العالم لا يخلو من الأحرار.. أرونداتي روي نموذجًا
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
عن جدارة واستحقاق، حصلت الكاتبة الهندية أرونداتي روي على جائزة «PEN Pinter» البريطانية لعام 2024، وهي جائزة مرموقة تُمنح سنويًّا للكتّاب الذين تتضمن أعمالُهم الأدبية براعة استثنائية وتواجه القضايا العالمية بجرأة وصدق. وحسب ديباجة الجائزة فإنها تُمنح تكريمًا للكتّاب «الذين يُظهرون نظرة ثابتة للعالم وغير متزعزعة، ويُظهرون كذلك إصرارًا فكريًّا قويًّا لتعريف الحقيقة لمجتمعاتنا»، ومما ذكرَتْه لجنة التحكيم أنّ روي «تتمتع بقدرة فائقة على سرد قصص الظلم بذكاء وجمال، وأنها أصبحت صوتًا دوليًّا يتجاوز حدود الهند».
وبما أنّ الجائزة تتيح للفائز اختيار صوت آخر من بين نشطاء الرأي ويتقاسم جائزته معه، فقد اختارت أرونداتي روي، الناشط المصري علاء عبدالفتاح الذي يقضي محكوميته في السجن ليقاسمها الجائزة، ولم يكن ذلك كلّ شيء؛ ففي حفل أقيم في المكتبة البريطانية في العاصمة البريطانية لندن مساء الخميس العاشر من أكتوبر الحالي، أعلنت روي أنّ نصيبها من أموال الجائزة تبرعت به لصالح صندوق إغاثة أطفال فلسطين.
تُعد أرونداتي روي من أبرز الكتّاب في الهند والعالم، اشتهرت بروايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة» التي فازت بجائزة البوكر عام 1997، وحققت نجاحًا عالميًّا كبيرًا؛ وهي بجانب إسهاماتها الأدبية تُعرف بنشاطها السياسي والاجتماعي، وتكتب بشغف عن قضايا حقوق الإنسان والبيئة، وتنتقد السياسات الحكومية في الهند وخارجها، ممّا سبّب لها صداعًا مزمنًا؛ فهي تواجه حاليًّا تحدّيات قانونية في بلادها بسبب تصريحاتها السياسية، حيث تتهمها السلطات بالتحريض على الفتنة حول استقلال كشمير، وهي التهمة التي أثارت انتقادات واسعة، ووقّع أكثر من 200 مثقف وناشط وكاتب هندي على رسالة مفتوحة تدعو الحكومة الهندية إلى سحب هذه التهم.
وهكذا فإنه رغم سقوط النخب وخذلان البعض، فإنّ العالم لا يخلو من الأحرار الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن القضايا العادلة، رغم اختلاف جنسياتهم وأديانهم وأعراقهم ومذاهبهم عمن يدافعون عنهم؛ وتأتي روي ضمن هؤلاء؛ ففي كتاباتها ومحاضراتها تدافع عن حقوق المظلومين في كلّ مكان وليس في بلدها فقط، وتُطوّع قلمها أداة للنضال والتغيير، وتتصف بالجرأة ولا تبالي بالتحديات والانتقادات التي تواجهها في نضالها من أجل العدالة والحرية.
وإذا كانت الحكومة الهندية قد انحازت إلى الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين وأهل غزة -كما رأينا خلال الأشهر الماضية- فإنّ روي تحدّثت بشجاعة ضد هذا الموقف، وألقَت بيانًا في مارس الماضي في اجتماع في نادي الصحافة في نيودلهي، انتقدت فيه بشدّة اصطفاف رئيس وزراء بلادها ناريندرا مودي مع إسرائيل. ومما انتقدته أنه «صديقٌ حميمٌ لنتنياهو»، وختمت بيانها بأنّ «فلسطين سوف تكون حرّة». وهذا في الواقع هو موقفها الثابت؛ إذ سبق لها أن اعتبرت أنّ «غزّة بوصلة العالم الأخلاقية»؛ وفي كلِّ المحافل وقفت مع الحقّ الفلسطيني علنًا: «إذا لم نقل أيّ شيء عن المذبحة الوقحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، حتى عندما يتم بثها مباشرة في فترات الاستراحة الأكثر خصوصية في حياتنا الشخصية، فإننا نكون متواطئين معها». إضافة إلى هذا فقد أيّدت في كلمة لها في الجامعة الأمريكية في بيروت في شهر يونيو الماضي، أيّدت غزة بلا مواربة، ممّا ذكّرنا بشجاعتها التي تحدّثَت بها ضد الغزو الأمريكي للعراق؛ فقد قالت إنّ الكلام عن غزة لا يصحّ من دون كلمات ثلاث هي: «الاحتلال.. والتمييز العنصري.. والإبادة الجماعية»، وإنّ جرائم إسرائيل لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023، ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أنَّ هناك مساواة أخلاقية بين ارتكاب إسرائيل لأعمال الإبادة وبين عملية مقاومة الاحتلال والفصل العنصري. وتقول: «لقد قدّم مرتكبو الحرب على غزة أنفسهم كضحايا، وصوّر المستعمرون الذين يديرون دولة الفصل العنصريّ أنفسهم على أنهم مضطهَدون، وأيّ تشكيك في ذلك يعني اتهامك بأنك معادٍ للسامية».
لم تكن صدفة أن اختارت أرونداتي روي الجامعة الأمريكية في بيروت لتتحدّث عن احتجاجات طلبة الجامعات الأمريكية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذهبت إلى أبعد من ذلك بقولها: «إنّ إسرائيل تحتل الولايات المتحدة الأمريكية قانونيًّا، وإنّ الشرطة الأمريكية تضرب الطلاب المتظاهرين رفضًا للإبادة نيابة عن إسرائيل». ورأت أنّ الجامعات الأمريكية «متخمة بالمال من رسوم الطلاب، ومن ضخ رأس المال الضخم من المانحين الأثرياء والشركات ومؤسساتها، وأنها تستثمر في الإبادة الجماعية وصناعات الأسلحة».
للكاتبة مواقف ثابتة ومعلنة ضد السياسة الخارجية الأمريكية؛ لذا وقفت ضد الغزو الأمريكي للعراق -كما ذكرنا- وكذلك الحرب الأمريكية على أفغانستان. وفي عام 2001، ردت في مقالة في صحيفة «الجارديان» البريطانية على غزو أفغانستان، بأنّ الحرب ليست انتقامًا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر كما تدّعي أمريكا؛ وإنما هو عمل آخر من أعمال الإرهاب ضد شعوب العالم. وقالت فاضحةً النفاق المزدوج لكلٍّ من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير: «عندما أعلن عن الضربات الجوية، قال بوش: «نحن أمة مسالمة»، ورد عليه بلير «نحن أمة مسالمة»؛ فهي ترفض ادعاءات الولايات المتحدة بأنها أمة محبة للسلام والحرية.
•من المفارقات أن نقرأ مقالات ونشاهد خطبًا لعرب ومسلمين يؤيدون الكيان الصهيوني ضد حماس وضد لبنان، وهي أصواتٌ أعلى ضجيجًا من أصوات الصهاينة أنفسهم؛ لكن في المقابل فإننا نجد أصواتًا حرة من بلدان العالم المختلفة تقف بوضوح مع القضية الفلسطينية وترفض آلة الانتقام الإسرائيلية من غزة وأهلها؛ ومن هذه الأصوات مثلا -وهي لله الحمد كثيرة- أرونداتي روي؛ وعندما توصف بأنها «مناضلة»، فهي تستحق اللقب بجدارة، بسبب مواقفها المدافعة عن حرية الإنسان في كلِّ مكان في العالم، وهي بذلك تقدّم درسًا للبعض ممن يُسمّون أنفسهم «ناشطين»، أو «معارضين»، الذين كانت بضاعتهم المزجاة الوحيدة هي السبّ والقذف وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والجهوية عبر منصة إكس؛ وهي تعلّم الجميع أنّ الذي ينشط في مجال الدفاع عن حريّات الإنسان -بغض النظر عن جنسية هذا الإنسان وعِرقه ودينه ومذهبه- هو الناشط الحقيقي، وهذا ما فعلته وما يفعله المثقفون الناشطون من دول العالم المختلفة، الذين وقفوا دفاعًا عن الفلسطينيين وعن معتقلي جوانتانامو والسجون السرية الأخرى، وعمن اختفوا في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا وغيرها، وهم بمواقفهم تلك أكدوا أنّ العالم لا يخلو من الأحرار.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الثورة الرأسمالية التي تحتاجها إفريقيا
في السنوات القادمة ستصبح إفريقيا أكثر أهمية مقارنة بأي وقت آخر في العصر الحديث، فخلال العقد المقبل من المتوقع أن ترتفع حصتها من سكان العالم إلى 21% من 13% في عام 2000 و9% في عام 1950 و11% في عام 1800، ومع تزايد شيخوخة سكان باقي العالم ستتحول إفريقيا إلى مصدر بالغ الأهمية للعمل، فأكثر من نصف الشباب الذين يلتحقون بالقوة العاملة العالمية في عام 2030 سيكونون أفارقة.
هذه فرصة عظيمة لأفقر القارات، لكن لكي تنتهزها بلدان القارة (54 بلدا) سيلزمها أن تفعل شيئًا استثنائيًا وهو التخلص من ماضيها ومن أرثوذكسية الدولة الكئيبة التي تُمسِك بخناق أجزاء كبيرة من العالم (تقصد الإيكونومست بأرثوذكسية الدولة الاعتقاد التقليدي بمركزية الدولة وهيمنتها على الاقتصاد والمجتمع والسياسة وجعل هذه الهيمنة أساسا للحكم وتنظيم الحياة - المترجم). سيلزم قادة إفريقيا تبني الأنشطة الإنتاجية الخاصة والنموَّ وحرية الأسواق. إنهم بحاجة إلى إطلاق ثورة رأسمالية.
إذا تابعتَ التطورات في إفريقيا من بعيد ستكون مدركًا لبعض متاعبها كالحرب المدمرة في السودان وبعض جوانبها المضيئة كالهوس العالمي بموسيقى «آفروبيتس» الإفريقية التي ارتفع معدل بثها عبر منصة «سبوتفاي» بنسبة 34% في عام 2024، وما يصعب استيعابه واقعُها الاقتصادي الصادم الذي وثقته الإيكونومست في تقرير خاص نشرته هذا الشهر وأسمته « فجوة إفريقيا»
التحولات التقنية والسياسية التي شهدتها أمريكا وأوروبا وآسيا في العقد الماضي لم تؤثر إلى حد بعيد على إفريقيا التي تخلفت كثيرا وراء الركب. فدخل الفرد في إفريقيا مقارنة بالدخل في باقي العالم هبط من الثلث في عام 2000 إلى الربع. وربما لن يكون نصيب الفرد من الإنتاج عام 2026 أعلى عن مستواه في عام 2015. إلى ذلك أداء عملاقين إفريقيين هما نيجيريا وجنوب إفريقيا بالغ السوء. بلدان قليلة فقط مثل ساحل العاج ورواندا تجنبت ذلك.
خلف هذه الأرقام يوجد سجل بائس لركود الإنتاجية. فالبلدان الإفريقية تشهد تحولا كبيرا بدون تنمية. فهي تمر عبر اضطرابات اجتماعية مع انتقال الناس من المزارع إلى المدن دون أن يترافق ذلك مع ثورات زراعية أو صناعية، وقطاع الخدمات، الذي يجد فيه المزيد من الأفارقة فرص عمل، أقل إنتاجا مقارنة بأي منطقة أخرى. وهو بالكاد أكثر إنتاجا في الوقت الحالي من عام 2010.
البنية التحتية الضعيفة لا تساعد على ذلك، وعلى الرغم من كل الحديث عن استخدام التقنية الرقمية والطاقة النظيفة لتحقيق قفزة إلى الأمام تفتقر إفريقيا إلى مستلزمات القرن العشرين الضرورية للازدهار في القرن الحادي والعشرين. فكثافة طُرُقِها ربما تراجعت، وأقل من 4% من الأراضي الزراعية مَرويَّة ويفتقر نصف الأفارقة تقريبا جنوب الصحراء إلى الكهرباء.
للمشكلة أيضا بُعدٌ آخر لا يحصل على تقديرٍ كافٍ. فإفريقيا «صحراء» من حيث توافر الشركات. في السنوات العشرين الماضية أنتجت البرازيل شركات تقنية مالية عملاقة وإندونيسيا نجوما تجارية وتحولت الهند إلى الحاضنة الأكثر حيوية لنمو الشركات في العالم. لكن ليست إفريقيا. فهي لديها أقل عدد من الشركات التي تصل إيراداتها على الأقل إلى بليون دولار مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم، ومنذ عام 2015 يبدو أن هذا العدد قد تقلص، المشكلة ليست في المخاطر ولكن في الأسواق المبعثرة والمعقدة التي أوجدتها كل هذه الحدود السياسية الكثيرة في القارة، فبورصات إفريقيا المُبَلْقَنة (المجزَّأة) ليست جاذبة للمستثمرين.
وتشكل إفريقيا 3% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم لكنها تجتذب أقل من 1% من رأسماله الخاص.
ما الذي يجب أن يفعله قادة إفريقيا؟ يمكن أن تكون نقطة البداية التخلي عن عقود من الأفكار الرديئة. تشمل هذه الأفكار تقليد أسوأ ما في رأسمالية الدولة الصينية التي تتضح نقائصها والركون إلى الإحساس بعدم جدوى الصناعة التحويلية في عصر الأتمتة ونسخ ولصق مقترحات تكنوقراط (خبراء) البنك الدولي.
النصائح الجادة التي يقدمها البليونيرات الأمريكيون عن السياسات الكلية من استخدامٍ للناموسيات (للوقاية من الملاريا) وإلى تصميم ألواح الخلايا الكهروضوئية مقبولة. لكنها ليست بديلًا لإيجاد ظروف تسمح للشركات الإفريقية بالازدهار والتوسع.
إلى ذلك، هنالك نمط خطير من التفكير التنموي الذي يوحي بأن النمو لا يمكنه التخفيف من الفقر أو أنه ليس مهما على الإطلاق طالما هناك جهود للحد من المرض وتغذية الأطفال والتلطيف من قسوة الطقس. في الحقيقة في كل الظروف تقريبًا النمو الأسرع هو السبيل الأفضل لخفض الفقر وضمان توفر موارد كافية للتعامل مع التغير المناخي.
لذلك يجب أن يتخذ القادة الأفارقة موقفا جادا تجاه التنمية. عليهم استلهام روح الثقة بالذات في التحديث والتي شوهدت في شرق آسيا في القرن العشرين وحاليا في الهند وأماكن أخرى.
هنالك بلدان إفريقية قليلة مثل بوتشوانا وإثيوبيا وموريتشوس التزمت في أوقات مختلفة بما أسماها الباحث ستيفان ديركون «صفقات التنمية». إنها اتفاق ضمني بين النخبة بأن السياسة تتعلق بزيادة حجم الاقتصاد وليس فقط النزاع حول اقتسام ما هو موجود. المطلوب المزيد من مثل هذه الصفقات النخبوية.
في الوقت ذاته على الحكومات بناء إجماع سياسي يحبذ النمو. والأمر الجيد وجود أصحاب مصلحة أقوياء حريصين على الدينامية الاقتصادية. فهناك جيل جديد من الأفارقة الذين ولدوا بعد عدة عقود من الاستقلال. إنهم أكثر اهتماما بمستقبلهم المهني من عهد الاستعمار.
تقليص «فجوة إفريقيا» يدعو إلى تبني مواقف اجتماعية جديدة تجاه النشاط الاقتصادي الخاص وريادة الأعمال مماثلة لتلك التي أطلقت النمو في الصين والهند. فبدلا من تقديس الوظائف الحكومية أو الشركات الصغيرة يمكن للأفارقة إنجاز الكثير مع المليارديرات الذين يركبون المخاطر باتخاذ قرارات استثمارية جريئة.
وتحتاج البلدان الإفريقية كل منها على حِدة إلى الكثير من البنى الأساسية من الموانئ والى الكهرباء وأيضًا المزيد من التنافس الحر والمدارس الراقية.
هناك مهمة أخرى ضرورية وهي التكامل بين الأسواق الإفريقية حتى تستطيع الشركات تحقيق أكبر قدر من اقتصاد الحجم الكبير واكتساب الحجم الذي يكفي لاجتذاب المستثمرين العالميين. هذا يعني المضي في تنفيذ خطط إيجاد مناطق لا تحتاج إلى تأشيرة سفر وتحقيق التكامل بين أسواق رأس المال وربط شبكات البيانات وأخيرا تحقيق حلم المنطقة التجارية الحرة لعموم إفريقيا.
عواقب استمرار الوضع في إفريقيا على ما هو عليه ستكون وخيمة.
فإذا اتسعت فجوة إفريقيا سيشكل الأفارقة كل فقراء العالم «المُعْدَمين» تقريبا بما في ذلك أولئك الأكثر عرضة لآثار التغير المناخي. وتلك ستكون كارثة أخلاقية. كما ستهدد أيضا عبر تدفقات الهجرة والتقلب السياسي استقرارَ باقي العالم.
لكن ليس هنالك سبب لتصوير الأمر وكأنه كارثة والتخلي عن الأمل. فإذا كان في مقدور القارات الأخرى الازدهار سيكون ذلك ممكنًا أيضًا لإفريقيا. لقد حان الوقت لكي يكتشف قادتها الإحساس بالطموح والتفاؤل. إفريقيا لا تحتاج إلى إنقاذ. إنها أقل احتياجًا إلى النزعة الأبويَّة والرضا بالواقع والفساد وبحاجة إلى المزيد من الرأسمالية.