من نبأٍ عاصف إلى هم نازف يتنقل الناس حولي، كأنهم بتعبير الشاعر الراحل محمد الماغوط «يستيقظون قبل الجميع مبكرا، حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد».
هموم الحياة من غلاء، وضيق حال، ونقص خدمات، يصاحبها تردٍ عام فى سلوك البشر، يحاصر الناس ويدفعهم لبلع مرارات الأيام لتمر سريعا، فيفاجئ كل صاحب نفس بأنه على وشك التقاعد، ولسان حاله يقول إنه لم يسعد.
العالم قاس ومحبط. فمرارات طافحة فى الأنباء القادمة من الخارج، وإحباطات مهلكة فى أخبار الداخل، وتناقض فى الصور والمواقف والآراء بشأن الشخوص والأحداث، حتى لا تستبين قاتلا من بطل، ولا خائنا من فدائى. الصور خادعة، والكذب سمة شائعة، والحدية فى قراءة ما يحدث تدفع مَن يحمل بقايا روح للانزواء والفرار.
ما التكشيرة سوى أبسط رد فعل على كل ما يحيق بنا من أوجاع. وما التأفف سوى محاولة احتجاج مكتومة على القبح المُحيط. وما الدعاء السرى والعلنى على القتلة المنتشرين فى كل ركن سوى مقاومة الساكن الطيب الصابر المُحتسب.
أدرك كل ذلك وأدرك أن من حق الناس أن تحزن وتُحبط وتمل وتنزعج وتكتئب مما تراه وتسمعه وتعرفه فى هذا العالم القاسي، وذلك الزمن شديد القسوة.
لكن ماذا بعد ؟ ماذا بعد؟
الأحزان سياج دوائر متصلة لا تنتهى بمن يُمسك بها. ندب الحظ لا يُحسنه، ولوم الظروف لا يغيرها. أعمارنا تنقضى فى سرعة ونحن منشغلون بحل مشكلات أزلية لا تُحل، والتورط فى مجادلات عبثية لا تُفضى إلى شيء.
أتصور أننى كتبت المقال قاصدا نفعا، وساعيا لقيمة حقيقية، وراميا لمصلحة. لذا أرى أن استهداف البهجة والسعادة والسلام الإنسانى ضرورة رغم كل ملامح الحُزن المُعششة حولنا.
نحن مطالبون بالفعل المعاكس للظروف العصيبة. أن نفرح بكوننا مازلنا أحياء، قادرين على التغيير حتى لو كان بعيدا. نُسر بأن هناك أخيارا مازالوا على قيد الحياة، نطيب خاطرا بشخص ما يبادلنا حُبا، نرضى بلحظة راحة بعد يوم تعب، نواجه ما هو مُحزن باستيعاب وجلد وتسليم بأن كل الأفعال والحركات والسكنات والتجارب مردها الوحيد إلى الله الخالق الذى يعلم كل شيء، ظاهرًا وباطنًا.
افتح خزانة ذاكرتى لأتذكر نصائح مارك مانسون فى كتابه القيم «فن اللامبالاة» ومنها قوله «عش سعيدا بما تملك لتحصل على ما تملك». فنحن ننشغل دوما بالأحزان والمواجع، ولا ننظر فى إطار ذلك إلى نعم أخرى كالصحة والحركة والتفكير.
أستعين بالقراءة على تخطى الأحزان المُقيمة. أستذكر شعر محمود درويش وهو يخبرنا بأن « الكل زائل أو باطل أو زائلٌ.. فعش الحياة فى امرأة تُحبك» لأذكركم بالاعتصام بالحب، بكل أنواعه. كل شعور إيجابى تجاه آخر هو صك براءة من الجرائم الجارية، وفرار من كآبات المشهد.
أكتب نصائحى لنفسى ولغيرى. أقول: انفع الآخرين تسعد. انصحهم برفق. قُل، طبطب، ساعد، علّم، ارشد، دل. فكل جسر يربط إنسانين هو حبل متين من السرور الخفى.
افتح طريق عمل لإنسان. كُن سببا فى راحته، يسر له فرصة رزق دون مقايضات. ادعو لشخص لا تعرفه، ابتسم فى وجه غريب، ولا تعاتب مبتعدا.
تخفف من أثقالك الأزلية، فهناك مشاكل عرفناها منذ المولد، فانسها الآن، أجلّها إلى وقت غير محدد، فربما تنجلى وحدها، ولا تفرط فى مشهد جميل: ورقة شجر تتلوى بتأثير نسيم رقيق، بنت صغيرة مبتسمة بضفيرة تعبر الطريق نحو مدرستها، كناس يكنس الطريق بنشاط، عصفورة طليقة تُزقزق فى صباح رائق، وصوت مؤذن يأتيك وأنت فى غفلة مرددا « الله أكبر».
السعادة ممكنة فى هذا الزمن. والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: يحاصر الناس هموم الحياة مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | عزت القمحاوي.. بين ترويض اللغة وترويض الحياة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في المشهد الأدبي العربي، يبدو عزت القمحاوي كاتبًا يمضي بعينين نصف مغمضتين، لا من غفلة، بل من دُربة. يعرف تمامًا كيف يُغمض عينًا عن الضجيج ليفتح الأخرى على ما يُهمّ: الكتابة بوصفها ضرورة. لا يلهث خلف الموضة الروائية، ولا يلهو بصوت مرتفع في سوق الأدب، بل يصغي إلى النص وهو يتشكل داخله، كما يُصغي النحات إلى الحجر قبل أن يضرب عليه بأزميل الرؤية.
ولد في الريف، لكنه لم يتركه تمامًا، حتى حين تنقّل بين العواصم الثقافية. حمله داخله كحكمة قديمة، كوشم لا يظهر إلا حين يتعرّى النص من زينته، فيبدو الطين هناك، دافئًا، يفيض بالحكايات والوجوه. في "بيت الديب" لا نقرأ رواية عن عائلة مصرية وحسب، بل نقرأ طبقات من الزمن، محمولة على ظهر سرد يعرف كيف يمضي عميقًا دون أن يتثاقل.
كتابة القمحاوي تنتمي إلى سلالة نادرة: تلك التي لا تخشى البطء، ولا تستعجل النهاية. لغته ليست للعرض، بل للبناء. جملة بعد جملة، كأنما يعيد اختراع النظر، لا الحكاية فقط. تتجاور عنده البساطة مع الفخامة، الريف مع الميتافيزيقا، البهجة مع الحداد. في "غرفة المسافرين"، مثلًا، يسافر دون أن يغادر، يكتب عن المدن والخرائط والفنادق، لكن المعنى الحقيقي للسفر يبقى داخليًا، مُحاطًا بالأسئلة لا بالإجابات.
عزت القمحاوي لا يكتب كثيرًا، لكنه حين يفعل، يزرع أثرًا. كلماته مشغولة بعناية صانع لا تعنيه الكثرة، بل الدقة. حتى حين يكتب عن الحواس في "الأيك في المباهج والأحزان"، فإنه لا يصف، بل يعيد بناء الحواس نفسها. كل صفحة تحمل دهشة، كما لو أن القارئ يتذوق اللمس، ويشمّ الصوت، ويرى الكلمات ككائنات حيّة تنمو أمامه.
هو كاتب لا يريد أن يُبهر، بل أن يبقى. ولهذا، ستجد أثره فيك بعد أن تطوي الصفحة، لا على الصفحة ذاتها.
في زمن السرعة، يختار القمحاوي البطء. في زمن النشر اليومي، يختار الصمت أحيانًا. وفي زمن التكرار، يكتب كما لو كانت الجملة الأولى في التاريخ.
وهو إذ يكتب بهذه السكينة الظاهرة، لا ينتمي إلى فصيلة الكُتّاب الذين يختبئون خلف الغموض، ولا أولئك الذين يستعرضون معجمهم ليرعبوا القارئ. عزت القمحاوي لا يعوّل على الدهشة السهلة، ولا يصنع المفاجآت الرخيصة، بل يبني نصّه كما تُبنى العلاقات العميقة: بالإنصات، بالتواطؤ، بالصمت المحسوب، وبالتكرار الحميم للجمال غير الصاخب.
من يقرأ له يدرك سريعًا أن الكاتب لا يبحث عن بطولة شخصية، بل عن إنقاذ اللغة من ابتذالها اليومي. هو لا يكتب ليثبت شيئًا، بل لأنه يحمل شيئًا يجب أن يُقال. حتى حين يكتب عن الحب، كما في "ذهب وزجاج"، فإن الحب لا يكون حكايةً عاطفيةً عابرة، بل اختبارًا للجسد والزمن والهوية، في مساحة لا تتسعها الرواية بمعناها التقليدي. يجعل من العلاقة بين رجل وامرأة لوحةً من النور والخذلان، من التذكّر والنسيان، ليصوغ عالمًا هشًا وشفافًا كما الزجاج، وثقيلًا كما الذهب في تأويله العاطفي.
والقمحاوي لا يتورّع عن طرح الأسئلة المؤرقة، لكنه لا يقدّم إجابات مباشرة. يضع القارئ أمام مرايا مشروخة، لا تعكس شكله، بل تلمّح إلى كينونته. في "يكفي أننا معًا"، لا يهتم ببنية الرواية التقليدية، بل يشرع في كتابة تتجاور فيها الفلسفة مع الشعر، والسرد مع التأمل، والممكن مع المستحيل. كأنه يخبر القارئ بأن الرواية لم تعد ملزمة بالشكل، بل بالعمق. بالإنصات للفراغ، لا بملئه.
ثمّة رهافة في مفرداته لا تشبه أي حساسية أخرى، رهافة تعود إلى شاعر لم يكتب القصيدة، بل تركها تتسلّل إلى نثره وتستقرّ هناك، متواريةً بين الفواصل والنقط. هو كاتب يفهم الإيقاع كما يفهم الموسيقي السكون بين نغمتين. لا يكتب ليملأ الصفحات، بل ليملأ الغياب. هذا ما يجعل كتابته قابلة لإعادة القراءة، لا لأنها مبهمة، بل لأنها مشبعة بما لا يُقال مرة واحدة.
أعماله تشبه المراكب الصغيرة التي لا يُدرك المرء أنها تحمل ذهبًا إلا حين يفرغها على الشاطئ. لا تطلق أبواقها، ولا تلوّح بالأعلام، بل تمضي بصبرٍ في النهر، تاركةً خلفها أثرًا خفيًا، لكنه لا يُمحى.
وعزت القمحاوي، في النهاية، كاتب يصنع من اللغة وطنًا مؤقتًا، ومن الحكاية نزهة بطيئة في غابة الذاكرة. كأن كل نصّ له، هو غرفة انتظار بين زمنين، بين قارئ وذاته، بين كاتب لا يريد شيئًا، وقارئ يبحث عن كل شيء.
فهل ثمة ما هو أصدق من هذا النوع من الكتابة؟