عربي21:
2025-02-23@07:07:48 GMT

العنبرة في شاوشانك.. يوميات معتقل (13)

تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT

تعرف حكاية العنبرة دي يا عم ماهر؟.. (سألني سيف كعادته في البحث عن الأصول الثقافية والتاريخية لأي شيء).

قلت: مش بالظبط..

وأضفت مبتسما: مجرد معلومات عامة مش هتشبع نهمك الثقافي..

سيف شاب تروتسكي وسيم ومثقف ومتأنق في ملبسه وحديثه وسلوكه مع الجميع، وقد نشأت بيني وبينه صداقة وثيقة امتدت لما بعد السجن، وكانت لديه كراسات يدوّن فيه ملاحظات وتأملات غاية في الدقة والرقة معا، وسوف يأتي الوقت الذي أكتب عنه وعن كتاباته بالتفصيل، لكنني في هذا المقال أواصل الحديث عن فن "العنبرة"، باعتباره الإبداع الحصري للسجناء من داخل السجن.



قلت لسيف محاولا الاجتهاد في تقديم إجابة من الذاكرة: ممكن نفكر سوا ونوصل للإجابة مع بعض؟

قال: ده حلو جدا.. ياللا بينا.

قلت: فاكر فيلم "أمير الانتقام" نيخة أنور وجدي؟

- فاكره طبعا..

* حسن الهلالي كان بيحفر جدار الزنزانة عشان يهرب من معتقل المغول، وبعد أيام من الحفر سمع طرقات بحجر على الجدار اللي بيحفر فيه، شعر بالأمل والفرح، أخيرا وجد إنسانا حيا يتواصل معه غير الحراس، فرد على الطرقات بطرقات، واستمر التواصل بين السجينين عن طريق الطرق على الجدار، برغم صدمة الهلالي بأنه كان يحفر جدارا يوصله إلى زنزانة أخرى، وليس إلى الحرية التي ينشدها. وهذا يثبت أن التواصل الإنساني له دور عظيم في حماية الإنسان من الانهيار، وقيمته لا تقل عن قيمة الحرية، لذلك لم يستسلم الهلالي لليأس الذي أصابه بعد رميه في المعتقل النائي في الصحراء، واستمر يحفر بحماس حتى صنع فتحة بين الزنزانتين تسمح بلقاء السجين الآخر. وفي رأيي أن تلك الطرقات وتلك الوصلة بين زنزانتين هي الجوهر الأساسي في تعريف العنبرة، وأقصد بذلك وظيفة الاتصال والتواصل التي تدعم بقاء الإنسان حيا وتمنحه الأمل ومعنى الحياة.

- ده خيال درامي في فيلم يا عم ماهر، لكن هل الإحساس ده واقعي وله نفس الأهمية في السجون؟

* قرأت منذ فترة ليست بعيدة دراسة شيقة عن "العنبرة" في سجون بولندا في فترة القمع الستاليني.

- أنا بكره ستالين، الله يلعنه، اغتال العظيم تروتسكي.

* (ضحكت) ماشي يا سي سيف.. نكمل كلام في العنبرة، وللا نلعن ستالين سوا؟

- لأ.. نكمل، بس هوه فيه "عنبرة" في بولندا يا عم ماهر؟

* بالمعنى المجازي يا سيف.. المقصود حالة التعبير والتواصل بين السجناء من داخل العنابر، وأول شيء أدهشني في الدراسة أن التواصل بين السجناء كان يتم بالطرق على الجدران باستخدام (إشارات موريس)، وسبب الدهشة ان مفيش لغة ولا أي وسيلة لتواصل السجناء المحبوسين في زنازين انفرادية بلا أي فتحات، لكنهم استخدموا الطرقات باعتبارها لغة توصل الأخبار والرسائل. وذات مساء سمعت إحدى السجينات طرقات على جدار زنزانتها تخبرها بأن المحكمة قضت اليوم بإعدام خمسة من زملائهم المعارضين. وأتذكر جيدا أن السجينة (واسمها تقريبا إيفا لوكوفيتش*) قالت لنفسها: "الظلام الذي يحبسنا بداخله، لن يدوم إلى الأبد"، ونسجت في ذاكرتها قصيدة شفوية دونتها بعد ذلك بعنوان "لما أخبرني الجار من خلف الجدار".

- إزاي كانوا بيفهموا معنى الطرقات؟ وإمتى اتعلموا اشارات موريس؟(*)

* أنا قلت لك اللي فاكره حسب ذاكرتي، ولما نخرج نتقابل وندقق المعلومات بالرجوع لمصادرها.

- طيب عاوز أسالك عن أشهر عنبرة تعرفها؟

* طبعا عنبرة الفاجومي أحمد فؤاد نجم في أول حبسة اللي بيقول فيها:

أعرّفكم جميعا إن السجن سور/ وأعرفكم جميعا إن الفكرة نور
أعرّفكم جميعا إن الظلم شايخ/ وأعرَفكم جميعا إن باب السجن خايخ
أعرفكم جميعا إن ما لوهش أوكرة/ وأعرفكم جميعا إنه ح يبقى ذكرى
وأبَشّركم جميعا إن الوِعْدَة بُكرَة/ والنور عندنا وعندكو يا حبايب

- فيه حاجات تانية مشهورة؟

* أكيد حاجات كتير لكن محتاجة تذكير ورجوع للمصادر لتوثيقها، لأن النصوص متنوعة وأساليب إلقاء العنبرة مختلفة، يعني من "النضارة" على عموم العنابر، زي ما سمعنا شرابية امبارح، أو احتفالات داخل العنبر زي اللي بيعملها عندنا "الشريف محمد" و"هيدرا" و"جاسر" (سأكتب عنهم لاحقا)، وأحيانا قصائد مكتوبة لا يلقيها صاحبها إلا على زملاء الزنزانة، ثم تنتشر بعدها عن طريق الحفظ والنقل الشفوي وانتحالها في الغالب ونسبتها لكثير من السجناء، كما هي بنصها، أو بالتحريف والإضافة والحذف، أو بالتلحين والغناء كما حدث مع عنبرة "فؤاد حداد" ليلة الاحتفال بالقيادي الشيوعي زكي مراد في سجن الواحات، حيث كتب "الليلة يا سمرة" ولحنها أحمد منيب وغناها محمد حمام في المعتقل، ثم صارت واحدة من أشهر الأغاني بعد أن غناها محمد منير، ولم يعلم معظم مستمعيها أنها في الاصل "عنبرة سجين"!

- (يرفع حاجيه وتلمع عينيه وهو يقول) حلوة المعلومة دي، فيه "عنبرات" تانية بنسمعها وما نعرفش انها عنبرة؟

* كتير بس أنا عندي قصة طويلة وخطيرة ومثيرة عن عنبرة كتبها سيد حجاب لما اعتقل في خريف عام 1966، والطريف فيها أن سيد حجاب مكانش بيقولها بس كان يسمعها مع المساجين كل يوم في ميكروفون السجن، بعد أن تحولت من عنبرة تتحدى التعذيب والأشغال الشاقة للسجناء إلى أغنية وطنية عن بلدنا و"جمال بلدنا"، باعتبار أن تعبير "جمال بلدنا" مديح ومغازلة للرئيس جمال عبد الناصر، فقد تسربت العنبرة إلى خارج الأسوار وغناها المطرب عبد اللطيف التلباني، وكثفت الإذاعة بثها كأغنية شعبية وطنية تبدأ بمطلع شاعري من وحي المكان اللي احنا محبوسين فيه.

- كانوا هنا في المزرعة السعيدة (يضحك)؟

* في نفس السجن، واحتمال في نفس العنبر.

- مش فاكر التلباني ده، بس لو قلت الأغنية ممكن أعرفها؟

* يا ما زقزق الإمري (القِمري) على ورق اللمون
عشان بلدنا يا وله (يا ولد) وجمال بلدنا يا وله كله يهون

- فين الأشغال الشاقة في الكلام ده؟

* كوبيليه بيقول فيه:

شيّلني شيّل يا وله / على كل كتف أشيل جبل
شيلني شّيل يا جدع/ عمر الكتاف ما هتنخلع

- ده على اعتبار انهم كانوا بياخدوهم الجبل يكّسروا حجارة وينقلوها زي ما بنشوف في الأفلام القديمة؟!

* ده الكلام اللي اتقال فعلا عن الأغنية، لكن مش دي الحقيقة بالظبط، خلينا نكمل ونرجع للقصة دي وقت تاني.

- طيب بما إنك قلت إن السجناء السياسيين في بولندا كان عندهم عنبرة، يبقى الموضوع عالمي بقى، ويخليني أسألك: إيه في رأيك أشهر عنبرة في العالم؟

* نرجع تاني للدراما.. شوفت فيلم "الهروب من شاوشانك"؟

- طبعا ده أشهر فيلم في العالم.

* تمااام.. عشان كده العنبرة اللي فيه تبقى أشهر عنبرة في العالم.

- لأ بقى.. أنا حافظ الفيلم مشهد مشهد.. مفيش فيه أي عنبرة.

* عشان بتشوف "أكشن" مش فن/ طبيعي حاجات كتير تفوت عليك.

- دي إهانة يا عم ماهر.. بس لو أقنعتني أن الفيلم فيه عنبرة يبقى عندك حق.

* لما المحاسب آندي قدم خبرته لإعفاء ضباط السجن من الضرائب، وظفوه مساعدا لأمين المكتبة.

- بروكس العجوز المسكين.

* أيوه "بروكس" أقدم سجين في شاوشانك، اللي تم الإفراج عنه بعد 50 سنة حبس، وبعد أيام لم يتحمل الحربة فأرسل رسالة لزملائه في السجن يودعهم وشنق نفسه، بعد أن حفر بالمطواة على العارضة الخشبية التي علق عليها حبل الشنق: "بروكس كان هنا"..

انتحار بروكس هز مشاعر معظم السجناء خاصة آندي وصديقه ريد، الذي ظل يسأل في حزن: لماذا ينتحر بعد أن حصل على الحرية التي نتمناها جميعا؟
يجيبه آندي: انتحر لأنه مع الوقت صار ينتمي إلى المؤسسة.. عاش هنا ولم يتصور أي حياة غير الحياة الرتيبة الآمنة التي تعود عليها في السجن: طعام وطاعة وأيام مكررة لا تستدعي قلق ولا تفكير في الغد..

كان آندي يقاوم بكل قوة شعور الخضوع للمؤسسة ويحافظ على آماله كإنسان حر ينتمي إلى البحر والفضاء المفتوح وليس إلى السجن وقواعده، ووفاء لوعده مع بروكس بدأ في تحسين المكتبة عن طريق كتابة الكثير من الرسائل لجهات متعددة يطلب التبرع بالكتب والمواد الثقافية، وبعد أسابيع من التجاهل وصله طرد من إحدى الجهات، واستدعاه مأمور السجن لتسلم الطرد بعد أن ينجز عمله في تسوية حسابات التهرب الضريبي للمأمور، الذي تركه في المكتب وخرج يتفقد السجن.

أثناء فحص آندي لمحتويات الطرد وجد اسطوانات موسيقية، أخرج واحدة ووضعها في الجرامافون الخاص بالمأمور فانسابت موسيقى موتسارت مع صوت ماريا كالاس في أغنية مبهجة من أوبرا "زواج فيجارو"، تفاعلت الموسيقى مع النفس التواقة للحرية، فتوجه آندي إلى ميكروفون الأوامر في مكتب الغدارة وفتح كل الأبواق لتنساب الموسيقى عالية وتفرض الدهشة على السجناء والصدمة للإدارة والحراس الذين هرعوا باتجاه المكتب لمعرفة ما يحدث وإيقاف المهزلة، لكن آندي كان قد أحكم إغلاق الباب من الداخل وجلس على المقعد مسترخيا يستمتع بالموسيقى وشعور الحرية. وبرغم الطَرق العنيف والتهديد، لم يفتح آندي الباب حتى كسروه وانهالوا على السجين المتمرد بالضرب العنيف وألقوا به في زنزانة التأديب الحقيرة.

الرسالة التي أعلنها آندي في الميكروفون على مسامع كل السجناء والإدارة بصوت أعظم مغنية أوبرا في العالم، هي "صوت السجين في مواجهة السجن"، وهذا كما اتفقنا هو جوهر العنبرة، فالمهم هو رسالة السجين للعالم من حوله، سواء كانت بالكلمات، أو الموسيقى، أو الخربشة بكلمات الذكرى "فلان كان هنا"، أو الطرق على الجدران.

- تعظيم سلام يا عم ماهر.. عندك حق أنا لسه صغير وبتفوتني حاجات كتير، تعرف يا عم ماهر انك عملت لي مشكلة.

* خير يا سيف

- كنت بحلم طول الليل والنهار بلحظة خروجي من السجن، من ساعة ما عرفتك، وأنا وقعت في ورطة، نفسي أخرج.. بس هزعل لو بعدت عنك، أقول تخرج انت، برضه هنفترق، أنا عاوز أفضل معاك وعاوز الحرية في نفس الوقت.

* لسه ما فهمتش يا سيف؟.. انت هنا حر بس داخل الجدران مؤقتا، أوعى تفكر ان حد يقدر يسرق حريتك، إلا إذا تنازلت عنها انت الأول.. فكّر زي آندي والإمام أحمد بن حنبل: "حرية المؤمن في قلبه يحملها أينما كان، وأينما ذهب".

وفي المقال المقبل نواصل يوميات المعتقل..

(تصحيح بعد الرجوع للمصادر):

* الشاعرة البولندية اسمها "إيفا ماريا لودكيفيتش"، وقصتها وردت بالتفصيل في كتاب لسجينة أخرى هي "باربرا أوتوينوفسكا، نشر عام 1995 تحت عنوان "ضد الشر.. قصائد وأغاني السجن"، ويتضمن مع الحكايات نصوص 340 قصيدة جمعتها من سجناء وسجينات طوال ثلاث سنوات بعد الإفراج عنها.

* بخصوص سؤال سيف: كيف تعلم السجناء التواصل بالنقر على الحوائط عن طريق "شيفرة مورس"، تقول الدكتورة "أنا ميللر" الأمريكية بولندية الأصل وأستاذة التاريخ بجامعة ميتشيجان، ومؤلفة كتاب "إن تكلمت الجدران.. قصص من داخل السجن في بولندا الشيوعية": كانت "أبجدية مورس" معروفة ومنتشرة في السجون، خاصة بين السياسيين، البعض تعلمها أثناء فترة تجنيده في الحرب العالمية الثانية، والباقي تعلمها في السجن، إذ كانت تُنقش بواسطة السجناء في المراحيض وفوق خشب الأسرة وتتكرر في أماكن مختلفة بالحفر، لأنها كانت -في ذلك الوقت- الوسيلة الوحيدة للتواصل بين سجناء في زنازين متجاورة.

[email protected]

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السجون مصر سجون ذكريات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی العالم جمیعا إن عن طریق بعد أن

إقرأ أيضاً:

في ذكرى انتفاضة الحركة الطلابية.. نساء على خط المواجهة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تعد الدكتورة لطيفة الزيات من أبرز الرموز النسائية التي حملت راية التحرر الوطني، حيث ولدت في أغسطس 1923، بعد سنوات قليلة من ثورة 1919 التي كانت الشرارة الأولى للانتفاضة النسائية في مصر.

نشأت لطيفة لأسرة من الطبقة الوسطى، وكان والدها موظفًا يتنقل بين عدد من المدن بحكم طبيعة عمله في مجالس المديريات، وتنقلت في تعليمها بالعديد من المدارس بين دمياط والمنصورة، إلى أن توفى والدها وهى فى الثانية عشرة من عمرها، وانتقلت مع أسرتها إلى القاهرة.

شغلت لطيفة الزيات رئاسة قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية البنات جامعة عين شمس لدورات متعددة، ظلت تمارس مهامها في التدريس والإشراف العلمي بالكلية حتى وفاتها عام ١٩٩٦، رأست قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية، وعملت مديراً لأكاديمية الفنون، كانت عضو مجلس السلام العالمي، وعضو شرف اتحاد الكتاب الفلسطيني، وعضو بالمجلس الأعلى للآداب والفنون، وعضو لجان جوائز الدولة التشجيعية في مجال القصة، ولجنة القصة القصيرة والرواية، كما انتخبت عضوًا في أول مجلس لاتحاد الكتاب المصريين، ورئيس للجنة الدفاع عن القضايا القومية 1979، ومثلت مصر في العديد من المؤتمرات العالمية، كما أشرفت على إصدار وتحرير الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة)، وتابعت الإنتاج الأدبي بالنقد الأدبي، في برنامج إذاعي من 1960 إلى 1972.

نشر لها العديد من المؤلفات الأكاديمية، والترجمات، كما صدر لها مؤلفات إبداعية إضافة إلى العديد من الأبحاث، في النقد الأدبي الإنجليزي والأمريكي، ونشرت أول عمل روائي لها في عام 1960 بعنوان "الباب المفتوح"، وتوفيت لطيفة في 11 سبتمبر عام 1996 إثر صراع طويل مع مرض السرطان.

عاشت لطيفة العديد من الأحداث التي مرت على مصر، حيث شاهدت وهي في المرحلة الثانوية حصار قصر عابدين، والمظاهرات ضد إسماعيل صدقي باشا، وهو ما ترك داخلها نزعة قومية كانت بداية طريقها إلى الأحداث التي شاركت فيها بعد ذلك، والتحقت بقسم اللغة الإنجليزية، بكلية الآداب، جامعة فؤاد الأول "القاهرة" وحصلت على الليسانس عام 1946، وكان اهتمامها ومشاركتها بالعمل الوطني الديمقراطي بدأ من أوائل الأربعينيات من القرن الماضي.

شكل الطلاب الشيوعيون مجموعة سميت منظمة «أيسكرا» أو الشرارة، انضمت لطيفة الزيات إلى هذه المنظمة ونشطت تعمل فى إطارها، وانتخبت وهي في الفرقة الرابعة في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، التى شاركت في العديد من التظاهرات الطلابية التي جاءت فيما بعد.

وعن هذه الفترة كتبت لطيفة في مذكراتها الشخصية التي كتبتها بعد سنوات بعنوان: "أوراق شخصية": أنه يصعب على الإنسان تصديق التطور الذى حدث لهذه الفتاة بعد سنتين من بداية دراستها الجامعية، والحركة الوطنية تتصاعد فى مد ثورى فى الجامعة، وهى تتقدم لتلقى الخطب الرنانة على سلالم إدارة الجامعة، وعلى عتبة كلية الحقوق، وعلى منبر قاعة الاحتفالات، وعند نصب الشهيد عبد الحكم الجراحى، وهى تعقد الاجتماعات وتقود المظاهرات وتتصدى للرفض الذى يشكله طلبة «الإخوان المسلمين»، لم يعد جسدها يربكها ، لم تشعر أن لها جسدًا، نسيت والناس تعيد صياغتها، تمدها بقوة لم تكن لها أبدًا، وبثقة لا حدود لها، ترفعها الأكف كالراية، تنصبها مفكرة وزعيمة وتحيلها إلى أسطورة، نسيت أنها أنثى على الإطلاق، عندما التحقت بالجامعة جاءت ومعها كل شعور البنت بالنقص، وكل هذا الإصرار على التحدى والرغبة فى إثبات مساواة المرأة بالرجل، لم تستشعر النقص والطلبة والطالبات يرفعونها بالانتخاب الحر من مرحلة إلى مرحلة حتى ينصبوها واثنين من زملائها كممثلين للسكرتارية العامة للجنة الوطنية للطلبة والعمال، من عباءة الوصل الجماهيرى ولدت، ومن الدفء والإقرار الجماهيرى تحولت من بنت تحمل جسدها الأنثوى وكأنما هو خطية، إلى هذه الفتاة المنطلقة الصلبة القوية الحجة، التى تعرف كيف تأنس للجماهير، لن تلبث عزلتها أن تنكسر، تواتيها القدرة على الإقناع، تتلفع بالدفء والقوة من جديد، رأست ضمن من رأسوا اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، ودخلت سجن الحضرة بالإسكندرية قضت فيه ستة أشهر كاملة من الحبس الانفرادى، وقد اختارت أن تتزوج من زميل لها دون الرجل الذى أحبته فى بداية دراستها الجامعية، حتى لا تبتعد عن العمل السياسى الذى آمنت بضرورته".

هكذا شرحت لطيفة الزيات تحول شخصيتها ومشاركتها في العمل السياسي، والذي قادها إلى تصدر صفوف الحركة الطلابية.

ارتبط اسم لطيفة الزيات باللجنة الوطنية للعمال والطلبة، و بمظاهرة يوم الجلاء ٢١ فبراير ١٩٤٦، وهو يوم له أهمية بين أحداث النضال الوطني في التاريخ الحديث حسبما وصفه الدكتور عماد أبو غازي، وزير الثقافة السابق خلال حديثه عن لطيفة، كما أنه يوم فاصل في تاريخ الحركة الطلابية.

د. لطيفة الزيات

في ديسمبر ١٩٤٥ طالبت الحكومة المصرية، بريطانيا، بالدخول في مفاوضات لتعديل اتفاقية ١٩٣٦، وردت بريطانيا بالرفض في أواخر يناير ١٩٤٦، كان وهو ما فجر الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان، وجاءت الشرارة من الجامعة، فتصاعدت الأحداث بسرعة ووصلت ذروتها في فبراير ١٩٤٦، انتفاضة طلابية يقودها طلاب الوفد والطلاب المنتمين إلى الحركة الشيوعية، وكانت في مقدمتهم لطيفة الزيات، وتصاعدت حركة الاحتجاج وسط طلاب الجامعة، ووصلت الأمور إلى ذروتها يوم السبت ٩ فبراير ١٩٤٦ عندما خرج الطلاب في مظاهرات حاشدة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قاصدين قصر عابدين مقر الملك وهم يهتفون للجلاء، وعند كوبري عباس تصدت قوات الأمن للمظاهرة لمنعها من العبور إلى القاهرة، وفتحت قوات الأمن الكوبري لمنع المظاهرة من العبور إلى القاهرة، وتواصلت المظاهرات في اليوم التالي في القاهرة وفي عدد من المدن المصرية، وسقط فيها شهداء وجرحى فاضطر رئيس الوزراء للاستقالة.

سُجنت لطيفة الزيات مرتين، المرة الأولى عام 1949، في قضية الانضمام لتنظيم شيوعي، وكان عمرها 26 عامًا، وذلك بعد زواجها من أحمد شكري سالم، الذي انفصلت عنه بعد الحكم عليه في نفس القضية بسبع سنوات، بينما خرجت هي من الحبس لتعلن انفصالها.

سجنت لطيفة في المرة الثانية، في عام 1981، ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت بحق كتّاب وصحفيين ومعارضين لحكم الرئيس السادات، وكان عمرها وقتها 58 عامًا.

بعد خروجها من السجن في المرة الأولى، حصلت لطيفة على دبلوم معهد الصحافة في 1952، وعلى درجة الدكتوراة من قسم التحرير والترجمة والصحافة  بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عن بحث بعنوان "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر في الفترة ما بين 1882- 1925 ومدى ارتباطها بصحافة هذه الفترة".

وكان من ضمن مؤلفاتها كتاب "الباب المفتوح" الذي وصفه البعض بأنه التجربة الشخصية التي مرت بها لطيفة، ومثلتها ليلى في فيلم الباب المفتوح، كما كتبت سيرتها الذاتية في 1992 بعنوان "حملة تفتيش -  أوراق شخصية"، لتحكي تجربتها ومعاناة تلك الفتاة التي دخلت عالم السياسة وتحولت حياتها رأسًا على عقب، لتكون علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، كما ألفت رواية صاحب البيت، ومسرحية بيع وشرا، والعديد من المقالات في النقد الأدبي.

 

إنجي أفلاطون.. أرستقراطية تركت القصور من أجل النضال

 رحلة فن وعطاء وكفاح  ضد المستعمر ومن أجل حقوق المرأة

لوحاتها صورت مقاومة المصريين ضد قوات الاحتلال البريطاني

رائدة الفن التشكيلي تطوع ريشتها لخدمة المجتمع وانحازت للبسطاء 

ولدت إنجي أفلاطون ، في 16 أبريل 1924، في قصر بالقاهرة، لأسرة من الطبقة الأرستقراطية، حيث كان جدها الأكبر وزيرًا في عهد الخديوي إسماعيل.

تلقت إنجي تعليمها في مدرسة الليسيه الفرنسية حيث حصلت على شهادة البكالوريا، وفي بداية الأربعينيات كانت من أوائل الطالبات اللاتي التحقن بكلية الفنون الجميلة في جامعة القاهرة.

إنجى

بدأت إنجي طريق الإبداع الفني قبل أن تدرس فن الرسم دراسة أكاديمية، إذ استقدم لها والدها معلمًا حين لمس شغفها بالرسم، لكنها رفضت الأسلوب الإملائي في الفن، فعاد والدها وألحقها باستوديو "جاتروس أمبير" بالقاهرة، الذي أصبح بمثابة أكاديمية خاصة عام 1941، لكنها تركته بعد شهر واحد بحثا عن الحرية في التعبير.

عبرت إنجي عن نفسها في العديد من اللوحات التي رسمتها منها لوحات "الوحش الطائر" 1941، و"الحديقة السوداء" 1942، و"انتقام شجرة" 1943، وفي نفس الوقت تقريبًا بدأت إنجي مشوارها الفني مع جماعة "الفن والحرية"، التي ضمت بين أعضائها محمود سعيد، وفؤاد كامل، ورمسيس يونان، وغيرهم، إلى أن أصبحت إحدى رائدات الفن التشكيلي في مصر.

في عام 1951 قدمت معرضها الخاص الأول، الذي غلب عليه الطابع الواقعي الاجتماعي، سواء في اللوحات التي عبرت فيها عن هيمنة الرجل على المرأة، أو اللوحات التي صورت الكفاح المسلح للمصريين ضد قوات الاحتلال البريطاني.

رغم انتماء إنجي للطبقة الأرستقراطية، إلا أنها قررت أن تترك كل ذلك خلفها واختارت طريق النضال من أجل الوطن وحرية المرأة، تبنت الفكر الماركسي اليساري، والتحقت بإحدى المنظمات الشيوعية في بداية عملها السياسي.

وتلقت العديد من دروس اللغة العربية، إذ أنها لم تكن تتقن التحدث باللغة العربية وذلك لكي تتصل بعامة الناس، كما أسست مع زميلاتها أول حركة نسائية بمصر "رابطة فتيات الجامعة والمعاهد" في عام 1945.

وفي العام نفسه سافرت إلى باريس لحضور أول مؤتمر نسائي بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ربطت في كلمتها بين وضعية المرأة والاستعمار والرجعية، ويعد هذا المؤتمر من أهم العلامات في تاريخ الحركة النسائية العالمية، حيث اختارت هيئة الأمم المتحدة عام 1975، كعام عالمي للمرأة بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على انعقاد هذا المؤتمر، ولم تعش الرابطة طويلاً بسبب معاهدة إسماعيل صدقي بك التي أوقفت نشاط الجمعيات الوطنية.

كافحت إنجي بجوار لطيفة الزيات، وشاركت في مظاهرات الطلبة من خلال لجنة الطلبة والعمال، وكانت ضمن 12 فتاة في اللجنة التنفيذية العليا، كما شاركت عام 1946 م، في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الطلبة العالمي في براغ وفي عام 1947 شاركت في مهرجان الشباب العالمي.

تم اعتقال إنجي في 1959، وكان أول قرار جمهوري يصدر لاعتقال بحق "امرأة" لنشاطها السياسي وقضت في سجن النساء بمدينة القناطر الخيرية أربع سنوات ونصف، وفي نفس العام الذي سجنت فيه فازت بالجائزة الأولى وقيمتها 500 جنيه في مسابقة المنظر الطبيعي، وهذه الجائزة كانت مقدمة من وزارة الثقافة والإعلام.

تقول إنجي في مذكراته الشخصية "من الطفولة إلى السجن" التي كتبتها بالفرنسية وتُرجِمت إلى العربية: "في ذلك الوقت أيضاً – الأربعينيات - تأسس أكثر من تنظيم شيوعي سري. وكنت أبحث تائهة عن أي انتماء. ذلك ما يتفق مع اقتناعي بالاشتراكية العلمية، وهو سبيل جهادي في تحقيق مبادئي، وأخذت قراري بالعمل السري والعمل السري ليس هو الطريق المختار للأحزاب الشيوعية إنما هو الطريق الذي تفرضه عليها البرجوازية إذ تمنع أي مظهر من مظاهر النشاط الشيوعي الديمقراطي".

إنجى أفلاطون

وتضيف: "لم يكن المجتمع الذي نزلت إليه يقبل بالاختلاط بين الجنسين إلا في حدود ضيقة للغاية. وكان عملنا السياسي سرياً فكيف إذاً يضم تنظيم سري فتيات وسيدات جنباً إلى جنب مع الرجال؟ هناك عقد الزملاء أنفسهم وهناك عيون المجتمع المرتبطة بنا وأبواق الرجعية التي تروِّج لشائعات كاذبة ومشينة عن الفتيات الماركسيات بهدف تشويه سمعتهن وكفاحهن أمام الرأي العام".

وتكمل: "في تلك الظروف صار من الضروري اتخاذ خطوة جريئة للتغلب على هذه المشكلة التي كانت تهدد التنظيم بالتنويع وتحويل أنظاره عن المشاكل السياسية الرئيسة إلى مشاكل جزئية وعاطفية فلجأنا إلى خلق "قسم نسائي" داخل التنظيم يفصل بين الجنسين من القاعدة حتى مستوى القسم ثم يعود الأمر طبيعياً في المستويات الأعلى، كان ذلك قراراً حكيماً وسليماً لأنه ساهم كثيراً في التغلب على مشاكل التخلف الموروثة والعقد الناتجة عنها كما أنه شجع كثيراً من المتزوجات على الانضمام إلى التنظيم حيث لم يعد هناك مبرر لاعتراض الأزواج".

وعن فترة السجن تقول إنجي: “كنت أريد أن أرسم السجن لولا تحذير مدير السجن لي. وقد حدث ذات مرة أن جاء ضابط كبير منهم لا أتذكر اسمه ليفتش على السجن وطلب مقابلتي وسألني عما أرسمه وهل أرسم السجن أم لا؟ فقلت له إن مدير سجن النساء يمنعني من رسم السجن فقال له: عندك إنجي أفلاطون هذه فرصة العمر، دعها ترسم كل شيء بحرية كاملة، هذا أمر ومن يومها انطلقت بلا قيود أو تردد أرسم وأسجل كل ما أريد داخل السجن، ومن أهم ما صورت داخل السجن انشراح وكان محكوماً عليها بالإعدام وتأجل تنفيذ الحكم عامًا حتى يبلغ طفلها الفطام، وطبعاً المحكوم عليهم بالإعدام يوضعون في زنزانة بحراسة خاصة لكي لا ينتحرون ويرتدون ملابس حمراء، وطوال فترة انتظار تنفيذ الإعدام على انشراح كنت أشعر بالمأساة الكبرى وراء قصتها فقد قتلت وسرقت تحت ضغط الظروف القاسية والبؤس الفاحش، ولما طلبت رسمها قال لي المدير حسن الكردي إن هذا شيء كئيب، وفعلاً رسمتها هي وابنها، وكانت هذه الصورة من ضمن الصور التي صادرتها المباحث".

توفيت إنجي أفلاطون في 17 أبريل 1989، بعد رحلة طويلة من الكفاح والعطاء والفن والنضال ضد المستعمر ومن أجل حقوق المرأة.

 

مقالات مشابهة

  • نتانياهو تجاهل نصائح قادة عسكريين وأمنيين بإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين
  • نيابة استئناف الامانة تفرج عن مئات السجناء
  • عملية التبادل السابعة.. حماس تسلم 6 أسرى إسرائيليين فى غزة مقابل الإفراج عن 602 معتقل فلسطينى.. المقاومة: مستعدون للمرحلة الثانية من الاتفاق وعملية تبادل شاملة شرط الانسحاب الكامل للاحتلال
  • اقرأ غدًا في «البوابة».. عملية التبادل السابعة.. حماس تسلم 6 أسرى إسرائيليين فى غزة مقابل الإفراج عن 602 معتقل فلسطينى
  • في ذكرى انتفاضة الحركة الطلابية.. نساء على خط المواجهة
  • أحدهم قضى 45 عاما.. من أبرز السجناء الفلسطينيين المفرج عنهم؟
  • الجلاد الجديد لسجن بئر أحمد بعدن
  • السجن 5 سنوات للكويتي فواز الكثيري في تهمة الابتزاز
  • وفاة معتقل سياسي مصري بسجنه.. ومطالبات حقوقية للإفراج عن المعتقلين
  • إبراهيم الحجاج يبحث عن نصفه الآخر.. “يوميات رجل عانس”