يكون في مؤمن»، وفي هذا طرق لتساؤل آخر: هل يكون الإيمان مقياسًا للذكاء في التَّعامل الإنساني؟ ويتبعه منحى جديد قديم، ومحدد لمعرفة الكون بمعنى الخلق؛ أهو الإيمان أم العقل؟ وهل الإيمان لازم التَّوارث أم بازغ التفكير للوصول إليه، كحقيقة تتجلَّى، لا كتركة تتبنَّى جهوزيَّة النَّتيجة.

يرفض تولستوي الوصاية الدينية، ويُبجِّل العقل بنظرته الخاصة، فيقول: «حبا الله الإنسان وسيلة واحدة فقط، يمكنه بها أن يتعرف على نفسه ويكتشف علاقته بالعالم، وما من وسيلة أخرى سواها، وهي العقل..».

وهذا يضعنا أمام المسار الأيدولوجي لتولستوي، ليس فقط المنطلق الفكري العملي، بل التنظيري أيضًا، حيث يواصل قوله: «ثم يقولون لك فجأة إنَّ هذه الوسيلة يمكنه أن يستخدمها في تفهُّم واستجلاء مشكلاته المنزلية والأُسرية والاقتصادية والسياسية والعلمية، لكنه لا يمكنه استخدامها في استجلاء الحقائق الأكثر أهمية، التي تتوقف عليها حياته بأكملها، بل يتوجب عليه أن يستجلي هذه القضايا بعيدًا عن العقل، لكنه بعيدًا عنه لا يمكنه استجلاء شيء».

وإزاء هذه الأفكار التي تهمِّش دور الإيمان في الحياة البشرية؛ حاربت الكنيسة هذه الأفكار بقوة، بسبب حدَّتها وشدة أطروحاتها التي تكسر أعمدتها، كقوله: «يحتاج المرء فقط أن يتخيل إنسانًا من عالمنا، نشأ على قواعد دينية مسيحية، سواء أكانت كاثوليكية أم أرثوذكسية أم بروتستانتية، يود أن يوضح هذه القواعد التي تلقنها من الطفولة، ويربطها بالحياة، فيا له من عمل شديد التعقيد، حتى يقبل كل هذه المتناقضات الموجودة في إيمانه الذي تربى عليه، فالله الخالق الطيب قد خلق الشر، ويعاقب الناس بينما يطالبهم بالتكفير عن خطاياهم... إلخ، ولدينا قانون الحب والغفران، لكننا نقوم بعمليات الإعدام والقتال وننتزع الملكيات من الفقراء... إلخ».

أرى أن جلَّ الصراع الفكري هو اتكاء تولستوي على العقل فقط، ونبذ ما يناقضه بناء على معتقده الفكري، وفي هذا الأثر يقول تولستوي: «... يجيب الإنجيل عن ذلك: (لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ)، ولا تحمل هذه العبارة أي نوع من المبالغة أو الرمزية كما يفهم الناس كثيرًا من عبارات الإنجيل التي لا تروق لهم، لكنها تأكيد على أكثر الحقائق بساطة وثبوتًا، وهي أن كل مخلوق في هذا العالم قد حباه الله قانونًا يجب أن يعيش وفقًا له».

وهذا يأخذنا إلى التَّأصيل الفكري الذي يتبنَّاه تولستوي «العقل»، ويبدو أنه يطرق بشدَّة أفكاره جدار التَّنبيه والتَّنبه عند الناس، فيقول: «إن تقاليد الناس قد تكون كاذبة، أما العقل فهو من الله، ولا يمكن أن يكون كاذبًا».

لكنه في الوقت ذاته؛ لم يقر أن تقاليد الناس مستنبطة من العقل الإنساني! بمعنى أننا إن أردنا تحكيم العقل بكليَّة الحياة ومشاربها، فلن نستطيع تفسير ظواهر أو حقائق كونية إلا بالشَّكل الإيماني أو ما قد يسميه تولستوي إسقاط التقاليد في صورة قوانين وعقائد، وهذا مردُّه عدم اعتقاده بها.

وهو بهذا يرى أن فكرة تعدد الأديان هي فكرة إنسانية محضة، في التعبير عن أن اختلاف الأمكنة والأزمنة يكون بمثابة استجابة لحاجات إنسانية خالصة، بدءًا من تنظيم المأكل والمشرب وانتهاء لمختلف الحاجات المادية والمعنوية، وبالتالي تحوُّل تلك التقاليد إلى عقائد تتَّسم بالإعجاز والأسطرة، نافيًا أن هذا الأمر يمكن أن يكون نتاجًا عقليًّا خالصًا، وإنما نتاج فكرٍ هدفه الطَّبقية وهيمنة فئة الفكر الفائق!

ما يميز أسلوب تولستوي قيام فكرته ببسيط العرض، ومسابقته في التبسيط أكثر، فيما يعتقد أنه بعرضه يريد الوصول لشرائح أكبر لانتشار أفكاره.

ففي معتقد الدين ينقل المفهوم المتداول بتعدد ثلاثي:

- الوحي الحقيقي الذي منحه الله للناس، الذي يتمثل في الكتاب المقدس.

- مرتبط بإطار من الخرافات تُنتج عبادات خرافية.

- عبارة عن قوانين وتشريعات شديدة الأهمية، سُنَّت من قبل بعض الحكماء للجموع الهمجية؛ كي تعمل على طمأنتهم وقمع شهواتهم البهيمية، وقيادتهم.

ويرى تولستوي أيضًا: «لم تتطرق التعريفات الثلاثة إلى جوهر الدين، بل إلى إيمان الناس بما يعتقدون أنه الدِّين».

ثم يجيب على سؤال: ما الذي أفهمه من كلمة «الدِّين»؟

- «يمكنني أن أجيب أن الدِّين هو الذي يؤسس العلاقة بين الإنسان والعالم الأبدي غير المحدود من جهة، وبين الإنسان وخالق هذا العالم ومصدره من جهة أخرى».

وهنا أتساءل: كيف يمكن التأسيس لهذه العلاقة دون أن يكون هناك تواصل موثَّق وموثوق، ودون أن يكون هذا التواصل مخاطبة الناس على قدر مقدرة فهمهم، وبتبسيط الأمر لاستطاعة التنفيذ، فكل علاقة بين الخالق والمخلوق تكون مبنية على الأمر والطاعة، وبالسير على خط مرسوم للمخلوق، يجب اتباعه تحقيقًا للهدف المرجو، وهو صوابية العلاقة بين الإنسان وخالق هذا الكون، وما يكون من علاقة ناشئة عن العلاقات الإنسانية.

وفي إفراد آخر لنهج الأخلاق، يقول تولستوي: «الاتجاهات الأخلاقية يمكن اعتبارها ثلاثة، تعليم أخلاقي فطري همجي شخصي، وتعليم أخلاقي وثني أسري قومي أو اجتماعي، وتعليم أخلاقي مسيحي».

إنني أرى في هذا السِّياق الاتجاه الأول في شكله الفردي هو نواة لذاك التعليم الأخلاقي الوثني الأسري، الذي في حجمه الأكبر عبارة عن تكتل يراد له تحقيق المنفعة القومية بالدرجة الأولى، جاعلًا الأسرة هي النواة الحقيقية له، ومن خلاله يكون تدعيم منهج الحياة في توحيد نظرة الأسرة في خدمة نموذج الفرد في تبادلية الأداء، ثم الذهاب إلى الاتجاه الثالث وهو التعليم الأخلاقي المسيحي «الدِّيني»، وهذا يختلف من خلال تفاوت عملية التَّركيز على عملية البناء الأخلاقي، ومدى مساحة التأثير ومنهج المجتمع العام، فهناك مجتمعات دينية وأخرى لا دينية.

يقول تولستوي: «لا يمكن أن تتأسس الأخلاق بمعزل عن الدِّين، ليس فقط لأنها تنتج عنه، وعن مفهوم العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، بل أيضا لأنها تتضمن بداخلها روح الدين ومقتضياته».

وهذا أمر مقبول ضمن التَّفكير الإنساني، لكن المعضلة الأساسية في أطروحات تولستوي أنه يعتبر الدِّين الحقيقي ليس ما يعرفه الناس من تعاليم ومفاهيم وحقوق وواجبات... إلخ.

لذا يحار الناس أو القارئ؛ ما الذي يريده تولستوي؟ وهو يريد جعل العقل الإنساني هو الحاكم، ولا وجود لديه لمشكلة وجود الدِّين، لكنه الدِّين الذي هو يراه ليس موجودًا بين الناس.

بل ويبين ما يعتقد بالعلاقة بين الدِّين والأخلاق: «دون أساس ديني لا يمكن أبدًا أن تتأسس أخلاق حقيقية غير ملفقة، كما أنه دون جذر لا يمكن أن ينمو نبات فعلا».

ويطرق تولستوي محددًا للحياة الصالحة الناجمة عن المقارنة بين الدِّين والأخلاق، فيقول: «لم ولن يكون أبدًا ثَم حياة صالحة دون ضبط للنفْس، فمن دونه لا يمكن حتى تصور الحياة الصالحة، لذا فلا بد أن تبدأ أي محاولة في طريق الحياة الصالحة بضبط النفس.. من الممكن أن يرغب الإنسان أن يكون فاضلًا، ويحلم بالفضيلة دون أن يصوم، ولكن في حقيقة الأمر من المستحيل أن تصبح فاضلًا دون أن تصوم، كما أنه من المستحيل أن تسير دون أن تخطو قدماك... الصوم شرط أساسي للحياة الفاضلة...».

ثم يعاود التأكيد في أطروحته بشكل مبسط، فيقول: «يشكل الصوم شرطًا رئيسيًّا للحياة الصالحة، ولكن في الصوم -كما هو الأمر مع ضبط النفْس- نجد أنفسنا أمام هذا السؤال: بم نبدأ؟ عمَّ نصوم؟ كم مرة نتناول فيها الطعام؟ وماذا نتناول؟...».

هذا التبسيط المتتابع في معاينة لفكرة تولستوي يحدث في أنه يناقش أطروحته ويبسطها وفقا للتفكير الفائق الذي طالما انتقده في طريقة الحكماء والفلاسفة، والأعجب من ذلك أنه يقرِّر أن «أول شيء سيضبط نفسه بخصوصه، هو تناول اللحوم» باعتبار أن «تناول اللحوم أمر غير أخلاقي بالمعنى المباشر للكلمة، كالذي يتطلبه فعل القتل تمامًا من شعور غير أخلاقي في الإنسان».

وهذا الأمر إن أخذناه على عواهنه وبشكله العام من خلال إزهاق كائن، وممارسة للقتل؛ فإنه بالشكل المرادف يعتبر تناول النباتات إزهاقًا لحياة كائن حي! تماما كقطف الورود والأزهار ونباتات الزينة وغيرها.

ثم لنطرح سؤالًا: أيٌّ من أنواع اللحوم ينبغي عدم الإفراط في تناولها؟! وهناك مجتمعات كبيرة ترى أن كل كائن حي يمكن أكله حتى الأجنة! تلك المحددات غير مكتملة النضوج، فهل يُفرق بين الحيوانات المنتجة وغير المنتجة مثلا؟!

يعتبر تولستوي الدِّين في جوهره: «إن الدِّين الحقيقي هو الذي يتوافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدد علاقته بالحياة اللانهائية من حوله... إنه الدِّين الذي يربط حياته بهذه اللانهائية، ويرشد الإنسان في سلوكياته».

وعلى هذا الأساس الذي يقدمه تولستوي وكأنه يحشر المتلقي في أطروحته التخصيصية بحيث يتوجب علينا إلقاء عدة تساؤلات:

ما هو العقل ومحدداته؟ وهل الإرشاد للإنسان يكون مبنيًّا على الدِّين أم العقل؟ فإن حدث أن إنسانًا عمل عملًا لا يضر أحدًا غيره، ولا تداعيات في تنفيذه؛ كشرب الخمر منفردًا في مكان مغلق، أو شربه بكمية محددة لا تُذهب العقل، مع أن الدِّين ينبذ ما يُذهب العقل الذي على أساسه يقوم أساس الدِّين وهو العقل! وهل فعل ذلك منفردًا ودون ضررٍ، يصحُّ له فعله؟

يقول تولستوي: «الديانة الحقيقية هي تلك التي تتفق مبادؤها الأساسية مع كافة المبادئ الأساسية لغالبية الديانات الأخرى، وهذه المبادئ شديدة البساطة ومفهومة وغير معقدة».

يحتكر تولستوي في توصيفه لمسمى «الديانة الحقيقية» بمعنى أنه جعل الديانات الأخرى غير حقيقية وبالتالي يكون فيها التزييف والخداع! فكيف يتوافق غير الحقيقي مع الحقيقي؟ وكيف يتوافق معه إذا كان غير الحقيقي هو من صنع غير إلهي؟ والمعلوم أن غير الحقيقي هو انحراف عن الحقيقي وبالتالي لفت الأنظار عن المسار الحقيقي للديانة الحقيقية!

ولنفرض جدلًا؛ تلاقي الديانات غير الحقيقية مع الديانة الحقيقية، فهناك سؤال يطرح نفسه: كيف يقترب الفكر الإنساني في خلق ديانة تُزاحم الديانة الحقيقية الإلهية؟ وما المفاهيم التي تتوافق معها؟ وهذا يأخذنا إلى الاتجاه أو الصراع: ما الخير؟ وما الشر؟ وما محدداته العقلية؟ وهل تتغير حسب الزمان والمكان! وإن كانت متغيرة، فمن يؤسس للصواب والخطأ؟!

كل هذه أسئلة متراكمة بشكل عقلي وديني وفلسفي، وللخروج بفكرة ملائمة، يخرج تولستوي بقوله: «الإنسان ضعيف، كائن بائس طالما لم يشع بقلبه نور الله، ولكن عندما يشع هذا الضوء في داخله بتأثير الدِّين، يصبح أقوى مخلوقات الكون، ولا يمكن أن يحدث هذا بطريقة أخرى؛ لأن القوة التي تسري في قلبه في هذا الوقت ليست قواه، وإنما قوة الله».

• ملاحظة: ما بين الأقواس هي أحاديث تولستوي.

طلعت قديح كاتب فلسطيني

مقالات مشابهة

  • أكثر من 20 دلتا معرضة للغرق على مستوى العالم.. وقطاع السياحة الكثر تأثرا بالتغيرات المناخية.. أهم تصريحات وزيرة البيئة
  • تغيرات مناخية.. وزيرة البيئة: أكثر من 20 دلتا على مستوى العالم معرضة للغرق
  • فولفسبورغ مستعد للتخلي عن عمورة في هذه الحالة
  • القمة العالمية للحكومات تكشف عن مشاركة أكثر من 30 رئيس دولة وحكومة و 140 وفداً حكومياً
  • المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: عاد أكثر من نصف مليون نازحٍ خلال الـ72 ساعة الماضية من محافظات الجنوب والوسطى إلى محافظات غزة والشمال عبر شارعي الرشيد وصلاح الدين
  • الأبناء السفلة
  • البيت الأبيض: ترامب مستعد للوصول إلى المحكمة العليا لإلغاء حق المواطنة بالولادة
  • العقل المدبر وراء تطبيق DeepSeek الذي أرهق العمالقة!
  • بيع أكثر من 10 ملايين سيارة كهربائية في العالم خلال 2024
  • أفكار تولستوي .. مفترق طرق